الشبهة الثانية :
قـد ثـبـت في الفن الاعلى ان ((الشي ما لم يجب لم يوجد))وهي قاعدة محكمة بنيت على اصول صحيحة , عامة لجميع الفواعل والعلل واجبا كانت او ممكنة , مختارة كانت او مضطرة .
ثـم ان جـماعة ممن لم يقفوا على مغزى القاعدة جعلوها من ادلة القول بالجبر, قائلين بان وجوب الشي عبارة عن ضرورة تحققه وامتناع عدمه وما كان كذلك يكون الفاعل موجبا(بالفتح ) ومضطرا في ايجاده وملجا في احداثه , والا لم يجب وجوده ولم يمتنع عدمه .
وثـمـة مـن رفـض القاعدة في افعال الواجب وابداعاته لئلا يلزم الجبر في افعاله , وفي الوقت نفسه اخـذوا بـهـا فـي مـقـام اثبات الصانع , مستدلين بان وجوب الشي وضرورة وجوده فرع وجود فاعل يخرجه عن الامكان الى حد الضرورة وليس هو الا الواجب سبحانه .
ومـعنى ذلك ان القاعدة خاضعة لميولهم فرفضوها في مقام لا يناسب مذاقهم واخذوا بها في مقام آخر يوافق فكرتهم وعقيدتهم , ولاجل حسم الشبهة نبحث عنها في مقامين :
الاول : في مفاد القاعدة .
الثاني : عدم منافاتها لاختيار الفاعل .
واليك الكلام في المقام الاول .
ا ما هو مفاد القاعدة ؟.
ان تبين مفاد القاعدة رهن بيان امرين :
الاول : وصف الشي بالامكان بالنظر الى حاق ذاته :
ان تـقسيم المفهوم الى الممكن وغيره (المراد من الغير هوواجب الوجود وممتنعه ) انما هو بالنظر الـى مـفهوم الشي الممكن مع قطع النظر عن الخارج , والا فبالنظر الى خارج ذاته فهو اما ضروري الـوجـود, او مـمـتنعه , اذ لو كانت علة الوجودموجودة فيدخل في القسم الاول , ولو كانت معدومة فيدخل في الثاني .
فـلا يـمـكـن الحكم بامكان الشي اي سلب الضرورة عن الطرفين الا اذا قصر النظر على ذات الشي دون ما حوله من علل الوجود او خلافها.
وبعبارة اخرى : كل ممكن لا يخلو في نفس الامر من احدى حالتين :
فـاما ان يكون مقارنا مع علل وجوده , او مقارنا مع عدمها,ففي كل من الحالتين يحكم عليه باحدى الـضـرورتين اي ضرورة الوجود او ضرورة العدم , ففرض الامكان للماهية انماهو بتحليل من العقل وقصر النظر على صميم ذاتها, دون ملاحظتها مع الخارج .
الثاني : الاولوية غير كافية في الايجاد
عدة اجزا فلا تخلو العلة :
امـا ان تـسـد جـمـيع ابواب العدم عليه باجتماع الاجزا او لا,فعلى الاول يثبت المطلوب اي يكون وجـوده واجبا وضروريا,لان المفروض ان كل ما يحتاج اليه المعلول في وجوده فهوموجود بالفرض وشي دخيل في تحقق المعلول الا وهوموجود.
وعـلـى الـثـانـي اي لا يسد جميع ابواب العدم عليه وذلك بفقدبعض الاجزا يكون ممتنع الوجود , والقول بوجوده مع نقصان العلة يرجع معناه الى وجود المعلول بلا علة وهو باطل بالضرورة .
وامـا مـا ربما يقال من كفاية الاولوية في تحقق المعلول ,وعدم لزوم وصول وجود المعلول الى حد الوجوب بل يكفي ترجح جانب الوجود على العدم , فغير تام .
لانـه ان اراد مـن الاولـويـة كـفـاية وجود بعض اجزا العلة دون بعض , لحصول الاولوية بذلك فغير صـحـيـح , لان مـعـنـى ذلـك عـدم مدخلية غير الموجود من اجزا العلة في تحقق المعلول مع ان المفروض انه من اجزائها ومدخليته في تحققه ومرجعه الى التناقض .
وان اراد مـنـها لزوم اجتماع جميع اجزا العلة لكن لا يشترطوصول وجود المعلول الى حد الوجوب فـقـد عـرفت بطلانه ,لانه مع ذلك الفرض يسد جميع ابواب العدم ويستحيل عروضه عليه , فيكون النقيض الاخر واجبا بلا كلام .
فاتضح بذلك امران :
1 ان وجـود الـشـي فـرع اجتماع جميع اجزا علته حتى ينسد به ابواب العدم على المعلول وتحقق جـمـيع الاجزايلازم وجوب الوجود ولزومه , والا فلو افترضنا اجتماع جميع اجزا العلة ومع ذلك لم يـكـن الـمـعـلـول مـتحققا يرجع معناه الى عدم كفاية الموجود في التحقق , والا فمع افتراضها لا وجه للانفكاك وعدم التحقق .
2 عـدم كفاية رجحان الوجود على العدم في تحققه لماعرفت من ان مرجع كفاية الرجحان اما الى الـتناقض في القول وافتراض مدخلية شي في تحقق المعلول واما عدم تحققه مع اجتماع جميع ما يتوقف عليه من اجزا العلة .
اذا عـلـمـت هـذين الامرين , تقف على ان القاعدة لا تنفي اختيارية الفاعل في فعله اذا كان الفاعل فـاعـلا مـختارا, بل تؤكدالاختيار, لان الفاعل بارادته واختياره يوجب وجود المعلول ويحتم ثبوته , والـوجـوب والايـجـاب بـالاخـتيار لا ينافي الاختيار, وعلى ذلك فالفاعل فاعل موجب (بالكسر) لا فاعل موجب (بالفتح ).
وان شـئت قـلـت : ان مـفاد القاعدة هو ان المعلول لا يتحقق الا بسد جميع ابواب العدم عليه , ولا يـسده الا الفاعل , فهو لو كان فاعلا مضطرا يسده بالاضطرار, ولو كان فاعلا مختارا يسده كذلك , فلا صلة بين القاعدة ونفي الاختيار.
وربـمـا يـتـصـور ان الـقاعدة مبنية على القول بامتناع الترجيح بلا مرجح وعدمه , فاذا قلنا بالاول فالقاعدة تامة والا فلا.
يـلاحـظ عليه : اولا: ان قاعدة امتناع الترجيح بلا مرجح , من الاوليات التي لا يشك فيها ذو مسكة , لان مل تجويزه هوجواز الترجح بلا مرجح والمعلول بلا علته وهو باطل بالضرورة .
وجـه ذلـك لو افترضنا ان بين يديك رغيفين او امام الهارب طريقين , فكما ان اصل الاكل والهرب يـحـتـاج الـى عـلة , فهكذاتخصيص احدهما دون الاخر امر وجودي لا يفارق العلة فمن قال بجواز الـترجيح بلا مرجح , فقد جوز تحقق امر وجودي وهو تخصيص احدهما دون الاخر بلا علة , وما مثل برغيفي الجائع او طريقي الهارب فثمة مرجحات خفية لا يلتفت اليهاالانسان بتفصيل , كان يختار ما يـقع في جانب اليمين على ما في جانب اليسار, او يختار اول ما تطرف اليه عيناه , الى غير ذلك من المرجحات التي ربما تخفى على الانسان الا بعد الامعان والدقة .
وثانيا: ان ترجيح احد الفعلين متقدم على تعلق ارادته بالايجاد فهو يرجح اولا ثم يريد الايجاد, فعند ذلك ياتي دورقاعدة ((الشي ما لم يجب لم يوجد)) فاختيار الفعل عن ترجيح متقدم على الارادة ثم الايجاب والوجوب , فكيف يناط وجوب المعلول وعدمه بشي لا دخل له فيه ؟.
وان شـئت قـلت : ان النفس بعد اختيارها ايجاد شي باي نحو حصل , يكون فاعلا موجبا للارادة اولا, وفـاعـلا موجبابتوسط الارادة لتحريك العضلات ثانيا, وفاعلا موجبابالمعلول الخارجي ثالثا, فجواز الترجيح بلا مرجح وعدمه المتقدم على مسالة الايجاب والوجوب لا صلة له بالقاعدة .
نـعـم ثـمة نكتة وهي : ان الاستقلال في الايجاد والايجاب فرع الاستقلال في الوجود, والعلة التامة الـمستقلة ما تسدبنفسها وبذاتها جميع الاعدام الممكنة للمعلول , ومن تلك الاعدام عدمه بانعدام فـاعـلـه ولا تـجـد لذلك مصداقا في نظام الوجود يسد بنفسه جميع الاعدام سوى الخالق المتعال (جلت قدرته ) وما سواه يمتنع عليه سد جميع ابواب العدم التي منهاعدم وجود الفاعل .
الشبهة الثالثة : تعلق علمه بافعال العبد ينافي الاختيار
ان صـفـاتـه الـجمالية سبحانه مع كثرتها واختلافها في المفاهيم , ترجع حسب الوجود الى حقيقة بـسيطة هي صرف كل كمال وجمال وليس في مقام الذات اي كثرة وتعدد, بمعنى ان حيثية علمه في الوجود هي حيثية قدرته وارادته وبالعكس ,فالذات كلها علم , وكلها قدرة , وكلها ارادة , فصدور فـعل عن ارادته عين صدوره عن علمه , وهو عين صدوره عن ذاته الاحدية اخذا بوحدة الصفات في مقام الذات .
اذا علمت ذلك فتقرر الشبهة بالنحو التالي :
ان الـعـلم على قسمين : انفعالي وفعلي , ففي الاول , العلم يتبع المعلوم الخارجي ويستند اليه , فاذا راى ان زيـدا قـائم , يـحصل له العلم بانه كذا وكذا فليس للعلم اي تاثير في المعلوم الخارجي ,وانما الامر على العكس فالخارج , هو الذي صار مبدا لعلم الانسان بكونه قائما.
وفي الثاني الامر على العكس , فالعلم يكون سببا لحدوث المعلوم وتحققه في الخارج كما هو الحال في الفاعل العنائي والتجلي (على الفرق المقرر بينهما).
فـالـنـاظر من شاهق يتصور السقوط ويكون مبدا لسقوطه ,فالمعلوم تابع للعلم ويكون متحققا في ظله , واللّه سبحانه فاعل بالتجلي الذي يكون نفس العلم فيه مبدا ومصدرا من غيراستعانة بشي آخر, وما شانه كذلك يكون العلم متبوعاوالمعلوم تابعا, والى ذلك ينظر قول الاكابر من ان النظام الكياني تـابـع لـلـعـلم الرباني وانه المبدا لنظام الوجود من الغيب والشهود, وان ما في سلسلة الوجود من الجواهر والاعراض والمجردات والماديات تابع لعلمه الذاتي الذي هو علة لتحقق السلسلة .
وعـلـى هذا يكون علمه سبحانه مبدا لما في الكون من سلسلة الوجود على وجه لا يتخلف المعلوم عـن علمه , فعندئذيجب صدور جميع الموجودات ومنها افعال العباد, بالقضاالالهي والعلم الازلي , والا لـزم تـخـلـف الـمـعـلـوم عـن الـعـلم ,والمراد عن الارادة الممتنع في حقه عز وجل , فيصير العبادمقهورين في افعالهم وان كانوا مختارين في الظاهر.
ان الـجـواب عـن الـشـبهة واضح بشرط الالتفات الى ما ذكرناسابقا, وهو ان علمه تعالى لم يتعلق بـتـحـقـق الموجودات في عرض واحد حتى تسلب العلية عن سائر مراتب الوجودويستند الكل اليه سـبـحـانـه فـي درجـة واحـدة , بـل تـعلق علمه بالنظام الكياني على ترتيب الاسباب والمسببات والـعـلل والمعلولات بحيث يصدر كل مسبب عن سببه القريب حقيقة ,ولم يتعلق بتحقق الموجود فـي عرض علته او به بلا توسطسببه , والشاهد على ذلك كون الوجود معقولا بالتشكيك وتعلق كل مـرتـبـة بـمرتبة متلوة على وجه لا يكون لكل درجة من الوجود, التجافي عنها, والا يلزم الانقلاب الذاتي الممتنع ,وعلى ذلك فكل ما في الكون من وجود وتحقق فهو مرتبطبعلته القريبة وسببه .
فـالـسبب يؤثر في مسببه , والعلة في معلوله , وبه تعلق علمه الرباني وعلى ذلك يكون علمه بصدور كـل معلول عن علته مؤكدا للاختيار, لا سالبا له , اذ معناه انه تعلق علمه بصدور كل فعل عن فاعله فـلـو كـان الفاعل مضطرا تعلق علمه بصدوره عنه على وجه الاضطرار, ولو كان فاعلا مختارا تعلق عـلـمـه بـصدوره عنه كذلك , فالنظام الكياني بوجوده وصفاته , متعلق علمه , ولوصدر فعل الفاعل الاختياري عنه على وجه الاضطرار لزم تخلف علمه عن معلومه .
وان شئت قلت : ان كل ما يوجد من الكمال والجمال فهومن صقع وجوده وتجليات ذاته وان ما في دار الـوجود من النظام الاتم فهو عين علمه الفعلي الا انه لا يلازم الاضطرار, لان كل مرتبة متعلقة مـتـدلية بتمام هويتها لما فوقها, بحيث لا يمكن التجافي عنها ولا التنزل الى ما دونها ومعنى ذلك تـعـلق علمه بصدور كل مسبب عن سببه , والمعلول عن علته على النظام الخاص ولم يتعلق علمه بصدور كل معلول عن علته فقط,وانما تعلق بصدور كل معلوم عن علته على الوصف الخاص لها من اضطرار واختيار, فالقول بعلمه العنائي , وان النظام الكياني تابع للعلم الرباني مع التحفظ على نظام العلل والمعاليل يؤكد الاختيار وينفي الاضطرار.
وبـعبارة موجزة : من عرف كيفية صلة الموجودات باسبابهايعرف ان لكل جز من النظام الكياني مع كونه مظهرا لاسمائه وصفاته , اثر خاص , فالانسان فاعل مختار تحت ظل العامل المختار بالذات كاللّه سـبحانه وفاعليته ظل فاعليته تعالى (وماتشاؤون الا ان يشا اللّه ) فتعلقت ارادته بالنظام الاتم على وجه يكون الانسان فيه فاعلا مختارا والنار فاعلا مضطرا, فكون علمه العنائي منشا للنظام الكياني , لا ينافي الاختيار.
الى هنا تمت الشبهات الثلاث مع اجوبتها, اعني :
ا : كون فعل الانسان داخلا في اطار ارادته سبحانه , ينافي الاختيار.
ب : ان تحقق كل فعل اذا كان رهن الايجاب , فهو ينافي الاختيار.
ج : ان كون علمه العنائي منشا للنظام الكياني , ينافي الاختيار وقد عرفت عقم تلك الشبهات .
بقي الكلام في شبهه اخرى وهي السعادة والشقا الذاتيين .
الشبهة الرابعة : السعادة والشقا الذاتيان
ربـما يتصور ان لكل من السعادة والشقا تاثيرا في مصيرالانسان وان السعيد بالذات يختار ما يناسبه والشقي بالذات ينتقي ما يلائمه , فالانسان يكون مجبورا ومكتوف اليدين امام مصيره .
هذه حاصل الشبهة لكن دفعها, وتحقيق معانيها يتوقف على بيان امور:
الاول : يطلق الذاتي ويراد منه معان مختلفة , ونذكر في المقام معنيين .
الاول : الذاتي ما ليس بخارج عن ذات الانسان فيكون اماجنسه او فصله او نوعه , ويطلق عليه الذاتي بالمعنى المصطلح في باب الايساغوجي .
الـثاني : ما ينتزع من ذات الشي وحاقه دون حاجة الى ضم حيثية وجودية الى منشا الانتزاع كلوازم الـمـاهية كالزوجية والامكان , وهذا ما يطلق عليه الذاتي في باب البرهان , فان افتراض الاربعة كاف فـي انـتـزاع الـزوجـيـة وكافتراض الانسان كاف في انتزاع الامكان , ويقابله العرضي مالا ينتزع من حاق الذات وانما ينتزع من حيثية وجودية منضمة الى منشا الانتزاع كانتزاع الابيض عن الجسم فلا ينتزع الا بعد انضمام حيثية وجودية ـ اعني البياض ـ اليه .
ويشير المحقق السبزواري الى ما ذكرنا بقوله :
كذلك الذاتي بذا المكان ليس هو الذاتي بالبرهان .
بل لاحق لذات شي , من حيث هي بلا توسط لغير ذاته .
الثاني : عرف الذاتي بانه الذي لا يعلل , قال الحكيم السبزواري :
ذاتي شي لم يكن معللا وكان ما يسبقه تعقلا.
وربما ينسبق الى الذهن بان الذاتي لا يحتاج الى علة موجدة وهو خطا محض , لان الذاتي امر ممكن , والـمـمكن لا يتحقق الا بعلة محدثة , فالذاتي بحاجة ماسة الى العلة في وجوده وتحققه ,لان نسبة الوجود الى موضوع لا يخلو عن حالات ثلاث : اما ان يكون وصفه به واجبا, او ممكنا, او ممتنعا والامر دائر بـيـن الـثـلاثـة والحصر فيه عقلي , فان كانت النسبة على النحو الاول والثالث وقلنا باستقلال الامـتناع في الجهة ولم نقل برجوعه الى جانب الوجوب , على ما هو المبين في محله كان مستغنيا عـن الـعـلـة والجعل , لان وجوب الوجوب او وجوب العدم مناطالاستغنا عن الجعل والعلة , كما ان الثاني هو مناط الاحتياج , اذالمفروض ان الممكن برزخ بينهما يصح ان يوصف به وان لايوصف , وما هو كذلك لا يوصف الا مع العلة .
وعـلـى ذلـك فـاذا قـلنا: الاربعة موجودة , فنسبة الوجود اليهايكون من قبيل الثاني , فهي في حد الاستوا لا يخرج عنه الا بسبب يضفي عليه وجوب الوجود, او وجوب العدم , وان كان يكفي في عدمه عـدم الـعـلة , ولكنه بعد تحقق الاربعة في الخارج ينتزع الزوجية من دون حاجة الى سبب آخر, بل سـبب وجودالاربعة كاف في انتزاعها عنه , لان المفروض انها لا تفارقها في وعا من الاوعية , ففرض وجود الاربعة كاف في فرض الزوجية .
هـذا كله في الذاتي في باب البرهان , ومنه يعلم حال الذاتي في باب الايساغوجي , فان نسبة الوجود الـى الانسان نسبة ممكنة فلا يخرج عن حد الاستوا الا مع العلة , ولكن بعدفرض وجوده في الخارج يـنـتزع منه الانسانية والحيوانية والناطقية بلا حاجة الى سبب خاص فان السبب المحقق للانسان , كاف في انتزاع المفاهيم الثلاثة بلا حاجة الى سبب آخر.
وعلى ذلك فالانسان , حيوان ناطق , بالضرورة , لكنه ممكن وجودا.
فظهر من ذلك ان المراد من عدم حاجة الذاتي الى العلة هواحد امرين على وجه مانعة الخلو:
1 ان فـرض الـمـوضـوع في عالم المفاهيم كاف في حمل المحمول عليه سوا كان داخلا في الذات كالذاتي المصطلح عليه في باب الايساغوجي , او خارجا عنها لكن لازما لهاكالذاتي في باب البرهان .
2 عدم حاجته في مجال التحقق الى سبب ورا السبب الذي اوجد الموضوع , فالسبب الموجد له كاف في انتزاع جميع الذاتيات بلا فرق بين الذاتي في البرهان او باب الايساغوجي .
الثالث : الفرق بين الجهة التعليلية والتقييدية
قـد اشـتهر في كلماتهم تقسيم الجهة الى تعليلية وتقييدية ,والمراد من الاولى هو حاجة الشي في خـروجـه عـن حدالاستوا الى علة وجودية تضفي عليه الوجود والتحقق ,والممكن بعامة اقسامه لا يستغني عن حيثية تعليلية .
وامـا الـحيثية التقييدية , فالمراد ضم حيثية وجودية الى الموضوع تصحح حمل المحمول عليه ورا حاجته الى علة موجدة للموضوع , وهذا يتجلى في المثال التالي :
اذا قلنا البياض ابيض .
او قلنا الجسم ابيض .
فالاول رهن حيثية تعليلية تخرج البياض من حد الاستواالى جانب الوجود, وهذه الحيثية كافية في حـمـل الـمـحمول على الموضوع , ولا يتوقف الحمل الى ضم حيثية تقييدية الى البياض بل وضعه يـصـحـح حـمل الابيض , وهذا بخلاف الثاني فان حمل الابيض على الجسم رهن حيثيتين : حيثية تـعـلـيلية تخرج الجسم عن الاستوا الى جانب الوجود, وحيثية تقييدية كالبياض منضمة الى جانب الجسم حتى تكون مصححا لحمل الابيض عليه .
هـذا هو حال الممكنات , فلا يستغني اي ممكن في حمل محمول عليه من حيثية تعليلية في عامة الاقسام وتقييدية في بعضها.
واما الواجب جل ذكره فبما انه واجب الوجود ولازم الثبوت , فهو في غنى عن الحيثية التعليلية .
كـمـا انـه في غنى عن الحيثية التقييدية , لان الذات عين الوجود والكمال , فلا حاجة في حمل اي كمال عليها لشي ورا الذات .
فـتـبـيـن بـذلك ان الواجب لا يحتاج الى الجهات التعليلية والتقييدية , كما ان الماهيات الممكنة بالنسبة الى اعراضهاكالجسم بالنسبة الى البياض رهن كلتا الحيثيتين .
وامـا الـوجـود المنبسط الذي بسطه اللّه سبحانه على هياكل الماهيات فبما انه صرف الوجود عين الـتـعـلـق والفقر, فهومحتاج الى حيثية تعليلية حتى يحققه ولا يحتاج في حمل الوجود عليه الى حيثية تقييدية .
وان شئت قلت : ليس في نظام الوجود شي يوصف بالوجود بلا جهات تعليلية وتقييدية سوى الواجب فهو غيرمفتقر ولا معلل , واما الموجودات الامكانية فهي بين ما يتوقف على كلتا الحيثيتين , كقولنا: الـجـسم ابيض , واخرى على حيثية واحدة , كقولنا: الوجود موجود, او البياض موجود فلوازم الوجود والماهية معللة في التحقق والثبوت غير معللة في اللزوم والايجاب .
الثالث : الوجود هو اصل الكمال ومبدؤه
الـماهيات بما انها امور انتزاعية من حدود الموجود فلا اثرلها ولا اقتضا وانما الاثر والشرف والكمال كـلـه لـلـوجود, وهوالاصيل في عالم التحقق , اذ العلم بوجوده يكشف عن المعلوم لا بماهيته , وهو بـوجـوده ايـضـا كـمـال وجمال لا بمفهومه , ومثله القدرة والحياة والارادة فكلها شرف بالوجود لا بـمـفاهيمها,ولذلك كلما اشتد الموجود, وقلت حدوده الوجودية اشتدكماله , وكلما ضعف الوجود وكـثرت حدوده الوجودية ضعف كماله الى ان يصل الى حد ليس له حظ من الوجود سوى كونه امرا بالقوة تسمى بالهيولى .
وعـلـى ضـؤ ذلك فصرف الوجود, مبدا كل كمال وجمال ,والموجودات الامكانية لها حظ من الاثار حسب حظها من الوجود المنبسط, ولماهياتها خواص بالعرض تبع وجوداتها.
فتلخص من ذلك ان الماهية مع قطع النظر عن تنورها بنورالوجود, منعزلة عن الاثار منخلعة عن الخواص , وما ربماينسب الى الماهية من الاثار فانما هي للوجود اولا وبالذات وللماهية ثانيا وبالعرض .
فـان قلت : كيف لا اثر للماهية مع ان اللوازم تنقسم الى لوازم الماهية , ولوازم الوجود؟ فالحرارة من لوازم وجود النار ولكن الزوجية من لوازم الماهية , فماهية الاربعة مع قطع النظر عن الوجود الذهني والوجود الخارجي تلازم الزوجية , فهي ثابتة لها في وعا الماهيات .
قـلـت : ان هذا التفسير للازم الماهية تفسير خاطئ , اذ ليست الزوجية ثابتة للاربعة في حال عدمها وانـمـا تثبت لها في ظرف وجود الاربعة في احد الموطنين : اما الذهن او الخارج , ومع ذلك فليست الـزوجـيـة مـن لـوازم الوجودين : الذهني اوالخارجي , بل من لوازم الماهية ومعنى كونه من لوازم الـمـاهـيـة لامـن لوازم الوجود, ان الانسان يدرك الاربعة مع الزوجية حتى مع غفلته عن تحصلها بـالـوجـود الـذهـنـي , وهـذا دلـيـل على ان للوجود الذهني تاثيرا في ظهور الملازمة لا في نفس الـمـلازمـة ,والا فـلو كان الوجود الذهني مؤثرا في الملازمة لامتنع تلازمهمامع الغفلة عن الوجود الـمـقـترن بهما والمحصل لهما, وهذا هوالفرق بين لازم الماهية ولازم الوجود, فالوجود في الاول سبب لظهور الملازمة بخلاف الثاني فهو سبب لها.
اذا عرفت ما ذكرنا من المقدمات , فاعلم ان للسعادة والشقااطلاقات ثلاثة :
الاول : مـا اصـطلح عليه اهل المعرفة والكمال من ان السعادة هي الكمال المطلق والخير المحض , وهو مساوق للوجودالذي اليه مرجع الكمالات فالوجود الاتم المطلق خير وسعيدمطلق وكلما تنزل عـن اطـلاقـه وشـدتـه وقـوتـه , اخـتـلـفت سعادته وخيريته والشقا في مقابلها وهو الشر المحض والعدم المطلق ظلمات بعضها فوق بعض ولها عرض عريض .
الـثـانـي : ما هو المعروف لدى العرف وابنا الدنيا ان من توفرت له في هذه الدنيا الدنية وسائل اللذة والشهوة فهو سعيد,ومن ادبرت عنه وتركته في نكبة ومحنة ولا يجد ما يسد به رمقه فهو شقي .
الـثـالث : ما عليه المليون , اعني : الذين لهم عقيدة راسخة بالمبداوالمعاد, والجنة ودرجاتها والنار ودركـاتها, فمن نال الجنة ونعيمها فهو من السعدا, ومن دخل النار وجحيمها فهو من الاشقيا, وهذا ما يشير اليه قوله سبحانه :
(فـاما الذين شقوا ففي النار لهم فيها زفير وشهيق # خالدين فيهامادامت السموات والارض الا ما شا ربك ان ربك فعال لما يريد#واما الذين سعدوا ففي الجنة خالدين فيها مادامت السموات والارض الا ما شا ربك عطا غير مجذوذ) ((51)) .
فـمـن دخـل الـجنة , فهو السعيد, وان كان في الدنيا رهين الفقروالفاقة , ومن دخل الجحيم , فهو شقي , وان كان في الدنيا حليف العيش الرغيد.
اذا وقفت على هذه المعاني الثلاثة للسعادة والشقا, فاعلم ان المراد منهما في هذا المقام هو المعنى الثالث لخروج الاولين عما يرتئيه الحكيم او المتكلم في ذلك المقام , ولا وجه لجعل السعادة والشقا بـالـمـعـنـى الثالث من الذاتيات غير المعللة كماعليه المحقق الخراساني وتبعه بعضهم , اذا ليستا جـنـس الانـسـان ولا فـصـلـه ولا مـن اللوازم المنتزعة من حاق الذات , بل ينتزعان من الحيثيات الوجودية التي يكتسبها العبد باختياره , والمرادمن الحيثيات الوجودية هي العقائد الحقة والاعمال الـصـالحة اونقيضها من العقائد الفاسدة والاعمال القبيحة , الى غير ذلك ممايعد مبدا لانتها مسير الانسان الى الجنة او النار.
ولو قلنا بان الثواب والعقاب يرجع الى الانسان حسب مااكتسب من ملكات الخير والشر, فهو يخلق صورا بهية وروضة غنا, يلتذ بها, او يخلق صورا قاتمة وحفرة من النيران يعذب بها ـ ولو قلنا بذلك ـ فليست السعادة والشقا من الامور الذاتية وانما هي من لوازم الملكات التي يكتسبها العبد في طول حياته تحت ظل ممارسة الفكر والعمل .
الى هنا تمت الشبهات المطروحة حول اختيارية الانسان المتجلي عندنا في المذهب الحق اي الامر بين الامرين .