عربي
Friday 19th of April 2024
0
نفر 0

مجانبة الغالب

مجانبة الغالب

لما انتقل النبي إلى جوار ربه شغر منصبه، وحل الفارس الغالب محله، بعد أن تجاهل الناس الولي الشرعي المعين من قبل الله ورسوله، فأخذ هذا الفارس الغالب يمارس سلطات النبي الاکرم صلی الله عليه وآله وسلم ، فهو ولي الأمر الفعلي، وهو الخليفة الفعلي، وهو أمير المؤمنين الفعلي، وهو السلطان الفعلي، وهو الإمام أو قدوة المؤمنين الفعلي، وهو الذي يبين القرآن الكريم أو يعين من يبينه نيابة عنه، وهو الذي يفهم النص ويطبق هذا الفهم على الحادثات.
ولماذا لا؟ أليس هو القائم مقام النبي؟ والمحتل لمكانه؟ والمتصدي لمهامه وصلاحياته.
هذا الخليفة الغالب القائم مقام النبي، والمحتل لمكانه، والمتصدي لمهامه وصلاحياته، لم يعينه الله، ولم يعينه النبي، ولم تختره الجماعة المسلمة، وإنما هو فارس ذكي، طمع بالسلطة فخطط ودبر، واستقطب حوله طائفة من الطامعين بالتعاون معه، فحقق الغلبة، وقهر صاحب الحق، وقهر أفراد الجماعة المسلمة، ثم جلس مكان النبي بالتغلب والقوة، وأخذ يمارس مهام النبي وصلاحياته بحماية القوة والتغلب، فمن أقر لهذا المتغلب بشرعية احتلاله لمكان النبي، وابتزازه لحق أولي الأمر الشرعيين، فهو من المقربين له حتى وإن كان كاذبا ومنافقا بالنص الشرعي، ومن عارضه فهو من المغضوب عليهم، حتى وإن كان ولي المؤمنين بالنص الشرعي!
فالحكم بن العاص، ومروان ابنه لعنهما رسول الله كما وثقنا أكثر من مرة ، والحكم بن العاص كان محرما عليه أن يدخل المدينة، ومع هذا وعندما استلم عثمان الخلافة أدخل الحكم دخول الفاتحين، وزوج مروان ابنته وعينه رئيسا فعليا لوزرائه!
وعبد الله بن أبي سرح هو نفسه الذي افترى على الله الكذب، بآية محكمة، وهو الذي أعلن الله في كتابه بأنه لن يهديه لأنه ظالم وكاذب، ومع هذا كان أبرز ولاة عثمان، فقد كان واليه على مصر تاج الولايات الإسلامية.
لماذا؟! لأنهم موضع ثقة الخليفة الغالب!
دور الأمة
يتصارع الفرسان المرشحون** للفوز والغلبة، والأمة تتفرج... فإذا غلب أحد الفرسان واستقامت أموره، يطلب هذا الفارس الغالب وحاشيته من الأمة أن تبايع، أي أن توافق بأن يكون هذا الفارس الغالب ولي أمرها، وإمامها، وخليفة نبيها، فمن بايع فقد أفلح، وتولى سبيل المؤمنين، ويحق له أن ينتظر عطاءه ورزقه، ومن أبى المبايعة فلا عطاء له ولا رزق، وليس بينه وبين الفارس الغالب الذي قبض على مقاليد الحكم ودوخ كل الفرسان إلا القوة، فيسحقه الفارس الغالب بلا رحمة، ويندم الذي لم يبايع ولات حين مندم، فتركع الأمة وتقدم الولاء للغالب رغبة أو رهبة!
فدور الأمة هو مبايعة الغالب وتأييده، وإن أبت فليس بينها وبين الغالب إلا الحرب والسيف. راجع الأحكام السلطانية لأبي يعلى، والأحكام السلطانية للماوردي واطلع على القواعد التي وضعها علماء الدولة وجعلوها فضفاضة بحيث تتسع لكل حالة، واطلع على توثيقنا لما قاله إمام الحرمين الجويني، وابن العربي، وأبو المعالي وعضد الدين الإيجي.(1)

المتغلب غير المؤهل

عندما اختار الله تعالى نبيه للنبوة أهله وأعده لذلك، وعندما نصره وأقام دولته أهله وأعده لقيادة الدولة، فلم يختر الله نبيا أو يعين رئيس دولة دون تأهيل وإعداد.
وقبل أن يعلن النبي ولاية علي أهله وأعده للولاية من بعده وصنع على عينه، فالأهلية الشرعية والإعداد للقيام بهذا العمل أو ذلك، ضرورة من ضرورات الإتقان والنجاح، فالهندسة والطب والفلاحة والنجارة وأي مهنة، لا بد لها من أهلية وإعداد لممارستها.
فحتى يستطيع الطبيب أن يجري العملية الجراحية يجب أن يدرس الطب في جامعة عدد سنين، ثم يتدرب عمليا عدد سنين، وحتى يستطيع الشخص أن يكون محاميا يجب أن يدرس القانون عدد سنين، وأن يتمرس عمليا تحت إشراف محام أستاذ عدد سنين.
فإذا كان من يمارس هذه المهن وأمثالها بحاجة إلى إعداد وأهلية، فمن باب أولى أن يحتاج من يتصدى لقيادة الأمة وإمامتها وخلافة الرسول إلى إعداد وأهلية وتأهيل.
ولما لا، فهو الذي سيكون مرجع القضاة ومعين الولاة، وهو القائد الأعلى للجيوش، وهو المبلغ لدين الله نيابة عن رسوله، وهو المبين لأحكام القرآن، وهو أفهم الناس بما أنزل إليهم من ربهم، وهو القدوة لأنه الجالس محل الرسول والقائم مقامه، فإن لم يكن كذلك فهو هالك لا محالة ومهلك للأمة التي سيقودها.
الفارس الغالب المحتل لمكان النبي ليس له هذا التأهيل، ولم يعد هذا الإعداد!
ومؤهلاته وإعداده وشهادته العلمية تتلخص بكلمة واحدة أنه غالب وقاهر ومتفوق على الأمة بالقوة والغلبة والقهر.
من كانت هذه مؤهلاته كيف يدير شؤون الدولة؟
الغالب يسخر موارد الدولة وإمكانياتها لتثبيت غلبته، فيعطي من أطاعه ويرفعه، ويحرم من عصاه ويضعه، ثم يسلط الذين أطاعوه على الذين عصوه ويذيق بعض الأمة بأس بعض، حتى تلقي تماما عصا المقاومة والمعارضة، وينصرف كل إنسان إلى معاشه اليومي، فلا يسأل الغالب عما يفعل! فيصبح الخليفة الغالب هو الحاكم والحكم معا على من أطاعه فرفعه وعلى من عصاه فوضعه، فيوكل المطيع له بالعاصي لحكمه وتستقيم أموره.
أما ما يشجر بين المحكومين من خلافات، فإذا عرف الغالب الحكم الشرعي - ونادرا ما يعرفه - وعرف أن تطبيق الحكم الشرعي لا يضر أهل طاعته ولا ينفع أهل معصيته، طبقه، أو أمر بتطبيقه!
أما إذا كان لا يعرف، فإنه يسأل أهل طاعته فإن عرفوا عرفوا، وإن لم يعرفوا يجتهد برأيه، فإن كان هذا الاجتهاد صوابا فهو من عند الله وفضله لله وللخليفة الغالب معا، وإن هذا الاجتهاد خطأ فهو من الشيطان ووزره على الشيطان وحده، وللخليفة الغالب أجر واحد، لأنه قد أخطأ باجتهاده!!

نماذج من اجتهادات الخلفاء

الفجاءة السلمي عينه أبو بكر أميرا وأمره، فبلغت عنه لأبي بكر أنباء، فأمر أبو بكر طريفة أن يلقي الفجاءة، فقال الفجاءة لطريفة: ما أنت بأولى مني، أنا أمير لأبي بكر، وأنت؟ فقال طريفة: إن كنت صادقا فضع السلاح وانطلق معي إلى أبي بكر، فخرج الفجاءة معه بعد أن وضع سلاحه، فلما أجاء الفجاءة كما في رواية الطبري (فأوقد له أبو بكر نارا في مصلى المدينة على حطب كثير، ثم رمي فيها مقموطا، وفي لفظ ابن كثير: فجمعت يداه إلى قفاه وألقي في النار فحرقه وهو مقموط)!!. (2)
أما الحكم الشرعي الصحيح - إن صح جرم الفجاءة - فهو في الآية 33 من سورة المائدة (إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا أن تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض، ذلك لهم خزي في الدنيا ولهم في الآخرة عذاب عظيم).
أما التعذيب بالنار فهو غير جائز. قال رسول الله: لا يعذب بالنار إلا رب النار.(3)
واعتذر العلماء عن هذه المخالفة للنص الصريح بقولهم (حرق فجاءة السلمي من غلطة في اجتهاده، فلم يتفق مثله للمجتهدين.
وندم أبو بكر على فعله في مرض موته وقال: ثلاث فعلتهن وددت أني تركتهن وددت أني لم أكشف بيت فاطمة عن شئ، وإن كانوا قد غلقوه على الحرب، وودت أني لم أحرق الفجاءة السلمي وأني كنت قتلته تسريحا أو خليته نجيحا، وودت أني يوم السقيفة كنت قد قذفت الأمر في عنق أحد الرجلين عمر وأبي عبيدة. (4)
اجتهاد بمالك بن نويرة
مالك بن نويرة كان شاعرا وفارسا من فرسان بني يربوع في الجاهلية، ومن أشرافهم، فلما أسلم مالك عينه رسول الله أميرا على صدقات قومه، ومات الرسول وهو على إمارته، فلما توفي النبي أمسك الصدقة ووزعها على قومه وقال:
فقلت خذوا أموالكم غير خائف * ولا ناظر في ما يجئ من الغد
فإن قام بالدين المخوف قائم * أطعنا وقلنا الدين دين محمد
فغزاه خالد بن الوليد، وقال له ولقومه: ضعوا السلاح فوضعوا سلاحهم، وقالوا لخالد نحن مسلمون.
وفي وفيات الأعيان وفوات الوفيات وتاريخ أبي الفداء وابن شحنة أن مالك قال لخالد يا خالد ابعثنا لأبي بكر فيكون هو الذي يحكم بنا وفينا، فإنك بعثت إليه غيرنا من جرمه أكبر من جرمنا! فقال خالد: لا أقالني الله إن أقتلك! ثم أمر ضرار بن الأزور ليضرب عنقه! فقال
مالك: أنا على الإسلام! فقال خالد: يا ضرار اضرب عنقه!! وتزوج خالد امرأة مالك بن نويرة بنفس الليلة.
وفي رواية الطبري عن عبد الرحمن بن أبي بكر فلما بلغ عمر بن الخطاب تكلم فيه عند أبي بكر وقال عمر (عدو الله، عدا على امرئ مسلم فقتله ثم نزا على امرأته!!
فلما أقبل خالد قام إليه عمر فانتزع الأسهم من لامته وحطمها ثم قال: أرياء قتلت امرءا مسلما ثم نزوت على امرأته! والله لأرجمنك بأحجارك!
فدخل خالد فاعتذر لأبي بكر فقبل عذره، واعتبر خالد مجتهدا ومأجورا لأنه قتل صاحب رسول الله وأميره.
أما مالك فلا أجر له مع أنه صحابي لأن قاتله خالد بن الوليد من أهل الطاعة!(5)
قال ابن حزم في مجلد 4 صفحة 161 في الفصل في الملل والأهواء والنحل: إن معاوية ومن معه مخطئون مجتهدون مأجورون أجرا واحدا!
وقال ابن حزم في مجلد 4 صفحة 161 (وعمار (رضي الله عنه) شهد بيعة الرضوان وشهد الله له بأنه علم مما في قلبه فأنزل السكينة عليه ورضي عنه، ومع هذا قتله أبو الفادية يسار بن سبع السلمي، فأبو الفادية متأول مجتهد مخطئ مأجور أجرا واحدا...!
قال ابن تيمية في منهاج السنة مجلد 3 صفحة 19: وأكثر هذه الأمور لهم فيها معاذير تخرجها عن أن تكون ذنوبا، وتجعلها من موارد الاجتهاد التي إن أصاب المجتهد فيها فله أجران وإن أخطأ فله أجر واحد....!
وقال ابن حزم في المحلى وابن التركماني في الجوهر النقي: لا خلاف بين أحد من الأمة بأن عبد الرحمن وهكذا فإن المقتول علي مثل القاتل عبد الرحمن بن ملجم، وكلاهما مأجور، لأن كليهما مجتهد!
والقاتل أبو لؤلؤة مثل المقتول عمر بن الخطاب (رضي الله عنه)، وكلاهما مأجور لأنه مجتهد!

اجتهادات الخلفاء الغالبين تراكمت وتكاثرت فأصبحت منظومة حقوقية كاملة

اجتهد الخلفاء المتغلبون وأهل طاعتهم في ما لا يعرفونه من الشرع أو في ما لا يرغبون بتطبيقه، وتراكمت الاجتهادات وتكاثرت حتى كونت منظومة حقوقية كاملة ، سارت على قدم المساواة مع المنظومة الحقوقية التي أنزلها الله، بل وتقدمت عليها، فطبقت كل اجتهادات الخلفاء المتغلبين وأهل طاعتهم، وعطلت الشريعة في ما يتعارض مع هذه الاجتهادات! وسنعالج هذه الناحية بالتفصيل في ما بعد.
الخليفة المتغلب، غير معد وغير مؤهل لقيادة الأمة.
وإعداده الأوحد وأهليته العظمى، وشهادته الكبرى هو أنه القوي المتغلب! فمن الطبيعي أن لا يعرف الحكم الشرعي، ومن الطبيعي أنه لن يقف مكتوف اليدين أمام الحادثات، ومن غير المعقول إنه يقول إنه لا يعرف، ومن غير المعقول أن يسأل أهل الذكر - أهل بيت النبوة - لأنه لو سألهم لكان في ذلك رفع لشأنهم، واعترافا منه بعلو منزلتهم أمام المحكومين!
فمن الطبيعي أن الأمر المتاح الوحيد أمامه هو الاجتهاد أو القول برأيه، فإن أصاب وهو مصيب حتما لأنه غالب، فذلك بفضل الله وعبقريته، وهو مأجور أجران لأنه مجتهد، وإن أخطأ فالوزر على الشيطان وحده، إنه للإنسان عدو مبين، ومع هذا فالخليفة الغالب لن يعود خاوي الوفاض فهو مأجور أجرا واحدا في حالة الخطأ!
فالغالب كالمنشار يأكل بالاتجاهين!!
قد تقول شيعة الغالبين: إنه لا يوجد في الشريعة حكم! ونحن نقول لهم: إن الله نزل الكتاب تبيانا لكل شئ، فالله أولى بالتصديق منكم!

مكافأة الخليفة الغالب

علاوة على أن الغالب كالمنشار يأكل في الاتجاهين ويؤجر في صوابه وخطئه، فإن الجموع المسلمة تقديرا لعبقريته وجرأته واجتهاده لاستخراج أحكام الله تعالى من رأيه وعقله للحادثات يتوجب عليها أن تكافئه فتعطيه الطاعة بغير حدود، مهما كانت نتائج اجتهاداته، سيان أكانت طاعة لله أو معصية!!
لماذا؟ لأنه خليفة المسلمين، لأنه القائم مقام النبي، لأنه الغالب!!
يمكن للخليفة الغالب أن يضرب أي مسلم، وأن يأخذ حق أي مسلم، وأن يستولي على مال أي مسلم!
يمكن لهذا الغالب أن يكون فاسقا أو ظالما أو معطلا للحدود... يمكنه أن يجور... إلخ.
يمكنه أن يهدم الكعبة كما فعل يزيد، يمكنه أن يستبيح مدينة رسول الله، وأن يولد جيشه ألف عذراء من غير زوج كما فعل قائد جيش يزيد!!
يمكنه أن يقتل ويبيد أهل بيت النبوة كما فعل يزيد!!
ومكافأة لهذا الخليفة الغالب يتوجب على المسلمين كافة أن يطيعوه وأن لا يعصوا له أمرا، فهو مجتهد ومأجور على الخطأ والصواب!!
هذا ليس خيالا وإليك الإثبات
روى مسلم في صحيحه مجلد 6 صفحة 20 - 22 باب لزوم الجماعة، أن الرسول قال (يكون بعدي أئمة لا يهتدون بهداي ولا يستنون بسنتي، وسيقوم فيهم رجال قلوبهم قلوب الشياطين جثمان إنس! قال حذيفة، قلت: كيف أصنع يا رسول الله؟
قال (تسمع وتطيع للأمير، وإن ضرب ظهرك وأخذ مالك فاسمع وأطع).
وروى عن ابن عباس أن رسول الله قال: من رأى من إمامه شيئا يكرهه فليصبر فإن من فارق الجماعة شبرا فمات، مات ميتة جاهلية.
أنت تلاحظ أن طاعة الأمير اختلطت مع وحدة الأمة فطاعة الغالب هي تعبير عن الولاء لوحدة الأمة، ومعصية الغالب هي رمز الخروج على وحدة الأمة!
وفي رواية أخرى: ليس أحد خرج من السلطان شبرا فمات عليه، إلا مات ميتة جاهلية!
وروى عن عبد الله بن عمر الخطاب أنه حين كان من أمر (وقعة) الحرة ما كان زمن يزيد بن معاوية قال سمعت رسول الله يقول: من خلع بدا من طاعة، لقي الله يوم القيامة لا حجة له، ومن مات وليس في عنقه بيعة، مات ميتة جاهلية!
معنى ذلك: إذا أراد المسلم أن تكون له حجة يوم القيامة، فما عليه إلا أن يبايع يزيد، وإن لم يبايع يزيد فمات فكأنه مات كافرا! أي الميتة التي يموتها أولئك الذين عاشوا في عصر الجاهلية!!
قال النووي في شرحه لصحيح مسلم والبيهقي في سننه ما يلي وبالحرف وقال جماهير أهل السنة من الفقهاء والمحدثين والمتكلمين: لا ينعزل - أي الخليفة المتغلب - بالفسق والظلم وتعطيل الحدود، ولا يخلع ولا يجوز الخروج عليه بذلك بل يجب وعظه... (وأما الخروج عليهم - على الخلفاء المتغلبين - وقتالهم فحرام بإجماع المسلمين، وإن كانوا فسقة ظالمين)!(6)
قال القاضي أبو بكر محمد بن الطيب الباقلاني في كتاب التمهيد طبعة القاهرة 1366
ما يلي وبالحرف قال الجمهور من أهل الإثبات وأصحاب الحديث: لا ينخلع الإمام بفسقه وظلمه بغصب الأموال، وضرب الأبشار وتناول النفوس المحرمة، وتضييع الحقوق، وتعطيل الحدود، ولا يجب الخروج عليه بل يجب وعظه.... إلخ!
عجبا أليس الخليفة المتغلب هو القائم مقام رسول الله!
رسول الله نفسه الذي قال لأصحابه: ألا من جلدت له ظهرا فهذا ظهري فليقتد منه، ألا وإن الشحناء ليست من خلفي، ألا وإن أحبكم إلي من كان له عندي حقا فأخذه مني، فلقيت الله وهو راض عني!
أليس هو النبي الذي قال لأحد أصحابه الخارجين قليلا عن الصف قبل بدء المعركة: إستو ووكزه بإصبعه، فقال هذا الصحابي يا رسول آلمتني اكشف عن بطنك حتى أقتد منك، فكشف النبي عن بطنه الشريف ليقتاد منه هذا الصحابي!
أليس هو النبي الذي بإمكان أي مواطن حتى ولو كان يهوديا أن يقول له يا محمد أعطني حقي فينيخ النبي للحق ولا يغضب!
ليست أدري متى عصى الله؟ أو متى خالف أوامره؟ أو متى تلكأ هذا النبي عن تطبيق شريعة الله؟ أو متى طلب من أحد أن يطيعه في معصية؟ أو متى كمم الأفواه!!
أو متى صادر الحريات! أو متى عطل الحدود! أو متى طمس الحقوق أو ضيعها!
عجبا لهذا الخليفة المتغلب أو ذاك، أو ليس هو القائم مقام النبي! أو ليس هو الذي احتل مكانه بالقوة ليقوم مقامه!
كيف يحل ما حرم الله ويقول إنه مأجور، ويحرم ما أحل الله ويقول إنه مأجور!
لعله من طبيعة غير طبيعة النبي، لعل له مزايا تفوق النبوة؟ فما هي دعواه؟ لنسمع حجة أهل طاعته، لعلهم يحدثون لنا من أمره ذكرا!

الخليفة المتغلب ليس خليفة رسول الله إنما هو صفي الله وخليفته!

روى أبو داود في سننه مجلد 4 صفحة 210 الحديث 4645 باب في الخلفاء، عن سليمان بن الأعمش أنه قال: جمعت مع الحجاج فخطب.... إلى أن قال: إسمعوا وأطيعوا لخليفة الله وصفيه عبد الملك بن مروان!!
وقيل في مجلس الخليفة العباسي المهدي عن الخليفة الأموي الوليد إنه كان زنديقا، فقال المهدي: خلافة الله عنده أجل من أن يجعلها في زنديق!! راجع تاريخ ابن الأثير مجلد 10 صفحة 7 - 8
قالوا إن الخليفة المتغلب أعظم عند الله من الرسول نفسه؟
روى أبو داود في سننه مجلد 4 صفحة 209 الحديث 4642 والمسعودي في مروجه - ذكر طرف من أخبار الحجاج مجلد 3 صفحة 147 وابن عبد ربه في العقد الفريد مجلد 5 صفحة 52 عن الربيع ابن خالد أنه قال: سمعت الحجاج يخطب فقال في خطبته: رسول أحدكم في حاجته أكرم عليه، أم خليفته في أهله؟)!
وخطب الحجاج يوما على منبر الكوفة فذكر الذين يزورون قبر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال: تبا لهم يطوفون بأعواد ورقة بالية!! هلا طافوا بقصر أمير المؤمنين عبد الملك بن مروان! ألا يعلمون أن خليفة المرء خير من رسوله!
وقالوا إن الخليفة المتغلب أفضل من الملائكة المقربين والأنبياء المرسلين!
جاء في العقد الفريد مجلد 5 صفحة 51 أنه كتب إلى عبد الملك بن مروان يعظم فيه أمر الخلافة ويزعم أن السماوات والأرض ما قامتا إلا بها، وأن الخليفة عند الله أفضل من الملائكة المقربين والأنبياء المرسلين، ذلك أن الله خلق آدم بيده، وأسجد له ملائكته، وأسكنه جنته ثم أهبطه إلى الأرض وجعله خليفته، وجعل الملائكة رسلا إليه، فأعجب الخليفة عبد الملك بذلك وقال: لوددت أن بعض الخوارج عندي فأخاصمه بهذا الكتاب!
وقالوا إن للخليفة عند الله كرامة أعظم من كرامة الأنبياء!
أمر الوليد بن عبد الملك خالد بن عبد الله والي مكة فحفر بئرا بمكة فجاءت عذبة الماء طيبة، وكان يستسقي منها الناس فقال خالد في خطبته على منبر مكة: أيها الناس، أيها أعظم خليفة الرجل على أهله أم رسوله إليهم؟ والله لو تعلمون فضل الخليفة.
ألا إن إبراهيم خليل الرحمن استسقى فسقاه الله ملحا أجاجا، واستسقاه الخليفة فسقاه الله عذبا فراتا!
فكان ينقل من ماء هذه العين فيضعه إلى جانب ماء زمزم!
ثم تلطفوا فجعلوا الخليفة الغالب مساويا لرسول الله
قال الحجاج في خطبة له كما في سنن أبي داود والعقد الفريد (إن مثل عثمان عند الله كمثل عيسى بن مريم، ثم قرأ قوله تعالى (إذ قال الله يا عيسى بن مريم إني متوفيك ورافعك إلي ومطهرك من الذين كفروا وجاعل الذين اتبعوك فوق الذين كفروا إلى يوم القيامة). (7)
من يتبع الخليفة ويطيعه فهو المؤمن ومن يعانده فهو الكافر
في العقد الفريد وفي تاريخ الطبري حوادث سنه 89 مجلد 5 صفحة 61 وابن الأثير مجلد 1 صفحة 25 وابن كثير مجلد 9 صفحة 76 إن الحجاج بعد أن قارن بين عثمان بن عفان وبين عيسى بن مريم، وعندما تلا قوله تعالى (ومطهرك من الذين كفروا) أشار بيده إلى أهل العراق، وعندما تلا قوله تعالى (جاعل الذين اتبعوك فوق الذين كفروا) أشار بيده إلى أهل الشام!!
طاعة الخليفة المتغلب من أعظم القرب عند الله!
هدم الكعبة المشرفة حرمة، واتباع الخليفة طاعة، فإذا تعارضت الحرمة مع الطاعة، قدمت الطاعة على الحرمة، فالخليفة يرغب بهدم الكعبة والكعبة حرمة، ولكن تنفيذ أوامر الخليفة طاعة، وهنا يتوجب حسب رأيهم أن تقدم الطاعة على الحرمة، فتهدم الكعبة طاعة للخليفة، وقد هدمت فعلا!
قتل أهل بيت النبوة وإبادتهم في كربلاء حرمة، وأوامر الخليفة بإبادة أهل البيت طاعة، عندئذ يضحى بالحرمة من أجل الطاعة، ويباد أهل البيت تحقيقا لواجب الطاعة!
ومن هنا أشيع وتحولت الإشاعة إلى قناعة بأن طاعة الخليفة من أعظم القرب التي يتقرب بها أهل طاعته إلى الله تعالى!!
كان شمر بن الجوشن يقول رب اغفر لي، فقيل له: كيف يغفر الله لك وقد خرجت إلى ابن بنت رسول الله فأعنت على قتله؟ فقال: ويحك فكيف نصنع، إن أمراءنا هؤلاء أمرونا فلم نخالفهم، ولو خالفناهم كنا شرا من هذه الحمر)! (8)
وكان كعب بن جابر ممن حضر قتال الحسين في كربلاء يقول في مناجاته: يا رب إنا قد وفينا، فلا تجعلنا يا رب كمن غدر! يقصد بمن غدر من لم يطع الخليفة!!
ودنا عمر بن سعد يوم عاشوراء من أصحاب الحسين ونادى: يا أهل الكوفة الزموا طاعتكم وجماعتكم ولا ترتابوا في قتل من مرق من الدين وخالف الإمام!
وقال مسلم بن عقبة الذي استباح المدينة، وختم أعناق الصحابة وأذلهم، وقتل يوم الحرة إحدى عشر ألف مسلم، قال عن عمله هذا: اللهم إني لم أعمل عملا قط بعد شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله أحب إلي من قتل أهل مدينة رسول الله، ولا أرجى عندي في الآخرة، وإن دخلت النار بعد ذلك إني لشقي!
وهكذا تدين الناس بطاعة الخليفة الغالب وسخرت كل موارد الدولة لترسيخ هذه الطاعة وجعلها قناعة.
وطمعا برفع مقام الخليفة ودوام ذكره، وتدعيما للتدين بالطاعة انتشرت الأحاديث الموضوعة، فكما فرض الله طاعة رسوله (وأطيعوا الله والرسول) أشاعوا بأن الله فرض طاعة الخليفة الغالب مهما فعل، وحرموا الخروج عليه مهما فعل، وتصور الناس أن تلك الأحاديث الموضوعة أحاديث حقيقية، وانتشرت تلك الأحاديث على نطاق واسع، وتثبتت في قيود الدولة ودوائر إفتائها، بالوقت الذي كان محظورا على المسلمين كتابة ورواية أحاديث رسول الله الصحيحة بحجة أن القرآن وحده يكفي! وبالوقت الذي كانت تحرق فيه أحاديث رسول الله المكتوبة، واستمر الحضر على رواية وكتابة أحاديث رسول 95 عاما بأمر من الخلفاء!! وقد وثقنا ذلك!!
وأمام هذا الفيض الإعلامي الهائل ارتفعت مرتبة الخلافة وبلغت منزلة الخليفة مكانا عليا، خاصة أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، فكان من واجب الخليفة الجديد أن يلتزم بالعمل بكتاب الله وسنة رسوله وسيرة الصديق والفاروق، كأن سنة النبي وحدها لا تكفي فجاءت سيرة الشيخين لإعلان الكمال!
وهكذا ارتفعت الخلافة فوق مرتبة النبوة وبلغ الإسفاف بشيعة الحكام حدا يخجل الإنسان من وضعه.
بهذا المناخ التربوي، وبهذا الفيض الإعلامي كتبت أحاديث رسول الله بعد 95 سنة من حظر روايتها وكتابتها.

سقوط الأحاديث الموضوعة التي تحض على طاعة المتغلب الظالم

ما جاءت شريعة الله إلا لترفع منار العدل وتوطد أركانه، وما بعث الله رسولا إلا ليقطع دابر الظلم ويكشف ألاعيب الظالمين، فهل من الممكن عقلا أن يخص الرسول على طاعة المتغلب الظالم المعطل للحدود والسالب للحقوق والمصادر لحريات الناس وأموالهم؟
وهل من الممكن أن يحض الرسول على طاعة من يهدم الكعبة، ومن يستبيح المدينة المنورة، ويقتل أهل بيته الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا!
سبحانك اللهم هذا بهتان مبين!

بعد نظر الخليفة وجمع القرآن

وسائل إعلام الدولة صورت الخليفة كرجل بعيد النظر، فقد ركزت وسائل الإعلام تلك بكل قواها على أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ترك معجزته وهي القرآن الكريم بدون جمع، وأدرك الخليفة بثاقب بصيرته أن القرآن إن بقي كما تركه الرسول دون جمع فسيذهب بموت الصحابة الكرام، لذلك شمر الخلفاء الثلاثة عن سواعدهم فجمعوا القرآن الكريم الذي لم يجمع قط - كما ذكروا خلال حياة الرسول - ولولا بعد نظر الخلفاء لضاع القرآن الكريم ولاندثر! راجع كنز العمال وصحيح بخاري وقد نقلها عن ابن سعد وابن حيان وعن البخاري وعن أبي داود وعن مسلم وعن النسائي، والترمذي، وهي بمجملها تشكل نظرية شيعة الحكام بجمع القرآن الكريم، وهذه النظرية تدور حول محور واحد مفاده أن الرسول ترك معجزته دون جمع، فتصدي الخلفاء لهذه المهمة وجمعوا القرآن وحازوا فضل الجمع!(9)
وهكذا صرفوا هذا الفضل عن رسول الله وخصوا به الخلفاء!
ولما تم لفريق جمع القرآن ما أرادوا احتاروا ماذا يسمون هذا القرآن الذي جمعوه!
فقال بعضهم سموه (السفر) فقال عبد الله بن مسعود رأيت للحبشة كتابا يدعونه (المصحف) فسموه مصحفا! (10)
وهكذا أعطوا فضل جمع القرآن وتسميته للخلفاء، بعد أن نزعوا هذا الفضل عن صاحبه رسول الله. وقد ذكرنا في بداية بحوثنا أن القرآن الكريم كان مجموعا على عهد رسول الله، وكان بيد الصحابة الكرام عشرات النسخ من هذا القرآن المجموع، وقد قارنوا نسخهم مع النسخ الموجودة عند رسول الله.
إن أبسط مخلوق على وجه الأرض سيصل إلى نتيجة أن القرآن إذا لم يجمع فسوف يضيع، فهل يعقل أن الرسول الذي خير فاختار ما عند الله، والذي علم أنه ميت من مرضه، هل يعقل أن لا يصل الرسول لهذه النتيجة فيعرف أن القرآن إن لم يجمع ويكتب فسيضيع؟ وهل يعقل أن الخلفاء أبعد نظرا من الرسول، وأحرص على مستقبل القرآن الكريم من الرسول نفسه!
ولكن الهوى يعمي ويصم! يريدون أن يلصقوا كل فضل بالخلفاء! ولو على حساب الرسول نفسه، ولو على حساب القرآن نفسه!

بعد نظر جوهري آخر للخلفاء

أشاع الخلفاء وشيعتهم أن رسول الله قد خلى على الناس من أمرهم ولم يعين راعيا للأمة من بعده!
أم المؤمنين عائشة تسمي عملية التخلية هذه (ترك الأمة هملا ولا راعي لها) راجع الإمامة والسياسة صفحة 23 وانظر إلى قولها لعمر: استخلف عليهم ولا تدعهم بعدك هملا.
وعبد الله ابن عمر يصف عملية التخلية بأنها تضييع للحقوق، انظر إلى قوله لأبيه وهو يجود بنفسه: لو جاءك راعي إبلك أو غنمك وترك إبله أو غنمه لا راعي لها للمته وقلت له تركت أمانتك ضائعة، فكيف يا أمير المؤمنين بأمة محمد؟! (11)
ولما استخلف معاوية ابنه يزيد قال: كرهت أن أدع أمة محمد بعدي كالضأن لا راعي لها؟
هل يعقل أن يصيب ابن عمر ومعاوية وأم المؤمنين، ويخطي رسول الله؟
إذا قلنا إن رسول الله قد ترك أمته ولا راعي لها، فمعنى ذلك أنه تركهم هملا على حد تعبير أم المؤمنين، ومعنى ذلك أنه قد ضيع الأمانة على حد تعبير عبد الله بن عمر، ومعنى ذلك أنه تركهم كالضأن على حد تعبير معاوية؟
فهل يعقل أن هؤلاء الثلاثة أبعد نظرا، وأعلم بعواقب الأمور من رسول الله؟!
لنفترض أن هذه الإشاعة صحيحة وأن رسول الله خلى على الناس أمرهمالمفترض بالخليفة أن يقتدي أثر رسول الله فيخلي على الناس أمرهم كما خلى رسول الله، فإذا كان الرسول قد خلى على الناس أمرهم فلماذا لم يخل الخلفاء على الناس أمرهم ويقتدوا برسول الله؟!
وإذا لم يخل الرسول على الناس أمرهم، فأين هو الولي الذي عينه رسول الله؟

حقيقة الحال

الرسول لم يترك أمته هملا ولا راعي لها، إنما عين وليا لها بأمر ربه، وبما أن الولي من بني هاشم، والنبي من بني هاشم، وبما أنه حسب الاجتهاد لا يجوز أن يجمع الهاشميون النبوة والولاية عدلوا عن الولي الذي عينه الرسول، ونصبوا آخر بدلا منه!
خوفا من الفتنة
وحتى لا تقع الأمة في فتنة، وحتى لا تترك أمة محمد هملا ولا راعي لها، قرر كل خليفة أن يستخلف من بعده، لأن الخليفة ينظر للناس حال حياته وتبع ذلك أن ينظر لهم بعد وفاته وأن يقيم لهم من يتولى أمورهم، على حد تنظير وتعبير ابن خلدون، ولم ينس ابن خلدون أن يقول بأن رسول الله لم يستخلف!
فمعنى ذلك أن الخليفة يتمتع بصلاحيات أكثر من النبي، فالنبي ينظر للناس حال حياته وتبع ذلك أن لا ينظر لهم بعد وفاته وأن لا يقيم لهم من يتولى أمورهم! وقد وثقنا ذلك أكثر من مرة، ونقلنا عن ابن خلدون في مقدمته.

ولاية العهد أصبحت مشروعة لأنها من سنة الخلفاء

لم يقل أحد من شيعة الدولة أن الرسول قد استخلف أو اتخذ وليا لعهده حتى تصبح ولاية العهد مشروعة أو جائزة، لكنها أصبحت جائزة ومشروعة باجتهادهم لأن الخلفاء اتخذوا أولياء لعهودهم، والخلفاء أدرى بمصلحة المسلمين! راجع جامع الأحكام للقرطبي من تفسيره لآية (إني جاعل في الأرض خليفة) وكلهم قد أجمعوا على أن مشروعية ولاية العهد جاءت من عهد أبي بكر لعمر، ومن عهد عمر لعثمان عمليا أو للستة نظريا، ولم يقل أحد من شيعة الخلفاء بأن الرسول قد استخلف!(12)

الخلفاء حازوا الفضلين

وهكذا فإن أعظم فضلين في الإسلام حازهما الخلفاء، فرسول الله ترك القرآن دون جمع، فجاء الخلفاء فجمعوا القرآن، وهكذا حازوا هذا الفضل وحدهم، ولولاهم لضاع القرآن! هكذا ذكروا!
ورسول الله ترك أمته دون راع ودون أن يعين ولي عهده، ولأن ولاية العهد ضرورة من ضرورات استقرار النظام السياسي، سن الخلفاء سنة ولاية العهد، وهكذا حازوا الفضل الثاني واستأثروا به وحدهم، وكنتيجة حتمية لولاية العهد استقرت أمور الدولة، لولا سنة ولاية العهد التي سنها الخلفاء لتضاعف عدد القتلى أضعافا كثيرة في سبيل رئاسة الدولة، ولما قر للأمة قرار!
وقد ركزت وسائل الإعلام على هاتين النقطتين، فكل مسلم من شيعة الدولة يؤمن إيمانا مطلقا.
1 - إن الرسول مات ولم يجمع القرآن وتركه في صدور الرجال غير مكتوب، والخلفاء وحدهم هم الذين جمعوه وكتبوه.
2 - إن الرسول قد ترك أمته ولا راعي لها (خلى على الناس أمرهم) فجاء الخلفاء فسنوا سنة حسنة وهي ولاية العهد.

وكلما فعله الخلفاء كان لحكمة

فأعظم شئ عند المسلمين بعد القرآن هو سنة الرسول، وقد أحرق الخلفاء ما كان مكتوبا منها كما وثقنا، ومنعوا كتابتها وروايتها مدة 95 سنة، وقال الخلفاء: (حسبنا كتاب الله)، وكتاب الله يكفي! ثم جاءت شيعة الخلفاء فقالوا إن الحكمة اقتضت منع كتابة ورواية أحاديث الرسول حتى لا يختلط القرآن بالحديث أثناء فترة كتابة القرآن وهذه الحكمة منقوضة لأن كلام الله المعجز يختلف عن كلام الرسول، هذا من جهة ومن جهة ثانية فإن فترة كتابة القرآن وتدوينه كانت خلال عهدي أبي بكر وعمر كما وثقنا عند بحث نظرية جمع القرآن، فطالما أن كتابة القرآن قد انتهت في هذين العهدين فلماذا استمر الحظر على كتابة ورواية أحاديث رسول الله مدة 95 سنة؟!
إذا كان كل شئ فعله الخلفاء له حكمة
فما هي الحكمة من مواجهة الرسول؟
أراد الرسول أن يؤمن أمته ضد الضلالة فقال لمن حوله: قربوا أكتب لكم كتابا لن تضلوا بعدي أبدا، فقال عمر بن الخطاب وحزبه: لا حاجة لنا بالكتاب، (حسبنا كتاب الله)!
وعندما كرر الرسول طلبه قالوا: إن رسول الله قد هجر، (حسبنا كتاب الله)!
وقد وثقنا ذلك، وتحدينا كل المسلمين أن ينكروا هذه الحادثة أو يعتذروا عنها!
والسؤال الذي يطرح نفسه أنه إذا كان كل شئ فعله الخلفاء قد فعلوه لحكمة، فما هي الحكمة من مواجهة الرسول نفسه؟ وما هي الحكمة من القول بأن رسول الله قد هجر - حاشا له -؟!
ثم إن الأمة كلها قد أجمعت على صحة حديث الثقلين وأن رسول الله قد قال (تركت فيكم اثنين ما إن تمسكتم بهما لن تضلوا كتاب الله وعترتي أهل بيتي، وقد أنبأني اللطيف الخبير بأنهما لن يفترقا حتى يردا علي الحوض، فانظروا كيف تخلفوني فيهما)
لست أدري ما هي الحكمة من إذلال العترة أهل البيت، ومن إقصائهم عن مسرح الحياة السياسية، ومن تقتيلهم وتشريدهم ولعنهم في كل بلدة وعلى كل منبر، ومطاردة كل من يحبهم، ومن الذي طاردهم وأذلهم غير الخلفاء وأهل طاعتهم!
لست أدري ما هي الحكمة من ذلك سوى تصور الخلفاء المتغلبين أن أهل البيت خطر عليهم، إذ من الجائز أن يطلب صاحب الحق حقه من الذين ابتزوه هذا الحق!!
وما هو مبرر الخلفاء المتغلبين لممارسة هذا الأفعال والخروج عن إطار الشرعية سوى ما سموه اجتهادا، والاجتهاد بحقيقته ومعناه هو العمل بالرأي!
هل الشرائع الوضعية أحرى بالاحترام من الشريعة الإلهية
الرسول نفسه ليس بإمكانه الخروج عن إطار الشرعية، فطالما تلى قوله تعالى (إن أتبع إلا ما يوحى إلي) فالرسول ملتزم بالنص، وملتزم بالشرعية والشرعية غطت كل شئ وبنيت كل شئ تماما، فما من شئ إلا وله حكم.
فما هو مبرر الخلفاء ليتركوا النص ويعملوا بالاجتهاد، أو بتعبير أدق ليتركوا النص الشرعي ويحكموا وفق آرائهم الشخصية؟!
هل يمكن للقاضي الذي يطبق أي شريعة وضعية أن يتجاهل النص وأن يحكم بما يرى؟
إن حكم هذا القاضي باطل من كل الوجوه، وبكل المعايير، فهل الشرائع الوضعية أولى بالاحترام من الشريعة الإلهية!!
لكن يجوز للخليفة المتغلب ما لا يجوز لغيره، فكلما يفعله الخليفة وأهل طاعته حلال، وكل ما ينهى عنه الخليفة وأهل طاعته حرام! فيمكن للخليفة أن يترك النص الشرعي وهو فعل الرسول وقوله وتقريره وأن يعمل برأيه، ثم يجد من يبرر له خروجه على الشرعية وعمله برأيه!
قال القوشجي في صفحة 408 من شرح التجريد (ومنها أن الرسول قد سوى بالعطاء، وأن عمر قد فضل بالعطاء) إن ذلك ليس مما يوجب قدحا فيه، فإنه من مخالفة المجتهد لغيره في المسائل الاجتهادية) تصور أن القوشجي يرى أن مخالفة عمر لرسول الله في هذه الأحكام هي من باب مخالفة مجتهد وهو عمر لمجتهد آخر وهو رسول الله!! (13)
فماذا بقي من الشريعة برب السماء، إذا كان بإمكان الخليفة أن يترك النص ويعمل برأيه؟
وماذا بقي من فكرة (التميز) التي هي أساس السلطة إذا كان بإمكان الخليفة أن يتجاهل النص الذي وضعه الشرع الحكيم ويعمل برأيه؟
منظومة حقوقية إلهية بموازاة منظومة حقوقية وضعها الخلفاء الله تعالى وضع منظومة حقوقية إلهية، والخلفاء وضعوا مع الأيام منظومة حقوقية وضعية، وسارت المنظومتان بخطين متوازيين متقاربين ولكن لم تلتقيا قط!
الخلفاء لم يعلنوا بالكلام وبالتصريح تمردهم على المنظومة الإلهية، كانوا دائما يؤكدون أنهم مع المنظومة الإلهية، ولكنهم عمليا تجاهلوا المنظومة الإلهية ووضعوا لأنفسهم منظومة من صنع اجتهاداتهم واجتهادات أهل طاعتهم.
المصادر :
1- الأحكام السلطانية لأبي يعلى، والأحكام السلطانية للماوردي من 1 - 15
2- تاريخ الطبري مجلد 3 صفحة 234 - 235 ومجلد 4 صفحة 52 في ذكر حوادث السنة 13، وراجع ابن الأثير مجلد 2 صفحة 146 وابن كثير مجلد 6 صفحة 319 حوادث سنة 11
3- صحيح بخاري مجلد 4 صفحة 325 ومسند أحمد مجلد 2 صفحة 207 ومجلد 3 صفحة 494، وراجع سنن أبي داود مجلد 3 صفحة 55 و 56، وراجع سنن البيهقي مجلد 9 صفحة 71 و 72
4- تاريخ الطبري مجلد 2 صفحة 52 حوادث سنة 13
5- معالم المدرسين صفحة 83 وما فوق مجلد 2
6- النووي في شرحه لصحيح مسلم مجلد 2 صفحة 229 والبيهقي في سننه مجلد 8 صفحة 158 - 159 .
7- سنن أبي داود مجلد 4 صفحة 209 والعقد الفريد مجلد 5 صفحة 51
8- تاريخ الإسلام للذهبي مجلد 3 صفحة 18 - 19
9- كنز العمال طبعة الرسالة مجلد 2 صفحة 571 - 572 الحديث 4751، وصحيح بخاري مجلد 6 صفحة 48 ومجلد 2 صفحة 573 - 574 من كنز العمال، وابن الأنباري في المصاحف الحديث 4767، وراجع الحديث 4776 من الكنز و ابن سعد في طبقاته، وراجع الحديث 4796 وراجع الحديث 4756 و 4751 و 4354 وقد نقلها عن ابن سعد وابن حيان وعن البخاري وعن أبي داود وعن مسلم وعن النسائي، والترمذي، وراجع الحديث 4762 و 4764 و 4766
10- الإتقان للسيوطي مجلد 63، وراجع معالم المدرسين مجلد 2 صفحة 14 - 15 للعسكري!
11- مروج الذهب مجلد 2 صفحة 349 للمسعودي و حلية الأولياء برواية مشابهة مجلد 1 صفحة 44
12- الأحكام السلطانية لأبي يعلى، والأحكام السلطانية للماوردي صفحة 1 - 15، وراجع الإرشاد في الكلام لإمام الحرمين الجويني صفحة 424، وشرح ابن العربي لسنن الترمذي مجلد 13 صفحة 22 وجامع الأحكام للقرطبي مجلد 1 صفحة 269 - 273 .
13- معالم المدرستين مجلد 2 صفحة 68


source : راسخون
0
0% (نفر 0)
 
نظر شما در مورد این مطلب ؟
 
امتیاز شما به این مطلب ؟
اشتراک گذاری در شبکه های اجتماعی:

آخر المقالات

في أن الاستقامة إنما هي على الولاية
صُبت علـَـيَ مصـــائبٌ لـ فاطمه زهراعليها ...
التقیة لغز لا نفهمه
الحجّ في نصوص أهل البيت(عليهم السلام)
وصول الامام الحسین(ع) الى کربلاء
دعاء الامام الصادق عليه السلام
الصلوات الكبيرة المروية مفصلا
الشفاعة فعل الله
أخلاق أمير المؤمنين
اللّيلة الاُولى

 
user comment