الدليل الذي يقدمه الشهید الصدر على المعاد على (التلازم بين العدل والجزاء) فالعقل الفطري يدرك ان الظالم الخائن جدير بالمؤاخذة وان العادل الأمين الذي يضحي في سبيل العدل والامانة جدير بالمثوبة وكل واحد منا يجد في نفسه دافعاً إلى مؤاخذة الظالم المنحرف وتقدير العادل المستقيم ولا يحول دون تنفيذ هذا الدافع عند احد الاعجزه عن اتخاذ الموقف المناسب أو تحيزه الشخصي وما دمنا نؤمن بان الله سبحانه وتعالى عادل مستقيم في سلوكه وقادر على الجزاء المناسب ثواباً وعقاباً فلا يوجد ما يحول دون تنفيذه ذلك...
ولكننا نلاحظ أن هذا الجزاء كثيراً ما لا يتحقق في هذه الحياة التي نحياها على هذه الأرض على الرغم من أنه مقدور لله سبحانه وتعالى وهذا يبرهن على وجود يوم مقبل للجزاء يجد فيه العامل المجهول الذي ضحى من أجل هدف كبير ولم يقطف ثمار تضحيته والظالم الذي افلت من العقاب العاجل وعاش على دماء المظلومين وحطامهم يجد هذا وذاك فيه جزاءهما العادل وهذا هو القيامة الذي يجسد كل تلك القيم المطلقة للسلوك (العدل والاستقامة والامانة والصدق الوفاء ونحوها...) وبدونه لا يكون لتلك القيم معنى(1).
دور المعاد النفسي والاجتماعي:
لم نعد بحاجة للقول أن المعاد والايمان بيوم القيامة يدخل في المركب الحضاري الإسلامي لحل الجدل الإنساني إلى جانب التوحيد والنبوة بل قد سبقت الاشارة ان النبوة تعتمد على عقيدة المعاد في حل هذا التناقض بين المصالح الاجتماعية ومقتضيات الحياة المدنية من جهة وبين مصالح الفرد من جهة اخرى وتستند إلى التوحيد لتعميق الشعور بالمسؤولية الموضوعية تجاه المثل الأعلى المطلق. وهكذا يحل الدين استناداً إلى (التوحيد والنبوة والمعاد) المشكلة الاجتماعية ويضمن التوازن بين حاجات الفرد ومتطلبات الجماعة بين تكامل الفرد وتقدم المجتمع. ولكن لندفق في ابعاد المعاد داخل هذا المركب الحضاري العام: حيث ان المصالح الاجتماعية لا يمكن ان نضمن تحقيقها إلاّ عن طريق الدين: أما كيف ذلك؟ فانه بالنظر إلى ان مصالح الإنسان في حياته المعيشية تنقسم إلى قسمين (مصالح طبيعية ومصالح اجتماعية).
المصالح الطبيعية يمتلك الإنسان دافعاً ذاتياً يضمن تحقيقها (فالانسان ركب تركيباً نفسياً وفكرياً خاصة يجعله قادراً على توفير المصالح الطبيعية وتكميل هذه الناحية من حياته عبر تجربته للحياة والطبيعة)(2)، كما إن الإنسانية تمتلك القدرة على معرفة هذه المصالح.
اما المصالح الاجتماعية فهي بدورها ايضاً تتوقف على ادراك النظام الاجتماعي الاصلح وعلى الدافع النفسي نحو إيجاد ذلك النظام.
أما الشرط الأول: فانه لا يمكن للبشرية ان تضع بنفسها النظام الاجتماعي الاصلح لأن (الانسان لا يستطيع ان يدرك التنظيم الاجتماعي الذي يكفل له كل مصالحه الاجتماعية وينسجم مع طبيعته وتركيبه العام لأنه أعجز ما يكون عن استيعاب الموقف الاجتماعي بكل خصائصه والطبيعة الانسانية بكل محتواها)(3)، من هنا يستدلون على ضرورة الدين في حياة الناس والحاجة إلى الوحي والنبوة لطرح المصالح الحقيقية والنظام الذي يؤدي إلى السعادة الحقة ولكن أيضاً الدافع نحو هذه المصالح حتى وإن أدركت لا يمكن تحققه بسهولة لأن حب الذات تدفع الانسان إلى تقديم مصالحه الفردية على مصالح الآخرين فالدوافع الذاتية (تحول دون استثمار الوعي العملي عند الإنسان استثماراً مخلصاً في سبيل توفير المصالح الاجتماعية وايجاد التنظيم الاجتماعي الذي يكفل تلك المصالح وتنفيذ هذا التنظيم)(4) هنا يأتي دور المعاد بل هو طاقة روحية ليعوض الإنسان عن لذائذه الموقوتة التي يتركها في الحياة الدنيا أملا في نعيم أبدي يوم القيامة (وتستطيع ان تدفعه إلى التضحية بوجوده عن إيمان بان هذا الوجود المحدود الذي يضحي به ليس إلاّ تمهيداً لوجود خالد وحياة دائمة وتستطيع أن تخلق في تفكيره نظرة جديدة تجاه مصالحه ومفهومها عن الربح والخسارة ارفع من مفاهيمها التجارية المادية فالعناء طريق اللذة والخسارة لحساب المجتمع سبيل الربح وحماية مصالح الآخرين تعني ضمناً حماية مصالح الفرد في حياة اسمى وارفع وهكذا ترتبط المصالح العامة بالدوافع الذاتية بوصفها مصالح للفرد في حسابه الديني)(5)
إن عقيدة المعاد تحدث تغييراً جوهرياً في مجال الأهداف التي يتحرك لأجلها الفرد والمجتمع. فعدة المجتمعات اللادينية والنظم العلمانية لا تنظر إلى الحياة إلاّ من خلال شوطها القصير ولا ترى للسعادة في سبيل سوى اشباع غرائز الإنسان وشهواته وتلبية رغباته... بينما في اطار عقيدة التوحيد يكون الله ومرضاته وعبادته هي عناوين للاهداف الكبرى لمسيرة الإنسان ولا يعود المال والجاه والقوة والشهوة وغيرها من (القيم) المحدودة منتهى الآمال وغاية السير... فالإسلام اعطى للساحة التاريخية حجمها الحقيقي وربطها بعالم آخر غير منظور حسياً... وإن هذا العالم هو دار الخلود... وإن الإنسان يخلد بعمله وكدحه... لا: بغيرها من الموازين وهذا يمنحه قدرة على الثبات والاستمرار والسعي الدؤوب، (فعقيدة يوم القيامة تعلم الإنسان ان هذه الساحة التاريخية الصغيرة التي يتحرك عليها الإنسان مرتبطة ارتباطاً مصيرياً بساحات برزخية وبساحات حشرية في عالم البرزخ والحشر وان مصير الإنسان على تلك الساحات العظيمة الهائلة مرتبط بدوره على هذه الساحة التاريخية هذه العقيدة تعطي تلك الطاقة الروحية ذلك الوقود الرباني الذي ينعش إرادة الإنسان ويحفظ له دائماً قدرته على التجديد والاستمرار)(6)
(فالمعاد يلعب على صعيد الثورة الاجتماعية للانبياء دوراً اساسياً بوصفه الاساس الواقعي لما يتبناه انسان الأنبياء الصالح من أهداف وقيم في الحياة)(7)
على طريق التجديد الكلامي
هذه هي معالم التجديد منهجياً ومفاهيمياً في البحث العقائدي، كما حاولت الدراسة الكشف عنها في منحى تحليلي، وباستقراء النتاج العلمي في مجال البحث العقائدي بعد باقر الصدر وعلى امتداد الساحة الإسلامية بمختلف مذاهبها نلمس بوضوح أن هذا الإنتاج العقائدي لم يستفد جيداً من هذه النقلات المنهجية الهامة التي أسسها باقر الصدر ولم يعمّق كثيراً هذه التحولات.
إن هذا القصور للأسف يواجهنا أيضاً في كل المجالات الفكرية الأخرى: في نظرية المعرفة والمذهب الاقتصادي والنظرية السياسية، والنظرية الاجتماعية.. الخ. ان الساحة الفكرية لم تشهد من بعده نقلة نوعية حقيقة ولا يزال الفكر الإسلامي يتحرك في حدود الآفاق التي رسمها باقر الصدر بريشة عبقريته وإبداعه، بل بدونه أحياناً حيث نرصد تراخياً وركوداً فكرياً.
إن أطروحة الصدر الكلامية لا تزال تختزن داخلها مشاريع عدة تستوجب جهوداً كبيرة لتفجيرها والرقي بالطرح العقائدي إلى مستويات أعلى قادرة على مقارعة كل التيارات المستحدثة واقتحام كل الساحات الفكرية والفضاءات الثقافية وتحدي كل المشاريع المضادة..
وهذا الجهد مر حتماً عبر تمثل واستيعاب تفاصيل هذه الاطروحة الصدرية ثم قراءتها نقدياً (كما مر معنا في المقدمة) قراءة تتخطى النزعة الاستصحابية التي تحاول تجميد الفكر في مرحلة ما.. وتحول ابداع باقر الصدر إلى عائق معرفي يحول دون نهضة جديدة.. ودرجات أعلى من تكامل الفكر ونضوجه.
إن باقر الصدر نفسه يعلمنا ان نتخلص من هذه النزعة المدمرة التي تجعل من الماضي حالة تكرارية نقف عندها.. دون تخطيها إلى أفق أعلى: (وهذه النزعة الاستصحابية إلى ما كان والحفاظ على ما كان تجعلنا غير صالحين لمواصلة مسؤولياتنا وذلك لأن اساليب العمل ترتبط بالعلم وترتبط بمنطقة العمل... هذه الامة التي تريد ان تزرع فيها الخير التقوى الورع الايمان هذه الأمة ليست لها حالة واحدة... الامة تتغير.. نعم إسلامك لا يتغير لكن الامة تتغير.. الأمة اليوم غير الأمة بالأمس في مستواها الفكري في مستواها الأخلاقي.. لابد لنا ان نتحرر من النزعة الاستصحابية من نزعة التمسك بما كان حرفياً بالنسبة إلى كل أساليب العمل.. هذه النزعة الاستصحابية التي تجعلنا دائماً نعيش مع أمة قد مضى وقتها مع أمة قد ماتت وانتهت ظروفها وملابساتها لأننا نعيش بأساليب منسجمة مع أمة تلك الأمة لم يبق منها أحد.. تلك انتهت وحدثت أمة أخرى ذات أفكار أخرى ذات اتجاهات أخرى وملابسات أخرى)(8) فباقر الصدر كما نستشف من خلال هذه الكلمات لا يريد أن يكون نموذجاً معاصراً لتجربة الطوسي في التاريخ حيث جمدت حركة الاجتهاد بعده وطيلة مائة سنة تقريباً.. إلى أن جاء ابن أدريس وناقش افكار الشيخ الطوسي(قدس سره).. وتخطى.. المستوى العملي الذي بقي مفروضاً على العقول طيلة هذه السنين(9)
نعم انه من الطبيعي أن المجددين الكبار يرحلون قبل أن يتموا مشاريعهم الكبرى لأن مشاريعهم الفكرية والحضارية هي دوماً أكبر من اعمارهم وتحتاج إلى أجيال عديدة تستوفي اغراضها على أيديهم.. ولكن مع ذلك.. لابد من توجه صادق وقوي نحو هذه المهمة حتى نحقق بعد سنين نتائج مثمرة على هذا الطريق.
وفي انتظار جهد علمي مدروس، وعمل مؤسساتي مركز لقراءة نقدية لفكر باقرالصدر في شتى فروعه في انتظار ان يتحرك المشروع الفكري الذي أسسه باقر الصدر خطوات إلى الامام ويحلق بالمسيرة إلى أفق أعلى في انتظار كل ذلك نقول من أعمق الأعماق:
سلام عليك باقر الصدر يوم ولدت وسلام عليك يوم استشهدت وسلام عليك يوم تبعث حياً في وعي الأمة ووجدانها وثوراتها الآتية سلام عليك يوم تحشر مع أجدادك الاطهار. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
المصادر :
1- محمد باقر الصدر، الفتاوى الواضحة/ ص55.
2- محمد باقر الصدر، اقتصادنا/ ص319.
3- میزان الحکمة ص320.
4- میزان الحکمة ص320.
5- میزان الحکمة ص325.
6- محمد باقر الصدر: المدرسة القرآنية/ ص194
7- - محمد باقر الصدر: الإسلام يقود الحياة/ ص52.
8- فقرات: من المحاضرة الثانية من محاضرات المحنة.
9- لاحظ تحليل هذه الظاهرة بقلم الشهيد الصدر في كتابه المعالم الجديدة للأصول: من ص68 إلى ص80 (دار التعارف للمطبوعات). متن منابع
source : .www.rasekhoon.net