إذن لا نستطيع أن ننسب الصفات التأثرية كالغضب والضجر والأسف والرضى إلى الله سبحانه فهو منزّه عن ذلك كله فهو المؤثِر ولا مؤثِر سواه وهو سبحانه غير متأثر بشيءٍ إطلاقاً وإنما خلق أولياء لنفسه يمتازون بميزتين رئيسيتين كما في الرواية المتقدمة (جعلهم الدعاة إليه والأدلاء عليه فصاروا كذلك) فهذا الولي الداعية لله سبحانه والدليل عليه رضاه رضى الله وغضبه غضب الله وسخطه سخط الله فبيعة الرسول هي بيعة الله:
(إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله). [سورة الفتح: الآية 10].
(من يطع الرسول فقد أطاع الله). [سورة النساء: الآية 80].
لذلك حينما نقرأ الروايات التالية وبعض الأحاديث الشريفة تتوضح إلينا هذه المسألة كلياً، فقد جاء في كتاب (من لا يحضره الفقيه) أنه سئل الرسول (صلى الله عليه وآله) كيف يتوفى ملك الموت المؤمن، فقال (صلى الله عليه وآله): (إن ملك الموت ليقف من المؤمن عند موته موقف العبد الذليل من المولى فيقوم هو وأصحابه لا يدنو منه حتى يبدأ بالتسليم ويبشره بالجنة) وجاء في (أصول الكافي) عن الرسول (صلى الله عليه وآله): (لو أن مؤمناً أقسم على ربه لا يُميته ما أماته أبداً ولكن إذا كان ذلك إذا حضر أجله بعث الله إليه ريحين ريحاً يُقال لها المنسية وريحاً يُقال لها المسخية فأما المنسية فإنها تنسيه أهله وماله وأما المسخية فإنها تسخي نفسه عن الدنيا حتى يختار ما عند الله).
وعن الإمام الصادق (عليه السلام): (ما يخرج مؤمن عن الدنيا إلاَّ برضىً وذلك أن الله تبارك وتعالى يكشف له الغطاء حتى ينظر مكانه في الجنة وما أعدّ الله له فيها وينصب له الدنيا كأحسن ما كانت ثم يخيّر فيختار ما عند الله عز وجل ويقول ما أصنع بالدنيا وبلائها فلقنوا موتاكم كلمات الفرج).
وعن الإمام الصادق في رواية أخرى: أنه سئل: هل يكره المؤمن على قبض روحه قال: (لا والله إنه إذا أتاه ملك الموت يقبض روحه جزع عند ذلك فيقول له ملك الموت يا وليّ الله لا تجزع فو الذي بعث محمداً (صلى الله عليه وآله) لأنا أبرُّ بك وأشفق عليك من والدٍ رحيم لو حضرك أفتح عينيك فانظر قال: وتمثل له رسول الله (صلى الله عليه وآله) وأمير المؤمنين وفاطمة والحسن والحسين والأئمة من ذريتهم (عليهم السلام) فقال له هذا رسول الله وأمير المؤمنين و.. والأئمة رفقاؤكم فيفتح عينيه فينظر فينادي روحه منادٍ من قبل رب العزّة فيقول:
يا أيتها النفس المطمئنة إلى محمد وأهل بيته ارجعي إلى ربك راضيةً بالولاء مرضيةً بالثواب فادخلي في عبادي (يعني محمداً وأهل بيته) وادخلي جنتي فما شيء أحب إليّ من استلال روحه واللحوق بالمنادي).
وعن الإمام الباقر (عليه السلام) كما جاء في (أصول الكافي): (حضر رسول الله (صلى الله عليه وآله) رجلاً من الأنصار وكانت له حال عند رسول الله فحضره عند موته فنظر إلى ملك الموت عند رأسه فقال له رسول الله (صلى الله عليه وآله) ارفق بصاحبي فإنه مؤمن فقال له ملك الموت يا محمد طِبْ نفساً وقرْ عيناً فإني بكل مؤمن رفيق شفيق واعلم يا محمد أني لأحضر ابنَ آدم عند قبض روحه فإذا قبضته صرخ صارخ من أهله عند ذلك فانتحي في جانب الدار ومعي روحه فأقول لهم والله ما ظلمناه ولا سبقنا به أجلنا ولا استعجلنا به قدره وما كان لنا في قبض روحه من ذنب فإن ترضوا بما صنع الله به وتصبروا تؤجروا وتحمدوا وإن تجزعوا وتسخطوا تأثموا وتؤزروا وما لكم عندنا من عُتبى وإن لكم عندنا أيضاً عودة وبقية فالحذر الحذر..).
من مجمل الروايات المنتخبة في هذا الصدد نلاحظ أن الرضا والسخط هو رضا أولياء الله وعباده المخلصين كما قال الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله): (يا فاطمة إن الله يغضب لغضبك ويرضى لرضاك).
وكذلك نرى إن نفس الرضا والغضب هو فعل الله سبحانه فرضى الله الذي هو فعله يعني ما خلق في موضع رضاه أي الجنة وغضبه الذي هو فعله وليس في ذاته أبداً هو مخلوقه أي النار وبموجبهما رضى وليه وغضب وليه فمن رضي عنه الولي يدخل الجنة ومن غضب عنه الولي يدخل النار - فالذي يرضي الولي يكون محله رضى الله وهو الجنة ومن أغضب الولي يكون محله غضب الله الذي هو النار فرضا الله الجنة وغضب الله النار.
فمن مجمل الروايات السابقة وغيرها نستخلص هذه الفكرة التي قلناها فالرضا والغضب مخلوقان وليسا في ذات الله عز وجل وهذان المخلوقان هما عبارة عن الجنة والنار والولي المؤمن هو الشفيع للجنة وكما في الروايات أن الإمام علي (عليه السلام) هو قسيم النار والجنة فرضاه رضا الله أي يدخل المؤمن إلى الجنة وأما غضبه فهو غضب الله أي يدخل المنحرف إلى النار كما ورد عن الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله): (يا علي لا يحبك إلا مؤمن ولا يبغضك إلا منافق) وفي حديث آخر: (عنوان صحيفة المؤمن حب علي بن أبي طالب)(22).
5 - أنّه سبحانه لا يحلّ ولا يتحد مع أحد
أي إنه تعالى لا يوجد في محل يضمه ويحويه ولا يفتقر إلى المحل الذي يحل فيه لأن الافتقار والاحتياج للشيء ليس من صفات الأزلي بل من صفات الممكن الحادث المتغير المحتاج فالله سبحانه موجود في كل مكان غير مفتقر لحيّزٍ ليتواجد فيه فيخلو منه الحيز الآخر ولأن الحلول في مكان يستلزم الجسمية والله منزه عن ذلك.
أما الاتحاد وهو أن يصير الشيئان شيئاً واحداً. والآن هل يتحد سبحانه وتعالى مع مخلوقاته القاصرة أو يحل فيها - كما يذهب البعض - وما هو الهدف من ذلك؟ أم يتحد مع قديمٍ آخر ويندمج معه وما الغرض من ذلك أيضاً؟ ويبدو أن غرض الأمرين هو الحاجة لذلك، والحاجة منفية عن واجب الوجود بذاته إضافة إلى أن هذين الأمرين يستلزمان الجسمية والحدوث والله منزّه عن ذلك وساحته المقدسة تطرد هذه الاحتمالات الباطلة.
6 - الله عز وجل ليس بجسم
لأن الجسم يكون مركباً عادةً ويحتاج الجسم إلى مكان وزمان، ويتغير وينمو ويموت وينتهي وكل ذلك من صفات الممكن الحادث المتغير، والجسم بحاجة إلى الإيجاد أيضاً وهو من صفات الممكن كذلك والله سبحانه منزّه عن هذه الصفات فهو واجب الوجود أزلي - كما مر معنا -.
7 - وأنّه لا يُرى بحاسة البصر
وضحنا ذلك في الشبهة الأولى من أحاديثنا الماضية ولا بأس هنا بذكر هذه الرواية عن الأصبغ عن أمير المؤمنين (عليه السلام) قال: قام إليه رجل يُقال له ذُغلب فقال يا أمير المؤمنين هل رأيت ربك؟ قال (عليه السلام): (ويلك يا ذُغلب لم أكن بالذي أعبد رباً لم أره فقال كيف رأيته صفه لنا). قال (عليه السلام): (ويلك لم تره العيون بمشاهدة الأبصار ولكن رأته القلوب بحقائق الإيمان) فلأن الرائي بالعين المجردة حينما يرى شيئاً يعني يرى جسماً يشغل حيزاً بالفراغ. ولا يمكنه أن يرى شيئاً ليس بجسم ومن الممكن ألا ترى العين حتى بعض الأجسام المرئية فأنّى لها أن ترى ما ليس بجسم وقد أكدنا أن الله سبحانه وتعالى ليس بجسم لأنه ليس من الممكنات الحوادث وعليه لابُدّ من تأويل ما ورد للتقريب الذهني في القرآن الكريم والأحاديث الشريفة مما يتوهم القارئ بأنه (سبحانه) جسم. فمثلاً الآية القائلة: (يد الله فوق أيديهم) تعني قدرته وقوته الكبرى فوق القوى الأخرى وهكذا.
8 - أنّه لا يفعل قبيحاً
الكمال المطلق لا يصدر عنه القبيح لأنه حينما يصدر قبيحاً إما أن يكون جاهلاً بقبحه والجهل يخرج الله سبحانه عن دائرة الكمال المطلق وأما أن يكون جاهلاً بقبحه والجهل يخرج الله سبحانه عن دائرة الكمال المطلق وأما أن يكون عالماً بقبحه لكنه عاجز عن الترك والعجز صفة لا تليق بالكمال المطلق وإما أن يكون محتاجاً لفعل القبيح ونفينا حاجته - سبحانه وتعالى - لشيء. وإما أن يكون عابثاً والعبث ليس من صفات الحكيم الكامل فإذن كل ذلك مردود ومحال على الله عز وجل.
9 - أنّه سبحانه لا يشبه أحداً
وقد قررنا سابقاً أن الذي أوجدنا ليس مثلنا كما جاء في قوله تعالى في محكم كتابه المجيد: (ليس كمثله شيء) وقد قال الإمام علي (عليه السلام) في خطبته المشهورة: (الحمد لله الذي لا يبلغ مدحته القائلون ولا يحصي نعماءه العادّون ولا يؤدي حقه المجتهدون الذي لا يدركه بُعد الهمم ولا يناله غوصُ الفطن، الذي ليس لصفته حد محدود ولا نعت موجود ولا وقت معدود ولا أجل ممدود فطر الخلائق بقدرته ونشر الرياح برحمته ووتّد الصخور ميدان أرضه أول الدين معرفته وكمال معرفته التصديق به وكمال التصديق به توحيده وكمال توحيده الإخلاص له وكمال الإخلاص له نفي الصفات عنه لشهادة كل صفة إنها غير الموصوف وشهادة كل موصوف إنه غير الصفة فمن وصف الله سبحانه فقد قرنه ومن قرنه فقد ثناه ومن ثناه فقد جزأه ومن جزأه فقد جهله ومن جهله فقد أشار إليه ومن أشار إليه فقد حدّه ومن حدّه فقد عدّه ومن قال فيمَ فقد ضمّنه ومن قال علام فقد أخلى منه، كائن لا عن حدث، موجود لا عن عدم، وجد مع كل شيءٍ بمقارنه وغيّر كل شيءٍ لا بمزايله فاعل لا بمعنى الحركات والآلة)(23).
هذه الخطبة تحدثت عن كثير من الأمور وتضمنت الصفات السلبية عموماً حيث نفى عن الله سبحانه المشابه في الوجود كما في حديثنا عن الصفة الأخيرة حيث قال: (ولا نعت موجود) ونفى عنه الحدود الزمنية والمكانية والجسمية أيضاً. ولا بأس أن نشير في نهاية هذا البحث إلى حديث الإمام الباقر (عليه السلام) في هذا الصدد يقول (عليه السلام): (هل سمي عالماً قادراً إلاَّ لأنه وهب العلم للعُلماء والقدرة للقادرين وكلما ميزتموه بأوهامكم في أدق معانيه فهو مخلوق مصنوع مثلكم مردود إليكم والبارئ تعالى واهب الحياة ومقدر الموت ولعل النمل الصغار تتوهم أن لله زبانيتين أي قرنين فإنهما كما لها وتتصور أنّ عدمهما نقصان لمن لا يكونان له).
وأما في تعدد الأسماء الحسنى فقد روي عن ثقة الإسلام في (الكافي) بإسنادٍ حَسَنٍ عن هشام بن الحكم أنّه سأل مولانا الصادق (عليه السلام) عن أسماء الله واشتقاقها، الله ممّ هو مشتق قال: فقال لي: (يا هشام الله مشتق من إله والإله يقتضي مألوهاً والاسم غير المسمى فمن عبد الله دون المعنى فقد كفر ولم يعبد شيئاً ومن عبد الاسم والمعنى فقد كفر وعبد اثنين ومن عبد المعنى دون الاسم فذلك التوحيد أفهمت يا هشام).
قال فقلت زدني، قال: (إن لله تسعة وتسعين اسماً فلو كان الاسم هو المسمى لكان كل اسم منها إلهاً ولكن الله معنى يدلك عليه بهذه الأسماء وكلها غيره يا هشام، الخبز اسم للمأكول والماء للمشروب والثوب اسم للملبوس والنار اسم للمحرِق أفهمت يا هشام فهماً تدفع به وتناضل به أعداءنا والملحدين مع الله تعالى غيره)، قلت: نعم. وهذه الرواية تنفعنا فيما قررناه سابقاً بأن صفات الله عز وجل هي عين ذاته.
تحدثنا عنها في أثناء الحديث عن الصفات الذاتية الثبوتية وعن صفة الإرادة كذلك فهي صفات متداخلة مع صفات الذات فآثرنا أن نذكرهما معاً لتتم المعرفة بشكل سريع ومقارن.