فقال أبو الحسن عليه السلام : لقد غلطتم إنما عنى بها علي بن أبي طالب عليه السلام ومما يدل على ذلك قول النبي صلى الله عليه وآله حين قال: لينتهين بنو وليعة أو لابعثن إليهم رجلاً كنفسي (18) يعني علي بن أبي طالب ـ عليه السلام ـ وعنى بالاَبناء الحسن والحسين عليهما السلام وعنى بالنساء فاطمة عليها السلام فهذه خصوصية لا يتقدمهم فيها أحد ، وفضل لا يلحقهم فيه بشر ، وشرف لا يسبقهم إليه خلق ، إذ جعل نفس علي عليه السلام كنفسه، فهذه الثالثة.
وأمّا الرابعة فإخراجه صلى الله عليه وآله الناس من مسجده ما خلا العترة حتى تكلّم الناس في ذلك ، وتكلَّم العبّاس فقال: يا رسول الله تركت علياً وأخرجتنا، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله : ما أنا تركته وأخرجتكم ولكن الله عزّ وجلّ تركه وأخرجكم (19) وفي هذا تبيان قوله صلى الله عليه وآله لعلي عليه السلام : أنت مني بمنزلة هارون من موسى (20) .
قالت العلماء: وأين هذا من القرآن ؟
قال أبو الحسن : أوجِدُكم في ذلك قرآناً وأقرأه عليكم .
قالوا: هات .
قال: قول الله عزّ وجلّ : ( وَأَوحَينَا إلى مُوسى وَأَخِيهِ أن تَبَوَّءا لِقَومِكُمَا بمِصرَ بُيُوتاً واجعَلُوا بُيُوتَكُم قِبلَةً ) (21) ففي هذه الآية منزلة هارون من موسى وفيها أيضاً منزلة علي عليه السلام من رسول الله صلى الله عليه وآله ومع هذا دليل واضح في قول رسول الله صلى الله عليه وآله حين قال: ألا إن هذا المسجد لا يحل لجنب إلا لمحمد صلى الله عليه وآله (22) .
قالت العلماء: يا أبا الحسن هذا الشرح وهذا البيان لا يوجد إلا عندكم معاشر أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وآله فقال: ومن ينكر لنا ذلك ورسول الله يقول: أنا مدينة العلم وعلي بابها ، فمن أراد المدينة فليأتها من بابها (23)؟ ففيما أوضحنا وشرحنا من الفضل والشرف والتقدمة والاصطفاء والطهارة ما لا ينكره إلا معاند والحمد لله عزّ وجلّ على ذلك ، فهذه الرابعة.
والآية الخامسة قول الله عز وجل : ( وَآتِ ذَا القُرْبَى حَقَّهُ ) (24) خصوصية خصَّهم الله العزيز الجبار بها واصطفاهم على الاَُمة فلما نزلت هذه الآية على رسول الله صلى الله عليه وآله قال: ادعوا لي فاطمة ، فدعيت له فقال: يا فاطمة قالت: لبَّيك يا رسول الله فقال: هذه فدك مما هي لم يوجف عليه بالخيل ولا ركاب وهي لي خاصة دون المسلمين وقد جعلتها لك لما أمرني الله تعالى به فخذيها لك ولولدك (25) ، فهذه الخامسة.
والآية السادسة قول الله عزّ وجلّ : ( قُل لاَّ أَسألُكُم عَلَيهِ أَجراً إِلاَّ الموَدَّةَ في القُربَى ) (26) وهذه خصوصية للنبي صلى الله عليه وآله إلى يوم القيامة وخصوصية للآل دون غيرهم وذلك أن الله عزّ وجلّ حكى في ذكر نوح في كتابه: ( ويَا قَوم لا أَسْأَلكُم عَلَيهِ مَالاً إِن أَجريَ إِلاَّ عَلَى اللهِ وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّهُم مُلاَقُوا رَبِّهِم وَلكِنّي أَراكُم قَوماً تَجهَلُونَ ) (27) وحكى عز وجل عن هود أنه قال: ( ويَا قَوم لا أَسألُكُم عَلَيهِ أَجراً إِن أَجريَ إِلاَّ عَلَى الَّذي فَطَرَني أَفَلاَ تَعقِلونَ ) (28) وقال عزّ وجلّ لنبيه محمد صلى الله عليه وآله : قل: يا محمد ( قُل لاَّ أَسألُكُم عَلَيهِ أَجراً إِلاَّ الموَدَّةَ في القُربَى ) ولم يفرض الله تعالى مودتهم إلا وقد علم أنهم لا يرتدون عن الدين أبداً ولا يرجعون إلى ضلال أبداً.
وأخرى أن يكون الرجل واداً للرجل فيكون بعض أهل بيته عدواً له فلا يسلم له قلب الرجل ، فأحب الله عز وجل أن لا يكون في قلب رسول اللهصلى الله عليه وآله على المؤمنين شيء ففرض عليهم الله مودة ذوي القربى ، فمن أخذ بها أحبَّ رسولالله صلى الله عليه وآله وأحبَّ أهل بيته لم يستطع رسول الله صلى الله عليه وآله أن يبغضه ، ومن تركها ولم يأخذ بها وأبغض أهل بيته فعلى رسول الله صلى الله عليه وآله أن يبغضه ، لاَنّه قد ترك فريضة من فرائض الله عزّ وجلّ فأي فضيلة وأي شرف يتقدّم هذا أو يدانيه؟ فأنزل الله عزّ وجلّ هذه الآية على نبيه صلى الله عليه وآله : ( قُل لاَّ أَسألُكُم عَلَيهِ أَجراً إِلاَّ الموَدَّةَ في القُربَى ) (29) ، فقام رسول الله صلى الله عليه وآله في أصحابه فحمد الله وأثنى عليه وقال: يا أيها الناس إن الله عزّ وجلّ قد فرض لي عليكم فرضاً فهل أنتم مؤدوه ؟ فلم يجبه أحدٌ فقال: يا أيها الناس إنه ليس بذهبٍ ولا فضةٍ ولا مأكولٍ ولا مشروب فقالوا: هات إذاً فتلا عليهم هذه الآية فقالوا: أما هذه فنعم فما وفى بها أكثرهم.
وما بعث الله عزّ وجلّ نبياً إلاّ أوحى إليه أن لا يسأل قومه أجراً لاَن الله عزّ وجلّ يوفيه أجر الاَنبياء ومحمد صلى الله عليه وآله فرض الله عزّ وجلّ مودة طاعته ومودة قرابته على أُمّته وأمره أن يجعل أجره فيهم ليؤدوه في قرابته بمعرفة فضلهم الذي أوجب الله عزّ وجلّ لهم فإن المودة إنّما تكون على قدر معرفة الفضل ، فلما أوجب الله تعالى ثَقُل ذلك لثقل وجوب الطاعة فتمسَّك بها قوم قد أخذ الله ميثاقهم على الوفا وعاند أهل الشقاق والنفاق وألحدوا في ذلك فصرفوه عن حده الذي حده الله عزّ وجلّ فقالوا: القرابة هم العرب كلهم وأهل دعوته.
فعلى أي الحالتين كان فقد علمناأن المودة هي القرابة فأقربهم من النبي صلى الله عليه وآله أولاهم بالمودة وكلما قربت القرابة كانت المودة على قدرها ، وما أنصفوا نبي الله صلى الله عليه وآله في حيطته ورأفته وما منَّ الله به على أُمّته مما تعجز الاَلسن عن وصف الشكر عليه : أن لا يؤذوه في ذريته وأهل بيته وأن يجعلوهم فيهم بمنزلة العين من الرأس حفظاً لرسول الله فيهم ، والذين فرض الله تعالى مودتهم ووعد الجزاء عليها، فما وفى أحد بها فهذه المودة لا يأتي بها أحد مؤمناً مخلصاً إلا استوجب الجنة لقول الله عز وجلّ في هذه الآية: ( وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَملُوا الصَّالِحَاتِ في رَوضَاتِ الجَنَّاتِ لَهُم مَّا يَشَاءون عِندَ رَبِّهِم ذَلِكَ هُوَ الفَضلُ الكَبيرُ ، ذَلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللهُ عِبَادَهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ قُل لاَّ أَسألُكُم عَلَيهِ أَجراً إِلاَّ الموَدَّةَ في القُربَى ) (30) مفسراً ومبيناً (31) .
ثمّ قال أبو الحسن عليه السلام : حدثني أبي عن جدي عن آبائه عن الحسين بن علي عليهم السلام قال: اجتمع المهاجرون والاَنصار إلى رسول الله فقالوا: إن لك يا رسول الله مؤنة في نفقتك وفيمن يأتيك من الوفود وهذه أموالنا مع دمائنا فاحكم فيها باراً مأجوراً ، أعطِ ما شئت وأمسك ما شئت من غير حرج قال: فأنزل الله عزّ وجلّ عليه الروح الاَمين فقال: يا محمد ( قُل لاَّ أَسألُكُم عَلَيهِ أَجراً إِلاَّ الموَدَّةَ في القُربَى ) يعني أن تودوا قرابتي من بعدي ، فخرجوا فقال المنافقون: ما حمل رسول الله صلى الله عليه وآله على ترك ما عرضنا عليه إلاّ ليحثنا على قرابته من بعده إنْ هو إلاّ شيءٌ افتراه في مجلسه ! وكان ذلك من قولهم عظيماً فأنزل الله عزّ وجلّ هذه الآية: ( أم يَقُولُونَ افتَرَاهُ قُل إِنِ افتَرَيتُهُ فَلاَ تَملِكَونَ لِي مِنَ الله شَيئاً هُوَ أَعلَمُ بِمَا تُفِيضُونَ فِيهِ كَفَى بهِ شَهِيدَاً بَيني وَبَينَكم وَهُوَ الغَفُورُ الرَّحِيمُ ) (32) فبعث عليهم النبي صلى الله عليه وآله فقال: هل من حدث ؟ فقالوا: إي والله يا رسول الله لقد قال بعضنا كلاماً غليظاً كرهناه ، فتلا عليهم رسول الله صلى الله عليه وآله الآية ، فبكوا واشتد بكاؤهم فأنزل عزّوجلّ: ( وَهُوَ الَّذي يَقبَلُ التَوبَةَ عَن عِبَادهِ وَيَعفُو عَن السَّيّئاتِ وَيَعلَمُ مَا تَفعلُونَ ) (33) فهذه السادسة.