عربي
Tuesday 12th of November 2024
0
نفر 0

الإخلاص والتوسل بالأسباب الطبيعية

الإخلاص والتوسل بالأسباب الطبيعية

لاشكّ أنّ دفع الأغيار بجميع مراتبها عامّها وخاصّها عن مخالطة العمل وإن كان يُبلور لنا حقيقة الإخلاص إلاّ أنّه يثير إشكالية في غاية الأهمّية تتعلّق بما نحن عليه ـ أعني بني الإنسان ـ من الابتلاء المحض باتّخاذ الأسباب الطبيعية وسائل موصلة لنا إلى جملة من الأغراض الدنيوية والأخروية التي تتقوّم بها حياة الفرد الطبيعية الملكية والغيبية الملكوتية، من قبيل استخدامها الآني والتفصيلي في معظم مفردات حياتنا للأغيار في أدائها تحقيقها، وطلبنا من الآخرين ـ الأغيار ـ الدُّعاء لنا، هذا فضلاً عن التوسّل بالصالحين عموماً لتقريب المنافع ودفع الأضرار. وعليه فكيف يمكن التوفيق بين بلوغ مرتبة الإخلاص ـ وهو كمال مطلوب بالفطرة وقد دعا إليه الشرع والعقل ـ وبين ما نحن عليه من الاستعانة بالأغيار في أمورنا الدنيوية والأخروية؟

إنّها إشكالية تستحقّ منّا التوقّف عندها والتأمّل والنظر، فالإنسان مدنيّ بالطبع، بل لا يمكنه العيش وحده نظراً لافتقاره في بقائه إلى مأكل ومشرب ومسكن يتوقّى فيه الحرّ والبرد، ولا يمكن استقلال الإنسان بهذه الأمور، فافتقر إلى الاجتماع1.

فالإنسان يحتاج في إدارة شؤون معاشه وسائر حاجاته إلى بني نوعه ليتعاون الكلّ ويكفل بعضهم بعضاً بغية الوصول إلى الأهداف الاجتماعية المشتركة2، وقد رُوي أنّ رجلاً جاء إلى الإمام الصادق عليه السلام فقال له: جُعلت فداك! ادعُ الله أن يُغنيني عن خلقه. فقال عليه السلام: (إنّ الله قسّم رزق من يشاء على يدي من يشاء، ولكن سل الله أن يُغنيك عن الحاجة التي تضطرّك إلى لئام خلقه)3. فالعزلة والانفراد والاعتماد على الذات في جميع الأمور هو خلاف طبيعة الإنسان وفطرته وخلقته، فهو (لا يستغني عن الاجتماع والتعاون وقتاً من الأوقات؛ يدلّ عليه ما وصل إلينا من تاريخ هذا النوع الاجتماعي المدني، وكونه اجتماعيّاً مدنياً لم يزل على ذلك فهو مقتضى فطرته وخلقته)4. وغير خفيّ دعوة القرآن إلى التعارف5 والتعاون على البرّ والتقوى6، فكيف يتسنّى لنا دفع الأغيار وهم طرف فاعل في أقوالنا وأفعالنا بما هو أوضح من ظهور الشمس في رائعة النهار؟

بعبارة أخرى: تُوجز لنا جميع ما تقدّم: هل من الإخلاص لله تعالى والتوكّل عليه ترك التوسّل بالأسباب الطبيعية دفعاً للأغيار، فيأخذ كلّ ما يحتاجه من الله تعالى مباشرةً وبلا واسطة، أم لا منافاة في ذلك؟

هل إذا مرض الإنسان المُخلص، يجلس في بيته ويقول: (وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ)7، وإذا جاع أو ظمئ يقول: (هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ)8، أم يبحث له عن طبيب ودواء وعن طعام وشراب؟ وعلى الثاني كيف ينسجم ذلك مع الإخلاص لله تعالى الذي مفاده طرد الأغيار؟ للإجابة عن ذلك ينبغي التمييز أوّلاً بين نوعين من التوسّل والاستعانة بالأسباب الطبيعية، هما:

النوع الأوّل: التوسّل والاستعانة بالأسباب الطبيعية بمعزل تامّ عن الله تعالى، فتكون الأسباب هي الضارّة وهي النافعة على نحو الاستقلال.

النوع الثاني: التوسّل والاستعانة بالأسباب الطبيعية بلحاظ عدم استقلالها في النفع والضرر، وأنّ المسبّب في تأثيرها هو الله وحده، كما هو الحال في ضوء المصباح الكهربائي، فإنّا نستفيد من المصباح نفسه الضوء والإنارة ولكن الفاعل الحقيقي في الضوء والإنارة هو وجود التيّار الكهربائي.

أمّا النوع الأوّل من التوسّل فلا يوسم بمنافاة الإخلاص فحسب، بل هو ضربٌ من ضروب الشرك المحرّم والمنهيّ عنه.

وأمّا النوع الثاني فهو ما جرت عليه السنن العقلائية والشرعية، ولا يتنافى البتّة مع الإخلاص لله تعالى، لأنّ الإخلاص هو أن لا تعتقد أنّ هنالك مؤثّراً في الوجود على نحو الاستقلال غير الله تعالى.

إنّ الله سبحانه وتعالى يريد منّا أن نتزوّج ليُحفظ النسل والنوع، والزواج هو توسّل بالأسباب الطبيعية، وكذلك يُريد منّا أن نحرث ونزرع ونسقي ونحصد ونبيع ونشتري، وغير ذلك من تفاصيل الحياة ومفرداتها، فهذا بحدّ ذاته ممدوح مندوب إليه شرعاً وعقلاً وعقلائيّاً حتّى أنّه يصل في بعض موارده إلى الوجوب العيني.

نعم، لابدّ أن يرافق ذلك اعتقاد راسخ بأنّ المُعطي للذرّية والمحافظ على النوع هو الله تعالى، وأنّ الزواج هو وسيلة تحقيق ما يريده الله تعالى، وإلاّ فإنّ هنالك حالات كثيرة من الزواج قد دامت سنوات طوالاً وهي خلو من الأولاد مع عدم وجود أيّة موانع طبيعية بيولوجية ـ عضوية ـ وما ذلك إلاّ لارتباط الأصل بالفاعل الحقيقي والمريد الفعلي وهو الله تعالى.

وهكذا الحال في الزراعة والصناعة والتجارة وما شابهها. فالفلاّح من شأنه الحرث والشتل والسقي، ولكنّ تحوّل البذرة إلى شجرة، والنواة إلى نخلة هو من شأن الله تعالى (أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ * أأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ * لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَاماً فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ)9، وبذلك يستقيم المعنى المتقدّم في كون الشافي والمطعم والساقي هو الله تعالى، لأنّ الطبيب والدواء ونحوهما مجرّد وسائط ومعدّات في طريق الوصول إلى الشفاء الذي يمنحه الله تعالى لتوافر تلك المقدّمات. وهكذا في الطعام كما تقدّم، وفي الشراب (أَفَرَأَيْتُمُ المَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ * أأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ المُزْنِ أَمْ نَحْنُ المُنْزِلُونَ)10، وهكذا في سائر الأعمال والخصوصيات الأخرى ومنها الموت، فإنّ المتوفّي الأنفس حقيقةً هو الله تعالى (اللهُ يَتَوَفَّى الأنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا)11، ولكن هذا لا يمنع من جعل الوسائط في توفّي الأنفس؛ (قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ المَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ)12. وبذلك يتّضح لنا أنّ التوسّل بالأسباب الطبيعية لتحقيق مقاصد الدُّنيا والآخرة صحيح ولا إشكال فيه شريطة عدم أخذها كمؤثّر على نحو الاستقلال، وإلاّ فهو شركٌ ظاهر، فضلاً عن خُلوّه من الإخلاص.

ولعلّ من الشواهد الواضحة في الاستعانة بالأسباب الطبيعية دون أن يقدح ذلك بالإخلاص ما جاء في قصّة الصدِّيق يوسف عليه السلام حيث كان قد طلب من السجين الذي أُطلق سراحه أن يذكره عند الملك (وَقَالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ نَاجٍ مِنْهُمَا اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ)13. ومن الواضح أنّ يوسف عليه السلام هو من المُخلَصين ـ بفتح اللام ـ فضلاً عن كونه من المُخلِصين ـ بكسر اللام14 ـ فهو راسخ الاعتقاد في كون الفاعل المؤثّر في وجوده وبقائه، فضلاً عن إخراجه من السجن أو إبقائه، هو الله تعالى لا غير، ولكنّ هذا المعنى لا يتقاطع البتة مع الاستفادة من الأسباب الطبيعية المأذون بها ما دام الإخلاص محفوظاً، وهذا ما فعله يوسف الصدّيق عليه السلام.

المصادر:

(1) المهذّب البارع للشيخ ابن فهد الحلّي، تحقيق الشيخ مجتبى العراقي، نشر جامعة المدرّسين، 1470هـ، قم: ج1 ص401.

(2) كتاب الزكاة للسيّد أبي القاسم الخوئي، نشر العلمية، الطبعة الأولى، 1413هـ، قم: ج1، ص271.

(3) أصول الكافي، مصدر سابق: ج2 ص266 ح1.

(4)الميزان في تفسير القرآن، مصدر سابق: ج2 ص126.

(5) قال تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا) الحجرات: 13.

(6)قال تعالى: (وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى) المائدة: 2.

(7) الشعراء: 80.

(8) الشعراء: 79.

(9)الواقعة: 63ـ 65.

(10) الواقعة: 68ـ 69.

(11) الزمر: 42.

(12) السجدة: 11.

(13) يوسف: 42.

(14) سوف يأتي الفرق بينهما في البحث اللاحق.

 


source : www.tebyan.net
0
0% (نفر 0)
 
نظر شما در مورد این مطلب ؟
 
امتیاز شما به این مطلب ؟
اشتراک گذاری در شبکه های اجتماعی:

آخر المقالات

شرح قول الإمام وفيك انطوى العالم الأكبر
كيفيّة تصوّر الله
المصلحة في الفعل الإلهي
مذاهب السنيين وتاويلاتهم
المُناظرة الثانية والستّون /مناظرة الشيخ المفيد ...
الأخوة في القرآن الكريم
هل التوسُّل شرك؟
وحدثنى محمد بن يعقوب الكلينى، عن محمد بن يحيى ; ...
التشبیه و التجسیم
البرهان الثاني لابطال الجبر

 
user comment