وقف على رصیف إحدى الشوارع المزدحمة وهو یتطلّع یمنةً ویسرةً لیتأکّد من خلوّ الطریق، ثم انطلق مسرعاً إلى الرصیف المقابل، فإذا بسیّارة مسرعة تصطدم به وتحیله جثّة هامدة، ومن بین الجموع التی تقاطرت لمشاهدة المأساة قال أحدهم: وقع علیه قدر الله عز وجل، فردّ علیه آخر: بل التعبیر الأوفق أن نقول: هذا قضاء الله، ومثله ذلک یرد کثیراً فی کلام الناس .
وقد وقع الاختلاف فی التعبیر عن ذلک فی کلام العلماء ، إذ تباینت أقوالهم فی تحدید وجه المفارقة بین قضاء الله وقدره، وقبل بسط القول والشروع فی البیان، یحسن التمهید بإلماحةٍ سریعة تبیّن مفهوم "القضاء" و"القدر"، فإذا استبان کلّ مفهوم واتضح معناه أمکن للمرء أن یعقد المقارنة بینهما.
أما القدر، فیعود معناه إلى التقدیر، فیُقال: قدّر الله نزول المطر تقدیراً، فیکون معنى القدرِ متعلّقاً بتحدید مقادیر ما یکون فی المخلوقات من الأفعال والأحداث والصفات والهیئات، بمعنى أن یختصّ کل مخلوقٍ بتحدیدٍ إلهیّ یتعلّق بصفات خاصّةٍ به تمیّزه عن غیره، وبأفعالٍ تکون منه بعد حدوثه.
والله سبحانه وتعالى قد جعل لکل شیءٍ قدراً، وهذا القدر متضمّن لعلم الله تعالى بما یکون من مخلوقاته قبل وجودها علماً مفصّلاً.
ثم إن هذا المقدّر جارٍ على مشیئته سبحانه وتعالى: ( وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَن یَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِینَ ) (1)، والله خالق کلّ شیء، ویشمل ذلک ما تُحدثه المخلوقات من أفعال: ( وَاللَّهُ خَلَقَکُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ ) (2)، فهذه أمورٌ أربعة یشتمل علیها مفهوم القدر.
أما القضاء فهو إتقان الأمر وإحکامه وإنفاذه، وکل ما أحکم فقد قضی، والعرب تقول: قضیت هذه الدار أی أحکمت عملها، وقد یأتی بمعنى القدر، ومثاله قوله تعالى: (وَقَضَیْنَا إِلَیْهِ ذَٰلِکَ الْأَمْرَ أَنَّ دَابِرَ هَٰؤُلَاءِ مَقْطُوعٌ مُّصْبِحِینَ) (3)، ومعناه الإعلام المبنی على التقدیر.
ویبقى السؤال بعد ذلک: هل القضاء والقدر أمرٌ واحد لا فرق بینهما، أم أن التباین واقع؟ وإن کان ثمّة فرقٌ فما هی حقیقته؟
للعلماء فی ذلک عدّة أقوال، نجملها فیما یلی:
أن القضاء هو الحکم الکلّی الإجمالی فی الأزل، والقدر: جزئیات ذلک الحکم وتفاصیله، وهذا القول نسبه الحافظ ابن حجر إلى بعض العلماء. أن القدر بمنزلة إعداد المکیال والمیزان، والقضاء بمنزلة القیام بالوزن، إن القضاء راجع إلى التکوین کخلق الله الإنسان على ما هو علیه طبق الإرادة الأزلیة. والقدر هو التقدیر، وهو جعل الشیء بالإرادة على مقدار محدد قبل وجوده، ثم یکون وجوده فی الواقع بالقضاء على وفق التقدیر، کإرادته تعالى فی الأزل إیجاد الإنسان على وجه مخصوص وصورة مخصوصة محددة المقادیر. القضاء هو العلم السابق الذی حکم الله به فی الأزل على الموجودات، والقدرُ هو وقوع الخلق على وزن الأمر المقضی السابق. و علی ما ذکره الراغب الأصفهانی أن القضاء من الله أخص من القدر؛ لأنه الفصل بین التقدیر؛ فالقدر هو التقدیر، والقضاء هو الفصل والقطع.
أن القدر هو وجود الأفعال على مقدار الحاجة إلیها والکفایة لما فعلت من أجله، وعلى الوجه المقدّر، والقضاء هو فصل الأمر على التمام.
أنه لا فرق بین القضاء والقدر؛ فکل واحد منهما بمعنى الآخر؛ فإذا أطلق التعریف على أحدهما شمل الآخر؛ ویعبر عن کل واحد منهما کما یعبر عن الآخر؛ فهما مترادفان من هذا الاعتبار.
وإذا أمعنّا النظر فی الأقوال السابقة وفی الأصول اللغویة للمصطلحین، یمکننا القول أن ثمّة فرقاً دقیقاً بین کلا اللفظتین، فالقدر هو التقدیر، والقضاء: هو الخلق، على أن بینهما تلازمٌ وارتباطٌ لا یمکن إغفاله، لأن أحدهما بمنزلة الأساس وهو القدر، والآخر بمنزلة البناء وهو القضاء؛ فمن رام الفصل بینهما فقد رام هدم البناء ونقضه کما ذکر العلماء، والأقرب أن یُقال: إن القضاء والقدر من الألفاظ التی إذا اجتمعت افترقت، فدلّ کلٌّ منهما على معناه الخاصّ به، وإذا افترقت اجتمعت، أی شمل کلّ منهما معنى الآخر، خصوصاً ما یتعلّق بمراتب القدر الأربعة: العلم والکتابة والمشیئة والخلق.
المصادر :
1- التکویر:29
2- الصافات:96
3- الحجر:66
source : rasekhoon