كما أنّ العقل يُعتبر القوام الأساس للإنسان، وبناء عليه تُلحظ فيه سائر الصفات والأخلاقيّات، كذلك فإنّ الإيمان والدِّين الّذي هو عبارة عن مجموعة تكاليف وسلوكيّات، لا يكتمل ولا يستقيم إلا بالعقل. فمن لا عقل له حتماً لا دين له، كما ورد عن الرسول صلى الله عليه واله وسلم : "قوام المرء عقله، ولا دين لمن لا عقل له"(1).
بل جعلت كمّيّة العبادة ومقدارها حسب عقل المرء، فعنه صلى الله عليه واله وسلم : "لكلّ شيء دعامة ودعامة المؤمن عقله، فبقدر عقله تكون عبادته لربِّه"(2). وقد وصفت الروايات العاقل: بـأنّه "لا يُفارقه الحياء"(3).
وهو الذي يتجنّب ما يُسخط الله تعالى ويُبعده عن ساحة رضاه، وقد ورد عن الإمام عليّ عليه السلام: "العاقل من تورّع عن الذنوب وتنزّه عن العيوب"(4).
فالعقل أحد مرتكزات الإيمان وكماله، فعن المعصوم عليه السلام: "ثلاث من كنّ فيه كمل إيمانه: العقل والحلم والعلم"(5).
العفّة ومكانتها في بناء الشخصيّة
بما أنّ العفّة تُمثّل إحدى أمّهات الفضائل الأخلاقيّة الأربع الناتجة عن اعتدالٍ في قوى النفس، وأنّها جميعاً تُساهم في بناء إنسانيّة الإنسان من خلال اكتساب الملكات الفاضلة، فالعفّة تُساهم مساهمة فعّالة في بناء شخصيّة الإنسان من خلال ما يتفرّع عنها من صفات أخلاقيّة، وقد عدّها العلّامة الطباطبائي إلى ثماني عشرة فضيلة (6)، وكلّ مجموعة من هذه الفضائل تعمل على تهذيب جانب من شخصيّة المرء وتربيته، بحيث يؤدّي افتقاد بعضها إلى خلل واضح فيها، وقد أشار إلى ذلك العديد من الروايات الّتي ذكرناها في هذا الكتاب وغيرها.
وبما أنّ العفّة تصدر عن القوّة الشهويّة ولها حالتا إفراط وتفريط وهما الشره والخمود، فإنّه يصعب انقيادها للقوّة العاقلة فلا تأتمر بأوامر العقل ونواهيه، وإنّما بإمكان القوّة الغضبيّة قهرها وزجرها. فكان للصفات الأخلاقيّة الصادرة عنها، فضائل كانت أم رذائل، دور مهمّ وخطير في بناء أو هدم شخصيّة الإنسان، فهو سرعان ما يقع فريسة لملذّاته وشهواته ويستجيب للإغراءات الدنيويّة. فإذا تبع شهوته كما جاء في الرواية أصبح أخسّ من الحيوان، والقرآن الكريم شبّه متّبعي الشهوات بالأنعام: ﴿أُولَئِكَ كَالأنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ﴾(7).
ولهذا عُدّت مجاهدة النفس عن الصفات الرذيلة وتحويلها إلى ملكات حسنة راسخة في النفس الجهادَ الأكبر. وهو أمر يحتاج إلى معرفة ومِران وممارسة، لا أثناء تحصيل الملكات فحسب، بل بعدها من خلال المواظبة على حفظها ومراقبتها من التزلزل والتبدُّل. وهذه الملكات الأربع الصادرة عن قوى النفس، وما يتفرّع عنها من ملكات، تستدعيها الطبيعة الفرديّة المجهّزة بأدواتها: "وهي كلّها حسنة لأنّ معنى الحسن الملاءمة لغاية الشيء وكماله وسعادته، وهي جميعاً ملائمة مناسبة لسعادة الفرد"(8).
وقد ذكر علماء الأخلاق الفضائل المتفرِّعة عن العفّة وأوصلوها إلى ستٍّ وعشرين فضيلة، وممّا ذُكر من فضائل العفّة: "الحياء، والخجل، والمسامحة، والصبر، والسخاء، وحسن التقدير، والانبساط، والدماثة، والانتظام، وحسن الهيئة، والقناعة، والهدوء، والورع، والطلاقة، والمساعدة، والسخط، والظرف"(9).
معاني هذه الفضائل
السخاء: هو وسط بين التبذير والتقتير، وهو سهولة الإنفاق وتجنُّب اكتساب الشيء من غير وجه ومبرّر.
حسن التقدير: هو اعتدال في النفقات احترازاً عن طرفي التقتير والتبذير.
الدماثة: حسن هيئة النفس الشهوانيّة في نحو انجذابها واشتياقها إلى اللّذّات والمشتهيات.
الانتظام: مناسبة الشيء للشيء الآخر.
حسن الهيئة: محبّة الزينة الواجبة الّتي تميل إليها النفس.
القناعة: حسن تدبير المعاش من غير خداع ولا طمع.
الهدوء: سكون النفس ممّا تناله من اللّذات الجميلة.
الورع: تزيين النفس بالأعمال الصالحة الفاضلة طلباً لكمال النفس وتقرّباً إلى الله من دون رياء.
الطلاقة: المزاح بالأدب من غير فحش وافتراء.
الظرف: أن يعرف الإنسان طبقات الجلساء ويحفظ أوقات الأنس ويُعطي كلاماً لمن هو أهله من المباسطة في الوقت معه.
المسامحة: ترك الخلاف والإنكار على المعاشرين في الأمور الاعتياديّة إيثاراً للحفاظ على لذّة المخالطة والعشرة.
التسخّط: عدم الاغتمام بالخيرات الواصلة إلى من لم يستحقّها وبالشرور الّتي تلحق من لا يستحقّها.
قد أضاف العلّامة الطباطبائي صفات أخرى وهي: الدعة، الوقار، الحرّيّة، المسالمة، حسن الكرم، الإيثار، المسامحة، النبل، المواساة (10).
وأما الحياء فرغم أنّه متفرِّع عن العفّة إلّا أنّه أصل لتسع فضائل، وجاء عن الرسول الأكرم صلى الله عليه واله وسلم :"أمّا الحياء فيتشعّب منه اللّين، والرأفة، والمراقبة لله في السرِّ والعلانية، والسلامة، واجتناب الشرّ، والبشاشة، والسماحة، والظفر، وحسن الثناء على المرء في الناس، فهذا ما أصاب العاقل بالحياء فطوبى لمن قبل نصيحة الله وخاف فضيحته (11).
وأمّا الرذائل المندرجة تحت حدّي العفّة الإفراطي والتفريطي، وهما الشره وخمود الشهوة، فهي:الوقاحة، التخنُّث، والتبذير والتقتير، والرياء، والهتكة، والكزازة، والمجانة، والعبث والتحاشي، والشكاسة، والملق، والحسد، والشماتة".
معاني الرذائل
- الوقاحة: هي لجاج النفس في تعاطي القبيح من غير احتراز من الذمّ.
- التخنُّث: حال يعتري النفس من إفراط الحياء يقبض النفس عن الانبساط قولاً وفعلاً.
- التبذير: إفناء المال فيما لا يجب وفي الوقت الّذي لا يجب وأكثر ممّا يجب.
-التقتير: الامتناع عن إنفاق ما يجب، وسببه البخل والشحّ واللؤم.
-الرياء: التشبُّه بذوي الأعمال الفاضلة طلباً للسمعة والمفاخرة.
-الهتكة: الإعراض عن تزيين النفس بالأعمال الفاضلة والمجاهرة بأضدادها.
-الكزازة: الإفراط في الجدّ.
-المجانة: الإفراط في الهزل.
-العبث: الإفراط في العبث.
-التحاشي: إفراط في التبرُّم بالجليس.
-الشكاسة: مخالفة المعاشرين في شرائط الأنس.
-الملق: التحبُّب إلى المعاشرين مع التغافل عمّا يلحقه من عار الاستخفاف.
-الحسد: الاغتمام بالخير الواصل إلى المستحقّ الّذي يعرفه الحاسد.
-الشماتة: الفرح بالشرّ الواصل إلى غير المستحقّ ممّن يعرفه الشامت. (12)
إذن، تُمثّل العفّة إحدى الفضائل الأربع والّتي لها دور أساس في بناء شخصيّة الإنسان من خلال امتلاكه للملكات الأخلاقيّة الإنسانيّة الفاضلة.
المصادر :
1- الكافي، ج6، ص397.
2- م. ن، ص401.
3- م. ن، ص 416.
4- الكافي،ج6، ص419.
5- الكافي، ج1، ص319.
6- تفسير الميزان، ج1، ص 372.
7- الأعراف: 179.
8- تفسير الميزان، ج1، ص 379.
9- ميزان العمل، ص113-115.
10- تفسير الميزان، ج 1، ص 373.
11- بحار الأنوار، ج1، ص 118.
12- ميزان العمل، ص 115.
source : rasekhoon