البداء والإرادة المُناظرة الخامسة
مناظرة الاِمام الرضا عليه السلام مع سليمان المروزي في البداء وإرادة الله تعالى
روي عن الحسن بن محمد النوفلي انّه قال: قدم سليمان المروزي(1) متكلم خراسان على المأمون فأكرمه ووصله ثم قال له : إن ابن عمي علي بن موسى الرضا عليهما السلام قدم عليّ من الحجاز وهو يحب الكلام وأصحابه فلا عليك أن تصير إلينا يوم التروية لمناظرته.
فقال سليمان : يا أمير المؤمنين ، إني أكره أن أسأل مثله في مجلسك في جماعة من بني هاشم فينتقص عند القوم إذا كلّمني ولا يجوز الانتقاص عليه.
قال المأمون : إنما وجّهت إليه لمعرفتي بقوتك وليس مرادي إلا أن تقطعه عن حجة واحدة فقط.
فقال سليمان : حسبك يا أمير المؤمنين اجمع بيني وبينه وخلني والذم.
فوجه المأمون إلى الرضا عليه السلام فقال : إنه قدم إلينا رجل من أهل مرو ، وهو واحد خراسان من أصحاب الكلام فإن خف عليك أن تتجشّم المصير إلينا فعلت.
فنهض عليه السلام للوضوء وقال لنا : تقدموني ، وعمران الصابي معنا فصرنا إلى الباب ، فأخذ ياسر وخالد بيدي فأدخلاني على المأمون فلما سلمت قال: أين أخي أبو الحسن أبقاه اللّه تعالى ؟
قلت: خلّفته يلبس ثيابه وأمرنا أن نتقدم ثم قلت : يا أمير المؤمنين ، إن عمران مولاك معي وهو على الباب.
فقال: ومن عمران ؟
قلت: الصابي الذي أسلم على يدك.
قال: فليدخل فدخل فرحَّب به المأمون ثمَّ قال له: يا عمران لم تمت حتى صرت من بني هاشم.
قال: الحمد لله الذي شرَّفني بكم يا أمير المؤمنين.
فقال له المأمون : يا عمران هذا سليمان المروزي متكلم خراسان.
قال عمران : يا أمير المؤمنين ، انّه يزعم واحد خراسان في النظر ، وينكر البداء.
قال: فلم لا تناظروه ؟
قال عمران: ذلك إليه.
فدخل الرضا عليه السلام فقال: في أي شيء كنتم ؟
قال عمران : يا ابن رسول الله هذا سليمان المروزي.
فقال له سليمان: أترضى بأبي الحسن وبقوله فيه ؟
فقال عمران: قد رضيت بقول أبي الحسن في البداء على أن يأتيني فيه بحجة أحتجُّ بها على نظرائي من أهل النظر.
قال المأمون : يا أبا الحسن ما تقول فيما تشاجرا فيه ؟
قال : وما أنكرت من البداء يا سليمان ، والله عزّ وجلّ يقول: ( أوَ لاَ يَذْكُرُ الاِِنْسَانُ أنَّا خَلَقْنَاه مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيئاً )(2)ويقول عزّ وجلّ : ( وَهُوَ الَّذي يَبْدَءُ الخَلْق ثُمَّ يُعِيدهُ )(3)ويقول : ( بَدِيعُ السَّمَواتِ وَالاَرْضِ )(4)ويقول عزّ وجلّ : ( يَزِيدُ في الخَلقِ مَا يشاءُ )(5)ويقول : ( وَبَدَأَ خَلْقَ الاِنسانِ من طِينٍ )(6) ويقول عز وجل : ( وَآخَرونَ مُرجَونَ لاََِمْرِ اللهِ إِمَّا يُعَذِّبُهم وإِمَّا يَتُوبُ عَلَيهمْ )(7)ويقول عزّ وجلّ: ( وَمَا يُعَمَّرُ مِن مُّعَمَّرٍ وَلاَ يُنقَصُ مِن عُمُرهِ إِلاّ في كِتابٍ )(8).
قال سليمان: هل رويت فيه من آبائك شيئاً ؟
قال: نعم رويت عن أبي عن أبي عبدالله عليه السلام أنّه قال: إنَّ لله عزّ وجلّ علمين علماً مخزوناً مكنوناً لا يعلمه إلا هو من ذلك يكون البداء، وعلماً علَّمه ملائكته ورسله فالعلماء من أهل بيت نبينا يعلمونه.
قال سليمان: أحب أن تنزعه لي من كتاب الله عزّ وجلّ.
قال: قول الله عزّ وجلّ لنبيه صلى الله عليه وآله : ( فَتَوَلَّ عَنهُم فَمَا أنتَ بِمَلُومٍ )(9)أراد هلاكهم ، ثمَّ بدا لله تعالى فقال: ( وَذَكِّر فإِنَّ الذِكرَى تَنَفعُ المؤُمِنِينَ )(10).
قال سليمان: زدني جعلت فداك.
قال الرضا: لقد أخبرني أبي عن آبائه : عن رسول الله صلى الله عليه وآله قال: إن الله عزّ وجلّ أوحى إلى نبي من أنبيائه أنْ أخبر فلاناً الملك : أني متوفيه إلى كذا وكذا، فأتاه ذلك النبي فأخبره فدعا الله الملك وهو على سريره حتى سقط من السرير وقال : يا رب ، أجِّلني حتى يشبَّ طفلي وأقضي أمري ، فأوحى الله عزّ وجلّ إلى ذلك النبي أن أئت فلاناً الملك ، فأعلمه انّي قد انسيت في أجله وزدت في عمره إلى خمس عشرة سنة ، فقال ذلك النبي عليه السلام: يا رب إنك لتعلم أني لم أكذب قط ، فأوحى الله عزّ وجلّ إليه: إنّما أنت عبدٌ مأمورٌ فأبلغه ذلك ، والله لا يسئل عمّا يفعل.
ثمّ التفت إلى سليمان فقال: أحسبك ضاهيت اليهود في هذا الباب.
قال: أعوذ بالله من ذلك ، وما قالت اليهود ؟
قال: قالت اليهود: ( يَدُ اللهِ مَغلُولةٌ )(11)يعنون أن الله تعالى قد فرغ من الاَمر فليس يحدث شيئاً ، فقال الله عزّ وجلّ : ( غُلَّت أيدِيِهم وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا )(12) ولقد سمعت قوماً سألوا أبي موسى بن جعفر عليه السلام عن البداء ، فقال: وما ينكر الناس من البداء ، وأن يقف الله قوماً يرجيهم لاَمره.
قال سليمان: ألا تخبرني عن ( إنَّا أَنزَلنَاهُ في لَيلَةِ القَدرِ )(13)في أي شيء أنزلت ؟
قال: يا سليمان ، ليلة القدر يقدر الله عزّ وجلّ فيها ما يكون من السنة إلى السنة من حياة أو موت أو خير أو شر أو رزق، فما قدره في تلك الليلة فهو من المحتوم.
قال سليمان : الآن قد فهمت جعلت فداك فزدني.
قال الرضا عليه السلام : إن من الاَمور أموراً موقوفة عند الله عزّ وجلّ يقدم منها ما يشاء ويؤخر ما يشاء ، ويمحو ما يشاء ، يا سليمان إنَّ علياً عليه السلام كان يقول: العلم علمان فعلم عِلمه الله وملائكته ورسله فما علَّمه ملائكته ورسله فإنّه يكون ولا يكذب نفسه ولا ملائكته ولا رسله، وعلم عنده مخزون لم يطلع عليه أحداً من خلقه ، يقدم منه ما يشاء ويؤخر منه ما يشاء ، ويمحو ما يشاء ، ويثبت ما يشاء.
قال سليمان للمأمون: يا أمير المؤمنين ، لا أنكر بعد يومي هذا البداء ولا أكذب به إن شاء الله.
فقال المأمون: يا سليمان ، سل أبا الحسن عما بدا لك ، وعليك بحسن الاستماع والاِنصاف.
قال سليمان: يا سيدي أسألك ؟
قال الرضا عليه السلام : سل عمّا بدا لك.
قال : ما تقول فيمن جعل الارادة اسماً وصفة ، مثل حي وسميع وبصير وقدير.
قال الرضا عليه السلام : إنما قلتم: حدثت الاَشياء واختلفت لاَنّه شاء وأراد، ولم تقولوا: حدثت الاَشياء واختلفت لاَنّه سميع بصير ، فهذا دليل على أنّهما ليستا مثل سميع ولا بصير ولا قدير.
قال سليمان: فإنّه لم يزل مريداً.
قال عليه السلام : يا سليمان فإرادته غيره.
قال: نعم.
قال: فقد أثبتَّ معه شيئاً غيره لم يزل.
قال سليمان: ما أثبتُّ.
قال الرضا عليه السلام : أهي محدثة ؟
قال سليمان: لا ، ما هي محدثة.
فصاح به المأمون وقال: يا سليمان ، مثله يعايى أو يكابر ؟ عليك بالاِنصاف أما ترى من حولك من أهل النظر ؟ثمّ قال: كلِّمه يا أبا الحسن فإنّه متكلم خراسان ، فأعاد عليه المسألة.
فقال: هي محدثة يا سليمان ، فإن الشيء إذا لم يكن أزلياً كان مُحدَثاً ، وإذا لم يكم محدثاً كان أزلياً.
قال سليمان : إرادته منه كما أن سمعه وبصره وعلمه منه.
قال الرضا عليه السلام : فأراد نفسه ؟
قال: لا.
قال: فليس المريد مثل السميع البصير ؟
قال سليمان: إنما أراد نفسه وعلم نفسه.