عربي
Thursday 28th of March 2024
0
نفر 0

الانسان والاديان

الانسان والاديان


نشأ الإنسان وحوله من عجائب الدنيا العجيبة ما أثار دهشه، فحار في أمرهِ وبدأ ينقب ليستطلع كنه أمرها، وَجَدَّ في كشف القناع عما حجب عن عينيهِ من العظائم فلم يُفلح سعيًا.
ولما رأى نفسه حائرًا في معرفة العوامل الموجبة لهذه المدهشات وتحقق إخفاق سعيهِ تركها وشأنها وجعل دأبه استقصاءَ النتائج الناشئة عن تلك العوامل فدرس أحوال الطبيعة ونقب عن صفاتها ليتمسك بالمفيد ويجتنب المضر.
وكان تعاقب الليل والنهار والحر والبرد والفصول الأربعة من حر الصيف القادح وبرد الشتاءِ القارس وظهور الأرض نضرة زاهية زاهرة ستة أشهر ويابسة قاحلة ستة أشهر أُخرى لا نبات فيها ولا أزهار، وما يعقب ذلك من العوامل الطبيعية، كل ذلك قضى عليهِ بأشد الدهشة والحيرة فاشتدَّ عجبه وشمَّر عن ساعد الجِد ليستطلع طلع الأسباب التي أوجبت هذه التغييرات ولشدة ما تفحص بدأ يدرك النتائج وعرف منها الأسباب، وأحاط علمًا ببعض أحوال الطبيعة ومكنوناتها.
ورأى الشمس والقمر والكواكب السيَّارة فخالها أزليَّة غير مخلوقة، وظنها ثابتة لا تتحرك، إذ بينما كان كل شيءٍ أمامه يزهو بأيامهِ ودولتهِ، ويذبل ويبيد عندما تنقضي تلك الأيام، فلا يبقى منه أثر مذكور كان يرى الأجرام السماوية ثابتة في مراكزها لا تتغير ولا يعروها أقل عارض يوجب في حركاتها اختلافًا، فنجم عن هذه الدهشات أمور لا تُعلم ولا يُستقصى خبرها؛ إذ شعر من أول وهلة بعواطف شكر نحو الجِرم العظيم الذي ينيره ويخرج له نبات الأرض وحاصلاتها فيعيش بها. وزاد شكره حتى صار امتنانًا وترقى الامتنان فصار عبادة، ومنها تفرعت عبادة المرءِ للأجرام السماوية التي عمَّت أربعة أقطار المعمور.
فيعبد الهنود براهما وهو الشمس، ويعدونه خالق روح الصلاح، ويعبدون سيفًا ويعدونه مبدع روح الشر، وعدَّ الفرس أوروماز الإله المبدع وأهريمان عدوه وهو الشر والضلال. واعتقد المصريون الاعتقاد نفسه فأوزيريس إلههم الصالح، ونيفون الطالح، وجرى غيرهم أيضًا مجراهم فعدوا بعض الأشياء آلهة قادرة فعبدوها وأكرموها فوق كل شيءٍ كآلهة قادرين.
ونرى الإنسان عند جميع الشعوب ساجدًا أمام الطبيعة غير مميز في عبادتهِ بين العامل والمعمول، وبين العلة والمعلول، معتقدًا بقدرة موجد عظيم أبدع الكائنات وأشرك معه من رأى عبادته واجبة فتعددت الآلهة، ولكن بقيت النتيجة واحدة.
ولم تنسخ هذه العبادة تمامًا، بل اعتقدها قليل من القوم المختارين، وتناقلت منهم للخلف عن السلف حتى أصبحت قاعدة للشرائع التي كان يعلمها الكهنة المصريون في هياكل منفيس.
ورأى هؤلاء القوم العقلاء الاكتشافات الأولية التي حصَّلوها في العوامل الطبيعية، وما آل إليه بحثهم وتنقيبهم من الثمار الصالحة فجدُّوا ليجدوا واسطة تحفظها من الدِّثار وتخلد لها أثرًا مأثورًا فلجئوا إلى الإشارات والرموز؛ ليبقى لهم بذلك أثر وتذكار مجيد جزاءَ حق على جِدهم واجتهادهم ومنها نجمت معرفة الإشارات والرموز التي اعتاد استعمالها الكهنة الأقدمون.
وأصبح هؤلاء بحسن إدراكهم وقوة حججهم ذوي نفوذ عظيم على الشعب الذي كان في جهالة تامة وعدُّوا أنفسهم بمثابة وسطاءَ بين الشعب والآلهة، فرأوا وجوب تكشير الطالبين في جمعياتهم ليشتد بهم أزرهم ويصبح أمر الحل والربط بيدهم من غير منازع ولا معارض، وسعوا في انتقاء الطالبين من نخبة القوم الذين يكتمون السر ولا يجبنون عند اقتحام خطر موهوم، فصاروا يمتحنون الطالب بتجارب شتى حتى إذا رأوا من أحدهم إقدامًا وبسالة أقسم يمينًا معظمة أن لا يخون ولا يبوح بما علمه من الأسرار فأدخلوه جمعيتهم مسرورين.
ومن هؤلاء العلماء الأعلام نشأ استعمال التجارب والامتحانات في الجمعيات السرية القديمة، فكأن الكهنة وهم أعاظم الرجال الذين اشتُهر فضلهم وعُرف نُبْلُهم تيقنوا أنه لا يمكن إظهار الحقيقة لأقوام غلاظ العقول لا يدركون إدراك أسرارها السامية؛ فخشية من أن يعبثوا بها أو تذهب عظمتها ضحية تلاعب الجهلة بها ستروا الحقيقة تحت رموز خفيَّة أظهروها للجمهور، فحسب هؤلاء أن هذه هي عين الديانة التي يجب اتباعها فسلكوا مسلكها وهم في جهالتهم عامهون، فتفرع من ذلك قسمان في الديانة عظيمان: قسم للعامة وهو رموز وإشارات لا يدركون مغزاها ولا يفهمون معناها، وقسم للعلماء وهم الكهنة الذين علموا وتيقنوا حق اليقين أن وراءَ هذه الإشارات حقائق أدبية مانعة كل جاهل سافل عن إدراكها.
وكانت هذه الأسرار كلها متشابهة متفقة من حيث المبدأ والتعاليم، ولكنها مختلفة عن بعضها اختلافًا طفيفًا لا يُعتد بهِ حسب اقتضاءِ الحال، فكان المصريون والكلدانيون والحبشيون يلقنون هذه التعاليم سرًّا، وقد جعلوا الهندسة وعلم البناء أُسًّا لعلومهم. وأنشأ الكهنة المصريون مدارس جمة تُعلِّم علومًا عظيمة، وجعلوا لكل مدرسة فرعًا من هذه العلوم يدرسها الطلاب، ويلقن هؤلاءِ العلوم الدينية حتى إذا برعوا فيها سمح لهم قامة العبادة بصورة منظمة وهم يُعَدُّونَ بمثابة تلامذة الكهنة العظام، وكانوا يتألبون زرافات وكل ذي حرفة مع من شاكله لا يختلط أحدهم بالآخر، وكلهم يقيمون فروضهم ويتممون واجباتهم حسب ما رسمه لهم الكهنة، وكان ينشأُ من هذا القسم الملوك وكبار الدولة وكل ذي نفس أبيَّة.
ولم يحرز الكهنة المصريون محبة الشعب هذه وثقته العظمى بهم عن عبث، بل كان ذلك لحكمتهم وأصالة رأيهم وحُسن تدبيرهم وشدة حرصهم على أسرارهم وتعمقهم في علومهم الأدبية، أما مرجع الفضل الأعظم في ذلك فعلى دراستهم وتمعُّنهم في كتابات من سلفهم من حكماء الفرس والكلدان الذين أبدعوا فيما كتبوه وأتوا بالسحر الحلال.
ولما تحقق أعاظم رجال اليونان كتاليس وسولون وفيثاغوروس وديموكوتيوس وأورفه وأفلاطون وأيدوكس وأوبيكيوس وهيرودوتس وليكورغوس ومن ماثلهم من العظماء الأقدمين ما هم عليه الكهنة المصريون من الفضل والتقدم في العلوم العالية شدوا الرحال إليهم وساروا يقطعون الفيافي والقفار ليصلوا إلى الهياكل المصرية ويسمعوا ما لم يسمعوه قبلًا من الحكمة ويتعمقوا في تعاليم إيزيس وأوزيريس.
وانتقلت هذه الأسرار إلى اليونان على يد أورفه فإنه أتى بها ووضعها على طريقة يمكن اليونان فهمها وبنى عليها طريقة دعاها تعاليم سوماتراس، وحذا حذوه تريبتولم وسن تعاليم أخرى دعاها أوليزيس، وجاءَ بعدهم حكماء اليونان بما عرف عنهم من الذكاءِ والنشاط في الأعمال ودرسوا هذه الأسرار وتعمقوا فيها وبنوا عليها أساطيرهم المشهورة.
إنشاءُ مدارس البنَّائين التي نشأت الماسونيَّة منها في الأعمال البنائية
قيل إن «موسى» أول من نقل الأسرار المصرية إلى شعبهِ اليهود، ثم انتقلت إلى اليونان بواسطة أورفه وهمة تريبتولم، ثم من هؤلاء إلى الرومان الذين أزهرت في أيامهم وأصبحت تُضرب بقوتها الأمثال.
وكان نوما بومبيليوس ١ إذ ذاك ملكًا على الرومان، وهو الذي اشتهر بحكمتهِ وعدلهِ في رعيتهِ، فأقام بينهم مدارس كثيرة لعلوم متنوعة أخصها علم البناءِ وأدخل في مدارسهِ تلك الأسرار، وذلك سنة ٧١٥ قبل المسيح.
وكانت هذه المدارس صناعيَّة دينيَّة تعلِّم تلامذتها الأسرار التي انتقلت إليها من المصريين حتى إذا أتقنوها حُق لهم مباشرة الأعمال الدينية أحرارًا من غير منازع ولا مُعارض، وكانت صناعيَّة من حيث إنها لا تتداخل في المسائل السياسية، وكان دأبها عمل ما يعود نفعه على العباد والبلاد، وكانت قوانينها مربوطةً بشرائعَ عظيمةً وقوانينَ جسيمةً لا يمكن أن تتعدَّاها أو تخالف منها شيئًا.
أما دياناتها، فكانت مؤلفةً من أسرار عميقة لا يطَّلع عليها إلا المترشحون لقبول الدرجات، فيدخل الطالب لها بنَّاءً بادئ بَدءٍ، ثم يترقَّى رويدًا رويدًا إلى أن يطَّلع عَلَى تلك الأسرار التي نراها في كتب من سلفهم من الآشوريين والمصريين والبراهمة والكلدان، وهذه آثارهم تدلنا صريحًا على ما كانوا عليهِ من التقدم والنجاح في معارج القوة والفلاح.
وكان لهم في عهد الرومانيين امتيازات لما ينلها غيرهم، فكانوا مُعْفَيْنَ من الضرائب المفروضة على الشعب، وكانوا يجتمعون كلَّ ليلة في محفلهم؛ وهو بناية من خشب يقيمونها قرب المنزل المراد إنشاؤُه، وهناك يوزعون شغل الغد على الإخوة بأكثرية الأصوات، ويقبلون الطالبين الدخولَ بينهم ويطلعونهم على أعمالهم وأسرارهم بعد أن يُقْسِمُوا يمينًا مغلظة أن لا يبوحوا بالسر لأحد، وكانوا ينقسمون إلى ثلاثة أقسام: طالبين وإخوة ورؤساء، وكانوا ينتخبون الرئيس لخمس سنوات ويدعونه أستاذًا.
وكانت أشغالهم في محافلهم تبدأُ دائمًا بإقامة صلوات واحتفالات دينية، ولكنهم إذ كانوا من أُمم شتى، وكان كلٌّ منهم يدين بغير دين الآخر وصعب عليهم إقامة الاحتفالات الدينية سوية؛ دَعَوا الإله الخالق الذي كان كلٌّ منهم يعتقد بواجب وجودهِ مهندسَ الكون الأعظم لاعتبارهم العالم بنايةً جسيمة وهيكلًا عظيمًا أبدعه هذا المهندس العظيم.
وكانت الامتحانات في بدءِ نشأتها قاصرةً في الدرجة الأولى والثانية على قليل من الاحتفالات الدينية وتفسير بعض رسوم للطالبين وتدريبهم في الأعمال وتلقينهم إشارات التعارف، وتحليفهم الأقسام العظيمة أنهم لن يخونوا الجمعية التي انتظموا في سلكها، وأنهم يخلصون لها ما زالوا في قيد الحياة عاملين.
وإذا ترقى الطالب وأصبح بجِدهِ واجتهادهِ وحُسن سيرتهِ أهلًا لدرجة الأستاذ الرفيعة كان عليهِ أن يقدِّم الامتحانات الكثيرة والتجارب العديدة التي أخذها الرومان عن المصريين الأقدمين.
وكانت مدارس البنَّائين تقي طلابها من كل غائلة، وتكفل لهم شرفًا أثيلًا بالامتيازات التي حصلتها، والتي اشتد أزرها بها فنشأ فيهم لعظم همتهم وسمو مداركهم وشدة محبتهم بعضهم لبعض أفكار واعتقادات في ديانتهم لم يُحرزها غيرهم من الشعوب، فكانوا يشحذون قريحتهم ويجهدون قواهم ليجدوا واسطة تُكسبهم حسن السمعة بين الملأ، وكانت لهم كما كان لغيرهم من الأمم الغابرة التي هي من الجمعيات السرية قواعد وقوانين لا يطَّلع عليها غيرهم وإشارات يتعارفون بها.
ومن الرومان تفرَّعت مدارس البناء فامتدت أولًا إلى غاليا سيزالبين؛ وهي البندقية ولومبارديه، وغاليا ترانسالبين؛ وهي فرنسا وبلجِكا وسويسرا وبريطانيا العظمى الآن، ثم إلى الشرق وبلاد العرب، ومنهم جاءت إلى إسبانيا، حيث زهت وأزهرت كما تدلنا على ذلك الآثار الهائلة القائمة حتى الآن تشهد بفضل بانيها وعظم قوتهم.
وبقيت مدارس البنَّائين في رومية عاملةً ناجحة حتى سقطت الإمبراطورية وخلف الأباطرة غيرُهم من الحكام الذين كان دأبهم التخنث وحب الذات، فلم يكونوا كأولئك يبذلون النفس والنفيس لإعلاءِ شأن البلاد وإسعاد العباد، فَذَبُلَت نضارة الماسونيَّة وعادت ضعيفة بعد قوتها ولبثت تسير القهقرى، حتى دان حكام رومية بالديانة المسيحية، فصارت الماسونيَّة تتقدم رويدًا رويدًا وتسترجع نضارتها، وعادت إليها عظمتها الأولى.


source : راسخون
0
0% (نفر 0)
 
نظر شما در مورد این مطلب ؟
 
امتیاز شما به این مطلب ؟
اشتراک گذاری در شبکه های اجتماعی:

آخر المقالات

الفرق بين علوم القرآن والتفسير
وتسلّط‌ ارباب‌ السوء
اليقين والقناعة والصبر والشکر
القصيدة التائية لدعبل الخزاعي
في رحاب أدعية الإمام الحسين (عليه السلام)
أقوال أهل البيت عليهم السلام في شهر رمضان
آيات ومعجزات خاصة بالمهدي المنتظر
علي الأكبر شبيه الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)
أوصاف جهنم في القرآن الكريم
ألقاب الإمام الرضا عليه السلام

 
user comment