الإسلام والإيمان :
الإسلام في اللغة هو التسليم والانقياد ظاهراً، سواء أطابق الواقع أم خالفه، والإيمان هو التصديق في القلب، سواء أأعلنه المؤمن أم أسره.
أما في الشرع فالإسلام هو الإقرار بالشهادتين، أما الايمان فلا بد من إضافة أمور أخرى إلى الإقرار، وهي إقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، والحج إلى بيت اللّه الحرام، وفي بعض الأحاديث الإيمان إقرار باللسان، وتصديق في الجنان، وعمل بالأركان، وفي بعضها الآخر الإيمان عمل كله(1) - إذن - الإسلام أعم، والإيمان أخص، فكل مؤمن مسلم، ولا عكس، فقد يكون الإنسان مسلماً حكماً، ولا يكون مؤمناً واقعاً، وهذا ما قاله فخر الدين الرازي عند تفسير قوله تعالى : «وقالت الأعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ولما يدخل الإيمان في قلوبكم - 14 الحجرات» وقوله تعالى : «فما وجدنا فيها
_______________
(1) العمل أثر للإيمان، ومسبب عنه، فاطلاق العمل عليه فيه ضرب من التجوز، ولست اتصور بحال ان من لا يعمل يكون مؤمناً، وان خيل إليه، وإلى الفقهاء بأنه مؤمن متهاون.
غير بيت من المسلمين - 36 الذاريات».
وبهذا يتبين أن قول النبي بني الإسلام على خمس أراد به الإسلام الخاص المتحد مع الإيمان المستلزم للعمل، والعام كثيراً ما يطلق، ويراد به الخاص.
التشيّع في ثَلاث مَراحِل
قدمنا في الصفحات السابقة أن قول النبي (ص) : «من كنت مولاه فعلي مولاه» هو السبب الأول لقول من قال بأحقية علي بالخلافة، وأن قوله «علي مع الحق والحق مع علي» سبب للقول بعصمته، وأن قوله «يخرج المهدي ويملأ الأرض قسطاً وعدلاً» سبب للقول بالمهدي المنتظر، حيث لا يسع المسلم بما هو مسلم أن يتجاهل أقوال نبيه الكريم التي رواها الثقات، وأثبتها أصحاب الصحاح في صحاحهم.
ولكن هذه الأحاديث، وما إليها لا تؤتي ثمارها، ولا تعمل عملها بدون دعاة وحماة يبينونها للناس، ويعملون على بثها ونشرها. فمن هم الذين دعوا إلى التشيع؟ وما هي الأساليب التي استعملوها لبثه ونشره؟
والجواب عن هذا السؤال يستوعب كتاباً ضخماً، لأن رواد التشيع والذابين عنه لا يبلغهم الإحصاء، ولكن نستطيع أن نقسم الدعوة إلى التشيع باعتبار الأدلة التي كان يعتمدها الدعاة إلى ثلاثة أدوار : ويبدأ الدور الأول بوفاة الرسول (ص)، وينتهي بانتهاء العصر الأموي. ويبدأ الثاني بعهد الإمام الصادق، أي بأول العهد العباسي. ويمتد إلى عصر الشيخ المفيد المتوفى سنة 413 هجري، وينتهي هذا الدور بالعلامة الحلي (ت 726هجري) الذي وضع أجوبة الشبهات ونقضها بشتى أنواعها في وضعها النهائي، ولم يدع فيها زيادة لمن جاء بعده، ونذكر من كل دور أفراداً - على سبيل المثال لا الحصر - كان لهم الأثر البالغ في بث التشيع ونشره.
الدور الأول :
إن انتشار الإسلام وامتداده إلى شرق الأرض وغربها لا يستند إلى الفتوحات
الإسلامية، وقوة المسلمين فحسب1 وإنما يستند أولاً وقبل كل شيء إلى مبادئه الإنسانية، وشريعته السهلة السمحة، ولولاها لم يكتب له النجاح والبقاء، حتى اليوم، وإلى آخر يوم، وكذلك مبدأ التشيع فإنه مدين في نجاحه واستمراره إلى كتاب اللّه وسنة الرسول، لا إلى هيئة من الهيئات، أو فرد من الأفراد، فمن دعا إليه تسلح بكتاب اللّه وسنة نبيه، ومن اعتنقه اعتنقه طاعة للّه ورسوله. ومن هنا اعتمد دعاة التشيع أول ما اعتمدوا على ما جاء في كتاب اللّه سبحانه بحق علي خاصة، كقوله تعالى «إنما وليّكم اللّه ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون - 55 المائدة» وغيرها من الآيات التي بحق علي خاصة، كقوله تعالى «إنما وليكم اللّه ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون - 58 المائدة» وغيرها من الآيات التي ذكرناها في كتاب «علي والقرآن»، واعتمدوا على ما نزل في أهل البيت عامة، كآية التطهير، وآية المودة، وآية المباهلة، وعلى الأحاديث النبوية، كحديث الغدير، وحديث المنزلة، وحديث مدينة العلم، وحديث المؤاخاة، وما إليه وإذا تعدوا الآيات والأحاديث فإلى فضائل الإمام، كزهده، وعلمه، وشجاعته، وسبقه إلى الإسلام، وجهاده، وتصلبه في جانب اللّه.
وكانت مظاهر التشيع في هذا الدور غاية في الوضوح، غاية في البساطة، فلا عيد غدير، ولا شهادة أن علياً ولي اللّه في الأذان، لا شيء سوى الإيمان بأن الخلافة بعد الرسول حق إلهي لعلي بن أبي طالب، وكان أول من أعلن هذا الحق ودعا إليه السيدة فاطمة أم الحسنين أعلنته في خطبتها الأولى بالمسجد الجامع، وفي خطبتها الثانية ببيتها على نساء المهاجرين والأنصار، وقد أبنا ذلك في كتاب مع «بطلة» كربلاء وقلنا: إن الغاية الأولى من كلتا الخطبتين أن تعلن للأجيال حق بعلها في خلافة أبيها، وإن المطالبة بفدك كانت وسيلة لهذه الغاية.
_______________
_ 1 - لم تكن الغاية من تلك الفتوحات التبشير بالإسلام، والدعوة إلى اللّه - فيما نعتقد - وإنما كانت من أجل سيطرة المسلمين، وامتداد سلطانهم وايجاد أرض يعيشون فيها أغنى من أرضهم، وتربة أخصب من تربتهم. ولكن عظمة الإسلام بشرت بنفسها لنفسها في جميع أدوار التاريخ، بخاصة في هذا العصر الذي ينهش المسلمون بعضهم بعضاً، وبصورة أخص حكامهم الذين أعانوا قوى الشر والعدوان عليهم وعلى دينهم وبلادهم، ولولا ما في الإسلام من قوة ومناعة لكان المنتمون إليه من أقوى عوامل القضاء عليه.
أجل، منذ اليوم الأول لفاجعة كربلاء، والشيعة يتوافدون إلى زيارة قبر الحسين، ويقيمون المآتم الحسينية، وإن لم تكن على الشكل الذي عليه الآن، وأول من زار الضريح المقدس الصحابي المعروف جابر بن عبد اللّه الأنصاري، مع جماعة من الشيعة، وأول من رثاه أبو باهل الجمحي، قال كرد علي في الجزء السادس من كتاب «خطط الشام» ص 256 طبعة 1928 :
«تجتمع الشيعة في أيام عاشوراء، فتقيم المآتم على الحسين بن علي شهيد كربلاء عليه السلام، وعهدهم بذلك بعيد يتصل بعصر الفاجعة، وأول من رثاه أبو باهل الجمحي بقصيدة يقول فيها:
تبيت النشاوى من أمية نوماً*** وبالطف قتلى ما ينام حميمها
والظاهر من سيرة ديك الجن الحمصي في كتاب «الأغاني» أن هذه الاجتماعات للمآتم كانت معروفة في زمانه. ثم أن بني بويه أيام دولتهم عنوا بها مزيد العناية، ولا تزال إلى اليوم تقام في جميع أقطار الشيعة، وليست هي من الفروض، كما يتوهم، بل يستحبونها، لأنها تصدر عن ولاء ومحبة. وقد تطرف بعض العجم، فأبدعوا فيها بدعاً يمقتها اللّه والناس، من ضرب أنفسهم بالمدى، وإسالة الدماء على أثوابهم، وعمل ما يسمونه الشبيه، وقد مقته العلماء من الشيعة، ولم تذعن لهم به العامة في كثير من البلدان التي استحكمت فيها هذه العادة».
ومن الدعاة الأول للتشيع جميع بني هاشم، وعلى رأسهم العباس عم الرسول، وكثير من الأصحاب، وقد ذكرنا أسماءهم فيما سبق، وكان أشهرهم وأكثرهم حماساً أربعة: سلمان، وأبو ذر، وعمار، والمقداد، فقد أولوا الدعاء لعلي اهتماماً بالغاً، وعناية خاصة، ونظروا إلى خلافته كركن من أركان الإسلام، وشرط لقوة المسلمين واجتماع شملهم، وتوحيد كلمتهم، ولم يشكوا لحظة في أن انصرافها عن علي إلى غيره مخالفة صريحة لنصوص الكتاب والسنة، ومعصية اللّه ورسوله.