وبحث الإمام أبو جعفر في كثير من محاضراته المسائل الكلامية ، وسئل عن أعقد المسائل وأدقها في بحوث هذا العلم فأجاب عنها.
ومن الجدير بالذكر أن عصر الإمام كان من أشد العصور الإسلامية حساسية فقد امتدّ فيه الفتح الاسلامي الى اغلب مناطق العالم وشعوب الارض فأثار ذلك موجة من الحقد في نفوس المعادين للاسلام من الشعوب المغلوبة على أمرها ، فقاموا بحملة دعائية ضد العقيدة الإسلامية وأذاعوا الشكوك بين أبناء المسلمين ، وقد شجّعت الحكومات الاُموية التيارات ذات الافكار المعادية للاسلام; إذ لم يؤثّر عن أي واحد من ملوك بني اُمية أنه قاومها أو تصدّى لإيقافها بين المسلمين، ولم يكن هناك أحد قد انبرى الى انقاذ المسلمين في ذلك العصر سوى الإمام أبي جعفر (عليه السلام) حيث تصدى لتزييفها والرد عليها ببالغ الحجة والبرهان .
واليك نماذج من بحوثه :
1 ـ عجز العقول عن إدراك حقيقة الله :
سئل (عليه السلام) عن قوله تعالى : ( لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار )[1]فقال (عليه السلام) : « أوهام القلوب أدق من أبصار العيون ، أنت قد تدرك بوهمك السند والهند والبلدان التي لم تدخلها، ولا تدركها ببصرك. وأوهام القلوب لا تدركه فكيف أبصار العيون ؟!»[2].
وسأله عبد الرحمن بن أبي النجران عن الله تعالى فقال : إني أتوهم شيئاً، فقال (عليه السلام) له : « نعم، غير معقول ولا محدود ، فما وقع وهمك عليه من شيء فهو خلافه ، ولا يشبهه شيء ، ولا تدركه الأوهام ، كيف تدركه الأوهام وهو خلاف ما يعقل ، وخلاف ما يتصور في الأوهام، إنما يتوهم شيء ، غير معقول ولا محدود»[3].
2 ـ ازلية واجب الوجود :
سأله رجل فقال له : أخبرني عن ربك متى كان ؟ فأجابه الإمام(عليه السلام) :
« ويلك! إنما يقال لشيء لم يكن ، متى كان ؟ إن ربي تبارك وتعالى كان ولم يزل حياً بلا كيف ، ولم يكن له كان ، ولا كان لكونه كون. كيف! ولا كان له أين ، ولا كان في شيء ، ولا كان على شيء ، ولا ابتدع لمكانه مكاناً ، ولا قوي بعدما كوّن الأشياء ، ولا كان ضعيفاً قبل أن يكوّن شيئاً ، ولا كان مستوحشاً قبل أن يبتدع شيئاً ، ولا يشبه شيئاً مذكوراً ، ولا كان خلواً من الملك قبل انشاءه ، ولا يكون منه خلواً بعد ذهابه ، لم يزل حياً بلا حياة ، وملكاً قادراً قبل أن ينشىء شيئاً ، وملكاً جباراً بعد انشاءه للكون ، فليس لكونه كيف ولا له أين ، ولا له حد ، ولا يعرف بشيء يشبهه ، ولا يهرم لطول البقاء ، ولا يصعق[4] لشيء، بل لخوفه تصعق الأشياء كلها. كان حياً بلا حياة حادثة ، ولا كون موصوف ولا كيف محدود ، ولا أين موقوف عليه ، ولا مكان جاور شيئاً ، بل حي يعرف ، وملك لم يزل له القدرة والملك، أنشأ ما شاء حين شاء بمشيئته ، لا يحد ولا يبعض ، ولا يفنى ، كان أولاً بلا كيف ، ويكون آخراً بلا أين ، وكل شيء هالك إلاّ وجهه ، له الخلق والأمر تبارك الله رب العالمين.
ويلك أيّها السائل ! ! إن ربي لا تغشاه الأوهام ، ولا تنزل به الشبهات ، ولا يحار ، ولا يجاوزه شيء ، ولا تنزل به الاحداث ، ولا يسأل عن شيء ، ولا يندم على شيء ، ولا تأخذه سنة ولا نوم له ما في السماوات وما في الارض وما بينهما ، وما تحت الثرى»[5].
3 ـ وجوب طاعة الإمام (عليه السلام) :
طاعة الإمام واجب ديني أعلنه القرآن الكريم بقوله تعالى : ( أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم)[6] وتواترت الأخبار بذلك ، وروى زرارة عن أبي جعفر (عليه السلام) أنه قال : « ذروة الأمر وسنامه ، ومفتاحه ، وباب الأشياء ، ورضا الرحمن تبارك وتعالى ، الطاعة للإمام بعد معرفته . . . ان الله تبارك وتعالى يقول : (من يطع الرسول فقد أطاع الله ومن تولى فما أرسلناك عليهم حفيظاً) »[7].
________________________
[1] الانعام (6): 103 .
[2] نسب هذا الحديث الى الإمام الجواد (عليه السلام) .
[3] اُصول الكافي : 1 / 82 .
[4] يصعق : أي يهلك ، ويضعف .
[5] اُصول الكافي : 1 / 88 ـ 89 .
[6] النساء (4): 59 .
[7] اُصول الكافي : 1 / 185 .
source : www.sibtayn.com