قال تبارك وتعالى: (تبارك اسم ربك ذي الجلال والإكرام). [سورة الرحمن: الآية 78].
قيل الجلال صفاته السلبية وتسمى صفات الجلال أما الإكرام فهي صفاته الثبوتية وصفات الجلال هي التي تنفي النقائص عنه تعالى فهي ممتنعة عن واجب الوجود وغيره لائقة بالكمال المطلق وهذا الكمال المطلق لا يمكن تثبيته إلاَّ بنفي النقص والقبح عنه كما لا يثبت الحق إلا بنفي الباطل ومن أهم هذه الصفات السلبية هي:
أنه لا شريك له وأنه ليس محتاجاً في ذاته وصفاته إلى الغير والمكان والزمان وأنه ليس مركباً من الأجزاء وأنه ليس محلاً للحوادث كالنوم واليقظة وأنه لا يحل ولا يتحد مع أحد وأنه ليس بجسمٍ وأنه لا يُرى بحاسة البصر وأنه لا يفعل قبيحاً وأنه لا يشبه أحداً... فهي منافية تقريباً للصفات الثبوتية أو مضادة لها كالجهل والعجز والفناء والشريك كل ذلك ينافي العلم والقدرة والبقاء والوحدانية - على التوالي - فليس لله ضدّ ولا شكل ولا صورة ولا حيّز لمكان ولا هو جوهر كالجسم والمادة ولا هو عرض كاللذة والشهوة لأن ذلك مفتقر إلى من يؤثر فيها من الوجود لذا حينما سئل الإمام علي (عليه السلام): هل رأيت ربك يا أمير المؤمنين؟ فقال (عليه السلام): (أفأعبد لما لا أرى ثم قال: لا تدركه العيون بمشاهدة العيان ولكن تدركه القلوب بحقائق الإيمان قريب من الأشياء غير ملامس، بعيد منها غير مباين، متكلم لا برويّة، مريد لا بهمة، صانع لا بجارحة، لطيف لا يوصف بالخفاء، كبير لا يوصف بالجفاء، بصير لا يوصف بالحاسة، رحيم لا يوصف بالرقة، تعنو الوجوه لعظمته، وتجب القلوب من مخافته)(16).
وحينما سئل الإمام الصادق (عليه السلام) عن حقيقة الله أجاب: (هو شيء بخلاف الأشياء أرجع بقولي إلى إثبات معنى وإنه لشيء بحقيقته الشيئية غير أنه لا جسم ولا صورة ولا يحس ولا يجس ولا يُدرك بالحواس الخمس لا تدركه الأوهام ولا تغيره الأزمان)(17).
وتبرز أمامي علامة استفهام كبيرة أحبذ أن أوردها قبل أن أشرح بعض الصفات السلبية وهذه المسألة قد أخذت منّا وقتاً وجهداً لا بأس به بيننا وبين أستاذ الفلسفة أيام دراستنا في النجف الأشرف وملخصها أننا حينما نصف الله سبحانه وصفاً خارجاً عن أطرنا وحواسنا ولا نستطيع أن نحيطه علماً ولا نتمكن من معرفة كنه ذاته وماهيته وكل ذلك مرّ معنا في الصفحات السابقة مع الروايات الشريفة الداعمة للفكرة، يبرز هذا التساؤل حينما يكون الخالق الكريم بهذه الصورة فمن الذي دلّنا عليه وجعلنا نبحث عنه ونتوصل إلى معرفة ما أمكنا معرفته لنمتثل أوامره.
وما استطعنا أن نصل إلى الجواب الشافي حينذاك حيث المناقشة الحادة بين الأطراف فأحدنا يرفض والآخر يعارض وثالث يوافق وهكذا في الوسط المزدحم بالنقاش خيّم علينا صوت الأستاذ المرحوم ذلك الصوت الرخيم وتلا مقطعاً من دعاء الصباح لمولانا وسيدنا الإمام علي (عليه السلام) وبالفعل كان هو الجواب الشافي الذي جعلنا نوقف تلك المناقشة وذلك الضجيج بل ونقتنع... حيث قال الإمام: (... يا من دل على ذاته بذاته وتنزه عن مجانسة مخلوقاته وجلّ عن ملاءمة كيفياته يا من قرب من خطرات الظنون وبَعُدَ عن لحظات العيون وعلم بما كان قبل أن يكون...)(18).
ونقرأ كذلك في دعاء الإمام زين العابدين (عليه السلام): (بك عرفتك وأنت دللتني عليك ودعوتني إليك ولولا أنت لم أدر ما أنت..)(19).
فإذن هو الله سبحانه الذي دلنا على ذاته المقدسة ومما لا ريب فيه نلاحظ في هذا المقطع المبارك ذكر بعض الصفات السلبية الجلالية حيث لا يتجانس سبحانه وتعالى مع مخلوقاته ولا يرى بالعيون المجردة وهكذا.. والآن لنعود إلى معرفة أهم صفات الجلال (الصفات السلبية) فلنوضحها بإيجاز:
1 - إن الله تبارك وتعالى لا شريك له
سبق وأن تحدثنا في الفصل السابق وأشرنا إلى الآيات الكريمة بهذا الصدد في أنه (سبحانه) يمتنع عليه الشريك عقلاً فأما الواحد أقوى من الثاني أو متساويين في القوة والقدم وعلى كل التقادير لرأينا حينذاك الاختلاف في الخلق والرسل والآثار ومرت معنا الآيات والروايات الموضحة لهذه الصفة منها قال سبحانه:
(لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا). [سورة الأنبياء: الآية 22].
2 - إنه سبحانه غير محتاج في ذاته وصفاته
إلى الغير والمكان والزمان والأدوات والكيفية فهو الغني المطلق عن غيره وقد مضى معنا أنه واجب الوجود لذاته وصفاته صفات الأزلي التي منها أنه لا يحتاج إلى غيره وإنه يستغني بذاته عن كل شيء في الوجود بل كل شيءٍ مفتقر إليه. وهنا لابد أن نشير إلى مسألة الظهور الإلهي ومستلزمات الظهور هل أن الخلائق تظهر في الله سبحانه أم أنه الله يظهر فيها من باب (فلست تظهر لولاي لم أكن لولاك) ومما لاشك فيه أن هذه المسألة أخذت أبعاداً مختلفة وآراء متعددة فبعض الصوفيين ذهب إلى أن الله سبحانه يظهر في المخلوقات حتى في الحيوانات لأنهم تشدّدوا في ظهوره فيها وبعض المفكرين وقف متحيّراً متردداً فلو تصفحنا تراثنا الديني المقدس لقرأنا في الحديث القدسي (كنتُ كنزاً مخفياً فأحببت أن أعرف فخلقت الخلق لكي أعرف) ومعنى ذلك أن الله خلق الخلق لأنه أراد الناس أن يعرفوا ربهم فعليهم أن ينظروا إلى خلقتهم وعظمة أجهزتهم الداخلية والخارجية حتى يعرفوا الله الخالق لهم وليس المعنى أنه لو لم يخلق الخلق لم يكن معروفاً فخلق الخلق ليكون معروفاً فهو معروف لنفسه وظاهر بنفسه ولا يحتاج إلى شيءٍ ليظهر به.
فليس معنى الحديث أنه سبحانه ظاهر فيهم بل هم ظاهرون به كما كل شيءٍ قائم بالله وليس هو قائم بأيّ شيء بل كل شيءٍ قائم به وهكذا كل شيء ظاهر به وباطن به فلا يكون المخلوق ظرفاً لله تعالى ولا الله تعالى ظرفاً للخلائق حتى تكون الخلائق في الله ظاهرة أو يكون الله في الخلائق ظاهراً بالمعنى الظرفي. وأما ما نقرأ في الكتاب العزيز في الآية الكريمة مثلاً:
(فنفخنا فيه من روحنا). [سورة التحريم: الآية 12].
فمن باب نسبة الشيء إلى الله عز وجل لتقريبه إليه كما في الآية الأخرى:
(يا عباد لا خوف عليكم اليوم ولا أنتم تحزنون). [سورة الزخرف: الآية 68].
وفي آية مباركة أخرى: (وطهر بيتي للطائفتين والقائمين والركع السجود). [سورة الحج: الآية 26].
فالروح والعباد والبيت كل ذلك من مخلوقات الله أما نسبة ذلك إلى الله من باب القربة والمنزلة الرفيعة.
يقول الإمام الصادق في تفسير الآية (ونفخنا فيه من روحنا) قال: (إن الروح متحرك كالريح وإنما سمي روحاً لأنه اشتق اسمه من الريح.. وإنما أضافه إلى نفسه لأنه اصطفاه على سائر الأرواح كما قال لبيت من البيوت (بيتي) ولرسول من الرسل (خليلي) (حبيبي) واشباه ذلك وكل ذلك مخلوق مصنوع محدَث مربوب مدبَّر).
فهو الصمد ليس وعاء يصدر منه شيء ولا يكون ظاهراً في شيء، عن الصادق (عليه السلام): (هو الله الثابت الموجود، تعالى الله عما يصفه الواصفون، فلا تعدو القرآن فتضلوا بعد البيان) فلابد من نفي التشبيه والتعطيل عن الله سبحانه. ونقرأ في دعاء الإمام الحسين (عليه السلام) في يوم عرفة قوله: (كيف يستدل عليك بما هو في وجوده مفتقر إليك أيكون لغيرك من الظهور ما ليس لك حتى يكون هو المظهر لك متى غبت حتى تحتاج إلى دليل يدل عليك ومتى بعدت حتى تكون الآثار هي التي توصل إليك عميت عين لا تراك عليها رقيباً...) وهذا المقطع واضح لما ذهبنا إليه وقد قال الإمام الصادق: (ليس إلا الله وخلقه لا ثالث بينهما ولا ثالث غيرهما) فكل شيء أراد أن يظهر فلابد أن يظهر بالله سبحانه وليس الله يظهر في الشيء فهو الغني عن كل شيءٍ لقوله تعالى: (ومن كفر فإنّ الله غنيٌ عن العالمين). [سورة آل عمران: الآية 97].
وقوله أيضاً: (قالوا اتخَذَ الله ولداً سبحانه هو الغنيّ..). [سورة يونس: الآية 68].
3 - الله سبحانه ليس مركباً
كذلك أخذنا فيما مضى من صفات الأزلي أن يكون بسيطاً لا مركباً لأن المركب يكون حادثاً والحادث مخلوق ويكون له أول كما يكون له آخر وهذا كله ينافي صفة الأزل ويطابق صفة الممكن المحتاج لغيره وحاشا لله سبحانه من ذلك فالله منزّه عن التركيب الخارجي ومنزّه عن الأجزاء العقلية - كما يسجل ذلك الشيخ الهادي في كتابه (معالم التوحيد) - والمراد من التركيب الخارجي يعني هو أن يكون الشيء ذا أجزاء خارجية كالمعادن والمحاليل الكيمياوية التي تتألف من الأجزاء المختلفة ولكن مثل هذا التركيب يستحيل في شأن الله سبحانه لأن الشيء المركب من مجموعة الأجزاء سيكون محتاجاً في وجوده إلى تلك الأجزاء لا محالة والمحتاج إلى غيره معلول لذلك الغير ولا يصلح للألوهية حينئذ. هذا مضافاً إلى أن الأجزاء المؤلفة للذات الإلهية إما أن تكون واجبة الوجود فحينئذ سنقع في مشكلة (تعدد الآلهة) التي يعبر عنها في علم الكلام بتعدد القدماء وإما أن تكون ممكنة الوجود وفي هذه الصورة ستحتاج هذه الأجزاء إلى الغير ليوجدها فيكون معنى هذا أن ما فرضناه إلهاً يكون معلولاً لأجزاء ذاته التي هي معلولة لموجود أعلى وبالتالي لا يكون إلهاً. وذاته منزهة عن الأجزاء العقلية ويسترسل الشيخ الهادي في توضيح هذا النوع من البساطة ولأهمية توضيحه نورده:
أ - إن الشيء يعرف بجنسه وفصله أو ما يقوم مقامهما التي تسمى بالماهية وليس للماهية أي دور إلاَّ تحديد وجود الأشياء وبيان موقعها في عالم الوجود.
ب - إن كل مولود ممكن مركب من شيئين ماهية ووجود وليس المقصود تركبه من الجزئين الخارجين كالعناصر المتركبة بل المراد هو أن الذهن النقاد يرى الشيء الخارجي الواحد في - مختبر العقل - مكوناً من جزئين:
أحدهما: يحكي عن مرتبته الوجودية وأنه يقع في أي مرتبة من مراتب الوجود من الجماد والنبات والحيوان وغيرها.
والثاني: يحكي عن عينيته الخارجية التي طرد بها العدم عن ساحة الماهية ولكن هذا النوع من التركيب يستحيل في شأن الذات الإلهية لأنها إذا كانت مؤلفة من وجود وماهية انطرح هذا السؤال إن الماهية كانت في حد ذاتها نافذة للوجود والعينية فبماذا طرد هذا العدم وأقيم محله الوجود فإنّ هذا الطرد يحتاج - تبعاً لقانون العلية العام - إلى عامل خارجي عن ذات الشيء ومن المعلوم أن الشيء المحتاج إلى العلة الخارجة عن وجوده ممكن لا يستحق الألوهية؟! ولأجل هذا ذهب العلماء إلى بساطة ذاته وإنها منزهة عن الماهية وهو عين الوجود وصرفه(20).
4 - إنه تعالى ليس محلاً للحوادث
كالنوم واليقظة والحركة والسكون والقيامة والقعود والشباب والهرم والقوة والضعف واللذة والألم والحزن والفرح والرضى والسخط لأن ذلك كله خاص بالممكنات الحوادث المتغيرات والله سبحانه لا يتغير ولا يتبدل ولا يتأثر فهو ليس بجسم كي يرتبط بمتغيرات الزمان والمكان. وهذه العوارض كالنوم والألم والضعف إنها دليل العجز والنقص وهو تعالى منزه عن ذلك فقد قال سبحانه في محكم كتابه الكريم:
(الله لا إله إلا هو الحيُّ القيوم لا تأخذه سِنَةٌ ولا نومٌ له ما في السماوات وما في الأرض). [سورة البقرة: الآية 255].
وهذه الصفة أود أن أتوسع فيها لأنها مورد كلام ونقاش.. فحينما قررنا أن ذات الله ليس فيها رضىً ولا غضب إذن فما هو معنى غضب الله عليهم ورضي الله عنهم فنقرأ ذلك في القرآن والأحاديث والروايات. فإن لم يكن في ذات الله رضى أو غضب فما معنى قيام الناس بالعبادات أو بترك المعاصي لتحقيق رضاه فإن قلنا إن الرضى والسخط موجودان في ذات الله فلازم ذلك متعلق الرضا أفعال العباد عموماً وتشمل أعمالهم بالفكر واللسان والجوارح إذن تارة يرضى الله حيث يكون العمل من قبل العباد موجباً لرضاه تعالى وتارة يغضب ويسخط حيث يكون عملهم موجباً للسخط والغضب. عندئذ يتحقق معنى رضى الله وغضبه قال سبحانه في محكم كتابه:
(رضي الله عنهم ورضوا عنه ذلك الفوز العظيم). [سورة المائدة: الآية 119].
وقال أيضاً: (والذين اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم ورضوا عنه). [سورة التوبة: الآية 100].
وقال سبحانه في آية أخرى: (من لعنه الله وغضب عليه وجعل منهم القردة والخنازير). [سورة المائدة: الآية 60].
وقال عز وجل أيضاً: (وغضب الله عليهم ولعنهم وأعدّ لهم جهنم). [سورة الفتح: الآية 6].
وقد قال الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله): (يا فاطمة إن الله يغضب لغضبك ويرضى لرضاك) و (إن الله يغضب لغضب فاطمة ويرضى لرضاها)(21).
وبهذا نرى أن الغضب والرضى يتحققان في الله عز وجل نتيجة أعمال العباد فتكون ذاته حينذاك متغيرة من حال إلى حال ومتحولة من حال إلى حال! بمعنى آخر سيرضى الله عنا إذا أطعناه وطبقنا أوامره وأما إذا عصيناه سيغضب علينا فإذن وجودنا بل وجود إنسان واحد يمارس عملاً معيناً يكون سبباً لتغير ذات الله من الغضب إلى الرضا فإذا تغيرت ذات الله نتيجة أعمال العباد وكل شيء متغير مصيره الزوال والتبدل وربما الإبادة - ومن هنا كان لهذه الصفة الأهمية في شرحها وتفصيلها.
والآن كيف يمكن حلّ المسألة:
جاء في (أصول الكافي) عن الإمام الصادق (عليه السلام) في شرح الآية الكريمة:
(فلمّا آسفونا انتقمنا منهم فأغرقناهم أجمعين). [سورة الزخرف: الآية 55].
قوله (عليه السلام): (إن الله لا يأسف كأسفنا ولكنه خلق أولياء لنفسه يأسفون ويرضون وهم مخلوقون مربوبون فجعل رضاهم رضاء نفسه وسخطهم سخط نفسه لأنه جعلهم الدعاة إليه والأدلاء عليه فلذلك صاروا كذلك وليس ذلك يصل إلى الله كما يصل إلى خلقه لكن هذا معنى ما قال من ذلك وقد قال من أهان لي ولياً فقد بارزني بالمحاربة ودعاني إليها وقال (ومن يطع الرسول فقد أطاع الله) وقال: (إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله يد الله فوق أيديهم) فكل هذا وشبهه على ما ذكرت لك، وهكذا الرضا والغضب وغيرهما من الأشياء مما يشاكل ذلك ولو كان يصل إلى الله الأسف والضجر وهو الذي خلقهما وأنشأهما لجاز لقائلٍ أن يقول إن الخالق يبيد يوماً لأنه إذا دخله الغضب والضجر دخله التغير وإذا دخله التغيير لم يؤمَن عليه بالإبادة ثم لم يعرف المكوِّن من المكوِّن (بالفتح) ولا القادر من المقدور عليه ولا الخالق من المخلوق، تعالى الله عن هذا القول علواً كبيراً، بل هو الخالق للأشياء لا لحاجة فإذا كان لا لحاجة استحال الحدّ والكيف فيه).