عربي
Friday 29th of March 2024
0
نفر 0

الشفاعة

الشفاعة
من الأبحاث المهمّة التي وقع فيها الخلاف الشديد، والتي لا بدّ من تحقيقها في أبحاث العدل الإلهي، بحث الشفاعة، وهو بحث يتمسك به أتباع مدرسة أهل البيت عليهم السلام بشدّة، ويستشهدون له ويدافعون عنه بأدلة عقلية، وأخرى قرآنية كقوله تعالى ﴿لا يَمْلِكُونَ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ عِندَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا﴾(1)،﴿يَوْمَئِذٍ لَّا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا﴾(2) ﴿وَلَا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِندَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ﴾(3) ﴿وَلَا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَن شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴾(4)، وآيات أخرى تفيد هذا المضمون.
ويقف على طرف النقيض المذهبُ الوهابيّ، الذي يحمل على فكرة الشفاعة بكلّ شراسة، ويعيب على مذهب أهل البيت فكرتهم هذه، ويطرح كلَّ ما يملك من إعتراضات وإشكالات.
ونحن في هذا البحث سوف نتناول مسألة الشفاعة بشكل موضوعي، متعرّضين لما يُقبل ولما يُنكر منها، ثم نختم بالإعتراضات الموجَّهة إليها، مجيبين بما يقتضيه المنطق الصحيح، وما يكون شافياً للقارئ الكريم.

هناك قسمان يمكن تصورهما للشفاعة:

القسم الأول: الشفاعة المرفوضة:

عندما يضعف القانون في المجتمع نجده لا يطبّق إلا على الضعيف، أمّا القويّ فإنّه يمتلك من القوة ما يجعله أقوى من القانون وفوقه. وعادة ينفذ القويّ من تطبيق القانون من خلال نقاط ضعفٍ أهمّها ثلاثة:
1- المال، 2- الوساطة، 3- القوة. والشفاعة إذا كانت بمعنى أن يجد المجرم وسيلةً من هذه الوسائل بحيث يحول من خلالها دون تطبيق الحكم الإلهي- كما يظنّ كثير من الناس أنّ شفاعة النبي صلى الله عليه وآله وسلم والأئمة عليهم السلام هي من هذا النوع، وكما هو الفهم البدوي البسيط- فهي مرفوضة بلا أدنى شك.
وقد نفى القرآن الكريم أن يتأثر القانون الإلهي بشيء من هذه الثلاثة، فلا مال يمكن أن يفدي من عذاب، ولا تجزي نفس عن نفس، أو تكون شفيعة لها، ولا قوة ولا نصرة لأحد على القانون يوم القيامة، قال تعالى: ﴿وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً وَلا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ﴾(5)، والمراد بالعدل في هذه الآية هو المال.
ويشهد تاريخ الإسلام على مدى قوة القانون وعدم ضعفه أمام هذه العوامل الثلاثة، وأنه كان يطبَّق حتى على أقارب الحكّام، وذلك بمراجعة بسيطة لسيرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم والأئمة عليهم السلام.
فقد ورد عن علي عليه السلام التأكيد على أن العقوبة لا تستثني أحداً: (والله لو أنّ الحسن والحسين قد ارتكبا هذا الخلاف لم أرفق بهما)(6).
من هنا فالذي يظنّ بأن الظفر برضا الله يمكن تحصيله عبر البكاء على الإمام الحسين عليه السلام بدون فعل الواجبات وترك المحرمات- بحيث يأتي الحسين عليه السلام يوم القيامة فيشفع له كي تُمحى ذنوبه، إن صاحب هذا الظنّ يمتلك تصوراً باطلاً للشفاعة، بل إنّ هذا التصور هو إهانة لشخصية الإمام الحسين عليه السلام، لأن الحسين عليه السلام لم يستشهد لأجل إضعاف القوانين الإلهية، وتكون إرادته في مقابل إرادة الله، ولا شريعته في مقابل شريعة جدّه، وإنما لأجل إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة وإحياء الفرائض والسنن.
وهكذا فمن يظنّ أنّ الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم والزهراء والأئمة عليهم السلام لهم نفوذ في الساحة الإلهية، وهم يستغلّون نفوذهم لتغيير إرادة الله ونقض ومعارضة قوانينه، واهمٌ ومخطئٌ، وهو مثل الجاهليين من العرب الذين كانوا يظنون أن للأصنام قدرةً على الشفاعة، وتقرّبهم إلى الله زلفى، وقد وصفهم الله بالمشركين رغم أنّهم لم ينسبوا إليها خلق العالم، إذ يكفي أنّهم يقولون بأنها تشارك الله في إدارة الكون، والتدخل في معارضة القوانين الإلهية.
إن هذا القسم من الشفاعة المنحرفة مرفوض لا يقول به أحد، وهو يؤدي إلى الشرك في الربوبية والتدبير الإلهي، وهذا القسم يتنافى مع القانون ولا يمكن تعقّله في حقّ القانون الإلهي.

القسم الثاني: الشفاعة المقبولة:

وهي الشفاعة التي لا تتنافى مع القانون، بل تحفظه، وتقيم حدوده. وهناك الكثير من الروايات من طريق أهل البيت عليهم السلام ومن طريق أهل السنة تثبت هذه الشفاعة الصحيحة، وهي على نوعين:
1ـ شفاعة (العمل) أو شفاعة (القيادة).
2ـ شفاعة (المغفرة) أو شفاعة (الفضل)

النوع الأول: شفاعة القيادة:

فهو الموجب للنجاة من العذاب ونيل الحسنات وعلوّ الدرجات، وتوضيح هذا النوع:
قد تقدّم في بحث سابق- عند الحديث عن العذاب الأخروي- أنّ الأعمال التي يقوم بها الإنسان تتجسد في الآخرة، أي أنّ حقيقة العمل تظهر للعيان، ونضيف هنا أنّ التجسّم لا يقتصر على العمل، بل العلاقة المعنوية بين الناس في هذه الدنيا تتحوّل في الآخرة إلى صورةٍ واقعيةٍ أيضاً.
وعليه فإذا كان إنسانٌ ما سبباً لهداية شخصٍ آخر، فإنّ رابطة الهداية هذه تتحوّل يوم القيامة إلى صورةٍ يكون فيها الهادي بصورة القدوة، قال تعالى: ﴿يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ﴾(7)، أي أنّ كلّ إنسان يحشر مع قدوته الذي كان سبب هدايته في العمل، ومن هنا تسمية هذه الشفاعة بشفاعة العمل، لأن العمل هو العامل الأساس الذي يوجب النجاح أو الخيبة، ويمكن تسميتها بشفاعة القيادة، لأن كلّ أمة تأتي ويقدمها قائدها وإمامها الذي تتبعه.
كما ويحدث هذا الأمر أيضاً في الجهة الأخرى، أي في حالة الضلال والإضلال، كما يقول تعالى في شأن فرعون: ﴿يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ﴾(8)، هكذا يظهر فرعون بصورة شفيع وواسطة لقومه الذين اتبعوه خطوةً خطوة ليدخلهم إلى جهنم.
فالشفاعة في معناها الأول تعني القيادة، ويكون الرسول حينها شفيعاً لأمير المؤمنين عليه السلام ولفاطمة عليها السلام، وهما شفيعين للحسنين عليهما السلام وكل إمام شفيعاً للإمام الآخر، وكذلك العلماء هم شفعاء لمن يهتدي بهم.
بناءً عليه، فإنّ ما ورد من روايات أن الإمام الحسين عليه السلام سيشفع لكثير من الناس يكون تفسيره أنّ المدرسة الفكرية للإمام الحسين عليه السلام هي السبب في إحياء الدين وهداية كثير من الناس في هذه الدنيا للعمل على نهجه وخطه، فيكون شفيعاً بهذا المعنى وقائداً لهم يوم القيامة، نعم للحسين عليه السلام شفاعة أخرى وهي:

النوع الثاني: شفاعة المغفرة:

ويقصد منها الشفاعة لأجل غفران الذنوب. والشفاعة بهذا المعنى هي التي أصبحت هدفاً للمنتقدين، وهي محلّ النزاع والخلاف بين مذهب أهل البيت عليهم السلام ومنكري الشفاعة.
ويتوقّف ردّ الإنتقادات المطروحة حول النوع الثاني من الشفاعة، أي شفاعة المغفرة، على بيان أمور:

غلبة الرحمة في نظام الكون:

إنّ لصفة الرحمانية السبق في الصفات الإلهية، فقد ورد في بعض الأدعية: (يا من سبقت رحمته غضبه)، فالرحمة والسعادة هما الواقع الحقيقي في نظام الوجود، وما عداهما من كفرٍ وفسقٍ وفجورٍ أمورٌ عارضةٌ غير أصيلة، ولذا فهذه الأمور سوف تنزوي بسبب جاذبيّةِ الرحمة. وليس الإمداد الغيبي والتأييدات الرحمانية إلا شواهد قاطعة على أسبقية الرحمة وغلبتها على الغضب الإلهي، وتتجلّى هذه الصفة العامة من خلال عدّة أصول حاكمة في نظام الكون:

أصل التطهير:

من مظاهر رحمة الله وجود التطهير في نظام الوجود، والتطهير في الكون يشمل عالمين:
1ـ عالم الطبيعة والمادة: ومن مظاهر ذلك إمتصاص النباتات والبحار لغاز ثاني أكسيد الكربون من الجوّ لتصفيته، ولو تلوّث الجوّ ولم يكن ثمّة مصفاة أو مطهّر لفقدت الأرض صلاحيتها للحياة قاطبةً.
2ـ عالم المعنويات: والمغفرة هي عبارة عن تطهير القلوب والأرواح من آثار الذنوب، طالما هي تقدر على إزالة وغسل درن الذنوب، وإلا فإن بعض القلوب قد صدىء ولا تقدر المغفرة على أن تؤثر فيه لانعدام قابليته للتطهير وللتأثُّر، ولذا يعبر القرآن عن بعض الحالات بالختم، قال تعالى: ﴿خَتَمَ الله عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾(8).

أصل السلامة:

إنّ من شواهد غلبة الرحمة على الغضب في نظام الكون، هو أن السلامة والصحة هي الأصل دائماً في الكون، وهذا الأمر نلاحظه في العالمين أيضاً:
1- في عالم المادة: فنجد أن المرض هو الحالة الطارئة والتي تأتي ثم تزول، وكذلك نلاحظ خصوصيةً في جسم الإنسان وهي قابليّته لترميم العظام فيما لو حصل كسرٌ ما، ووجود جهاز المناعة في الجسم من أي عنصر أو عامل غريب يدخل إلى الجسم.
2- وأمّا في عالم المعنويات: فتنصّ الروايات على كون الأصل في الإنسان هو السير في طريق الخير والهدى، ففي الحديث: (كل مولود يولد على الفطرة حتى يكون أبواه يهوّدانه أو ينصّرانه)(10).

أصل شموليّة الرحمة:

إن المغفرة ليست ظاهرة إستثنائية، وإنما هي قانون كليّ مستنتج من غلبة الرحمة في نظام الوجود. فالرحمة الإلهية تشمل جميع الموجودات في الكون في حدود قابلياتها. ونحن نشاهد أن أقرب الناس إلى الله، أي الأنبياء والأئمة عليهم السلام، يطلبون من الله أن يرحمهم برحمته، وهذا يشهد على شمول أصل الرحمة وعموميته، كلّما كان الإنسان أقرب إليه تعالى كانت قابليته وقدرته على الاستفادة من أصل الرحمة أكبر وأكثر، ويستضيء بنور الرحمة وأسماء الله الحسنى وصفاته الكمالية بشكل أفضل.

علاقة المغفرة بالشفاعة:

من خلال ما تقدّم يمكن أن نستنتج التالي: إن الرحمة والمغفرة هي من القوانين الإلهية في هذا الكون، وهنا نقول إن هذه الرحمة الإلهية لا بدّ أن تصل إلى المخطئين والمذنبين، لكن ينبغي أن يكون للرحمة قانون وسبيل تسير عليه.وبضمّ ما تقدم منا في أبحاث سابقة من أن التفاوت والإختلاف في هذا العالم ذاتي لا اعتباري، وأنه لا بدّ منه في هذا الكون، نفهم قانون هذه الرحمة، وأنها تشمل المذنبين والمخطئين لكن ليس مباشرةً، وإنما بعد أن تمرّ بالأنبياء والأولياء وأصحاب الأرواح الكبيرة، وهذا أمر من لوازم وجودِ نظامٍ في هذا الكون.
ويمكن توضيحه بملاحظة مسألة الوحي والنبوّة، فإنّ إرسال الله للرسل هو من مظاهر الرحمة الإلهية، ولكن لا يمكن أن يكون الناس كلّهم أنبياء، فلا بد من وجود خاصة من الناس يكونون هم الواسطة في نزول الرحمة الإلهية بالوحي، فكذلك الرحمة والمغفرة الإلهية لا بدّ وأن تتمّ عبر واسطة، لأن هذا ما يفرضه نظام الكون، فالشفاعة إذاً هي إحدى مظاهر الرحمة الإلهية، وهي رحمة إلهية تتمّ بواسطة شفعاء هيّأهم الله لما لهم من صفات الكمال، وهم الأنبياء والأئمة عليهم السلام.
فالمغفرة هي الشفاعة مع فارقٍ في التسمية لجهة النسبة فقط، فإنها إذا نُسبت إلى منبع الخير والرحمة سمّيت (بالمغفرة)، وإذا نسبت إلى وسائط الرحمة سمّيت (بالشفاعة).

النتيجة:

يظهر مما تقدّم الفرق بين الشفاعة المقبولة والشفاعة المرفوضة، فالشفاعة المقبولة تبدأ من الله لتصل إلى المذنب، وأما الشفاعة المرفوضة فهي على العكس، ذلك أن المجرم هو الذي يدفع الشفيع للشفاعة، وهذا ما نجده في القوانين الضعيفة في هذه الدنيا، حيث يقع الشفيع تحت تأثير المشفوع له (المذنب) لسبب من الأسباب التي ذكرناها.

من هو الشفيع والوسيلة؟

التوسّل لا بدّ أن يكون بمن جعله الله وسيلة لذلك، قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا الله وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾(11).
لقد جعل الله في هذا العالم لكل شيء سبباً، ولا بد للتوصل إلى المسبَّب من المرور عبر السبب الخاص به. وفي حياتنا المادية نتوسّل بالأسباب الظاهرية لتوصلنا إلى مطلوبنا، وكذلك الحال بالنسبة للأمور الأخروية والمعنوية، فإنه لا بدّ أن نتوسّل بأسبابها لكي توصلنا لنيل الرحمة الإلهية. وهذه الأسباب إنما نعرفها بالرجوع إلى الكتاب والسنّة، وهذا عين التوحيد، ولا يعدّ شركاً أبداً، لأن الله هو الذي جعل هذه الأمور أسباباً، وهو الذي أمرنا بالرجوع إليها، والرجوع إليها ليس إلا إنصياعاً لأوامره تعالى وليست من الشرك في شيء.
ولذا ينبغي الالتفات إلى أن لا يكون التوجّه الأساسيّ إلى نفس هذه الوسائل بل إلى الله حتى لا نقع في الشرك في العبادة.
وينبّه القرآن الكريم إلى هذا الأمر فيطلب من المسلمين أن يسألوا المغفرة من الله ثم من الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، قال تعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ الله وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا الله وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا الله تَوَّاباً رَحِيماً﴾(12).
فالشفاعة من الله، وبإذن الله، ومن الأسباب التي جعلها الله في عالم المعنويات، فالتمسك بها لا يكون إبطالاً للقوانين الإلهية وإنما هو عمل بها، ولا يكون رداً على الله وإنما هو إطاعة له، ولا تكون نافية لإرادته لأن إرادته بالرجوع إلى الشفيع الذي هو جعله وأبرز مقامه لسعة وعلوّ روحه.

إعتراضات على الشفاعة:

وبعد أن أنهينا البحث عن الشفاعة لا بأس بالتعرّض للشبهات التي تطرح هنا وهناك وتوجّه إلى القائلين بالشفاعة، لنرى أنّ بعض هذه الاعتراضات ناشئ من عدم فهم حقيقة الشفاعة، والبعض الآخر أصبح الردّ عليه واضحاً ممّا تقدم:
الأول: إنّ الشفاعة تتنافى مع التوحيد في العبادة، والاعتقاد بها نوع من أنواع الشرك.
الثاني: إن القول بالشفاعة يتنافى مع التوحيد الذاتي لأنه يلزم منه أن يكون الشفيع أكثر رحمةً ورأفةً من الله، إذ لولا الشفيع لعذّب الله المذنب.
وجوابهما: إن الشفاعة لا تتنافى مع التوحيد في العبادة ولا التوحيد الذاتي أبداً، لأنّها بإذن الله ولمن ارتضى الله قولَه، لا أنها مستقلّة عنها أو في عرضها وجانبها، كما أنّ رحمة الشفيع أشعة من الرحمة الإلهيّة، فهي منبعثة منها فلا تكون أكبر من رحمة الله.
الثالث: إن الاعتقاد بالشفاعة يدفع النفوس المريضة إلى التجرّي وإرتكاب الذنوب.
والجواب: إنّ هذه النتيجة لا يصحّ إستنباطها وفهمها من الاعتقاد بالشفاعة، فهي لا تدفع الإنسان نحو التجرّي، لأنّ بعض شروطها بقي طيّ الكتمان، فلا يعلم الإنسان المذنب هل حقق شروط الشفاعة أم لا؟
نعم هي تحيي الأمل لديه في نيل الرحمة الإلهية، ويكون أثر الشفاعة إنقاذ النفوس من اليأس، فيحيا متأرجحاً بين الخوف والرجاء، وهذا هو المطلوب من الشفاعة ومن الإنسان المؤمن. إضافة إلى أن حال الشفاعة حال التوبة فكما أن التوبة في الحياة الدنيا ولو آخر العمر لا تستلزم الجرأة على الذنوب فكذلك الشفاعة.
الرابع: لقد نفى القرآن الشفاعة يوم القيامة إذ يقول: ﴿وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً وَلا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ﴾(13).
والجواب: إن الآيات التي وردت في الشفاعة على نوعين، مثبتة ونافية. وقد ذكرنا- تحت عنوان العقل والقرآن والروايات- آياتٍ قرآنيةً تثبت الشفاعة لبعض الناس الذين يتحلّون بصفات معيّنة ذكرتها الآيات. وهذه الشفاعة لله سبحانه أعطاها لبعض عباده. وأما الآيات النافية فقد أرادت أن تنفي الشفاعة الباطلة لا الشفاعة الحقّة.
الخامس: تتنافى الشفاعة مع ما أسّسه القرآن من أن سعادة كلّ امرئ مرهونة بعمله، إذ يقول سبحانه: ﴿وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى﴾(14).
والجواب: هذه الآية وإن كان ظاهرها الحصر إلا أنه توجد في مقابلها آيات الشفاعة بحيث لا بد من الجمع بينهما، وتكون النتيجة أن العمل جزء العلة، وبذلك يتبين أنه (لا تتنافى الشفاعة مع العمل، لأن العمل هو جزء العلّة المنفعلة القابلة، ورحمة الله جزء العلّة الفاعلة)، وبتعبير آخر: إنّ الإنسان مرهون بعمله، لكن ليس العمل علة تامة لدخول الجنة، وإنما العمل جزء العلة التي تؤثر في دخول الجنة، فهو بحاجة أيضاً إلى الرحمة الإلهية فهي العلة المؤثرة والأساس، ومن مظاهر رحمة الله وممّا يصدر عنها الشفاعة التي تحدّثنا عنها.
كما أن الشفاعة لا بد لها من سعي كما تقدم في شروط الشفاعة فتندرج ضمن السعي المذكور في الآية.
السادس: إن لازم الاعتقاد بالشفاعة وقوع الله تحت تأثير الشفيع، فيحوّل غضبه سبحانه إلى رحمة، مع أن الله لا ينفعل ولا يتغيّر حاله، ولا يؤثر فيه شيء.
والجواب: لا يقع الله تحت تأثير أحد في الشفاعة، بل الشفاعة تبدأ من الله لتصل إلى الإنسان، والله هو الذي جعل الشفيع شفيعاً، وهو لا يثبت الشفاعة إلا لمن يرتضي قوله، أو يقول صدقاً، أو حقاً.
السابع: إن الشفاعة لون من ألوان إقرار الترجيح والإستثناء واللاعدالة، فممّا لا شك فيه أنّ الشفاعة لا تشمل جميع المذنبين، وإلا فقدت معناها، فكيف يمكن تقسيم المجرمين إلى قسمين: فئة تنجو من العقاب لأنها تملك الواسطة والوسيلة، وأخرى تقع تحت طائلة العقاب لأنها لا واسطة لديها تشفع لها؟! وكيف يمكننا تصور هذا مع العدل الإلهي؟! ويمكن صياغة هذا الإعتراض بطريقة علميّة: إن سنّة الله كلية لا تبديل فيها، والقوانين الكلية ترفض الإستثناء، وليست الشفاعة إلا إستثناء من قوانين الله.
والجواب: لا إستثناء في الرحمة الإلهية، وإنّما الشفاعة لا تنال بعض الناس لأنه لا قابلية له لنيل الشفاعة الإلهية، فيما تنال آخرين لأنهم حققوا شروطها، ولا سيما الشرط الأساس وهو الإيمان بالله سبحانه وتعالى. فالشفاعة تسير ضمن القوانين الإلهية ومعها، بل هي من قوانين الرحمة الإلهية العامة والشاملة، ولكن لها شروطها وضوابطها، فمن يحقق الشروط ينالها ومن لا يحققها يحرم منها لقصور فيه لا لضعف في القانون أو لإستثناء في القانون.
الثامن: لماذا جعل الله بعض الناس شفعاء، وآخرين مشفوعاً لهم؟ أليس هذا ترجيحاً في نظام الكون؟!
والجواب: نعم هذا ترجيح في نظام الكون، ولكنه ضروري وذاتي، إذ لا بد من هذا الترجيح، وبما أنه كذلك فالذي يتحلى بصفات سامية وروح عالية يستحق أن يكون شفيعاً، ومن لا يحمل هذه الروح وتلك الصفات إما أن يحقق شروط الشفاعة فيشفع له، وإما أن لا يحققها فلا يستحق الشفاعة وليس عنده القابلية لها.

خلاصة

الشفاعة على نحوين:

أ- الشفاعة المرفوضة: والتي تعني أن يجد المجرم وسيلة يحول من خلالها دون تطبيق الحكم الإلهي.
ب- الشفاعة المقبولة وهي:
1- إما شفاعة العمل والتي تعني أن الهداية التي تتحقق من قبل الإمام تظهر يوم القيامة، كما أن الضلال الذي يتحقق من أهل الباطل يتجسّم يوم القيامة.
2- وإما شفاعة المغفرة من الذنوب، وتبتنى على أساس الرحمة الإلهية التي هي من القوانين الحاكمة في هذا الكون، فهذه الرحمة إن نُسبت إلى الله سميت مغفرة وإن نُسبت إلى أهل الشفاعة سميت شفاعة.
3- إن السبب في حرمان بعض الناس من المغفرة الإلهية هو عدم وجود قابلية لهم لذلك.
4- إن التوسل لا بد وأن يكون بمن جعله الله وسيلة لذلك، ولذا لا يكون التوسل شركاً لأنه من التمسك بالأسباب الإلهية.
المصادر :
1- مريم: 87.
2- طه:109.
3- سبأ: 23.
4- الزخرف: 86.
5- البقرة: 48
6- نهج البلاغة: الرسالة 41
7- الإسراء: 71
8- هود:98
9- البقرة: 7
10- بحار الأنوار، ج 2 ص 88
11- المائدة: 35
12- النساء: 64
13- البقرة: 48
14- النجم: 39

source : راسخون
0
0% (نفر 0)
 
نظر شما در مورد این مطلب ؟
 
امتیاز شما به این مطلب ؟
اشتراک گذاری در شبکه های اجتماعی:

آخر المقالات

صلاة ألف ركعة
العلاقة بين المصحف العلوي والقرآن المتداول اليوم
في رحاب نهج البلاغة – الأول
حد الفقر الذی یجوز معه اخذ الزکاة
ومن وصيّة له لولده الحسن (عليهما السلام): [يذكر ...
شبهات حول المهدي
الدفن في البقيع
ليلة القدر خصائصها وأسرارها
آداب الزوجین
مفاتيح الجنان(600_700)

 
user comment