عربي
Wednesday 25th of December 2024
0
نفر 0

وقفة مع الشبهات والرد عليها

5 - وقفة مع الشبهات والرد عليها: 

الشبهة الأولى: وخلاصتها:

إن الحواس الخمس هي النوافذ الطبيعية للمعرفة ولحصول العلم وعلى رأس الحواس حاسة البصر فهي الحجة القاطعة ونحن بصراحة لا نرى الله وعليه لا نستطيع أن نؤمن بشيءٍ إلا نراه.

والجواب: هؤلاء يعتقدون أن مصدر المعرفة لديهم هو الدليل الحسي البصري عبر التجارب ويضاف له السمع، الشم، اللمس، الذوق فكل معرفة لا تمر عبر هذه القنوات تعتبر من الأوهام واللاواقعيات - (وما دامت المسألة الإلهية مسألة غيبية وراء حدود الحس والتجربة فيجب أن نطرحها جانباً وننصرف إلى ما يمكن الظفر به في الميدان التجريبي من حقائق ومعارف)(18).

ونقول في الإجابة أيضاً: إننا لا ننكر دور الحس في المعرفة الإنسانية ولكن نقول ليست المسألة كلها متعلقة بالحس وإنما للإدراك العقلي الدور الأهم في المعرفة، (فنيوتن مثلاً حين وضع قانون الجاذبية العامة على ضوء التجربة لم يكن قد أحس بتلك القوة الجاذبية بشيء من حواسه الخمس وإنما استكشفها عن طريق ظاهرة أخرى محسوسة لم يجد لها تفسيراً إلا بافتراض وجود القوة الجاذبة)(19).

فصحيح أنه رأى بعينه التفاحة التي سقطت إلى الأرض وتساءل لماذا ما صعدت إلى السماء ولكنه افترض على هذا البناء الحسي أمراً غير ملموس أو محسوس ألا وهو أمر الجاذبية الأرضية التي لا تخضع للحواس الخمس بأية صورة من الصور وإنما أدركها من خلال آثارها بدليل عقلي واضح فلو أزلنا مبدأ العلية العقلي كما يرغب أصحاب المذهب التجريبي لوقعنا في فخ الصدفيين، ومع ذلك فإن الحواس هذه قد تخطئ كما في مسألة السراب وقد تختلف من فرد لآخر ومن ظرف لآخر مما يجعل لهذا الاختلاف ظهور الواقع العلمي عند البعض ونكرانه عند البعض الآخر، يقول الدكتور فؤاد صروف في مقال نشرته مجلة عالم الفكر الكويتية العدد الثاني: (إن علماء الطبيعة في هذا العصر رأوا بعقولهم ما لا يمكن أن يروه بعيونهم أو بمصوراتهم الضوئية).

فاكتشف علماء الطبيعة أسراراً لم تكتشفها الحواس وعلى رأسها العيون فلو سايرنا المذهب التجريبي أكثر نلاحظ أنه لا يستطيع أن يثبت قواعده في المعارف الموجودة في العالم إلاَّ بالاعتماد على القواعد العقلية مثال ذلك التعليل وكشاهد عليه مثلاً نلاحظ أثر النار في تبخير الماء كسائل له مواصفات معينة وليس كل السوائل لأن الماء يتكون من مكونات مهيّأة للتبخر نتيجة الحرارة فكل سائل يحمل نفس المواصفات يتبخر بالحرارة وهكذا قاعدة التعميم على كل المياه في العالم. فالتعليل والتعميم وأمثالهما من القواعد العقلية هي التي تدفع بالتجارب الحسية نحو الأمام وهذه القواعد عقلية ولولاها لاحتجنا إلى تكرار كل التجارب وعلى كل السوائل كما في مثالنا.

وهكذا نرى العقل يرمم المعرفة الحسية من مواقع القوة أما أصحاب هذا المذهب فهم يذهبون إلى أن الحواس هي المصدر لكل المعارف وهنا نتساءل هل هذه القاعدة حصلوا عليها عبر التجربة أم لا؟ وفي هذا الصدد يقول السيد محمد باقر الصدر في كتابه (فلسفتنا) (صحّ لنا أن نتساءل عن السبب الذي جعل التجريبيين يؤمنون بصواب هذه القاعدة فإن كانوا قد تأكدوا من صوابها بلا تجربة فهذا يعني أنها قضية بديهية وأن الإنسان يملك حقائق وراء عالم التجربة وإن كانوا قد تأكدوا من صوابها بتجربة سابقة فهو أمر مستحيل لأن التجربة لا تؤكد قيمة نفسها)(20).

فبالنتيجة نلاحظ أصحاب هذا المبدأ يطبقون قواعد عقلية من حيث لا يشعرون إضافة إلى أن كثيراً من الخبرات والتجارب والعلوم جاءتنا عبر التاريخ ونحن نؤمن بها دون أن نراها أو نشهدها وقد نحصل عليها بطرق غير حسيّة فالمغناطيسية والكهربائية والجاذبية وأمثالها نؤمن بها دون أن نراها بالعين أو نشمها بالأنف أو نلمسها باليد. فإذن ليست الحواس هي النافذة الوحيدة لمعارف الإنسان بل هي النافذة الاعتيادية للمعرفة بينما يبقى العقل هو البداية الرئيسية لمعارف الإنسان وهكذا تتلاشي هذه الشبهة أمام أشعة العقل والعلم الحديث فليست علومنا ومعارفنا عبر الحواس فقط هي التي آمنا بها.

الشبهة الثانية: لكل وجود في العالم علة إيجاد لابد منها فمن أوجد الله سبحانه؟

وقبل الإجابة أتذكر قولاً للفيلسوف (برتراند راسل) في كتابه لماذا ليست مسيحيا؟ (فكما أن لكل شيءٍ علة وسبب لابد لوجود الله أيضاً من علة ودليل ولو أمكن لشيءٍ أن يكون بلا دليل ولا علة لأمكن أن يكون هو الله أو العالم وعلى هذا فالبحث عن الله يفقد اعتباره).

ويقول (هربرت اسبنسر) الفيلسوف البريطاني (المشكلة هي أن العقل البشري يفتش لكل أمر عن علة وهو يرى استحالة الدور والتسلسل ولا يرى علة بلا علة ولا يفهمها).

فبالنتيجة يمكن أن نقول إن مبدأ العلية هو قانون لازم لكل مناحي الوجود ولا يمكن أن يكون شيءٌ موجوداً دون علة أو سبب وحينما نفترض أن هنالك شيئاً وجد دون علة أو سبب فهو نوع من أنواع الصدفة في الخلق وبهذا الأسلوب يصنفون الأيديولوجية الإسلامية ضمن نظرية الصدفيين حيث أنها تعتقد بوجود الخالق والمدبر الرئيسي صدفة بمعنى كونه موجوداً بلا علة أو سبب، وصحيح أن الإسلاميين يقدّمون مقدمات طويلة وعريضة بلا بُدّية العلة ويعرضون عن نظرية الصدفة جانباً ويهزأون منها بأدلة علمية دامغة ولكنهم حينما يَصِلون إلى حصن الرب الخالق تتهاوى القواعد العلمية التي ساروا عليها فهنا - وبالذات في موضوع الله - تسقط العلية والسببية تماماً حيث وجد الله من دون علة ومن دون سبب بل هو علة العلل ومسبب الأسباب وهذا ما لم يقرّه العلم ولم يقرّه الإسلاميون أنفسهم في بداية البحث وقبل الوصول إلى حصن الخالق وبالمناسبة يقول الدكتور العظم في كتابه (نقد الفكر الديني): لنفترض أننا سلّمنا بأن الله هو مصدر وجود المادة هل يحل ذلك المشكلة؟... أنت تسأل عن علة وجود السديم الأول وتجيب بأنها (الله) وأنا أسألك - بدوري - وما علة وجود الله؟ وستجيبني بأن الله غير معلول الوجود وهنا أجيبك ولماذا لا نفترض المادة الأولى غير معلول الوجود؟ وبذلك ينحسم النقاش دون اللجوء إلى الغيبيات وإلى كائنات روحية بحتة لا دليل لدينا على وجودها (الميتافيزيقية) ويستمر قائلاً: (إن أقصى ما تستطيع الإجابة به (لا أعرف) إلاَّ أن وجود الله غير معلول ومن جهة أخرى عندما تسألني ما علة وجود المادة الأولى؟ فإن أقصى ما أستطيع الإجابة به (لا أعرف) إلاَّ أنها غير معلولة الوجود)(21).

وعلى هذا سنقرّ بجهلنا في معرفة الوجود الأول وحسب ما يدّعي الدكتور العظم وأصحاب هذا الرأي أن الطريقيْن مسدوديْن بنتيجةٍ واحدةٍ متساويةٍ ومتعادلة.

وبالفعل إنها شبهة مؤثرة حينما تثار في الأوساط العامة تجد من يصغي لها ولكن هؤلاء مثلهُم مثلُ القائل لخصمه (عرفتَ شيئاً وغابت عنك أشياء) وللإجابة على هذه الشبهة نتبع طريقة أساتذتنا في شرح النظريتين (نظرية الوجود) و (نظرية الإمكان الوجودي) ثم الردّ العام على هذه الشبهة التي تعد من الشبهات الرئيسية التي يلتزم بها الماديون وبعض الماركسيين بالذات وأنها السبب في تغيير عقائد بعض الشباب نحو الأفكار الهدامة والسلوك الملتوي.

أما الآن فلنتعرف على النظريتين:

(أ) نظرية الوجود:

هذه النظرية ترى حتمية احتياج الموجود إلى علة توجده، هذه النظرية مستندة على التجارب العلمية في كل الميادين كالطب والهندسة والكيمياء والفيزياء، مثلا ذلك غليان الماء بالحرارة وتمدد الحديد بالحرارة فالحرارة هي علة الغليان للماء والتمدد للحديد ولولا هذا القانون (لكل موجود علة) لجاءت الصدفة واحتلت المنطق العلمي التجريبي - كما يقولون - ويمكننا أن نناقش هذه النظرية ونردها عبر ما يلي:

1 - إن التجربة كمصدر رئيس لمعرفة العلة - هذا ما لا يقرّه العلم والعقل - حيث إننا نعرف أن التجربة لها حدود خاصة في التطبيق الميداني أي لها حقل خاص وهو الحقل المادي من الوجود - فاعتبارها مقياساً علمياً يكشف عن العلة والسبب في عموم الوجود هذا أمر بعيد عن الدقة العلمية حيث إن الوجود ليس ماديّاً فقط وإنما جزء منه يخضع لعنوان المادة وعليه تطبق التجربة كالغليان وتمديد الحديد بالحرارة - كما مر - أما أننا نوكل الوجود الكبير لهذا المقياس الذي لا يستطيع استيعابه بالتجربة وحدها لغرض كشف العلل! فهو أمر شاذ! حيث إن الوجود مليء بأمورٍ غير مرئية كالجاذبية والمغناطيسية والأرواح وما شابه ولو سلّمنا جدلاً بالتجربة وقدرتها على بيان كل العلل والأسباب لكل الوجود ففي الحقيقة أن التجربة تكشف عن أسباب الظواهر المادية كالغليان والتمدد لا أكثر فهي تربط بين عدة عوامل كالنار والحرارة والشمس بمكونات مادية معينة كالحديد فتكشف عن العلاقة التي تعتبرها علة للتمدد أما لماذا الشمس أو الحرارة تعمل هذا العمل؟ ولماذا الحديد له هذه القابلية دون غيره؟ هذه تساؤلات تعجز التجربة عن الإجابة عليها.

أما الوجودات غير المرئية فتعلن التجربة إفلاسها وتستسلم أمامها لأنها لا تستطيع أن تمدّ يديها إلى العمق الغيبي وهو أمر واقعي - دون شك - كالجاذبية والمغناطيسية وما شابه.

2 - أما ربط الإلهيين بالصدفة ولو بدرجة متأخرة - كما يقول البعض - لقلة الشجاعة لدى الإلهيين فيرفعون الصدفة عن الوجود المادي ليضعوها على المصدر الأول للوجود وهو الله! في المسألة خلط واضح إذ أن المصدر الأول الذي يؤمن به الإلهيون يتصف بصفات الأزلي والأبدي وهذه الصفات تجعله يكون واجب الوجود لا يحتاج لشيء... أما الصدفة في الخلق فهي لا تتصف بصفات الأزلي والأبدي وإنما هي محتاجة لظروف عديدة وممكنة فإذا ظهرت أو انعدمت ضمن الإطار الخاص بها نسميها صدفة وجدت دون حضور ذهني أي يتعادل الوجود والعدم بالنسبة لها ككفتي الميزان أما المصدر الأول للوجود في العقيدة الإلهية ليس هكذا بل أن المصدر واجب الوجود وضروري الوجود وممنوع العدم لا إنه ممكن الوجود وممكن العدم كالصدفة.

3 - نظرية الوجود تبحث عن علة الوجود دون أن تعتني بعلة العدم ويظهر من بعض المؤمنين بذلك - أن المادة لا تُفنى ولا تُستحدث من العدم وإنما المركبات حين تحولاتها تفقد كثيراً من خصائصها فالعدم هذا يقرّه العلم ويقرّ كذلك بلا بُدّية السبب في الانعدام، فالماركسيون الذين يدّعون أزلية المادة يقرّون في نفس الوقت أنّها تتغير وتتحول من حالة لأخرى وأنها لتفقد بعض العناصر من مركباتها بالتحول أو تهرب منها بعض العناصر أثناء التفاعلات الكيمياوية. والعلم يقر ذلك بالاتفاق فإن هذه التغيرات والتقلبات ليست من صفات الأزلي الأبدي فحينما تستسلم النظرية المادية أمام العلم الذي يذهب إلى أن للوجود بداية وللمادة بداية وأنها تتحول من حالة لأخرى وتتجدد وتنعدم وتُفنى وتُستحدث، نرى أصحابها يشنّون حملة شعواء على العقيدة الدينية نتيجة رد الفعل السلبي من قرارات العلم وعلى نفس المستوى والأسلوب، بينما العقيدة الدينية تقرّ بأن الصفات الأزلية والأبدية المتفق عليها لا تناسب المادة المتغيرة حسب ما يقرّه العلم بل تناسب ما يصفه الدينيون بالخالق المدبر الذي لا يكون مادة ولا يحتاج لعلة ولا يفتقر لسبب بما أن ذلك من ضرورات المادة الفانية.

 

0
0% (نفر 0)
 
نظر شما در مورد این مطلب ؟
 
امتیاز شما به این مطلب ؟
اشتراک گذاری در شبکه های اجتماعی:

آخر المقالات

هل للتوحيد مراتب ؟ وما هي ؟
الأوقاف العامة عند الشيعة
التقية المحرمة والمکروهة عند الشيعة الإمامية
القائد والمجاهد والشهيد
الاسلام واليهودية
فصل: فيما ذكر في بيان(1) عمره عليه السلام.
الوحدة الإسلامية عصمة التعدد
من أنزل عليه القرآن
شَوق اللقاء
في أي قلب يكتب الله الإيمان

 
user comment