عربي
Saturday 29th of June 2024
0
نفر 0

أسباب تخلّف المسلمین

أسباب تخلّف المسلمین

مهما تغیّرت الظروف فإنّ الفکر الأصیل یبقى على أصالته، ومهما تبدّلت الأحوال فإنّ الکلام المحکم بالدلیل یبقى على إحکامه,فالأصالة والإحکام أساس الثبات والدوام، ومن هنا نجد الإمام الخمینی الراحل قدس سره یوصی:
"...الطبقة المفکرة والطلاب الجامعیین ألا یدعوا قراءة کتب الأستاذ العزیز (الشهید مرتضى مطهری)، ولا یجعلوها تُنسى جراء الدسائس المبغضة للإسلام،...فقد کان عالماً بالإسلام والقرآن الکریم والفنون والمعارف الإسلامیة المختلفة فریداً من نوعه...وإن کتاباته وکلماته کلها بلا أیّ استثناء سهلة ومربِّیة."
وکذلک نجد قائد الثورة الإسلامیّة سماحة السید علی الخامنئی دام ظله یصفه بأنّه:
"المؤسس الفکری لنظام الجمهوریة الإسلامیّة،... وأنّ الخطّ الفکری للأستاذ مطهری هو الخط الأساس للأفکار الإسلامیة الأصیلة الذی یقف فی وجه الحرکات المعادیة...إنّ الخط الذی یستطیع أن یحفظ الثورة من الناحیة الفکریة هو خط الشهید مطهری یعنی خط الإسلام الأصیل غیر الإلتقاطی...وصیّتی أن لا تدعوا کلام هذا الشهید الذی هو کلام الساحة المعاصرة،... واجعلوا کتبه محور بحثکم وتبادل آرائکم وادرسوها ودرّسوها بشکل صحیح..."
نلاحظ أن مجتمعنا الإسلامی یفتقد مظاهر الحیاة ویتجه نحو الموت، ومن هنا کان لزاما علینا أن نشیر إلى أسباب هذا التخلف فی إطار المفاهیم الممسوخة والمشوهة، لأن کثیرا من المفاهیم الإسلامیة الأصیلة أصبحت باهتة میتة لا حراک فیها بسبب ما لحقها من التشویه، ومن هنا کان علینا کخطوة أولى على طریق الإحیاء أن نعالج بعض المفاهیم ونقوم بتصحیحها فی الأذهان.

1- مفهوم العمل
الإسلام دین العمل، وهو یؤکد من خلال النصوص القرآنیة على ارتباط مصیر البشریة بعملها.
﴿وَأَن لَّیْسَ لِلْإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى﴾(1) .
﴿فَمَن یَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَیْرًا یَرَهُ *وَمَن یَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا یَرَهُ﴾ (2).
فعندما تسود ذهنیة ارتباط مصیر الأمة بعملها تسعى الأمة إلى الاعتماد على طاقاتها کما حصل مع المسلمین الأوائل فانبثقت فی وجدانه الثقة القویة بالنفس مما دفعه إلى ساحات الجهاد دون أن یخشى أی قوة آنذاک، لکن اعترت هذه التعالیم بمرور الزمن أنواع الشوائب والانحرافات، حتى فشت الأفکار التی تستهین بالعمل، تارکة کل الأفکار الواقعیة والمنطقیة.
نماذج من انحراف مفهوم العمل
أ- الحظ: من الأفکار التی سرت فی مجتمعاتنا رغم أنها لا تعتمد على منطق علمی أو فلسفی أو قرآنی (3).
ب- انتصار الباطل فی صراعه مع الحق: وهی فکرة تشاؤمیة مستشریة فی مجتمعاتنا، ترى أن أی معاملة أو حرکة ملتزمة بمعاییر الصدق والإنصاف لا یمکن لها أن تحقق أی مکاسب مادیة، وهذا یناقض النظرة الإسلامیة
التی رکزت على ضرورة النظرة التفاؤلیة لمسیرة العالم، وأنه لا یمکن تصور نظام أحسن من النظام الموجود.
﴿الَّذِی أَحْسَنَ کُلَّ شَیْءٍ خَلَقَه﴾ (4).
﴿قَالَ رَبُّنَا الَّذِی أَعْطَى کُلَّ شَیْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى﴾ (5).
وقد خلق الله الإنسان مختارا یمکنه الانحراف یمنة أو یسرة، ویستتبع هذا الاختیار انحراف جماعة عن جادة الحق والعدل، وهنا تتحمل المجموعة الصالحة مسؤولیة مقارعة المنحرفین، وهی تحظى فی نفس الوقت بإسناد رب العالمین، ولیس للباطل سوى جولة سرعان ما یتراجع بعدها أمام الحق، وأجمل تمثیل لصراع الحق مع الباطل نجده فی القرآن الکریم:
﴿أَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَسَالَتْ أَوْدِیَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّیْلُ زَبَدًا رَّابِیًا وَمِمَّا یُوقِدُونَ عَلَیْهِ فِی النَّارِ ابْتِغَاء حِلْیَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِّثْلُهُ کَذَلِکَ یَضْرِبُ اللّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَیَذْهَبُ جُفَاء وَأَمَّا مَا یَنفَعُ النَّاسَ فَیَمْکُثُ فِی الأَرْضِ کَذَلِکَ یَضْرِبُ اللّهُ الأَمْثَال﴾ (6)
فالزبد الذی یمثل الباطل یذهب جفاء أمام الحق، وهذا هو قانون الخلیقة، بینما تسری بیننا أحادیث مشککة فی جدوى الکفاح من أجل إحقاق العدل والحق، دون أن ندخل فی تجربة کفاحیة عملیة واحدة.
ج- وجود مجدد على رأس کل سنة: وهذه فکرة خاطئة وهی تعتمد على حدیث واه السند یقول: "إن الله یبعث لهذه الأمة على رأس کل مائة سنة من یجدد لها دینها"(7).
وقد راجت هذه الفکرة فی الفکر السنی قدیما ودخلت الفکر الشیعی فی القرن الحادی عشر، حیث وصف الشیخُ البهائی الشیخ َ الکلینی بأنه مجدد المذهب فی القرن الثالث، ثم أُطلق بعد ذلک هذا اللقب على المجلسی الثانی فی القرن الثانی عشر، وعلى الوحید البهبهانی فی القرن الثالث عشر، وعلى المیرزا الشیرازی فی القرن الرابع عشر الهجری.
ومن الغریب فی هذه الفکرة أنها لماذا لم تعتبر النوابغ الذین برزوا فی أواسط القرون کالشیخ الطوسی مثلا من المجددین، وکأن ذنبهم الوحید أنهم لم یظهروا على رأس القرن الهجری.
والملاحظ على هذه الفکرة أنها تعفی أفراد المجتمع ککل من التجدید، وتلقی بالمسؤولیة على عاتق رجل واحد من بین أفراد معینین على رأس کل قرن، بینما نجد القرآن الکریم عندما یتحدث عن فکرة التغییر یلقی بالمسؤولیة على عاتق الجمیع.
﴿إِنَّ اللّهَ لاَ یُغَیِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى یُغَیِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ﴾ (8)
فتغییر المجتمع الإنسانی مرتبط بتغییر المحتوى الداخلی لأفراد ذلک المجتمع وأن یکونوا مستعدین لمثل هذا التغییر، ولیست فکرة التجدید الأحادی هذه إلا لصرف الأمة عن التفکیر بعلاج مشاکلها وانحرافها وانتظار من یقوم عنها بهذا الدور.

جذور انحراف مفهوم العمل
بدأ انحراف مفهوم العمل کما یحدثنا التاریخ عند ظهور فکرة الإرجاء على ید أناس غارقین فی بحر الرذیلة، وقد تبنت هذه الفکرة السلطة الحاکمة فی العهد الأموی (9) ، وراحت تفرق بین الإیمان والعمل مؤکدة على أهمیة ما یضمره المرء فی قلبه من إیمان مستهینة بکل ما یصدر منه من أعمال.

مدرسة أهل البیت علیهم السلام فی وجه التحریف
لقد وقف الأئمة الأطهارعلیهم السلام فی وجه کل انحراف ظهر بعد وفاة الرسول الأکرم صلى الله علیه وآله، بما فی ذلک انحرافات المرجئة، ومفهوم انفصال الإیمان عن العمل والاستهانة بالعمل، وما وصلنا من أحادیث عنهم علیهم السلام یکشف عما خاضوه من حرب فکریة تهدف إلى إحباط کل محاولات المسخ والتشویه فی الدین الإسلامی.
وأما مواجهتهم لفکرة العمل المشوهة، فلاحظ ما ورد عنهم علیهم السلام من حثّ وتأکید على العمل وعدم فصله عن الإیمان:
1- عن الإمام علی بن أبی طالب علیه السلام:
"... وإنی لمن قوم لا تأخذهم فی الله لومة لائم، سیماهم سیما الصدیقین... لا یستکبرون ولا یعلون ولا یغلّون، ولا یفسدون، قلوبهم فی الجنان، وأجسادهم فی العمل" (10)
2- وعنه علیه السلام: "المؤمن بعمله" (11).
3- وسئل علی علیه السلام: الإیمان قول وعمل أم قول بلا عمل؟ فقال:
"الإیمان تصدیق بالجنان، وإقرار باللسان، وعمل بالأرکان، وهو عمل کله" (12)
4- وعن الإمام محمد بن علی الباقر علیه السلام:
" إن ولایتنا لا تدرک إلا بالعمل" (13).
وعن الإمام جعفر بن محمد الصادق علیه السلام:
"الإیمان عمل کله" (14).
5- وعنه علیه السلام:
"ملعون من قال الإیمان قول بلا عمل" (15) .
وهناک الکثیر من الروایات التی تؤکد على مفهوم العمل، وأن الإیمان عمل کله، وجعله المعیار لتقییم خلوص الإنسان وقربه من الله.

القربى والانتساب لأهل البیت علیهم السلام لا یکفی
لقد اکتفینا بانتسابنا لمدرسة أهل البیت علیه السلام على مستوى القول لا العمل، بینما القرآن الکریم یدین أولئک الذین یزعمون أن لهم قرابة عند الله تنجیهم من العذاب.
﴿وَقَالُواْ لَن تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَیَّاماً مَّعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِندَ اللّهِ عَهْدًا فَلَن یُخْلِفَ اللّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ * بَلَى مَن کَسَبَ سَیِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِیئَتُهُ فَأُوْلَئِکَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِیهَا خَالِدُونَ﴾ (16).
والقرآن یرفض أن تکون وشیجة القرابة شفیعا للإنسان، فهو یجیب النبی نوح علیه السلام:
﴿...إنه لیس من أهلک إنه عمل غیر صالح..﴾ (17).
وروی أن رسول الله صلى الله علیه وآله قال لابنته فاطمة علیها السلام:
"یا فاطمة اعملی بنفسک إنی لا أغنی عنک من الله شیئا".
وقال تعالى:﴿فَإِذَا نُفِخَ فِی الصُّورِ فَلَا أَنسَابَ بَیْنَهُمْ یَوْمَئِذٍ وَلَا یَتَسَاءلُونَ * فَمَن ثَقُلَتْ مَوَازِینُهُ فَأُوْلَئِکَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِینُهُ فَأُوْلَئِکَ الَّذِینَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ فِی جَهَنَّمَ خَالِدُونَ﴾ (18).

2- مفهوم التوکل
هذا المفهوم القرآنی السامی، مثل سائر المفاهیم الإسلامیة دقیق وحساس وذو حدین، إن فُهِم بالشکل الصحیح أثمر أعظم النتائج الإیجابیة، وإن فُهِم بالشکل المشوّه کما هو الیوم، کان من العوامل المثبطة للهمم والعزائم.
التوکل فی المفهوم القرآنی مفهوم ینبض بالدفع والنشاط والحیویة، ویزیل کل عوامل التردد والانهزام والخوف، ولذلک نجد القرآن یستعمله عندما یرید أن یثبت ویشد من عزیمة وصمود الفئة المسلمة:
﴿... وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَى مَا آذَیْتُمُونَا وَعَلَى اللّهِ فَلْیَتَوَکَّلِ الْمُتَوَکِّلُونَ﴾ (19).
﴿وَلَا تُطِعِ الْکَافِرِینَ وَالْمُنَافِقِینَ وَدَعْ أَذَاهُمْ وَتَوَکَّلْ عَلَى اللَّهِ وَکَفَى بِاللَّهِ وَکِیلًا﴾(20)
وللأسف إن هذا المفهوم القرآنی النابض بالحیاة، تبدل بین المسلمین الیوم إلى مفهوم التواکل والتقاعس عن العمل والاندفاع.

3- مفهوم الزهد
وهذا المفهوم من المفاهیم التی شوهت وتأثرت بملابسات غیر إسلامیة، فالزهد الذی یعنی لغة ترک الشی ء والرغبة عنه، واصطلاحا یطلق على من یترک أمرا له رغبة طبیعیة فیه، فلا یطلق مثلا على المریض الذی لا رغبة له بالطعام أنه زاهد، هذا المفهوم جاء به الإسلام لیحث الإنسان على الترفع عن الإنشداد البهیمی بالأرض، وعن ممارسة القدرة والتسلط لاستضعاف الناس واستغلال ثرواتها، وعندها تتحول کل الممارسات الحیاتیة إلى وسیلة للإنسان ترتقی به إلى الله سبحانه، وتصبح الدنیا وسیلة لا غایة.
هذا المفهوم تأثر بالرهبانیة التی ابتدعتها المسیحیة..
﴿...وَرَهْبَانِیَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا کَتَبْنَاهَا عَلَیْهِمْ ...﴾ (21).
حیث نجد فیها أن کل ممارسة مع الطبیعة والحیاة عملا دنیویا، وأما الطقوس فهی الأعمال الأخرویة المعزولة عن کل ممارسة حیاتیة، وقد رفض الإسلام هذه الرهبانیة وعبر على لسان رسوله صلى الله علیه وآله:
"لا رهبانیة فی الإسلام"(22).
واعتبر أن کل الأعمال الدنیویة یمکن أن تتأطر بإطار دینی، وتصبح أعمالا عبادیة وأخرویة، وذلک فیما لو کان الهدف منها تحصیل رضا إلى الله، فالسلطة الاقتصادیة یمکن لها أن تکون وسیلة لتحقیق خلافة الله على الأرض، فقد عبّر النبی یوسف علیه السلام:
﴿قَالَ اجْعَلْنِی عَلَى خَزَآئِنِ الأَرْضِ إِنِّی حَفِیظٌ عَلِیمٌ﴾ (23).
فهو لا یرید أن یستغلّ هذه السلطة لتحقیق مطامعه الشخصیة، وکذلک قد أوجب الإسلام على المسلمین إعداد القوة..
﴿وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَیْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ اللّهِ وَعَدُوَّکُمْ...﴾ (24).
لیرتفع بهم فی المستوى الاجتماعی لیشکلوا قوة تبعث على الرهبة فی نفوس الأعداء.
فالإسلام یدعو إلى الزهد فی الدنیا بمعنى أن لا یجعل الدنیا غایة ویجعلها وسیلة، فلا یحس بالفشل والانکسار إذا فقد متاعها، ولا یشعر بالغرور إذا ما امتلک شیئا منها، لأنه لا یرید إلا وجه الله، وهذا ما أشار إلیه أمیر المؤمنین علیه السلام:
"الزهد بین حکمتین فی القرآن: ﴿لِکَیْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَکُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاکُمْ...﴾" (25)

الزهد لذات الدنیا
تکررت فی النصوص القدیمة أن الزهد عبارة عن الإعراض عن الدنیا وطیباتها.
مثلاً، یقول ابن سینا فی الإشارات فی النمط التاسع: "المعر`ض عن متاع الدنیا وطیباتها یسمى باسم
الزاهد"، وهذه العبارة وأمثالها توحی أن الإنسان مخیر أمام نوعین من اللذات دنیویة وأخرویة، ولا یمکن له الجمع بینهما.
والحق أن الإسلام یدعو التمتع بلذات الدنیا وطیباتها.
﴿قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِینَةَ اللّهِ الَّتِیَ أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالْطَّیِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِی لِلَّذِینَ آمَنُواْ فِی الْحَیَاةِ الدُّنْیَا خَالِصَةً یَوْمَ الْقِیَامَةِ کَذَلِکَ نُفَصِّلُ الآیَاتِ لِقَوْمٍ یَعْلَمُونَ﴾ (26).
لکنه تمتع بها بشکل متأطر بما فرضه الله وضمن الحدود التی حدّها الله، بحیث یرتفع بها عن الإنشداد البهیمی إلى الأرض، وعما حرم الله سبحانه، بل إن القرآن یذهب أکثر من ذلک، فیرى أن الطیّب هو ما أحل الله، والخبیث هو ما حرم الله..
﴿...وَیُحِلُّ لَهُمُ الطَّیِّبَاتِ وَیُحَرِّمُ عَلَیْهِمُ الْخَبَآئِثَ ...﴾ (27).
فلیس هناک لذة دنیویة تحرُم الإنسان من لذات الآخرة، بل کل لذات الدنیا توصل الإنسان إلى الآخرة،وأما المحرمات فیظن مرتکبها أنها لذة وما هی بلذة واقعیة، والفائز هم المتقون الذین استفادوا من لذات الدنیا ووصلوا إلى نعیم الآخرة، وفی هذا الصدد یقول أمیر المؤمنین علیه السلام:
"إنّ المتقین ذهبوا بعاجل الدنیا وآجل الآخرة، فشارکوا أهل الدنیا فی دنیاهم ولم یشارکوا أهل الآخرة فی آخرتهم، سکنوا الدنیا بأفضل ما سکنت، وأکلوا بأفضل ما أکلت" (28).

أهداف الزهد فی الإسلام
عندما یحث الإسلام على الزهد فی الدنیا فإنه یسعى لتحقیق الأهداف التالیة:
1- الإیثار: فعندما تتعارض مصلحة الفرد مع مصلحة المجتمع یتصدى الدین لحل هذه المشکلة الاجتماعیة، ویقوم الإسلام بتربیة أبنائه تربیة لا یبقى لهذه المشکلة أثر، بحیث یشعر المسلم باللذة عندما یضحی بمصالحه الشخصیة لأجل مصالح الآخرین، فیحرُم نفسه من اجل إسعاد الآخرین.
وقد ذکر لنا القرآن الکریم صوراً رائعة، وکذلک کتب التاریخ عن الرعیل الأول من المسلمین، تؤکد التفانی والإیثار الذی زرعه الإسلام فی نفوسهم.. فسورة "هل أتى" تحدثنا عن إیثار أمیر المؤمنین وأهل بیته الکرام علیهم السلام بما یملکونه من طعام..
﴿وَیُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْکِینًا وَیَتِیمًا وَأَسِیرًا * إِنَّمَا نُطْعِمُکُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِیدُ مِنکُمْ جَزَاء وَلَا شُکُورًا﴾ (29).
وکذلک مدح القرآن الکریم الصفوة المؤمنة من الأنصار، حیث سطروا أروع الصور فی التفانی والإیثار، فعبر عنهم:
﴿وَیُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ کَانَ بِهِمْ خَصَاصَة﴾ (30)
2- المواساة: فالإسلام یربی أبناءه على الاشتراک فی الأحاسیس، والعواطف، لیصبحوا کالجسد الواحد إذا اشتکى منه عضو تداعت له سائر الأعضاء بالسهر والحمى، وعندها لا نتصور فی المجتمع الإسلامی فئة مترفة وأخرى معدمة، لأن روح المساواة التی یخلقها
الإسلام بالزهد تأبى على المتمکنین من أن یترکوا المحرومین دون أن یمدوا لهم ید العون، فتزول عندها ظاهرة الفقر والفاقة، ولا یبقى هناک تفاوت فاحش فی مستوى المعیشة.
کما یعیر الإسلام أهمیة کبرى لزهد الحاکم الإسلامی، لأنه بحاجة إلى روح المساواة أکثر من غیره من المسلمین، حیث أن الزهد لدى الحاکم یخلق فی المجتمع معاییر لتقییم الأفراد لا ربط لها بالمال ولا المتاع، ومن هنا کان لزاما على الحاکم الإسلامی أن یعیش عیشة أبسط الناس وأضعفهم، وهذا أمیر المؤمنین علیه السلام یجسد نموذج الحاکم الزاهد ویقول:
(ولو شئت لاهتدیت الطریق إلى مصفى هذا العسل، ولباب هذا القمح، ونسائج هذا القز، ولکن هیهات أن یغلبنی هوای، ویقودنی جشعی إلى تخیر الأطعمة ولعل بالحجاز أو الیمامة من لا طمع له فی القرص، ولا عهد له بالشبع أو أبیت مبطانا وحولی بطون غرثى وأکباد حرى، أو أکون کما قال القائل:
وحسبک داء أن تبیت ببطنة --- وحولک أکباد تحنّ إلى القدّ
أأقنع من نفسی بأن یقال: هذا أمیر المؤمنین ولا أشارکهم فی مکاره الدهر، أو أکون لهم أسوة فی جشوبة العیش)(31)
3- التحرر والإنعتاق: فالإنسان مقید بعوامل طبیعیة لا یمکنه التخلی عنها، کالتنفس وتناول الطعام وما شابه ذلک، لکن هناک بعض القیود التی یمکن له أن یتحرر منها، کالبخل والنهم وحب الجاه والشهرة وأمثال ذلک، فإنها کفیلة بأن تکبل الإنسان فیما لو أرخى لهواه العنان ولم یروض نفسه على التحرر والإنعتاق منها.
والزهد یقوم بدور هام فی حیاة الإنسان، وتحریره من العوامل والقیود التی تشده إلى البطر والراحة وحب الذات، ویجعله قادرا على الاندفاع السریع فی ساحات العمل الاجتماعی، ومن هنا کان الأنبیاءعلیهم السلامأکثر الناس تحررا من هذه القیود المفتعلة، وهذا خرّیج مدرسة الرسول الأکرم علی بن أبی طالب علیه السلام یتحدث عن ترویضه لنفسه فیقول مخاطبا الدنیا:
"... اغربی عنی (32) فوالله لا أذلّ لک فتستذلینی، ولا أسلس (33) لک فتقودینی، وأیم الله یمینا أستثنی فیها بمشیئة الله لأروّضنّ نفسی ریاضة تهش (34) معها إلى القرص إذا قدرت علیه مطعوما، وتقنع بالملح مأدوما، ولأدعنّ مقلتی کعین ماء نضب (35)معینها، مستفرغة دموعها، أتمتلى ء السائمة من ریعها فتبرک، وتشبع الربیضة (36) من عشبها فتربض، ویأکل علی من زاده فیهجع؟!! قرّت(37) إذن عینه إذا اقتدى بعد السنین المتطاولة بالبهیمة الهاملة (38) والسائمة المرعیة" (39).
لکن الانعتاق لا یعنی أبدا الانعزال عن الدنیا، بل یعنی دخول معترک الحیاة بترفع عن کل الذاتیات، وممارسة الحیاة ممارسة القائد لها لا المنقاد خلفها، اللاهث وراءها.
4- تذوق اللذات المعنویة: لأن الانغماس فی تلبیة حاجات الجسد المادیة، یحول دون تذوق اللذائذ المعنویة، فلا یمکن لمن یعیش بین المعلف والمضجع أن یعیش لذة الدعاء مثلا، أو لذة الاتصال بالله أو التضحیة والإیثار أو طلب العلم والتفکیر والعطاء و لکنه حینما یمارس الزهد والترفع عن الانغماس باللذائذ المادیة والانشداد البهیمی إلى الأرض ومتاعها، ینفتح أمامه عالم جدید من اللذائذ المعنویة التی لا تقل عن اللذائذ المادیة، إن لم تکن أعمق منها، والعابد الزاهد یرى حقائق الکون بمنظار یختلف عن ذلک المنغمس فی حسّه المادی، فهو یتجاوز إطار الرؤیة لیشمل التفکیر والاستنتاج والتقییم والربط, یقول تعالى: ﴿إنّ فی خلق السماوات والأرض واختلاف اللیل والنهار لآیات لأولی الألباب، الذین یذکرون الله قیاما وقعودا وعلى جنوبهم ویتفکرون فی خلق السماوات والأرض ربّنا ما خلقت هذا باطلا سبحانک﴾ (40).

الخلاصة
لماذا تخلف المسلمون وفقدوا مظاهر المجتمع الحی واتجهوا نحو الموت؟ ألیس لأن المفاهیم الإسلامیة الرفیعة قد شوهت، ومن أهم تلک المفاهیم : مفهوم العمل ومن نماذجه شیاع فکرة الحظ بین المسلمین، وأن الباطل منتصر لا نقدر على مواجهته، بل علینا أن ننتظر المجدد على رأس کل سنة هجریة، لکن مدرسة أهل البیت وقفت فی وجه هذا التحریف وتصدت له بقوة، ومن یقرأ الروایات یجد بصراحة ما کان یعانیه الأئمةعلیهم السلام وکیف جهدوا فی توعیة المسلمین وحثهم على العمل.
ومن تلک المفاهیم التی شوهت مفهوم التوکل، حیث أصبح الیوم تواکل وتقاعس، وکذلک مفهوم الزهد، وترک طیبات وملذات الدنیا، فإن الدنیا کلها وسیلة للوصول إلى الآخرة ولیست هدفا بحدّ ذاتها، وعندما یطرح الإسلام مفهوم الزهد فإنه یهدف منه لتحقیق المساواة بین الناس، وإیثار المؤمنین وتفانیهم فی سبیل مصالح الآخرین، وبالتالی التحرر من کل قیود الدنیا ومتعلقاتها، حتى یتأتى للإنسان أن یتذوق اللذات المعنویة، التی هی أهم من کل اللذات الدنیویة.
المصادر :
1- النجم:39.
2- الزلزلة:87.
3- یستشهد الأستاذ بأمثلة من الأدب الفارسی ترکز على فکرة الحظ وتربطه بصیر الإنسان.
4- السجدة:7.
5- طه:50.
6- الرعد:17.
7- مستدرک سفینة البحار، الشیخ علی النمازی الشهرودی، ج3، ص409.
8- الرعد:11.
9- یقول المرجئة "لا تضر مع الإیمان معصیة کما لا تنفع مع الکفر طاعة"، "إن الإیمان هو الاعتقاد بالقلب وإن أعلن الکفر بلسانه، وعبد الأوثان، و... ومات على ذلک فهو مؤمن کامل الإیمان عند الله عز وجل، ولی لله عز وجل، من أهل الإیمان".
10- نهج البلاغة ج 2، ص 160159.
11- غرر الحکم، 14.
12- بحار الأنوار، ج 66، ص 74.
13- الکافی، ج 2، ص 75.
14- الکافی، ج 2، ص 34.
15- بحار الأنوار، ج 66. ص 19.
16- البقرة:80-82.
17- هود:46.
18- المؤمنون:101-103.
19- ابراهیم:12.
20- الأحزاب:48.
21- الحدید:27.
22- جامع أحادیث الشیعة، السید البروجردی، ج20، ص21.
23- یوسف:55.
24- الأنفال:60.
25- الحدید:23.
26- الأعراف:32.
27- الأعراف:157.
28- نهج البلاغة ج 3، ص 27.
29- الإنسان:98.
30- الحشر:9.
31- نهج البلاغة ج 3، ص 72.
32- اغربی عنی: ابتعدی عنی.
33- لا أسلس: لا أنقاد.
34- تهش: تفرح.
35- نضب: جفّ ماؤها.
36- الربیضة: الغنم.
37- جمدت وجفّت، وهو دعاء على نفسه بأن یفقد الحیاة، لأن فقدان الحیاة لازم جفاف العین وجمودها.
38- الهاملة: المتروکة.
39- نهج البلاغة ج 3، ص 74.
40- آل عمران: 190 ـ 191.

 


source : .www.rasekhoon.net
0
0% (نفر 0)
 
نظر شما در مورد این مطلب ؟
 
امتیاز شما به این مطلب ؟
اشتراک گذاری در شبکه های اجتماعی:

آخر المقالات

لماذا بِعثةُ الأنبياء ؟
التوسّل بالصالحين
خاتمية الرسالة المحمدية
كلام جميل فيه حكم
اثبات وجود الله
فضل التبليغ وأهدافه
من هم آكلة لحم الخنزير وما هو مصيرهم في الكتاب ...
الصفات الذاتية الثبوتية
محاور الاتفاق والاختلاف في الأطروحة المهدوية
هل كل كافر يدخل النار؟

 
user comment