عربي
Thursday 25th of April 2024
0
نفر 0

الجبر والتفویض

الجبر لغة: الإکراه والإرغام والقهر، واصطلاحاً: هو إکراه وإرغام من قبل الله سبحانه لعباده على فعل الأشیاء حسنة کانت أم قبیحة من دون أیة إرادة للرفض من قبل العباد.
أما التفویض لغةً: تقول تفویضاً إلیه الأمر أی صیره إلیه وجعله الحاکم فیه.
واصطلاحاً: إن الله تعالى جعل أفعال العباد حرةً مطلقة یفعلون ما یشاؤون دون أن تتدخل إرادة الله سبحانه فی أعمالهم الخیّرة أو الشریرة فهم مستقلون بالقرار والإرادة تماماً وعلى ضوء ما تقدم اختلفت المدارس الفکریة اثباتاً ونفیاً لأحد الجانبین فذهبت مدرسة الجبریة إلى أن الله سبحانه هو الخالق المدبر لهذا الکون فکل الأفعال مصدرها منه حیث أنه خلق کل الأشیاء الخیرة والشریرة وخلق الکفر والإیمان وکل مظاهر الحیاة ومنها أفعال العباد فلیس للعباد دور فی أعمالهم وإنما هی أعمال الله بکافة أنواعها.
وقدموا مجموعة استدلالات على مذهبهم هذا منها:
أ - إن الله یعلم بما کان وما سیکون من أفعال عباده وکل ما فی علمه سیقع حتماً وواقعاً فهو سبحانه یعلم بوجود الکفار سابقاً ولاحقاً فلابد إذن أن یقع الکفر ویستحیل على الکافر أن یغیّر نهجه إلى الإیمان لأن الفرض واقع فی علم الله وتغیّره یجعلنا نصفه سبحانه وتعالى بالجهل وهذا مستحیل.
ب - إن إرادة الله عز وجل هی الغالبة وإلیها ینتهی الأمر کله فلو أراد الله للإنسان الإیمان وأراد الإنسان لنفسه الکفر والضلال ففی مجال التحقیق لو انتصرت إرادة الإنسان الکافر فکفر هل نقول إن إرادة الله مغلوبة على أمرها؟ أم الأفضل أن نقول أن هذه الإرادة النابعة من الإنسان نحو کفره هی من عند الله فالله هو الغالب بإرادته والإنسان مجبر لتطبیق إرادة الله أی إن الإنسان مجبر على أفعاله ومضطر إلیها وبمعنى آخر إما أن نجرد الله من الإرادة الدائمة وإما أن تکون إرادته هی النافذة حتى لو سقطنا فی فخ عدم التنزیه. ومن هنا تفسّر بعض الآیات الکریمة على ظواهرها لیدعموا الفکرة الجبریة مثلاً قوله تعالى: (أَیْنَمَا تَکُونُوا یُدْرِککُّمُ الْمَوْتُ وَلَوْ کُنتُمْ فِی بُرُوجٍ مُّشَیَّدَةٍ وَإِن تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ یَقُولُوا هَٰذِهِ مِنْ عِندِ اللَّهِ وَإِن تُصِبْهُمْ سَیِّئَةٌ یَقُولُوا هَٰذِهِ مِنْ عِندِکَ قُلْ کُلٌّ مِّنْ عِندِ اللَّهِ فَمَالِ هَٰؤُلَاءِ الْقَوْمِ لَا یَکَادُونَ یَفْقَهُونَ حَدِیثًا) (1) وفی سورة إبراهیم، الآیة 4: (وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِیُبَیِّنَ لَهُمْ فَیُضِلُّ اللَّهُ مَن یَشَاءُ وَیَهْدِی مَن یَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِیزُ الْحَکِیمُ) (2).
فإذن الهدایة والضلالة والحسنات والسیئات کلها من عند الله سبحانه ، ولا دور للإنسان فی ذلک فقد قال سبحانه:
(وَلَا یَنفَعُکُمْ نُصْحِی إِنْ أَرَدتُّ أَنْ أَنصَحَ لَکُمْ إِن کَانَ اللَّهُ یُرِیدُ أَن یُغْوِیَکُمْ هُوَ رَبُّکُمْ وَإِلَیْهِ تُرْجَعُونَ) (3).
ومقابل مدرسة الجبریة هنالک مدرسة المفوضة التی تقول بالاختیار على عکس الجبر حیث أن الله سبحانه رفع الحظر عن الناس وترکهم فی مطلق الحریة فی أعمالهم خیراً أم شراً هذا الترک والتفویض للإنسان بعید عن إرادة الله المتمثلة فی سلطانه وأوامره ونواهیه. فالقرآن الکریم یقول: (ونفس وما سواها، فألهمها فجورها وتقواها، قد أفلح من زکّاها، وقد خاب من دساها) (4).
وقوله تعالى: (إِنَّا هَدَیْنَاهُ السَّبِیلَ إِمَّا شَاکِرًا وَإِمَّا کَفُورًا.)(5).
فالإنسان هو محور الإرادة فی تحقیق الخیر أو الشر.ومن الطبیعی أن أدلة المدرسة المفوّضة کانت ضعیفة وربما أضعف من أدلة المدرسة الجبریة. لذلک نلاحظ أن التفویض رأی باطل عقلاً وشرعاً.
أما عقلاً فلا یعدو الأمر بین ما یلی:
أ - إما أن الله سبحانه علم أن المخلوقات بإمکانها أن تدیر نفسها مستقلة تماماً وهذه الإرادة الذاتیة توصلها إلى الکمال المنشود، وهذا العلم المفترض لحدّ الآن لا نرى تصدیقه أو مصادیقه على الأرض فإما أن نقول إن افتراضنا باطل وهو الصحیح وإما أن نصفه سبحانه بالجهل - والعیاذ بالله - حیث یفوض الأمر لعباده المحتاجین لقوانینه فبالنتیجة نرى العکس حیث ندرک بالوجدان أن الإنسان بحاجة ماسة إلى أوامر الله ونواهیه دوماً ولا یستطیع أن یستغنی عنها أبداً.
ب - وإما أن نقول إنه سبحانه عاجز عن تدبیر أمورهم وإدارتهم لذلک فوّض الأمر لهم وهذا العجز لا یلیق بمقامه تعالى ولیس من صفات الأزلی - کما قلنا سابقاً -.
ج- المسلمون بالإجماع یؤمنون بان الرسالة الإسلامیة شاملة للنواهی والأوامر الإلهیة والله سبحانه طلب من العباد إطاعة أوامره وتطبیقها والابتعاد عن نواهیه وسیجزی العباد على أعمالهم قال سبحانه: (وسیجزی الله الشاکرین) (6).
(لئن شکرتم لأزیدنکم ولئن کفرتم إن عذابی لشدید) (7).
فإذن المسألة خالیة من التفویض المطلق للعباد.
لذلک حینما یسأل الحسن بن علی الوشا الإمام الرضا (علیه السلام): الله فوض الأمر إلى العباد فقال (علیه السلام): الله أعزّ من ذلک قلت: فأجبرهم على المعاصی. قال: الله أعدل واحکم من ذلک ثم قال: قال الله: (یا بن آدم أنا أولى بحسناتک منک وأنت أولى بسیئاتک منی عملت بالمعاصی بقوتی التی جعلتها فیک).
وعن أبی عبد الله الصادق (علیه السلام) یسأله أحد أصحابه بعد أن سمع لا جبر ولا تفویض ولکن أمر بین أمرین قال: وما أمر بین أمرین؟
قال (علیه السلام): (مثل ذلک مثل رجل رأیته على معصیة فنهیته فلم ینته فترکته ففعل تلک المعصیة فلیس حیث لم یقبل منک فترکته کنت الذی أمرته بالمعصیة) والإمام الرضا (علیه السلام) یقول: (... فإن ائتمر العباد بطاعته لم یکن الله عنها صاداً ولا منها مانعاً وإن ائتمروا بمعصیة الله فشاء أن یحول بینهم وبین ذلک فعل وإن لم یحل وفعلوه فلیس هو الذی أدخلهم فیه).
فلو أعطیت لإنسان سلاحاً یدافع عن نفسه وعلّمته الطریقة والهدف المطلوب فلو استعمله الإنسان فی قتل إخوانه المؤمنین فهل من العقل أن نقول إن سبب القتل هو الإنسان المعطی للسلاح أو المدرب له! ومثال أقرب لو أعطینا إنساناً مالاً لیستفید منه فی حیاته بینما یأخذه ویرمیه فی البحر ویموت جوعاً هل سبب الموت هو الباذل؟ ومما ینقل فی الروایات أن أبا حنیفة فی ذات یوم خرج من عند الإمام الصادق (علیه السلام) فاستقبله الإمام الکاظم (علیه السلام) فقال له: یا غلام ممن المعصیة؟ فقال (علیه السلام): (لا تخلو من ثلاث: إما أن تکون من الله عز وجل ولیست منه فلا ینبغی للکریم أن یعذب عبده بما لم یکتسبه. وإما أن تکون من الله عز وجل ومن العبد فلا ینبغی للشریک القوی أن یظلم الشریک الضعیف، وإما أن تکون من العبد وهی منه فإن عاقبه الله فبذنبه وإن عفا عنه فبکرمه ووجوده).
ومن هنا جاءت مدرسة أهل البیت (علیهم السلام) لتبین الحق وتبرزه إلى الساحة بدعم الآیات القرآنیة المجیدة ولتزیل الإبهام وترفع الشبهات عن الطریق مستندة إلى الشرع والعقل فقد قال الإمام الصادق (علیه السلام) للرد على المدرستین المذکورتین:
(لا جبر ولا تفویض ولکن أمر بین أمرین).
وقال الشیخ المفید فی توضیح حدیث الإمام (علیه السلام): (إن الله تعالى مکن الخلق من أعمالهم وأفعالهم ووضع لهم حدوداً فیها وأمرهم بحسنها ونهاهم عن قبیحها فلم یکن بتمکینهم إیاها مجبراً لهم علیها ولم یفوض إلیهم الأعمال لمنعهم من أکثرها).
فالله سبحانه بیّن حدوده الشرعیة أوامره ونواهیه وزوّدهم بإرادة خاصة تمکنهم من فعل الشیء أو ترکه وجعل أمر الاختیار بید الإنسان لیختار ریقه بملء إرادته وهذا لا یعنی الجبر من ناحیة ولا التفویض من ناحیة أخرى وسیأتی البحث عن اللطف الإلهی والتوفیق الإلهی وکیف أن إرادة الإنسان مهما بلغت فهی محاطة بإرادة الله سبحانه فبإمکانه عز وجل أن یقطع عمر الإنسان الذی ینوی أن یفعل شیئاً وینهی إرادة الإنسان أیضا فإذن هذه الإرادة الإنسانیة هی قوة یمنحها الله الخالق للإنسان کموهبة العقل ونعمة العین فبإمکانه تعالى أن یسلب عقل الإنسان فیصیر مجنوناً أو یخلقه وهو أعمى فالمسألة الاختیاریة النابعة من إرادة الإنسان إنما هی تحت الإرادة الإلهیة المطلقة التی تستعمل صلاحیاتها الکبرى متى شاءت.
فالإنسان مختار فی حدود معینة ولله سبحانه سلب هذه القدرة من الإنسان، وأتذکر ههنا کلمة للأمام علی (علیه السلام) حیث یقول: (عرفت الله سبحانه بفسخ العزائم وحل العقود ونقض الهمم)(8).
واستدل مذهب أهل البیت بالآیات القرآنیة الکریمة منها: فی سورة الإنسان، الآیة 3، (إنا هدینا السبیل إما شاکراً وإما کفوراً) وفی سورة الکهف: (وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّکُمْ فَمَن شَاءَ فَلْیُؤْمِن وَمَن شَاءَ فَلْیَکْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِینَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِن یَسْتَغِیثُوا یُغَاثُوا بِمَاءٍ کَالْمُهْلِ یَشْوِی الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا) (9) وردّوا على تفسیر تلک الآیات الکریمة التی اعتبرها المجبرون أدلة قاطعة لهم والحال إنها لیست أدلة لهم بل علیهم. وبالإضافة لما سبق فإن مدرسة أهل البیت اعتمدت کما قلنا على الشرع والعقل.
فأثبت الاختیار ودفعت الجبر والتفویض جانباً ومن أهم الأدلة على ذلک ما یلی:
أ - القضیة الوجدانیة وخلاصتها أن یسأل الإنسان نفسه هل أنه مجبر على فعل معین من أکل وشرب وسفر وما شابه؟ هل إنه مجبر للحضور فی الاحتفال مثلاً أو تناول طعام معین؟ ففی الحقیقة إن الإنسان یمتلک الحریة المطلقة فی الاختیار وکما قلت تحت إشراف الإرادة الإلهیة قطعاً.
ب - حینما نؤمن بان الله عادل فهل من العدل أن یجبر عباده على المعاصی ویعاقبهم علیها کیف نتصور ذلک فقد قال الإمام الصادق (علیه السلام): (إن الناس فی القدر على ثلاث أوجه: رجل یزعم أن الله عز وجل أجبر الناس على المعاصی فهذا قد ظلم الله فی حکمه فهو کافر ورجل یزعم أن الأمر مفوّض إلیه فهذا قد وهب الله فی سلطانه).
وعلى هذا فقد أساءت المدرسة الجبریة لله وبظنها أنها تدافع عنه سبحانه فبدلاً من أن تجعله عادلاً جعلته أظلم الظالمین للإنسان حیث یجبر الإنسان على المنکر دون قدرةٍ منه على دفع ذلک ومن یعاقب المسیء المجبور؟
ج - لو کان الأمر کما یذهب المجبرة لبطل التشریع الإلهی من أساسه فما دام الإنسان مکره على أفعاله فمن الخطأ تکلیفه بأوامر ونواهٍ وما إرسال الرسل وإنزال الکتب إلا أعمال عبثیة لا جدوى من ورائها - والعیاذ بالله -.
د - لو ماشینا الجبریة لخرجنا ببطلان الحساب والعقاب فی النعیم أو العذاب وذلک لأن الشاکر والکافر بدرجة واحدة حیث أنهما مجبران على الطاعة أو الجحود فإما کلاهما إلى الجنة وإما کلاهما إلى النار لأنها لا دور لأحدهما فی أعماله وتصرفاته ما دامت القدرة الذاتیة مسلوبة فی اختیار الأعمال.
هـ - ما دام الإنسان مسیّر وإن أفعاله التی یؤدیها هی أفعال غیره وإرادة غیره بقرارات غیره وهو الله سبحانه - حسب الفرض - فلا داعی إذن لمعاقبته فی الشریعة الإسلامیة فی الدنیا والآخرة فالزانی والسارق والقاتل کلهم أدّوا هذه الجرائم کممثلین على المسرح مجبرین أداء هذه الأدوار المحددة لهم. فمن المعیب بل ومن الظلم أن نسن لهم تشریع العقوبة فی قطع ید السارق أو جلد الزانی وغیرهما، التی نراها فی القرآن الکریم.
و - أما أدلة المجبرة (الماضیة) من أن إرادة الکافر لو غلبت لم نستطع أن نقول بغلبتها وإنما نعطی الغلبة لله وإن کانت النتیجة قبیحة وهذا الکلام ساذج حیث أنهم أرادوا الدفاع عن قدرة الله وضعوه فی قفص الاتهام بعنوان الظالم المطلق - نستغفره تعالى - أو أن ما فی علم الله لابد أن یتحقق فی الخارج شراً أو خیراً فالکافر لابد أن یظهر فی المیدان عملیاً کحقیقةٍ خارجیة مصدقة لعلم الله ونفی هذا التصدیق العملی جهل من قبل الله وهکذا.. والحق إن الأمر واضح والردّ على ذلک واضح أیضا حیث أن العلم بالشیء لا ینفی ما عداه والعلم بالشیء لا یعنی أنه هو الفاعل فالعالم بأوقات الخسوف والکسوف والتقلبات الجویة ودرجات الحرارة هل نعتبره أنه هو فاعلها؟ ولیس من عاقل یقول هذا.
وأما الآیات الکریمة التی یظهر منها ما یستفیده المجبرة. ففی الحقیقة هنالک آیات کریمة اکثر ظهوراً منها تفید العکس مثلاً یقول فی سورة شمس الآیات 7-10 (ونفس وما سواها، فألهمها فجورها وتقواها، قد أفلح من زکاها، وقد خاب من دساها).
فیجعل الله للإنسان وحده حق تقریر مصیره (قد أفلح من زکّاها...) سئل أحد الأصحاب الإمام الرضا (علیه السلام) الله فوّض الأمر إلى العباد؟ قال الإمام: (... قال الله عز وجل یا بن آدم أنا أولى بحسناتک منک وأنت أولى بسیئاتک منی عملت المعاصی بقوتی التی جعلتها فیک) فیضع الأمر بید الإنسان نفسه، وآیات کریمة مضت منها سورة الإنسان الآیة 3(إنا هدیناه السبیل إما شاکراً وإما کفوراً). وغیرها من الآیات والروایات. وأما الآیات التی یشم منها ظاهراً تأیید رأی المجبرة کما فی سورة النساء (أَیْنَمَا تَکُونُوا یُدْرِککُّمُ الْمَوْتُ وَلَوْ کُنتُمْ فِی بُرُوجٍ مُّشَیَّدَةٍ وَإِن تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ یَقُولُوا هَٰذِهِ مِنْ عِندِ اللَّهِ وَإِن تُصِبْهُمْ سَیِّئَةٌ یَقُولُوا هَٰذِهِ مِنْ عِندِکَ قُلْ کُلٌّ مِّنْ عِندِ اللَّهِ فَمَالِ هَٰؤُلَاءِ الْقَوْمِ لَا یَکَادُونَ یَفْقَهُونَ حَدِیثًا) (10).
فالحسنة فی اللغة العربیة لها معانٍ عدیدة منها الرحمة والخیر والنعمة کما للسیئة معان عدیدة منها المصیبة والحدث المؤلم ونقص بالأموال والأنفس. وهکذا ورد فی المصحف المبارک قوله تعالى:
(إِن تَمْسَسْکُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِن تُصِبْکُمْ سَیِّئَةٌ یَفْرَحُوا بِهَا وَإِن تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا یَضُرُّکُمْ کَیْدُهُمْ شَیْئًا إِنَّ اللَّهَ بِمَا یَعْمَلُونَ مُحِیطٌ). (11)
فالحسنة هنا بمعنى الرحمة والبرکة، أما السیئة فهی تعنی المصیبة والکارثة، وفی قوله تعالى: (فَإِذَا جَاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قَالُوا لَنَا هَٰذِهِ وَإِن تُصِبْهُمْ سَیِّئَةٌ یَطَّیَّرُوا بِمُوسَىٰ وَمَن مَّعَهُ أَلَا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِندَ اللَّهِ وَلَٰکِنَّ أَکْثَرَهُمْ لَا یَعْلَمُونَ ) (12) فالحسنة بمعنى النعمة والبرکة والسیئة بمعنى المصیبة والعذاب. فإذن لیست الحسنة بمعنى الطاعة والالتزام دائماً وکذلک السیئة لیست بمعنى الکفر والعصیان دوماً بل لهما معانٍ أخرى - کما مر - وفی سورة إبراهیم: (الله الذی له ما فی السماوات وما فی الأرض وویل للکافرین من عذاب شدید، الذین یستحبون الحیاة الدنیا على الآخرة ویصدون عن سبیل الله ویبغونها عوجاً أولئک فی ضلال بعید، وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه لیبین لهم فیضل الله من یشاء ویهدی من یشاء وهو العزیز الحکیم) (13).
فذهبت مدرسة المجبرة إلى أن الله تعالى یضل العباد بفعله ویهدیهم بفعله کذلک ویستنتجون من هذا التفسیر بأن الإنسان مجبر على أفعاله حسنة وقبیحة فإنها من الله وبأمره وکما مضى فی الآیة السابقة إن اللغة العربیة واسعة المفاهیم دقیقة الأوصاف فالهدى والضلال کلمتان متقابلتان وردتا فی القرآن الکریم کذلک بمعان عدیدة منها: تأتی کلمة الهدى بمعنى الإرشاد کقوله تعالى (اهدنا الصراط المستقیم) أی ارشدنا وتأتی کلمة الضلال بمعنى التیه والضیاع کقوله تعالى: (...غیر المغضوب علیهم ولا الضالین) فی سورة الحمد أی بمعنى التائهین، وتأتی کلمة الهدى بمعنى الزیادة فی البرکات والألطاف کقوله تعالى:
(والذین اهتدوا زادهم هدىً وآتاهم تقواهم) . (14) بینما تأتی کلمة الضلال بمعنى الموت کقوله تعالى: (وقالوا أإذا ضللنا فی الأرض أإنا لفی خلق جدید). (15) أی لو متنا سنبعث من جدید بعد الموت، وتأتی کلمة الهدى بمعنى الثواب کقوله تعالى:
(إن الذین آمنوا وعملوا الصالحات یهدیهم ربهم بإیمانهم تجری من تحتهم الأنهار) (16). أی یثیبهم ویجزیهم الجنة.
وتأتی کلمة الضلالة بمعنى العذاب کقوله تعالى فی سورة القمر: (إن المجرمین فی ضلالٍ وسعر) (17) أی فی عذاب وسعیر، والمعنى المعروف لکلمة الضلال هو معصیة الله والخروج عن الطریق المستقیم على عکس الهدى فتعنی إطاعة الله والاستقامة على الطریق السوی.
وبعد هذه المقدمة اللغویة نعود للآیات الکریمة الثلاث من سورة إبراهیم، فالمجبرة قالت إنها تدل على أن فعل الضلال والهدى من قبل الله تعالى فالإنسان مضطر فی أعماله وتصرفاته ومجبر علیها خیراً أو شراً بدلیل الآیات هذه وغیرها على نفس الطریقة الاستنتاجیة والحق إن هذه الآیات لا تدل على الجبر فی أفعال العباد حیث سیاقها یشیر إلى أن إرادة الإنسان هی التی تقر مسیرته فی الحیاة فالناس الذین یحبون الحیاة الدنیا ویفضلونها على الآخرة بل والذین یقفون أمام الحق وینهجون نهجاً غیر مستقیم هؤلاء قد ترکوا الرسالة التی جاءتهم بلسانهم ووضحت لهم سبل الخیر والصلاح وحذرتهم من الشر والفساد.
فمن خلال المعنى العام للآیات الثلاث نستدل على الاختیار لدى الإنسان فی تحدید سلوکه وتصرفاته ونرى أن معنى الضلال فی الآیة الرابعة هو العذاب ومعنى الهدى هو الثواب وقد مرّ بالمقدمة إن من معانی الهدى والضلال ذلک فیصیر المعنى فیعذب الله من کفر ویثیب من آمن واطاع ولذا نرى نهایة الآیة الرابعة (وهو العزیز الحکیم) فمن الحکمة الإلهیة أن یبین الطریق المستقیم والطریق المنحرف ویترک الأمر للإنسان کی یختار بإرادته. لتثبت حکمته تعالى فی الأمر بطاعته والنهی عن معصیته ومن ثم یثیب المطیع ویهلک المعاصی أما لو کان الله یکرههم على الأفعال والمعاصی فلیس من الحکمة إذن إرسال الرسل وإصدار الأوامر والنواهی لمن یکون مسلوب الإرادة.. وهکذا الآیات الأخرى التی یستدل بها الجبریون على دعواهم فی سلب الاختیار والإرادة من الإنسان فالإنسان یفعل الخیر أو الشر لا بإرادته الخاصة وإنما بفعل الله وقدرته فالإنسان آلة تنفیذیة تفعل دون قرارها وإنما قرارها هو قرار الله خیراً أو شراً - والعیاذ بالله - واحتجاجهم فی ذلک واهٍ جداً وعلى غرار ما تقدم تنهار کل استدلالاتهم من القرآن الکریم والسنة الشریفة بل تنقلب علیهم خاصة حینما نقرأ الآیات الظاهرة على اختیار الإنسان لسلوکه وأعماله والنافیة للجبر والاضطرار فمن الآیات هذه: قوله سبحانه وتعالى:
(من عمل صالحاً فلنفسه ومن أساء فعلیها وما ربک بظلام للعبید). (18)
(فویل للذین یکتبون الکتاب بأیدیهم ثم یقولون هذا من عند الله لیشتروا به ثمناً قلیلاً فویل لهم مما کتبت أیدیهم وویل لهم مما یکسبون).(19)
(کل نفس بما کسبت رهینة) (20)
(فمن شاء فلیؤمن ومن یشاء فلیکفر إنا أعتدنا للظالمین ناراً). (21)
(سارعوا إلى مغفرةٍ من ربکم...). (22)
(ما سلککم فی سقر، قالوا لم نک من المصلین). (23)

وأمثال هذه الآیات المبارکة فإنها تدل على حریة الإنسان فی اختیار أعماله وسلوکه وهو الذی یقرر مصیره یوم الحساب.
وبالنتیجة نفهم أن مدرسة أهل البیت هی التی أعطت المعنى الحقیقی المتزن بین الجبر والاختیار فی نظریة الوسط الإسلامی بین الإفراط والتفریط فللإنسان إرادته وحریته ولکن الإرادة الکبرى هی بید الله عز وجل وکمثالٍ توضیحی للتقریب - القوة الکهربائیة - فنحن أحرار فی تصرفنا بالقوة الکهربائیة داخل البیت فنستخدمها للسخان تارة وللبراد والثلاجة تارة أخرى ونشعل الضیاء الکبیر أو الصغیر بحریة تامة ولکن أمر الطاقة الکهربائیة الرئیس بید دائرة الکهرباء فمتى ما شاءت تطفئ الطاقة الکهربائیة أو تشعلها فإرادتنا داخل البیت محکومة بإرادة الدائرة الرئیسیة الموزعة للطاقة الکهربائیة وبمعنى آخر إن حریتنا مطلقة نسبیاً فی داخل البیت وهکذا نفهم الأمر بین الجبر والتفویض.
فالله سبحانه بیده القدرة الکبرى ومنح للإنسان حریة ضمن دائرة معینة فإن أراد الله تعطیل حرکة الإنسان فی سلب حریته لفعل ذلک متى شاء.
المصادر :
1- سورة النساء/ 78
2- إبراهیم/ 4
3- سورة هود: الآیة 34
4- سورة الشمس، الآیات 7-10
5- سورة الإنسان، الآیة 3
6- سورة آل عمران: الآیة 144
7- سورة إبراهیم: الآیة 7
8- المعجم المفهرس لألفاظ نهج البلاغة ص115، طبع قم، 1406هـ.
9- سورة الکهف، آیة 29
10- سورة النساء/ 78
11- سورة آل عمران، الآیة 120
12- فی سورة الأعراف، الآیة 131
13- وفی سورة إبراهیم، الآیات 2-4
14- سورة محمد، الآیة 17
15- سورة السجدة، الآیة 10
16- سورة یونس، الآیة 9
17- سورة القمر، الآیة 47:
18- سورة فصلت، الآیة 46
19- سورة البقرة، الآیة 79
20- سورة المدثر، الآیة 38
21- سورة الکهف، الآیة 29
22- سورة آل عمران، الآیة 133
23- سورة المدثر، الآیة 42-43

0
0% (نفر 0)
 
نظر شما در مورد این مطلب ؟
 
امتیاز شما به این مطلب ؟
اشتراک گذاری در شبکه های اجتماعی:

آخر المقالات

الحثّ على الجهاد
الکفارات في الاسلام
التقية في الاسلام
رسـالة الحـقوق
اثر التقوى في الحياة الزوجية
آل البيت عند الشيعة
رزية يوم الخميس ق (1)
ما جاء في المنع عن التوقيت والتسمية لصاحب الامر ...
من هو النبي المرسل؟ ومن هم الأنبياء؟ وما هي ...
التكاليف الشرعية هي تناسب العدل الإلهي؟

 
user comment