عربي
Friday 8th of November 2024
0
نفر 0

العودة

ممّا لا ريب فيه أنَّ صحة الأحكام والعقائد تتوقف علىٰ ورودها في مصادر التشريع الإسلامي ، سيّما ما يتعلق منها بأنباء الغيب وحوادث المستقبل.والرجعة التي تعدُّ واحدة من أُمور الغيب وأشراط الساعة ، استدلّ الإمامية علىٰ صحة الاعتقاد بها بالأحاديث الصحيحة المتواترة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وآله المعصومين عليهم‌السلام المروية في المصادر المعتبرة ، فضلاً عن
العودة

ممّا لا ريب فيه أنَّ صحة الأحكام والعقائد تتوقف علىٰ ورودها في مصادر التشريع الإسلامي ، سيّما ما يتعلق منها بأنباء الغيب وحوادث
المستقبل.والرجعة التي تعدُّ واحدة من أُمور الغيب وأشراط الساعة ، استدلّ الإمامية علىٰ صحة الاعتقاد بها بالأحاديث الصحيحة المتواترة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وآله المعصومين عليهم‌السلام المروية في المصادر المعتبرة ، فضلاً عن اجماع الطائفة المحقّة علىٰ ثبوتها حتىٰ أصبحت من ضروريات المذهب عند جميع الأعلام المعروفين والمصنفين المشهورين ، وهذان الدليلان من أهمّ ما استدلّ به الإمامية علىٰ صحة الاعتقاد بها.
كما استدلوا علىٰ إمكانها بالآيات القرآنية الدالة علىٰ رجوع أقوام من الاُمم السابقة إلىٰ الحياة الدنيا رغم خروجهم من عالم الأحياء إلىٰ عالم الموتىٰ ، كالذين خرجوا من ديارهم حذر الموت وهم أُلوف ، والذي مرَّ علىٰ قرية وهي خاوية علىٰ عروشها ، والذين أخذتهم الصاعقة ، وأصحاب الكهف ، وذي القرنين وغيرهم ، أو الدالة علىٰ وقوعها في المستقبل إما نصّاً صريحاً كقوله تعالىٰ : ( وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِن كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجًا ) الدال علىٰ الحشر الخاص قبل يوم القيامة ، أو بمعونة الأحاديث المعتمدة في تفسيرها كقوله تعالىٰ : ( وَحَرَامٌ عَلَىٰ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَنَّهُمْ لَا يَرْجِعُونَ ).
ويمكن أن يتجلّىٰ لنا الهدف من هذا الأمر الخارق الذي أخبر عنه أئمة الهدىٰ من آل محمد عليهم‌السلام إذا عرفنا أنَّ العدل الإلهي واسع سعة الرحمة الإلهية ومطلق لا يحدّه زمان ولا مكان وأنّه أصيل علىٰ أحداث الماضي والحاضر والمستقبل ، والرجعة نموذج رائع لتطبيق العدالة الإلهية ، ذلك لأنّها تعني أنّ الله تعالىٰ يعيد قوماً من الأموات ممن محض الإيمان محضاً أو محض الكفر محضاً ، فيديل المحقين من المبطلين عند قيام المهدي من آل محمد عليهم‌السلام وهو يوم الفتح الذي أخبر عنه تعالىٰ بقوله :
( وَيَقُولُونَ مَتَىٰ هَٰذَا الْفَتْحُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ * قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ لَا يَنفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمَانُهُمْ وَلَا هُمْ يُنظَرُونَ ) وفيه يتحقق الوعد الإلهي بالنصر للأنبياء والمؤمنين ( إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ ).ولقد اتّخذت الرجعة وسيلة للطعن والتشنيع علىٰ مذهب الإمامية حتىٰ عدّها بعض المخالفين من المستنكرات التي يستقبح الاعتقاد بها ، مع أنّ الدليل علىٰ إمكانها وارد في الكتاب الكريم بصريح العبارة وبما لا يقبل التأويل أو الحمل ، ومع أنّها من أشراط الساعة كنزول عيسىٰ عليه‌السلام وظهور الدجال وخروج السفياني وأمثالها من القضايا الشائعة عند المسلمين ولا يترتب علىٰ اعتقادهم بها أدنىٰ إنكار لأيّ حكم ضروري من أحكام الإسلام ، وفوق ذلك أنّ الرجعة دليل علىٰ القدرة البالغة لله تعالىٰ كالبعث والنشور ، وهي من الاُمور الخارقة للعادة التي تصلح أن تكون معجزة كبرىٰ لنبينا وآل بيته المعصومين عليهم‌السلام.
فمن أجل توضيح مباني هذا الاعتقاد وإزالة اللبس الذي يعتري أذهان البعض حوله ، قام مركزنا باصدار هذه الدراسة التي تحتوي علىٰ ستة فصول تلمّ بأطراف الموضوع تعريفاً وأدلةً وأحكاماً باعتماد ما ورد في الكتاب العزيز والأحاديث المستفيضة عن النبي الأكرم وأهل بيته الطاهرين عليهم‌السلام ، نسأل الله تعالىٰ أن ينفع بها.
إنَّ أنباء الغيب وحوادث المستقبل وما سيقع من الفتن والملاحم وعلامات الظهور وأشراط الساعة وغيرها تعدُّ من المسائل التي أولاها المحدّثون أهمية خاصة ، ذلك لأنّ الكتاب الكريم والسُنّة المباركة يدلان علىٰ أنّ الموت ليس هو النتيجة النهائية لرحلة الروح والبدن في هذا الكون ، بل هو نافذة تطل علىٰ حياة جديدة وعوالم مختلفة ( أَيَحْسَبُ الْإِنسَانُ أَن يُتْرَكَ سُدًى * أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِّن مَّنِيٍّ يُمْنَىٰ * ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّىٰ * فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنثَىٰ * أَلَيْسَ ذَٰلِكَ بِقَادِرٍ عَلَىٰ أَن يُحْيِيَ الْمَوْتَىٰ ) (1).
روىٰ سعد بن عبدالله الأشعري بالاسناد عن بريدة الأسلمي ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ‎« كيف أنت إذا استيأست أُمتي من المهدي ، فيأتيها مثل قرن الشمس ، يستبشر به أهل السماء وأهل الأرض ؟ فقلت : يا رسول الله بعد الموت ؟ فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : والله إنّ بعد الموت هدىً وإيماناً ونوراً. قلت :
يا رسول الله ، أي العمرين أطول ؟ قال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : الآخر بالضعف » (2).
وقال أميرالمؤمنين علي بن أبي طالب عليه‌السلام : «‎ أيُّها الناس ، إنّا خلقنا وإياكم للبقاء لا للفناء ، لكنكم من دار إلىٰ دار تنقلون ، فتزوّدوا لما أنتم صائرون إليه » (3).
إنَّ اعتقادنا بعودة بعض الناس إلىٰ الحياة بعد الموت لم يكن اعتباطياً ، وإنّما كان تبعاً للآثار الصحيحة المتواترة التي حفلت بها كتب أصحابنا ، واحتلت مساحة واسعة من أحاديث النبي وعترته الطاهرة عليهم‌السلام الذين ندين بعصمتهم من الكذب ، وعلىٰ هذا إجماعهم ، وإجماعهم حجة لقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «‎ إنّي تاركٌ فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلّوا بعدي ، كتاب الله حبل ممدود من السماء إلىٰ الأرض ، وعترتي أهل بيتي ، ولن يفترقا حتىٰ يردا عليَّ الحوض ، فانظروا كيف تخلفوني فيهما » (4).
وقد دلَّ الكتاب الكريم علىٰ الحشر الخاص قبل يوم القيامة ، وهو عودة بعض الأموات إلىٰ الحياة في قوله تعالىٰ : ( وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِن كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجًا مِّمَّن يُكَذِّبُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ يُوزَعُونَ ) (5) كما دلَّ علىٰ الحشر العام بعد نفخة النشور في نفس السورة بقوله : ( وَيَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الْأَرْضِ ) إلىٰ قوله تعالىٰ : ( وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ ) (6)
ويستفاد من مجموع الآيتين أنّ يوم الحشر الخاص هو غير يوم النفخ والنشور الذي يحشر فيه الناس جميعاً ، وبما أنّه ليس ثمة حشر بعد يوم القيامة بدليل الكتاب والسُنّة ، فلا بدَّ أن يكون الحشر الخاص واقعاً قبل يوم القيامة ، فهو إذن من العلامات الواقعة بين يدي الساعة ، كظهور الدجال وخروج السفياني ونزول عيسىٰ من السماء وطلوع الشمس من مغربها وغيرها من الأشراط المدلولة بالكتاب والسُنّة.
كما دلَّ الكتاب الكريم علىٰ رجعة بعض الناس في الاُمم السابقة إلىٰ الحياة بعد الموت في عدة آيات صريحة لا تقبل التأويل ، منها قوله
تعالىٰ : ( أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِن دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ ) (7)
وهو يدل علىٰ إمكان الرجعة في هذه الاُمّة أيضاً لقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ‎« لتركبن سنن من كان قبلكم شبرا بشبر وذراعاً بذراع ، حتىٰ لو أنَّ أحدهم دخل جُحر ضَبّ لدخلتُم » (8).
وملخص الاعتقاد بالرجعة هو أنّ الله تعالىٰ يعيد في آخر الزمان طائفة من الأموات إلىٰ الدنيا ممّن محضوا الإيمان محضاً أو محضوا الكفر محضاً ، فينتصر لأهل الحق من أهل الباطل ، وعلىٰ هذا إجماع الشيعة الإمامية الاثني عشرية ، وقد علم دخول المعصوم في هذا الاجماع بورود الأحاديث المتواترة عن النبي وأهل بيته المعصومين عليهم‌السلام الدالة علىٰ اعتقادهم بصحة الرجعة.
إنَّ الاعتقاد بالرجعة علىٰ ما جاء في الروايات عن آل البيت عليهم‌السلام من ضروريات المذهب الشيعي ، وقد بحث العلماء عن حكم من أنكر شيئاً من الضروريات ـ من أتباع المذهب أو سائر من نطق بالشهادتين ـ في الكتب المتعلّقة بهذا الشأن ، الأمر الذي لسنا الآن بصدد التحقيق عنه في هذه الرسالة.
والاعتقاد بالرجعة من مظاهر الإيمان بالقدرة الإلهية ، فقد روي أنّ ابن الكوّاء الخارجي سأل أمير المؤمنين عليه‌السلام عن الرجعة ـ في حديث طويل ـ
قال عليه‌السلام في آخره : ‎« لا تشكّنَّ يابن الكواء في قدرة الله عزَّ وجلَّ » (9).
وسأل أبو الصباح الإمام الباقر عن الرجعة ، فقال عليه‌السلام : «‎ تلك القدرة ، ولا ينكرها إلاّ القدرية ، تلك القدرة فلا تنكرها » (10) وبمثل ذلك أجاب عليه‌السلام عبدالرحمن القصير (11).
إنَّ من يعتقد بأنَّ الله تعالىٰ هو الذي برأ الخلق من العدم إلىٰ حيّز الوجود كيف يشكّ ويتردد في أنّه يعجزه إعادتهم ! ومن قدر علىٰ الابتداء فهو علىٰ الإعادة أقدر ، قال تعالىٰ : ( وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَن يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ * قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ * الَّذِي جَعَلَ لَكُم مِّنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نَارًا فَإِذَا أَنتُم مِّنْهُ تُوقِدُونَ * أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَىٰ أَن يَخْلُقَ مِثْلَهُم بَلَىٰ وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ * إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ ) (12).
هذه هي الرجعة التي كثرت التهويلات والتشنيعات علىٰ المعتقدين بها حتىٰ عدّوها أسطورة وقولاً بالتناسخ ، وأنّ معتقدها خارج عن الإسلام والدين ، وأنّها من مفتريات عبدالله بن سبأ ، وما إلىٰ ذلك من التشدّق علىٰ مدرسة الإسلام الأصيل ، إنّنا لا نعطي الحق لمن لا يؤمن برجعة بعض الأموات إلىٰ الحياة الدنيا بعد الموت لعدم ثبوته عنده ، بل عليه أن يبحث ويسأل أهل الذكر وليس من حقّه أن يشنّع علىٰ من يقول بذلك لتواتر الأحاديث وثبوت النصوص عنده ، إذ لا حجة للجاهل علىٰ العالم.
ويحق لنا في هذا المقام أن نسأل المنكرين لأنباء الغيب وما يقع في المستقبل ، ما الدليل علىٰ زعمكم أنّه لا يوجد ثمة عودة إلىٰ الحياة بعد الموت ؟ وما الحجة التي تعزّز ما تذهبون إليه ؟ هل تخلّل أحد منكم في آفاق المستقبل ، وسبر أغوارها ، ووقف علىٰ حقيقة الأمر ثم عاد وأخبر أنّه لم يجد شيئاً ممّا أخبر به القرآن الكريم والعترة النبوية الطاهرة عليهم‌السلام ؟
المصادر :
1- سورة القيامة 75 : 36 ـ 40.
2- بحار الأنوار ، للمجلسي 53 : 65 / 56 المكتبة الإسلامية ـ طهران.
3- الإرشاد ، للمفيد 1 : 338 تحقيق مؤسسة آل البيت عليهم‌السلام ـ قم.
4- سنن الترمذي ـ كتاب المناقب : 663 / 3786 و 3788 تحقيق أحمد محمد شاكر ـ دار احياء التراث العربي. ومستدرك الحاكم 3 : 148 حيدر آباد ـ الهند.
5- سورة النمل 27 : 83.
6- سورة النمل 27 : 87. 
7- سورة البقرة 2 : 243.
8- كنز العمال ، للمتقي الهندي 11 : 134 / 30924 مؤسسة الرسالة. 
9- بحار الأنوار 53 : 74.
10- المصدر السابق : 72 / 71.
11- المصدر السابق : 74 / 73.
12- سورة يس 36 : 78 ـ 82. 


source : rasekhoon
0
0% (نفر 0)
 
نظر شما در مورد این مطلب ؟
 
امتیاز شما به این مطلب ؟
اشتراک گذاری در شبکه های اجتماعی:

آخر المقالات

المُناظرة الثامنة عشر /مناظرة الاِمام الجواد ...
آل محمد( ص ) في القرآن
العقـائــد الإسـلاميــة في القــرآن الكريــم
الأرزاق و الأسعار
المعاد والإيمان وأحكامه (2)
الخلاف حول البناء على قبور الأنبياء (عليهم ...
مسؤوليات الشباب في كلام القائد
موقف النهج الأموي من الخروج على الحاكم الظالم
مدرسة السقيفة وإشكالية علمنة الدين
موقف ابن تيمية من مناقب علي بن أبي طالب عليه ...

 
user comment