عربي
Thursday 28th of March 2024
0
نفر 0

الأمر بين الأمرين

الأمر بين الأمرين

لا نحتاج إلى كثير من التفكير والتأمل لنقول إنّ المذهب القرآني في هذه المسألة الحساسة والخطيرة في حياة الإنسان لا هو بالمذهب الأول ولا هو بالمذهب الثاني ، وفيما استعرضنا من آيات القرآن قبل قليل ما يكفي لاثبات هذه الحقيقة.
إذن ، المذهب الذي يختاره القرآن هو مذهب ثالث بين المذهبين المعروفين.
وهذا المذهب الثالث هو الذي تبنّاه أهل البيت عليهم‌السلام ونسبوه إلى القرآن وعُرف عنهم ب‍ ( الأمر بين الأمرين ).

أي المذهب الوسط الذي يقع بين المذهبين.

وهو مذهب ثالث حقاً يقع وسطاً بين المذهبين المتطرفين المتصارعين في التاريخ العقلي الإسلامي. وأهل البيت هم روّاد هذا المذهب القرآني وأوّل من كشف للناس هذا المذهب الفكري للقرآن.
تفسير الأمر بين الأمرين :
ومن العجب أن هذا التفسير الوسط لمذهب القرآن في مسألة أفعال الإنسان وسلوكه على وضوحه ، ظل مختفياً في العصور الإسلامية الأولى عن الحوار العقلي الذي كان يجري بين علماء المسلمين في مذهب القرآن من هذه المسألة.
وحتى بعد أن أعلن أهل البيت عليهم‌السلام هذا الرأي واشتهر عنهم ، ظل هذا الرأي مجهولاً غير معروف في الحوار العقلي الذي كان يجري يوم ذاك في العصر العباسي وما بعده ، وهو أمر مثير للسؤال فعلاً. كيف انشطر علماء المسلمين من غير مدرسة أهل البيت إلى هذين المذهبين رغم صراحة القرآن ووضوحه في نفي كل منهما.

السبب الذي صرف العلماء عن ( الأمر بين الأمرين ) :

إنّ السبب في ذلك ـ كما يبدو ـ أنّ المعتزلة أرادوا بمسألة استقلالية الإنسان في الاختيار والإرادة التخلص من تبعة إلقاء مسؤولية الظلم الذي يرتكبه العباد على الله تعالى وتنزيه الله تعالى من كل ظلم يرتكبه الناس. وهذا هو السبب الذي دعى المعتزلة إلى أن يختلفوا مع الأشاعرة وينسبوا الفعل إلى الإنسان نفسه ، ولا ينسبوه إلى الله تعالى ، ولنفس السبب أصرّوا على استقلال الإنسان في الاختيار ونفوا أن تكون لله تعالى إرادة واختيار وسلطان على الإنسان في اختياره وفعله ، إلاّ أنّه تعالى خلقه ومنحه المواهب التي تمكنه من الاختيار ثمّ أوكله إلى نفسه في الإرادة والاختيار.
ولا ينافي الخلق والابداع استقلال الإنسان في الاختيار فإنّ حاجة الممكن إلى الواجب ( حسب هذه النظرية ) في مرحلة الحدوث فقط ، فإذا حدث، استقلّ عن الواجب وكان مستقلاً في كل فعله واختياره عن الله تعالى ، ويعتقدون أنـّنا إذا سلبنا الاستقلال من الإنسان في الاختيار وجعلنا اختيار الإنسان في طول اختيار الله وجعلنا إرادة الإنسان في طول إرادة الله وجعلنا لله تعالى سلطاناً على فعل الإنسان واختياره ، وقعنا في نفس المشكلة التي وقع فيها الأشاعرة من قبل وهي نسبة الظلم والسيئات إلى الله تعالى.
أمّا حينما يكون الإنسان مستقلاً في إرادته وفعله عن الله تعالى فلا ينسب شيء من فعله إلى الله تعالى.
وبهذه الطريقة يحاول المعتزلة أن يحافظوا على ( العدل الإلهي ) إلاّ أنّهم يسلبون من حيث يعلمون أو لا يعلمون سلطان الله تعالى الدائم على عباده ، ومشيئته المستمرة في خلقه وهي نقاط حساسة تمسّ التوحيد بالذات.
وإذا كان المذهب الذي يذهب إليه الأشاعرة يمسّ ( عدل الله ) فإنّ المذهب الذي يذهب إليه ( المعتزلة ) يمسّ ( توحيد الله ) بشكل واضح وصريح ، وقد وجدنا في ما سبق أنّ تأكيد القرآن على سلطان الله الدائم على خلقه ونفي استقلال الإنسان في شأن من شؤونه ، لا يقل عن تأكيد القرآن على حرية الإنسان في الاختيار.
وهذه العقدة ـ كما يبدو ـ هي التي ألجأت علماء المسلمين من غير مدرسة أهل البيت إلى الالتزام بأحد المحذورين ، ولولا ذلك لا نجد توجيهاً للغفلة عن كل هذه الآيات التي ذكرناها آنفاً من كتاب الله بمالها من دلالة واضحة وصريحة على نفي الجبر والتفويض ونفي استقلال الإنسان في إرادته وفعله.

الاختيار ليس مساوقاً للاستقلال :

ولابدّ أن نشير قبل أن ننتقل إلى البحث عن المنهاج الذي تخلّص به علماء مدرسة أهل البيت من نسبة الظلم إلى الله تعالى في الوقت الذي لم يفرّطوا في القول باتصال سلطان الله تعالى ونفوذه المستمر على فعل الإنسان واختياره ... قبل الدخول في هذا البحث ننبّه إلى أنّ الاختيار لا يساوق الاستقلال ، وليس السبب في انصراف علماء المسلمين من غير مدرسة أهل البيت عن الأمر بين الأمرين تصوّر أنّ الاختيار بمعنى الاستقلال وأنّ مذهب ( الأمر بين الأمرين ) يسلب الإنسان الاستقلال في الاختيار ، وبالتالي يسلبه الاختيار ، ومرّة أُخرى يؤدي بنا ( الأمر بين الأمرين ) إلى مذهب الحتمية الذي حاولنا أن نتخلّص من تبعاته ...
نقول : هذه الشبهة لا تستحق إطالة الكلام ، فليس من شروط الاختيار أن تكون القدرة مطلقة غير معلّقة على اختيار آخر أو فعل آخر ، وليس من بأس أن يكون عمل واحد تحت اختيار طرفين لكل منهما اختيار وفعل ، ولا يتم لأي منهما الاختيار والفعل إلاّ مع اختيار وفعل الطرف الآخر. أو يكون اختيار الثاني معلّقاً على اختيار الأول وفعله دون العكس وهذا واضح ، ولذلك فلا نحتاج إلى توقف كثير عند هذه النقطة لنثبت أنّ ( الاختيار ) ليس بمعنى ( الاستقلال ).
فلنعد إلى أصل المسألة.

تفسير علماء مدرسة أهل البيت ل‍ ( الأمر بين الأمرين ) :

والآن نحاول أن نعرف كيف تخلّص علماء مدرسة أهل البيت من هذه المشكلة وجمعوا بين الأخذ بما ورد في القرآن بالصراحة من اتصال سلطان الله ونفوذه على اختيار عباده وأفعالهم ، وبين تنزيه الله سبحانه من كل ظلم وسوء ، وكلاهما صرّح به القرآن ، وقد رأينا من قبل أنّ الأشاعرة أخذوا بالأولى وفرطوا بالثانية ، والمعتزلة أخذوا بالثانية وفرطوا بالأولى.
التنظير الفلسفي لارتباط الانسان بالله تعالى حدوثاً وبقاءً :
فيما سبق تحدّثنا عن المذهب القرآني في ارتباط الإنسان بالله واستمرار هذا الاتصال والحاجة والفقر إلى الله حدوثاً وبقاءً. وقد رأينا أنّ القرآن يزيل في ذلك كل غشاوة ويثبت بما لا مزيد عليه ، أنّ الإنسان يبقى فقيراً إلى الله تعالى في كل شؤونه وحاجاته وفي كل مراحله ، ولا ينقطع سلطان الله وإرادته وهيمنته وتدبيره عن الإنسان واختياره وفعله في لحظة من اللحظات ... والآن نشير إلى التنظير الفلسفي لهذه المسألة :
١ ـ إستمرار حاجة المعلول إلى العلة في مرحلتي الحدوث والبقاء :
إنّ المفوّضة يبنون رأيهم في استقلال الإنسان عن الله تعالى في الاختيار والفعل على أساس رأي فلسفي في استغناء المعلول عن العلة في مرحلة البقاء ، واقتصار الحاجة إلى العلة في مرحلة الحدوث فقط.
وهذا رأي يذهب إليه بعض المتكلّمين ، ويعتمد هذا الرأي بعض المشاهدات غير العلمية كاستمرار الحركة في الجسم المتحرك بعد انفصال القوّة المحركة عنه ، وبقاء الحرارة في الجسم الذي امتص الحرارة من مصدرها بعد انفصال مصدر الحرارة عنه ، وبقاء البناء بعد أن يكمله البنّاء وذهابه لشأنه ، وما يشبه ذلك.
وإلى هذا الرأى يشير الشيخ ابن سينا في الاشارات : ( وقد يقولون : إنّه إذا وجد فقد زالت الحاجة إلى الفاعل حتى إنّه لو فقد الفاعل جاز أن يبقى المفعول موجوداً كما يشاهدونه من فقدان البنّاء وقوام البناء ، وحتى أنّ كثيراً منهم لا يتحاشا أن يقول : لو جاز على الباري تعالى العدم لما ضرَّ عدمه وجود العالم ، لأنّ العالم عندهم إنّما احتاج إلى الباري تعالى في أن أوجده ، حتى كان بذلك فاعلاً ، فإذا جُعل وحصل له الوجود من العدم فكيف يخرج بعد ذلك الوجود إلى العدم حتى يحتاج إلى الفاعل ) (١)
والمفوضة ، بناء على هذا التنظير الفلسفي يذهبون إلى أنّ الانسان يستقل عن الله تعالى بعد أن يخلقه ، ولذلك فهو مستقل في اختياره وفعله عن الله تعالى تماماً.
وهذا رأي باطل لا يقاوم الأدلّة العقلية القطعية التي تقرر بأنّ حاجة المعلول إلى العلة ليس في مرحلة الحدوث فقط بل في الحدوث والبقاء على نحو سواء ، وإذا زالت العلّة زال المعلول تماماً ، فإنّ المعلول قائم بالعلّة وبزوال العلّة يرتفع المعلول إذ ليس للمعلول وجود مستقل غير ما تفيض العلّة على المعلول ( وهو علاقة العلّة بالمعلول ) ومتى انقطعت هذه العلاقة وانتهت هذه الافاضة ينتهي المعلول بطبيعة الحال.
وما يتراءى لنا من النظرة الساذجة الأولى من استمرار وجود المعلول
رغم انفصال العلّة وزوالها مشاهد ابتدائية ساذجة ، لا علاقة لها بحديث العلّة والمعلول وقانون العلّية.
ولا نتوقف هنا أكثر من ذلك في تقرير هذه المسألة ومن يطلب المزيد فيها ففي الاَبحاث الفلسفية إفاضة وسعة في تناول هذه المسألة من الناحية العقلية.
مناهج علماء مدرسة أهل البيت لتفسير ( الأمر بين الأمرين ) :
في ضوء ما سبق لا مجال للتردد في سقوط نظرية التفويض المعتزلية من الناحية القرآنية والناحية العقلية على نحو سواء.
والآن كيف السبيل إلى تقرير نظرية ( الأمر بين الأمرين ) التي تنفي الحتمية في سلوك الإنسان في الوقت الذي تنفي فيه استقلال الإنسان وتفويض أموره إليه ؟
فإنّ نفي استقلال الإنسان ونفي التفويض كما ذكرنا يؤدي بنا ـ بعد التمحيص والتدقيق ـ إلى الالتزام بنسبة المظالم والسيئات إلى الله تعالى ، وهو ما حاول المعتزلة أن يتخلصوا منه.
وليس الاعتراف ب‍ ( الأمر بين الأمرين ) مع إصرار القرآن عليه ممّا يشق على هؤلاء العلماء ، ولكن الذي يشق عليهم هو أنّ يجدوا من خلال هذه النظرية القرآنية التي أعلنها وكشف عنها أهل البيت عليهم‌السلام طريقاً يسلمون فيه من نسبة الظلم إلى الله تعالى كما سلموا من نسبة الشرك.
وهذا ما حاول علماء مدرسة أهل البيت عليهم‌السلام أن يهتدوا إليه من خلال النصوص الواردة عن أهل البيت عليهم‌السلام في تفسير وتوجيه وتقرير هذه النظرية.
ولدينا مجموعة من المناهج لكنّنا نأخذ من هذه المناهج أشهرها وأوضحها وإليكم شرحاً لهذا المنهج.

تقرير وشرح لنظرية ( الأمر بين الأمرين ) :

التفسير الشهير عند علماء مدرسة أهل البيت يعتمد الأصل الذي شرحنا في ارتباط الوجود كله بالله تعالى بصورة متصلة ومستمرة ، والانسان في هذا الكون ، يرتبط بالله تعالى بالفقر والحاجة ويرتبط به تعالى بالإفاضة والإيجاد. وهذه الإفاضة متصلة ومستمرة ولو أنّها انقطعت لحظة واحدة عن الإنسان لانتهى الإنسان وما بيده وماله ، وإرادة الإنسان ومشيئته وفعله من ذلك. فلولا هذه الإفاضة المتصلة لم يكن للانسان أن يكون أو يريد شيئاً أو يفعل شيئاً ولكن الإنسان هو الذي يريد ويختار. ولولا ذلك لم يفرض عليه الله عملاً.
بلى لو أنّ الله قطع عنه فيض الوجود وإمداد القوة والعزم والعقل والوعي والبصيرة والمشيئة والاختيار لم يكن له أن يختار أو يفعل شيئاً ، إلاّ أنّه على كل حال هو الذي يريد ويختار ويفعل وليس يصّح لذلك أن ينسب فعله إلى غيره فهو المسؤول عن فعله.
( ولو شاء الله لذهب بسمعهم وأبصارهم ) ( البقرة ٢ : ٢٠ ).
( ولو شاء الله ما فعلوه ) ( الأنعام ٦ : ١٣٧ ).
أرأيت لو أنّ المهندس المسؤول عن مركز انتاج الطاقة الكهربائية فتح
التيار الكهربائي على بيت وأبقاه مفتوحاً ليستخدمه فيما ينفعه ... فلو أنّ صاحب البيت أساء استعمال الطاقة الكهربائية وانتحر أو قتل بالتيار الكهربائي شخصاً أو أضرّ به فلا ينسب الفعل إلاّ إليه ، وإن كان هو لا يقدر على شيء من ذلك لو أنّ المهندس المسؤول عن مركز الطاقة الكهربائية قطع التّيار عنه ، أو لم يبقه مفتوحاً على بيته ، إلاّ أنـّه يبقى هو وحده الّذي ينسب إليه الفعل وهو المسؤول عن فعله ، فلا يقال إنّ المهندس المسؤول هو الّذي قتل صاحب البيت ( إذا انتحر ) ولا يكون المهندس المسؤول عن المركز مسؤولاً عن انتحاره. ولعل من أفضل الأمثلة الّتي تذكر في هذا المجال من حيث الدقة العلمية هو المثل الّذي ضربه آية الله المحقّق السيد الخوئي رحمه‌الله.
المثال الّذي استعان به المحقّق السيد الخوئي لتوضيح الأمر :
لنفرض إنساناً كانت يده شلاّء لا يستطيع تحريكها بنفسه ، وقد استطاع الطبيب أن يوجد فيها حركة إرادية وقتية بواسطة قوّة الكهرباء ، بحيث أصبح الرجل يستطيع تحريك يده بنفسه متى وصلها الطبيب بسلك الكهرباء ، وإذا انفصلت عن مصدر القوّة لم يمكنه تحريكها أصلاً ، فإذا وصل الطبيب هذه اليد المريضة بالسلك للتجربة مثلاً ، وابتدأ ذلك الرجل المريض بتحريك يده ، ومباشرة الأعمال بها ، والطبيب يمده بالقوّة في كل آن ، فلا شبهة في أنّ تحريك الرجل ليده في هذه الحال من الأمر بين الأمرين ، فلا يستند إلى الرجل مستقلاً ، لأنه موقوف إلى إيصال القوّة إلى يده ، وقد فرضنا أنّها بفعل الطبيب ولا يستند إلى الطبيب مستقلاً ، لأنّ التحريك قد أصدره الرجل بإرادته ، فالفاعل لم يجبر على فعله لأنه مريد ،ولم يفوّض إليه الفعل بجميع مبادئه ، لأنّ المدد من غيره ، والأفعال الصادرة من الفاعلين المختارين كلّها من هذا النوع.
فالفعل صادر بمشيئة العبد ولا يشاء العبد شيئاً إلاّ بمشيئة الله. والآيات القرآنية كلّها تشير إلى هذا الغرض ، فهي تبطل الجبر ـ الّذي يقول به أكثر أهل السُنّة ـ لأنّها تثبت الاختيار ، وتبطل التفويض المحض ـ الّذي يقول به بعضهم ـ لأنّها تسند الفعل إلى الله.
( وسنتعرّض إن شاء الله تعالى للبحث تفصيلاً ، ولإبطال هذين القولين حين تتعرّض الآيات لذلك ).
وهذا الّذي ذكرناه مأخوذ عن إرشادات أهل البيت عليهم‌السلام (2).
رأي الشيخ المفيد :
ورأي الشيخ المفيد أبي عبد الله محمّد بن محمد بن النعمان رحمه‌الله يقع في هذا الاتجاه من الرأي في تفسير ( الأمر بين الأمرين ).
ويمكننا أن نلّخص رأي الشيخ رحمه‌الله ضمن نقطتين أساسيتين هما ركنا مسألة الأمر بين الأمرين وهما :

١ ـ رفض نسبة أفعال الناس إلى الله :

النقطة الأولى : إنّ أفعال الناس ترجع إلى الناس أنفسهم وليست هذه
الأفعال من خلق الله، وهذه النقطة هي المفترق بين مدرسة أهل البيت والمدرسة الجبرية المعروفة في التاريخ الإسلامي.
فقد كانوا يرون أنّ ما يصدر عن الإنسان من الأفعال صادر عن الله تعالى في الحقيقة ومخلوق له، وليس الإنسان إلاّ ظرفاً لهذه الأفعال ولا شأن له بها غير ذلك ، وإنّما كانوا يصرّون على ذلك للاحتفاظ بأصل التوحيد ونفي وجود مصادر متعددة في الكون للأشياء وللأفعال ، وهذه المدرسة لا تنفي ( أصل العلّية ) رأساً ، ولكنّها لا تعرف للكون غير علّة واحدة وهو الله تعالى ، وينسب كلّ شيء وكلّ فعل إلى الله تعالى مباشرة ، ويواجه المفيد رحمه‌الله هذا الاتجاه من الرأي بعنف ، ويرده من غير رفق.
استدلال الشيخ المفيد بالنصوص الواردة من أهل البيت على رفض النسبة :
يقول رحمه‌الله : ( الصحيح عن آل محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّ أفعال العباد غير مخلوقة لله ).
وقد روي عن أبي الحسن الثالث ( الإمام الهادي عليه‌السلام ) أنّه سئل عن أفعال العباد. فقيل له هل هي مخلوقة لله تعالى ؟ فقال عليه‌السلام : « لو كان خالقاً لها لما تبرأ منها وقد قال سبحانه : ( إنّ الله بريء من المشركين ورسوله ) ( التوبة ٩ : ٣ ) ولم يُرد البراءة من خلق ذواتهم ، وإنّما تبرأ من شركهم وقبائحهم ».
وسأل أبو حنيفة أبا الحسن موسى بن جعفر عليه‌السلام عن أفعال العباد ممّن هي ؟
فقال أبو الحسن عليه‌السلام : « إنّ أفعال العباد لا تخلو من ثلاثة منازل :
إمّا أن تكون من الله تعالى خاصّة ، أو منه ومن العبد على وجه الاشتراك فيها ، أو من العبد خاصّة.
فلو كانت من الله تعالى خاصّة لكان أولى بالحمد على حسنها والذمّ على قبحها ، ولم يتعلّق بغيره حمد ولا لوم فيها.
ولو كانت من الله ومن العبد ، لكان الحمد لهما معاً فيها والذمّ عليهما جميعاً فيها. وإذا بطل هذان الوجهان ثبت أنّها من الخلق. فإن عاقبهم الله على جنايتهم بها فله ذلك ، وإن عفى عنهم فهو أهل التقوى وأهل المغفرة ».
وفي أمثال ما ذكرناه من الأخبار ومعانيها ممّا يطول به الكلام.
استدلال الشيخ المفيد بالقرآن على رفض النسبة :
ويستدل الشيخ المفيد بالقرآن على رفض نسبة أفعال الناس إلى الله.
يقول رحمه‌الله : ( وكتاب الله مقدّم على الأحاديث والروايات ، وإليه يتقاضى في صحيح الأخبار وسقيمها ، فما قضى به فهو الحقّ دون ما سواه ).
قال الله تعالى : ( الّذي أحسن كلّ شيء خلقه وبدأ خلق الانسان من طين ) ( السجدة ٣٢ : ٧ ). فخبر بأنّ كلّ شيء خلقه فهو حسن غير قبيح ، فلو كانت القبائح من خلقه لما حكم بحسنها.
وفي حكم الله تعالى بحسن جميع ما خلق شاهد ببطلان قول من زعم أنّه خلق قبيحاً ) (3).
ويعلّق السيّد هبة الدين الشهرستاني رحمه‌الله على كلمة الشيخ المفيد رحمه‌الله ، فيقول : ليس هذه الآية وحدها شاهد الفئة العدلية لإسناد أفعال العباد إلى أنفسهم ، إذ كلّ آية نزّهت ربّنا سبحانه عن الشرور وخلق الآثام تؤيده (4).

مناقشة استدلالهم بالآيات على النسبة :

ويفتح الشيخ المفيد رحمه‌الله باباً واسعاً لمناقشة أدلّة الّذين يستدلّون بالقرآن على صحة نسبة أفعال الناس إلى الله تعالى.
ومن ذلك استدلالهم بقوله تعالى : ( فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام ومن يرد أن يضلّه يجعل صدره ضيّقاً حرجاً ) ( الأنعام ٦ : ١٢٥ ).
حيث نسبت الآية الكريمة الاضلال إلى الله تعالى. وقوله تعالى : ( ولو شاء ربّك لآمن من في الأرض كلهم جميعاً ) ( يونس ١٠ : ٩٩ ).
حيثُ استفادوا منها صحّة نسبة الاضلال في غير المؤمنين إلى الله تعالى لأنه لو شاء لآمنوا جميعاً.
وقد ناقش الشيخ المفيد هذه الأدلّة بتفصيل نذكر نماذج منه :
يقول رحمه‌الله : ( فأمّا ما تعلقوا به من قوله تعالى : ( فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام ومن يرد أن يضلّه يجعل صدره ضيّقاً حرجاً ) ( الانعام ٦ : ١٢٥ ) ...
فليس للمجبرة به تعلّق ولا فيه حجّة ، والمعنى فيه : أنّ من أراد الله تعالى أن ينعّمه ويثيبه جزاءً على طاعته شرح صدره للإسلام بالألطاف الّتي يَحْبُوهُ بها فييسّر له بها استدامة أعمال الطاعات. والهداية في هذا الموضع هي : النعيم.
قال الله تعالى فيما خبّر به عن أهل الجنّة : ( الحمد لله الّذي هدانا لهذا ) ( الأعراف ٧ : ٤٣ ) أي نعمنا به وأثابنا إيّاه. والضلال في هذه الآية هو : العذاب ، قال الله تعالى : ( إنّ المجرمين في ضلال وسُعُر ) ( القمر ٥٤ : ٤٧ ) فسمى العذاب ضلالاً والنعيم هداية ، والأصل في ذلك أنّ الضلال هو الهلاك والهداية هي النجاة.
قال الله تعالى حكاية عن العرب : ( أإذا ضللنا في الأرض أإنّا لفي خلق جديد ) ( السجدة ٣٢ : ١٠ ) يعنون إذا هلكنا فيها ، وكان المعنى في قوله : ( فمن يرد الله أن يهديه ) ما قدّمناه وبيّناه ومن يرد أن يضلّه ما وصفناه ، والمعنى في قوله : ( يجعل صدره ضيّقاً حرجاً ) يريد سلبه التوفيق عقوبة له على عصيانه ومنعه الألطاف جزاء له على إساءته ، فشرح الصدر ثواب الطاعة بالتوفيق ، وتضييقه عقاب المعصية بمنع التوفيق ، وليس في هذه الآية على ما بيّناه شبهة لاَهل الخلاف فيما ادّعوه من أنّ الله تعالى يضلّ عن الإيمان ويصدّ عن الإسلام ويريد الكفر ويشاء الضلال.
وأمّا قوله تعالى : ( ولو شاء ربّك لآمن من في الأرض كلّهم جميعاً ) ( يونس ١٠ : ٩٩ ) ، فالمراد به الاخبار عن قدرته ، وأنّه لو شاء أن يلجئهم إلى الإيمان ويحملهم عليه بالإكراه والإضطرار لكان على ذلك قادراً ، لكنّه شاء تعالى منهم الإيمان على الطوع والاختيار ، وآخر الآية يدلّ على ما ذكرناه وهو قوله تعالى : ( أفأنت تكره النّاس حتّى يكونوا مؤمنين ) ( يونس ١٠ : ٩٩ )
يريد أنّه قادر على إكراههم على الإيمان لكنّه لا يفعل ذلك ولو شاء لتيسّر عليه ، وكلّما يتعلقون به من أمثال هذه الآية فالقول فيه ما ذكرناه أو نحوه على ما بيّناه ، وفرار المجبرة عن إطلاق القول بأنّ الله يريد أن يُعصى ويُكفر به ويُقتل أولياؤه ويُشتم أحبّاؤه إلى القول بأنّه يريد أن يكون ما علم كما علم ويريد أن تكون معاصيه قبائح منهياً عنها ، وقوع فيما هربوا منه وتورّط فيما كرهوه ، وذلك أنـّه إذا كان ما علم من القبيح كما علم وكان تعالى مريداً لأن يكون ما علم من القبيح كما علم فقد أراد القبيح وأراد أن يكون قبيحاً ، فما معنى فرارهم من شيء إلى نفسه وهربهم من معنى إلى عينه ، فكيف يتم لهم ذلك مع أهل العقول ، هل قولهم هذا إلاّ كقول إنسان : أنا لا أسب زيداً لكنّي أسبّ أبا عمرو. وأبو عمرو هو زيد، أو كقول اليهود إذ قالوا سخرية بأنفسهم : نحن لا نكفر بمحمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لكنّا نكفر بأحمد ، فهذا رعونة وجهل ممّن صار إليه وعناء وضعف عمل ممّن اعتمد عليه ).

٢ ـ نفي استقلال الانسان في أفعاله :

النقطة الثانية في كلام الشيخ المفيد رحمه‌الله هي نفي استقلال الإنسان في فعله ، يقول رحمه‌الله في تصوير القول الوسط بين القولين ( الجبر والتفويض ) : ( والواسطة بين هذين القولين : أنّ الله تعالى أقدر الخلق على أفعالهم ومكّنهم من أعمالهم ، وحدّ لهم الحدود ... فلم يكن بتمكينهم من الأعمال مجبراً لهم عليها ، ولم يفوّض إليهم الأعمال لمنعهم من أكثرها ووضع الحدود لهم فيها ) (5).
استنطاق النصوص :
عندما نقرأ النصوص الواردة عن أهل البيت عليهم‌السلام في مجرى الصراع العقائدي والحوار الدائر بين أطراف هذا الصراع نلتقي صورة حيّة عن حقيقة الصراع وعن حقيقة موقف أهل البيت عليهم‌السلام تختلف عن الصورة الّتي تعكسها الدراسات الكلامية بعض الاختلاف.
فقد دخل أهل البيت عليهم‌السلام في الفترتين السياسيتين الأموية والعبّاسية صراعاً عقائدياً قوياً في هذه المسألة ...
ولم يكن هذا الصراع صراعاً عقائدياً كلامياً خالصاً كما ذكرت من قبل، بل تداخلت فيه العوامل السياسية إلى جانب العامل العقلي في البحث الكلامي العقائدي. وكان طرف هذا الصراع حيناً النظام الحاكم ومتبنيات النظام العقائدية ، وحيناً آخر المعارضة السياسية للنظام. فقد كان المعتزلة يقعون أحياناً في طرف المعارضة السياسية ، أو أنّ المعارضة السياسية كانت تكتسب منهم دعماً سياسياً وشعبياً.
ومهما يكن من أمر ، فقد كان هذا الصراع من أعمق الصراعات العقائدية التي خاضها أهل البيت عليهم‌السلام وأكثرها حسّاسية وخطورة ، فقد كانت السلطة تتبنّى وجهة نظر الجبر بشكل واضح وصارخ ، حتّى أنّ غيلان الدمشقي قُتل على يد هشام بن عبد الملك الخليفة الأموي ـ بتلك الطريقة الفظيعة الّتي يرويها المؤرخون ـ بجريمة الإيمان ب‍ ( الأختيار ) و ( التفويض ).
وكان لكلّ من هذين المذهبين آثاراً سلبية واسعة على العقلية الإسلامية كما كان لهما آثاراً على الحالة السياسية في العالم الإسلامي.
وكان أهل البيت عليهم‌السلام يقفون ضد هذا التيار تارة وضد ذلك التيار تارة في جبهتين مختلفتين.
الجبهة الأولى من جبهات الصراع العقلي :
وأولى هاتين الجبهتين هي الجبهة الكلامية الرسمية أو شبه الرسمية التي كانت تلتزم مبدأ ( الحتمية ) بشكل سافر ، وتؤمن بتدخّل الإرادة الإلهية بصورة مباشرة في كلّ فعل للإنسان ، وهي جبهة ( الأشاعرة ) فقد كان الأشاعرة ينفون علاقة السبب والعلّية بين الأشياء ، ولا يرون علاقة بين شيء وآخر في هذا الكون ، ولا يرون في هذا الكون مؤثّراً مباشراً إلاّ الله تعالى.
فإذا تعوّمت خشبة على الماء ، ولم تتعوّم حجارة ، فليس لسبب في الخشبة يقتضي التعويم لا يوجد في الحجارة ، وإنّما لأنّ الله تعالى شاء أن تتعوّم الخشبة ولا تتعوّم الحجارة ، وجرت عادته على ذلك.
وليس في هذا الكون قانون ولا علّة ولا سبب غير عادة الله ( وهذا هو القانون ) وسلطان الله وإرادته وهذا هو ( السبب ).
وأفعال الإنسان ليس بدعاً عن سائر ما يجري في هذا الكون ... فهي من خلق الله تعالى وليس للانسان فيه دور وسلطان.
وهذا التصور على مافيه من فجاجة ظاهرة كان هو التصوّر الرسمي لطائفة واسعة من علماء المسلمين ، وكان جهاز الخلافة الأموية ثمّ العبّاسية ـ عدا فترة قصيرة ـ يتبنّى ذلك ويحاسب ويعاقب عليه.
وقد وجد أهل البيت عليهم‌السلام في هذا الاتجاه الفكري خطراً على العقلية الإسلامية ، وعلى حياتهم السياسية ، وعلى فهمهم للقرآن والسنّة.
فإنّ هذا التصور يلغي قانون العلّية ويسمح بأن يكلف الله تعالى الإنسان على ما لا يقدر عليه.
ويسمح بعقوبة الإنسان من جانب الله تعالى على ما لا سلطان له فيه ، وما لا قدرة له عليه ، ويقرّ نسبة الظلم والتعسف إلى الله تعالى.
ويحوّل الإنسان إلى خشبة عائمة في مجرى التاريخ ، لا سلطان له ، ولا فعل ولا تأثير في تقرير مصيره.
ويطلق أيدي السلطة الحاكمة في الاستبداد والإرهاب وسلب حقوق الناس والفتك والبطش بهم.
وبعض هذه التبعات والآثار السلبية تكفي لضرورة الوقوف في وجه هذا التيار.
وكانت هذه هي المواجهة الأولى في الصراع الفكري الذي خاضته مدرسة أهل البيت عليهم‌السلام.

الجبهة الثانية للصراع الفكري :

وفي مقابل هذا الاتجاه ظهرت المعتزلة كرد فعل للاتجاه الأشعري .. وتطرّف المعتزلة في فهم الكون والانسان ـ كأي رد فعل آخر ـ وذهبوا إلى أنّ الله تعالى خلق الكون وانقطع بعد ذلك مابينه وبين هذا الكون من صلة ، ويجري هذا الكون ضمن أنظمة وقوانين ثابتة ، منفصلة في مرحلة الاستمرار عن إرادة الله تعالى ، كما لو أنّ مهندساً أنشأ معملاً كاملاً وأودعه لدى المهندسين المكلفين بتشغيله وانصرف هو لشأنه، فإنّ هذا المعمل يجري ويعمل ضمن أنظمة ثابتة حتى مع غياب المهندس الذي أنشأ هذا المعمل ... كذلك تتصور المعتزلة علاقة الله تعالى بهذا الكون ، علاقة في مرحلة الحدوث فقط ، والانسان بعد ذلك يعمل باختياره وإرادته في الأرض ، وقد فوّض الله تعالى إليه أمره كلّه ولم يكن بينه تعالى وبين الإنسان من علاقة إلاّ ما كان من أمر الإيجاد والابداع والخلق والتكوين في مرحلة الحدوث.
وهذا التصور يسلم عن نسبة الظلم إلى الله تعالى ، ولكنّه يسلب سلطان الله عن الكون والإنسان ، ويحصر سلطان الله تعالى على الكون في مرحلة واحدة ، ويقطع ـ نظرياً ـ إمداد الله تعالى وتوفيقه وفضله عن حياة الإنسان، ويذهب إلى أنّ الله تعالى خلق الإنسان ومنحه ما وهبه من المواهب ثمّ تركه وأوكله إلى نفسه يواجه مصيره ومسؤولياته لوحده.
وأخطر ما في هذا الاتجاه ، بعد الجانب العقائدي والناحية العقلية ، أو قبلهما ، أنّه يقطع أو يضعف علاقة الإنسان بالله تعالى في حياته اليومية وعمله وتحركه.
فإنّ أكثر اتصال الإنسان بالله تعالى ليس من خلال ( العقيدة ) و ( العبادة ) فقط وإنّما من خلال حاجاته اليومية في حركته وعمله إلى الله تعالى ، وتأييده وإسناده وإمداده ، في السوق والبيت ، والعمل السياسي ، ومشاكله ومتاعبه.
وهذه المشاكل والمتاعب التي تواجه الإنسان هي التي تلجئه إلى الله تعالى وتربط ما بينه وبين الله تعالى.
وهي سر ابتلاء الله تعالى لعباده الصالحين.
يقول تعالى : ( فأخذناهم بالبأساء والضرّاء لعلّهم يتضرّعون ) ( الأنعام ٦ : ٤٢ ).
ونظرية استقلال الإنسان في الاختيار والفعل تقع في النقطة المقابلة لهذا الاتجاه تماماً، وتقطع ما بين الإنسان وبين الله تعالى من صلة في حركته اليومية ، فإنّ الاتجاه المعتزلي يعمّق في مقابل الاتجاه الأشعري حالة استقلال الإنسان في الاختيار واتخاذ القرار والفعل والحركة ، ويؤكد أنّ الله تعالى خوّل للانسان هذه المهام ومنحه كل متطلبات ذلك ، ومنحه الاستقلال في القرار والاختيار والفعل.
وهو ما يؤكد القرآن خلافه ، ويعمّق في النفس إحساساً مخالفاً له.
والذي يقرأ القرآن لا يشك أنّ هذا الكتاب يحاول ويعمل على أن يشدّ إحساسنا ، وعقولنا ، وقلوبنا ، بالله تعالى من خلال هذه النقطة بالذات ، بعكس الاتجاه المعتزلي تماماً.
يقول زهدي جارالله في كتابه عن ( المعتزلة ) :
( وكأنّ المعتزلة في دفاعهم عن مبدأ الوحدانية راحوا يحاربون كلّ شيء يتعارض مع هذا المبدأ ويفندونه ... وقالوا : إنّه تعالى ساوى في النعم الدينية ، ولم يخص الأنبياء والملائكة بشيء من التوفيق والعصمة ولا بشيء من نعم الدين ، دون سائر المكلفين.
ثمّ إنّ المعتزلة أنكروا الشفاعة في الذنوب يوم القيامة لأنّها تتضمن معنى المحاباة.
وإذا وردت في القرآن آيات كثيرة تحمل معنى الهداية من الله لخلقه والتوفيق والاضلال والخذلان والختم والطبع على القلوب ... اعتقدوا أنّ مثل هذه الآيات مناقضة لمبدأ العدل الإلهي ، ولفكرة ( الحرية الفردية ) فإنّهم شددوا في وجوب تأويلها جميعاً فقالوا في الهداية : إنّها على معنى التسمية والحكم والارشاد وإبانة الحقّ ، وليس له تعالى من هداية القلوب شيء.
وقالوا في التوفيق : إنّه توفيق عام ، يكون باظهار الآيات وإرسال الرسل وإنزال الكتب.
أمّا الاضلال : فقد أوّلوه على معنيين أحدهما :
أنّ الله تعالى أضلّ ، بمعنى : أسماه ضالاً ، أو أخبر أنّه ضالّ.
والثاني : على معنى أنّه جازاه على ضلالته ، وكذلك الخذلان معناه التسمية أو الحكم بأنّهم مخذولون ، وليس الاضلال والاغواء والصد عن الباب ...
وكان ( الفوطي ) وتلميذه عباد بن سليمان أكثر المعتزلة تشدداً في هذا الأمر ، فإنّ الفوطي كان يمنع إضافة بعض الأفعال إلى الله تعالى ، ولو ورد بها التنزيل ، فلا يجب أن نقول أنّه تعالى يؤلّف بين قلوب المؤمنين ، بل هم المؤتلفون باختيارهم ، ولا أنّه تعالى يحبّب إليهم الإيمان ، ويزيّنه في قلوبهم ، ولا أنّه يضلّ الفاسقين (6).
وإذا كان التصور الأول يمسّ ( عدل ) الله تعالى فإنّ هذا التصور يمسّ ( توحيد ) الله وعلاقة الإنسان بالله ، وقد وجد أهل البيت عليهم‌السلام أنفسهم أمام جبهة ثانية للصراع لا تقل خطورة وأهمية عن الجبهة الأولى.
وإذا كانوا في الجبهة الأولى في موقع الدفاع عن ( العدل ) فإنّهم في الجبهة الثانية كانوا في موقع الدفاع عن ( التوحيد ).
لقد واجه أهل البيت عليهم‌السلام هذا الركام الهائل من الأخطاء والانحرافات في اُصول التصور الإسلامي التي تمسّ العدل والتوحيد في الصميم ، وكانت أصابع السياسة تمتد إلى هذه الاُصول والأفكار بوضوح فلننظر كيف واجه أهل البيت عليهم‌السلام هذه الحالة وكيف عالجوها.
المصادر:
1- البيان في تفسير القرآن ـ المدخل إلى التفسير ، لآية الله السيد أبو القاسم الخوئي : ١٠٢.
2- شرح عقائد الصدوق أو ( تصحيح الاعتقاد ) بتعاليق : السيد هبة الدين الشهرستاني : ١٩٧ ـ ٢٠٠ ( المطبعة الحيدرية النجف ١٣٩٣ ه‍ ).
3- تصحيح الاعتقاد ، للشيخ المفيد : ٢٠٠ ( المطبعة الحيدرية النجف ١٣٩٣ ه‍ ).
4- تصحيح الاعتقاد ، للشيخ المفيد : ٢٠٠.
5- تصحيح الاعتقاد : ٢٠٢.
6- المعتزلة ، لزهدي جارالله : ١٠٠ ـ ١٠٢.

0
0% (نفر 0)
 
نظر شما در مورد این مطلب ؟
 
امتیاز شما به این مطلب ؟
اشتراک گذاری در شبکه های اجتماعی:

آخر المقالات

بغض بعض الصحابة لعلي(عليه السلام)
هل ان عيسی عليه السلام ابن الله جل وعلا
كيف يجزى الانسان بثار عمله في الدنيا
المعاد (1)
الامام علي (ع ) يرفض المبايعة على سيرة الشيخين :
بعض مصادر حديث ( لا فتى إلا علي .... )
مسألة عدالة الصحابة باختصار
الآيات النافية لاِمكان الرؤية
إجتهاد عمر في آيات الخمر
ما معنى الحديث القائل "الحسود لا يسود"؟ هل هو ...

 
user comment