لمقصود قبور الاَنبياء والشهداء والاَئمّة الاَولياء الذين لهم مكانة عالية في قلوب الموَمنين، فهل الاهتمام بها وبناءها وزيارتها واحترامها وتعظيمها هو أمر جائز أو لا ؟ وهذه المسألة لا تمت إلى العقيدة الاِسلامية بصلة حتى تكون ملاكاً للتوحيد والشرك، وإنّما هي من المسائل الفقهية التي يدور أمرها بين الاِباحة والكراهة والاستحباب وغيرها...
ولا يصحّ لمسلم واع أن يتخذ تلك المسألة ذريعة للشرك والتكفير، فكم من مسائل فقهية اختلفت فيها كلمة الفقهاء، ومن حسن الحظ لم يختلف في هذه المسألة فقهاء الائمة الاَربعة ولا فقهاء المذهب الاِمامي ودليلهم على جواز البناء على قبور تلك الشخصيات عبارة عن سيرة المسلمين منذ رحيل النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى يومنا هذا.
وارى المسلمون جسد النبي صلى الله عليه وآله وسلم في بيته المسقف وحرصوا على بذل المزيد من العناية بحجرته الشريفة بشتى الاَساليب، وقد جاء ذكرها في الكتب التي ألفت في تاريخ المدينة لا سيما كتاب وفاء الوفاء للعلاّمة السمهوديّ.(1)
وشيّد البناء الموجود عام 1270هـ وهو بحمد اللّه قائم لم يمسه السوء، وسوف يبقى بفضل اللّه تبارك وتعالى محفوظاً مصوناً عن الاندثار، فلو كان البناء على القبور أمراً حراماً لدفنه المسلمون في مكان واسع لا سقف فيه.
انّ البناء على القبور كانت سيرة سائدة بين المسلمين من عصر الصحابة إلى يومنا هذا، وهذه هي كتب الرَحَلات تذكر لنا وصف القبور الموجودة في المدينة التي كانت عليها قباب وعلى قبورهم صخرة فيها اسماوَهم ونحن نذكر من ذلك نزراً يسيراً:
1- يقول المسعودي(المتوفّى445هـ) حول المشاهد والقباب في البقيع: وعلى قبورهم في هذا الموضع من البقيع، رخامة مكتوب عليها بسم اللّه الرّحمن الرّحيم الحمد للّه مبيد الاَمم ومحيي الرمم وهذا قبر فاطمة بنت رسول اللّه(صلى الله عليه وآله وسلم) سيدة نساء العالمين، وقبر الحسن بن علي بن أبي طالب، وعلي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، و محمد بن علي، و جعفر بن محمد.(2)
2- وذكر السبط ابن الجوزي(المتوفّى عام 654هـ) في تذكرةالخواص ص 311 نظير ذلك.
3- كما وصف محمد بن أبي بكر التلمساني المدينة الطيبة وبقيع الغرقد في القرن الرابع بقوله: وقبر الحسن بن علي عن يمينك إذا خرجت من الدرب ترتفع إليه قليلاً عليه مكتوب هذا قبر الحسن بن علي دفن إلى جنب أُمّه فاطمة (عليها السلام).(3)
4- يقول الحافظ محمد بن محمود بن النجار (المتوفّى عام 643هـ)في «اخبار مدينة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) »: في قبة كبيرة عالية قديمة البناء في أوّل البقيع، وعليها بابان يفتح أحدهما في كلّ يوم للزيارة «رضي اللّه عنهم».(4)
5- ويقول ابن جبير الرحالة الطائر الصيت(المتوفّى عام 614هـ) في رحلته في وصف بقيع الغرقد: يقع في مقابل قبر مالك قبر، السلالة الطاهرة إبراهيم بن النبي عليها قبة بيضاء، وعلى اليمين منها تربة ابن عمر ابن الخطاب، وبازائه قبر عقيل بن أبي طالب (رض) وعبد اللّه بن جعفر الطيار (رض)، وبازائهم روضة فيها أزواج النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ، وبها روضة صغيرة فيها ثلاثة من أولاد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ، و روضة العباس بن عبدالمطلب والحسن بن علي (رض) وهي قبة مرتفعة في الهواء على مقربة من باب البقيع المذكور، وعن يمين الخارج منه، ورأس الحسن إلى رجلي العباس وقبراهما مرتفعان عن الاَرض متسعان مغشيان بألواح ملصقة، أبدع الصاق، مرصّعة بصفائح الصفر، ومكوكبة بمسامير على أبدع صفة، وأجمل منظر، وعلى هذا الشكل قبر إبراهيم بن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ،ويلي هذه القبة العباسية بيت ينسب لفاطمة بنت الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم) ويعرف ببيت الحزن... وفي آخر البقيع قبر عثمان الشهيد المظلوم ذي النورين وعليه قبة صغيرة مختصرة، وعلى مقربة منه مشهد فاطمة ابنة أسد أُمّ عليّ رضي اللّه عنها وعن بنيها.(5)
6- وروى البلاذري انّه لما ماتت زينب بنت جحش سنة عشرين صلّى عليها عمر، وكان دفنها في يوم صائف، ضرب عمر على قبرها فسطاطا.(6)
ولم يكن الهدف من ضربه ذلك الفسطاط تسهيل الاَمر لمن يتعاطى دفنها، بل لاَجل تسهيله لاَهلها حتى يتفيوَا بظله، ويقرأوا ما يتيسر من القرآن والدعاء.
7- يقول السمهودي(المتوفّى 911هـ) في وصف بقيع الغرقد: قد ابتنى عليها مشاهد، منها المشهد المنسوب لعقيل بن أبي طالب وأُمّهات الموَمنين،تحوي العباس والحسن بن علي ...وعليهم قبة شامخة في الهواء، قال ابن النجار: ...وهي كبيرة عالية، قديمة البناء،وعليها بابان، يفتح أحدهما في كلّيوم.وقال المطري: بناها الخليفة الناصر أحمد بن المستضيء... وقبر العباس وقبر الحسن مرتفعان من الاَرض متسعان مغشيان بألواح ملصقة أبدع الصاق، مصحفة بصفائح الصفر، مكوكبة بمسامير على أبدع صفة وأجمل منظر.(7)
إلى غير ذلك من الرحالة الذين زاروا المدينة المنورة ووصفوا تلكم المزارات و المشاهد و القباب المرتفعة ونظر الكل إليها بعين الرضا والمحبة لا بعين السخط والغضب.
وهذا النوع من الاتفاق والاِجماع من قبل علماء الاِسلام طيلة قرون أقوى شاهد على جواز البناء على قبور الشخصيات الاِسلامية الذين لهم منزلة ومكانة في القلوب.
ولنعم ما يقول العلاّمة العاملي:
مضت القرون وذي القباب مشيدة * والناس بين مؤسس ومجدد
في كلّ عصر فيه أهل الحل والـ * ـعقد الذين بغيرهم لم يعقد
لم ينكروا أبداً على من شادها * شيدت ولا من منكر ومفند
فبسيرة للمسلمين تتابعت * في كل عصر نستدل ونقتدي (8)
إنّ صيانة القبور والآثار الباقية من بيت الوحي والعصمة (عليهم السلام)من مظاهر حب النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) وتكريمه، وقد أُمر المسلمون في الكتاب والسنّة بحبه وتكريمه و تبجيله، قال سبحانه: (قُلْ إِنْ كانَ آباوَكُمْ وَأَبْناوَُكُمْ وَإِخْوانُكُمْ وَأَزْواجُكُمْ وَعَشيرتُكُمْ وَأَمْوالٌ اقْتَرَفْتُمُوها وَتِجارَةً تَخْشَونَ كَسادَها وَمَساكِنُ تَرْضَونَها أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللّهِ وَرَسُولهِوَجِهاد في سَبيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتّى يَأْتِي اللّهُ بِأَمْرِهِ وَاللّهُ لا يَهْدي الْقَومَ الْفاسِقينَ) .(9)
وقال سبحانه في وصف الموَمنين:(فَالَّذينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزُّروهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أنْزِلَمَعَهُ أُولئِكَ هُمُ الْمُفلِحُونَ) .(10)
فالآية الكريمة تأمر بأُمور أربعة:
1- الاِيمان به.
2- تعزيره.
3- نصرته.
4- اتباع كتابه وهو النور الذي أُنزل معه.
وليس المراد من تعزيره هو نصرته، لاَنّه قد ذكره بقوله: «نصروه» وإنّما المراد توقيره، وتكريمه وتعظيمه بما انّه نبيُّ الرحمة والعظمة ، ولا يختص تعزيره وتوقيره بحال حياته بل يعمها، كما انّ الاِيمان به والتبعية لكتابه لا يختصان بحال حياته الشريفة.
وعلى هذا فحب النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) ومن يمت إليه بصلة أصل إسلامي يجب أن يهتم به المسلمون ويطبقونه في حياتهم.
ولاَجل كرامة رسول اللّه(صلى الله عليه وآله وسلم) ومنزلته يدعو الذكر الحكيم إلى تعظيمه في المجالس وحفظ كرامته ويقول:
(يا أَيُّهَا الَّذينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصواتَكُمْ فَوْقَ صَوتِ النَّبىِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالقَولِ كَجَهْرِ بَعْضكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُون).(11)
وقال أيضاً: (إِنَّ الَّذينَ يَغُضُّونَ أَصواتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللّهِ أُولئِكَ الَّذينَ امْتَحَنَ اللّهُ قُلُوبُهُمْ لِلتَّقوى) .(12)
وقال: (لا تَجْعَلُوا دُعاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعاءِبَعْضِكُمْ بَعضاً).(13)
فأي إجلال أبلغ من هذا، وأي تقدير أورع من هذا التقدير.
وليس الذكر الحكيم وحده هوالداعي والآمر بحب الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) ، بل السنّة النبوية تضافرت على لزوم حبه.
قال رسول اللّه: «لا يوَمن أحدكم حتى أكون أحبَّ إليه من والده وولده والناس أجمعين».(14)
وقد تواتر مضمون هذه الرواية عن النبي ص، فمن أراد فليرجع إلى الكتب المعدة لهذا الغرض.(15)
إنّ لهذا الحب مظاهر ومجالي، إذ ليس الحب شيئاً يستقر في صقع النفس من دون أن يكون له انعكاس خارجي على أعمال الاِنسان وتصرفاته، بل من خصائصه أن يظهر أثره على سلوك الاِنسان وملامحه.
1- حب اللّه ورسوله لا ينفك عن اتّباع دينه والاستنان بسنّته والانتهاء عن نواهيه، ولا يعقل أبداً أن يكون المرء محباً لرسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) ، ومع ذلك يخالفه فيما يبغضه ولا يرضيه . و الاِتّباع أحد مظاهرالحبّ قال سبحانه: (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ وَ يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ)(16) فمن ادّعى الحب في النفس وخالف في العمل، فقد جمع بين شيئين متخالفين متضادين.
وقد نسب إلى الاِمام الصادق (عليه السلام) البيتان التاليتان:
تعصي الاِله وأنت تظهر حبَّه * هذا لعمري في الفعال بديع
لو كان حبك صادقاً لاَطعته * انّ المحب لمن يحب مطيع(17)
2- ومن مظاهر هذا الحب، صيانة آثارهم وحفظ معالمهم والعناية بكلّ ما يتصل بهم حتى الاحتفاظ بما صلوا فيه من ألبسة أوشربوا منه الماء من أوان أو استخدموه من أشياء، وتشييد مراقدهم، وتعمير قبورهم ... كلّ ذلك انعكاس طبيعي لهذا الحب الكامن في النفوس والود المتمكن في القلوب.
وليس هذا أمراً مختصاً بالمسلمين، بل الاَمم المتحّضرة المعتزة بماضيها وتاريخها، تسعى إلى صيانة كلّ أثر تاريخي باق من الماضي وصيانة مراقد شخصياتهم العلمية .
وأخيراً نقول: لا شكّ انّ لهدم الآثار والمعالم التاريخية الاِسلامية لا سيما في مهد الاِسلام مكة ومهجر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) المدينة المنوّرة، نتائج ومضاعفات خطيرة على الاَجيال اللاحقة التي سوف لا تجد أثراً لوقائع التاريخ الاِسلامي، وربما توَول إلى الاعتقاد بأنّ الاِسلام قضية مفتعلة وفكرة مبتدعة ليس لها جذور تاريخية، تماماً كما أصبحت قضية السيد المسيح (عليه السلام) في نظر الغرب قضية اسطورية حاكتها أيدي البابوات والقساوسة، لعدم وجود آثار ملموسة تدل على أصالة هذه القضية ووجودها التاريخي.
بقي هنا سوَال وهو انّ مقتضى هذه الاَدلة وإن كان هو جواز البناء على القبور لكن الحديث العلويّ يمنعنا عنه وهو ما أخرجه مسلم في صحيحه عن أبي هياج الاَسدي، قال: قال لي علي بن أبي طالب: ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) أن لا تدع تمثالاً إلاّ طمسته ولا قبراً مشرفاً إلاّسويته.(18)
والجواب: انّ الحديث يدل على لزوم تسطيح القبور مقابل تسنيمها ولا صلة له ببناء القبور أو البناء عليه وذلك انّ لفظة «التسوية» تستعمل في معنيين:
1- تطلق ويراد منها مساواة شيء بشيء فعندئذٍ تتعدى إلى المفعول الثاني بحرف التعدية كالباء قال سبحانه: (إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعالَمين) .(19)
وقال سبحانه حاكياً عن حال الكافرين يوم القيامة: (يَومَئِذٍ يَوَدُّالَّذينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُول لَو تُسَوّى بِهِمُ الاَرْضُ وَلا يَكْتُمُونَ اللّهَ حَديثاً) (20) أي يودّون أن يكونوا تراباً أو أمواتاً تحت الاَرض.
2- تطلق ويراد منها ما هو وصف لنفس الشيء لا بمقايسته إلى شيء آخر، فعندئذٍ تكتفي بمفعول واحد.
قال سبحانه: (الَّذي خَلَقَ فَسَوّى) .(21)
وقال سبحانه: (بَلى قادِرينَ عَلى أَنْ نُسَوِّيَ بَنانَهُ) .(22)
ففي هذين الموردين تقع التسوية وصفاً للشيء لا باضافته إلى غيره.
إذا عرفت ذلك فلنرجع إلى تفسير الحديث فنقول:
لو أراد من قوله: سويته هو مساواة القبر بالاَرض ـ كمساواة شيء بشيء ـ يلزم أن يتّخذ مفعولاً ثانياً بحرف الجر كأن يقول سويته بالاَرض أي جعلتهما متساويين والمفروض انّه اقتصر بمفعول واحد دون الثاني.
فتعين انّ المراد هو الثاني أي كون المساواة وصفاً لنفس الشيء وهو القبر ومعناه عندئذٍ تسطيح القبر في مقابل تسنيمه،وبسطه في مقابل اعوجاجه، وهذا هو الذي فهمه شراح الحديث، وبما انّ السنّة هي التسطيح، والتسنيم طرأ بعد ذلك، أمر عليّ (عليه السلام) بأن يكافح البدعة ويسطح كلّ قبر مسنم.
وممّا يوَيد انّ المراد هو تسطيح القبر انّ مسلم في صحيحه عنون الباب هكذا «باب الاَمر بتسوية القبر» ثمّ نقل رواية عن ثمامة انّه قال: كنّا مع فضالة بن عبيد في أرض الروم، فتوفي صاحب لنا، فأمر فضالة بن عبيد بقبره فسوّي. قال: سمعت رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) يأمر بتسويته ثمّ أورد بعده حديث أبي الهياج المتقدم.(23)
وقد فسره أيضاً بما ذكرنا الفقيه القرطبي حيث قال: قال علماوَنا ظاهر حديث أبي الهياج منع تسنيم القبور ورفعها.(24)
المصادر:
1- وفاء الوفاء بأخبار دار المصطفى:2/458، الفصل التاسع
2- مروج الذهب ومعادن الجوهر:2/288
3- مجلة العرب، رقم 5ـ6، الموَرخة 1393هـ
4- اخبار مدينة الرسول اهتم بنشره صالح محمد جمال بمكة المكرمة عام 1366
5- رحله ابن جبير، طبع بيروت، دار صادر، وقد زار ابن جبير المدينة المنورة عام 578هـ
6- انساب الاَشراف: 1/436
7- وفاء الوفاء:3/916ـ 929
8- كشف الارتياب: 395
9- التوبة/24
10- الاَعراف/157
11- الحجرات/2
12- الحجرات/3
13- النور/63
14- صحيح البخاري:1/8، باب حب الرسول من الاِيمان من كتاب الاِيمان
15- كنز العمال:2/126
16- آل عمران/31
17- سفينة البحار، مادة حب
18- صحيح مسلم:3/60،باب الاَمر بتسوية القبر؛ و السنن للترمذي:2/256، باب ما جاء في تسوية القبور
19- الشعراء/98
20- النساء/42
21- الاَعلى/2
22- القيامة/4
23- صحيح مسلم: 3/61، باب الاَمر بتسوية القبر
24- تفسير القرطبي: 380/10
/ج
source : rasekhoon