قبل فهرست بعد

مكانة المرأة في التاريخ الاسلامي والبشري

الانحراف الفكري تجاه المرأة

مكانة المرأة في التاريخ الاسلامي والبشري   
لقد تعرضت الامم والشعوب للانحراف الفكري على صعيد الاُمور الكونية والانسانية نتيجة ابتعادها عن التعاليم الالهية التي كانت تُبلّغ عن طريق الكتب السماوية على لسان الانبياء ، وذلك اثر ابتلائها بحالة الكبر والعصبية ، وغالباً ما سلكت طريقاً مظلماً عند تقييمها للكون وما فيه من كائنات ، وطرحت مسائل بعيدة عن الحقيقة وقضايا مخالفة للواقع ، فعاشت حياةً قائمة على أساس ذلك الفهم الخاطىء والتقييم الظالم ، وبذلك فقد مارسوا ظلماً كبيراً بحق انفسهم وبحق الآخرين وخطّوا تاريخ الحياة على صفحات سوداء .
وكان تقييمهم للمرأة أحد تلك التقييمات البعيدة عن الحقيقة ، فقد كان أمراً يتعارض مع الاخلاق والانسانية ومسيره تتناقض مع الحق والحقيقة .
ومن خلال مطالعتي للكتب التي صُنفت في هذا المجال سواء منها التي كتبت في الغرب أو الشرق استنتجت ان الاقوام والشعوب التي ابتعدت عن الحق وانفصلت عن الوحي وانغمست في الاهواء النفسية والافكار الخاطئة في الشرق او الغرب كانت تحكم على المرأة بعشرة احكام ظالمة ومجانبة لمنطق العقل ولغة الانسانية ، وهذه الاحكام هي :
1 ـ ان المرأة كائن ضعيف وعاجز بتمام معنى الكلمة وعلى هذا الاساس يجب أن تكون تابعة ومطيعة للرجل في كافة النواحي دون اعتراض ، ولا يحق لها التدخل في أي شىء حتى في اطار بيتها الشخصي .
2 ـ انّها كائن ذو روح شيطانية ; وهي على ضوء هذا المعيار إما ان تخرج عن حدود الانسانية أو تُقيَّم بمستوىً يشترك بين الانسان والحيوان ، وعليه فلا قيمة لها ولا تستحق الاحترام ولا يمكن تصور اي لون من الوان الاعتبار لها .
3 ـ لا يحق لها التملك والتصرف بما يتسنى لها تملكه ، وبوسعها التملك في حالة رأى الرجل المصلحة في ذلك ، وهذا لا يعني تملكها ما تشاء .
4 ـ لا تحصل على ما يتركه الموروتون من ارث ، بل هي من الارث أيضاً حيث تورث بعد وفاة الأب أو الزوج .
5 ـ لا نصيب لها من التعبد وولوج الجوانب المعنوية لافتقاد عباداتها لاية قيمة ، ولا نصيب لها من الأجر لانها تعد كائناً في غاية الضعف من الناحية العقلية .
6 ـ لا يحق لها الانتساب إلى الاب أو الابن من الناحية القانونية والحقوقية ولا يربطها معهما الا الدم ، أي انّها تستطيع الانتساب إلى ابيها أو ابنها من خلال اشتراكها معهما في الدم فقط ، لا لكونها بنتاً للاب واماً للابن ! !
7 ـ إذا ما تزوجت فإنّ أولادها لا يعدون احفاداً لابيها ، فالغربة هي التي تحكم العلاقة بين والد المرأة وأبنائها ، والنسبة تنحصر في أبناء الذكور فقط .
8 ـ ثمة تباين تام بينها وبين الرجل في قضية الموت ، فالرجل يخلد بعد الموت والمرأة تفنى بعد انتهاء عمرها .
9 ـ حكمها حكم الاشياء في التصرف ، وعلى هذا كما يحق للرجل التصرف بأمواله وثروته يحق له التصرف بالمرأة ، فهو يستطيع اعارتها أو اجارتها ووهبها وبيعها وطردها وبالتالي قتلها .
10 ـ انّها بمثابة سلعة للتلذذ ، فهي مخلوقة لقضاء حاجة الرجل فقط ، والرجل لا يعرف قانوناً يحدد تمتعه بها والاستفادة منها ، وفي الفقرة العاشرة افرطت اوربا وامريكا بحق المرأة ، بما يفوق التصور ، فالمرأة في أغلب بلاد الغرب تمثل سلعةً توظف في دور السينما والتلفاز والفيديو والاقمار الصناعية والمجلات على اختلاف انواعها لغرض استقطاب المزيد من الزبائن والحصول على المزيد من العوائد المالية ! !

ردّ الاسلام على الانحرافات الفكرية تجاه المرأة

ان الاسلام دين الهي وثقافة تقوم على الفطرة ، ومنسجمة مع كافة شؤون الانسان والانسانية ، وقد شرّع الله تعالى الأحكام والقوانين الاسلامية بما ينسجم وكيان الانسان واعتباره ووجوده فهو الذي بنى الانسان ويعلم ماهيته وظاهره وباطنه وهداه إلى الحقائق التي يترتب عليه بلوغها .
وفيما يلي رد الاسلام على الاباطيل العشرة التي قيلت حول المرأة على مدى التاريخ ورسخت في أذهان الشعوب وتبلورت في اطار ثقافي :
1 ـ ان خلق المرأة وكيفية صنعها شبيه بالرجل وهي مصداق تام للحقائق التي ارادها الله من خلقها وهي تحمل بكل وجودها حقيقة الانسانية ، وباختصار فهي انسان بكل ما في الانسان من اعتبار ، قال تعالى :
( لَقَدْ خَلَقْنَا الاِْنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيم )(1) .
وقال تعالى أيضاً :
( صُنْعَ اللهَ الَّذِي اتْقَنَ كُلَّ شَيْء إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ )(2) .
وقال سبحانه :
( الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْء خَلَقَهُ )(3) .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ التين : 4 .
2 ـ النمل : 88 .
3 ـ السجدة : 7 .
2 ـ لقد اُودعت في المرأة روح الهية وانسانية محضة ، وهى الروح التي نفخت فيها من قبل الله سبحانه ، وبسبب هذه الروح منحها ميزة خاصة وجعلها مصدراً لتجلي الكمالات ، وهذه الروح لا تختلف عن روح الرجل ، وهوية مماثلة لهوية الرجل وجوهرة توازي جوهرة الرجل قال تعالى :
( يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِن نَفْس وَاحِدَة وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً )(1) .
وقوله تعالى :
( وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا )(2) .
وقد روي في تفسير العياشي عن الامام الباقر (عليه السلام) ما مفاده : ان الله خلق حواء من ما فضل من طينة آدم .
مثل هذه الآيات عدم وجود نقص أو خلل في خلقه المرأة ظاهرياً وباطنياً ، وروحها هي الروح التي نُفخت فيها من قبل الله تعالى ، والمرأة مخلوق كامل و مُتقن في أحسن تقويم وتجسيد لقوله تعالى « أتقن كل شيء » وبوسعها الاستفادة من قابلياتها وفطرتها وروحها وعقلها في ظل الهداية الالهية لبلوغ اسمى المراتب المعنوية ، كما بوسعها تجاهل كافة الحقائق والهبوط إلى اسفل السافلين .
3 ـ للمرأة حق المالكية ، وحيازة ما تحصل عليه عن طريق الاعمال المشروعة والمقبولة التي تؤديها ، كما انّها تماثل الرجل في مسألة مكليتها وتصرفها فيما يخضع لمالكيتها دون نقص ، يقول تعالى :
ــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ النساء : 1 .
2 ـ الروم : 21 .
( وَأَن لَّيْسَ لِلاِْنسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى )(1) .
أجل ، ان الانسان مالك لجهده وسعيه وعمله وحركته ، وهذه حقيقة منحها الله لكل انسان رجلاً كان أم امرأة في الدنيا والآخرة ، قال عزَّ من قائل :
( لاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَأْخُدُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً )(2) .
روي عن الامام الصادق ((عليه السلام)) :
« السرّاق ثلاثة : مع الزكاة ، ومستحل مهور النساء ، وكذلك مَنْ استدان ولم ينوِ قضاءه »(3) .
قال تعالى :
( وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً وَصِيَّةً لاَِزْوَاجِهِمْ مَتَاعاً إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاج )(4) .
وعد المهر والوصية بمصاريف المرأة بعد موت الزوج ، فقد اوصى تعالى الرجال فيما بعد الطلاق أيضاً فقال :
( وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقّاً عَلَى الْمُتَّقِينَ )(5) .
4 ـ المرأة ترث أبيها واُمها وزوجها وأولادها : يقول تعالى :
( كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِن تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالاَْقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ )(6) .
وقال تعالى :
ــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ النجم : 39 .
2 ـ البقرة : 229 .
3 ـ البحار : 100/349 .
4 ـ البقرة : 24 .
5 ـ البقرة : 241 .
6 ـ البقرة : 180 .
( لِلْرِجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالاَْقْرَبُونَ وَلِلْنِسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالاَْقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيباً مَفْرُوضاً )(1) .
ان هذه الآية الكريمة تريد محاربة العادات والتقاليد الخاطئة التي كانت تحرم النساء والاطفال من حقوقهم المسلّم بها ، وقد كان هذا التقليد الجائر سائداً لدى العرب فجاءت هذه الآية فابطلته .
5 ـ عبادة المرأه عندالله كعبادة الرجل فهي تحظى بالاهمية ونتيجتها الجنة والأجر الالهي ، والثواب المستحقّ نتيجة العبادة لا ينحصر بالرجال فالفضل والرحمة الالهيان فوزٌ خالد لعباده رجالاً كانوا ام نساءً . تقرأ في القرآن الكرم :
( مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِن ذَكَر أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ )(2) .
يستفاد من صريح الآية الكريمة ، ان إيمان المرء وعمله الصالح الذي يعتبر ثمرة إيمانه ، هو المعيار الوحيد في ميزان الله وليس هناك قيد أو شرط آخر لبلوغ الحياة الطيّبة والاجر الاخروي ، لا من حيث الذكورة والانوثة ولا من حيثالعمر ولا من حيث العرق أو القبيلة أو القومية ولا من حيث المقام والمرتبة الظاهرية .
قال رسول الله ((صلى الله عليه وآله)) :
« أفضل نساء أهل الجنة خديجة بنت خويلد ، وفاطمة بنت محمد ، ومريم بنت عمران ، وآسية بنت مزاحم »(3) .
فاذا كانت المرأة من أهل التعبد لله والايمان به ومعرفته فإنّها ستنال حياة طيبة وأجراً عظيماً من لدن الحق تعالى ، اما إذا اتجهت نحو الفساد والالحاد كالفسقة من الرجال فستكون ممن يستحق العذاب الأبدي .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ النساء : 7 .
2 ـ النحل : 97 .
3 ـ المواعظ العددية : 201 .
لقد استحقت امرأتا نوح ولوط العذاب والخلود في جهنم لكفرهما بدين الله وايغالهن في انكاره ، وقد ورد في القرآن :
( ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَةَ نُوح وَامْرَأَةَ لُوط كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللهَ شَيْئاً وَقِيلَ ادْخُلاَ النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ )(1) .
ان سورة مريم وسورة الدهر والآيات ذات الصلة بزوجة فرعون كلها تثبت ان المرأة تخطى بمنزلة رفيعة في الجانب العبادي ، وفي الآخرة لها الاجر العظيم والثواب الجزيل ، وكل ذلك يمثل صفعة قوية في وجه ثراثرة التاريخ الذين يزعمون افتقاد عبادة المرأة للمنزلة عند الله والاديان .
6 ـ المرأة بنت أبويها واُم أبنائها ولا يقوى أحدٌ على سلب هذا النسبعنها حيث يعتبر سلب هذا النسب اجحافاً بحقها وعملاً خبانياً ، والقرآن الكريم يعتبر البنت كالولد أبناءً حقيقين للابوين ، وإذا ما تزوجت وانجبت ذريةً فهي اُمهم .
وقد اعرب القرآن عن سخطه على العرب لما كانوا يرتكبونه من وأد البنات ، ونهى نهياً مبرماً عن ذلك العمل القبيح قائلاً :
( وَلاَتَقْتُلُوا أَوْلاَدَكُم مِنْ إِمْلاق  )(2) .
تلاحظون ان الآية الكريمة عبّرت عن البنت بأنها ولدٌ ، أو ما نقرؤه في الآية ذات العلاقة بالارث حيث يقول تعالى :
ــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ التحريم : 10 .
2 ـ الانعام : 151 .
( يُوصِيكُمُ اللهُ فِي أَوْلاَدِكُم لِلْذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الاُْنْثَيَيْنِ  )(1) .
بصريح الآية الكريمة عبّر تعالى عن البنت بأنّها ولدٌ ، وهذا يمثّل رداً قاطعاً على مزوري التاريخ .
اما بشأن كونهن امهات أبنائهن فيقول تعالى :
( وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلاَدَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ)(2)
وفيما يتعلق بقصة موسى ((عليه السلام)) يقول تعالى :
( وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى)(3)
ويقول رسول الله ((صلى الله عليه وآله)) بحق فاطمة ((عليه السلام)) :
« فاطمة بضعة منّي »(4) .
ويقول ((صلى الله عليه وآله)) في رواية اخرى :
« أولادنا أكبادنا »(5) .
7 ـ أما أولاد المرأة فهم احفاد ابيها بلا شك ، والاهتمام الذي كان يوليه الرسول الاكرم ((صلى الله عليه وآله)) للحسن والحسين ((عليهما السلام)) يعتبر دليلاً على بطلان ثرثرة الجاهلين الذين كانوا يزعمون ان أولاد المرأة ليسوا احفاد أبيها .
وقد أكد الفقه الاسلامي على ارتباط من كانت امهم علوية بالرسول الأكرم ((صلى الله عليه وآله)) ، بل ان مرجع الشيعة الكبير السيد المرتضى كان قد افتى بجواز اعطاء الخمس لمن ينتسبون إلى رسول الله ((صلى الله عليه وآله)) عن طريق الأم .
8 ـ المرأة لا تفنى بالموت ، بل لها كما للرج دار بقاء وحياة خالدة ، وهي
ــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ النساء : 11 .
2 ـ البقرة : 233 .
3 ـ القصص : 7 .
4 ـ البحار : 43/23 .
5 ـ سفينة البحار : 8/580 .
تخلد في الجنان إذا كانت عابدة لله تعالى ، وتخلد في العذاب إذا ما نأت بنفسها عن عبادته ، وتوضح هذا المعنى بصراحة أكثر من الف آية تناولت الآخرة .
9 ـ المرأة ليست شيئاً ، بل هي بصريح آيات كتاب الله مخلوقٌ عاقل ذو ارادة وهي على حد سواء مع الرجل في جوهر الخلقة ومصدر الطبيعة ، وتتمتع بكافة الخصائص والمزايا الانسانية والالهية .
10 ـ المرأة ليست شهوة بل هي شريك الرجل وأحد اسباب بقاء النوع ، وتمثل نصف المجتمع ، والاقتران بها يعد عبادة إذا ما كان بنّية صالحة ، والتعامل الصحيح والسليم معها يعتبر محفزاً للتزود للآخرة ونيل السلامة في الحياة الاخروية .
يقول تعالى :
( نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتوْا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ وَقَدِّمُوا لاَْنْفُسِكُمْ وَاتَّقُوا اللهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلاَقُوهُ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ)(1)
وقد اراد سبحانه من خلال التعبير بـ« حرث » ان يجسد ضرورة وجود المرأة في المجتمع الانساني ، وان المرأة ليست اداة لاطفاء الشهوة ، بل هي قاعدة صالحة وأداة طاهرة للمحافظة على حياة النوع البشري .
ويعتبر هذا الكلام تحذيراً جاداً للذين ينظرون للانثى على انّها دمية ووسيلة للهو .
وقوله تعالى : ( وَقَدِّمُوا لاَْنْفُسِكُمْ ) أي اعدّوا لآخرتكم زاداً من خلال ممارسة الجماع مع المرأة وهو اشارة إلى حقيقة ان اللّذة واشباع الشهوة لا تعتبر الهدف المنشود من الجماع ، ويترتب على المؤمنين الاستفادة من هذا العمل لغرض تربية الذرية الصالحة ، واعداد هذا العمل المقدس على انّه ذخيرة معنوية لغدهم ، من هنا فإنّ القرآن يوجه تحذيره بضرورة مراعاة قواعد اختيار الزوجة لتكون نتيجة ذلك تربية أولاد صالحين واعداد هذه الذخيرة الاجتماعية والانسانية العظيمة .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ البقرة : 223 .
ونظراً لأهمية موضوع البحث الوارد في مطلع الآية وهو المواقعة الجنسية وهو يتحدث عن أكثر غرائز الإنسان جاذبية وهي الغريزة الجنسية فقد دعا سبحانه الانسان من خلال عبارة ( وَاتَّقُوا اللهَ ) إلى الدقة في عملية المواقعة والالتزام بالتعاليم الالهية ، وفي آخر الآية يلفت النظر إلى انهم سيسرعون يوم القيامة إلى لقاء الله وتلقّف نتائج اعمالهم ، وفي القسم الاخير من الآية بشّر تعالى المؤمنين الذين يذعنون لهذه التعاليم التي تصب في صالحهم على الصعيدين المادي والمعنوي من حياتهم ، فقال :
( وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ )(1) .
وفي رواية مهمة عن الامام الصادق ((عليه السلام)) يبين فيها اهمية وعظمة هذا الكيان المفعم بالمحبة .
ان الله عزوجل خلق آدم ثم ابتدع له حواء فجعلها في موضع الفقرة التي بين وركيه وذلك لكي تكون المرأة تبعاً للرجل ، فقال آدم : يا رب ما هذا الخلق الحسن الذي قد آنسني قربه والنظر إليه ؟ فقال الله : يا آدم هذه اُمتي حواء أفتحب أن تكون معك تؤنسك وتحدثك وتكون تبعاً لامرك ؟ فقال : نعم يا رب ولك بذلك عليّ الحمد والشكر ما بقيت(2) .
نعم ، ان المرأة الصالحة والزوجة الوفية ، نعمة الهية تستلزم شكرالله وحمده إلى آخر العمر ، يقول الامام الصادق ((عليه السلام)) :
ــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ تفسير نمونه : 1/97 .
2 ـ الوسائل : 14/2 .
« أكثر الخير في النساء »(1) .
انّها رواية عجيبة حيث اعتبر الامام ((عليه السلام)) المرأة منبعاً لأكثر الخير ، نعم ، فالزواج من المرأة حفظٌ لنصف الدين ، واداء حقوقها عبادة ، وحبُّها طاعة لله تعالى ، والظفر بولد صالح منها زادٌ للآخرة ، وخدمتها مدعاة لرضى الله ، وكما يعبّر رسول الله ((صلى الله عليه وآله)) :
« الجنّة تحت أقدام الامهات » ، وذلك هو الخير الذي عبّر عنه الامام الصادق ((عليه السلام)) .
اننيى ادعو الشباب الأعزاء الذن يعتزمون الزواج أو قد تزوجوا ، وكذلك أدعو المؤمنين إلى الاهتمام بهذه الحقائق الالهية حول المرأة ، وان يتورعوا عن اجحاف حقوقها ويقدّروا حياتهم مع هذه الجوهرة النفيسة ، واوصي الفتيات اللواتي يعتز من الزواج أو اللواتي تزوجن وكذلك ادعو سائر النساء إلى معرفة قدرهنّ من خلال ادراك هذه الاُمور وليشكرن الله على انوثتهن ويكنَّ زوجات لائقات لأزواجهن استناداً إلى هدي القرآن واحاديث النبي الكريم ((صلى الله عليه وآله)) والأئمة الاطهار ((عليهم السلام)) ويستفدن من عواطفهن ومشاعرهن في مجال الانوثة والحياة الزوجية والامومة ، ويراعين الاوامر الالهية في جميع مرافق الحياة ، كي ينعمنَ ببيت واُسرة صالحة وأولاد صالحين ويعشن حياةً ملؤها والسعادة ، وينلنَ عن هذا الطريق رضى الله ، ويعطرن الحياة بالصفاء والمحبة والنور والجمال مَنْ خلال اعمالهن وسلوكهن واخلاقهن وتصرفاتهن .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ الوسائل : 14/11 .

نظرة اخرى لحياة المرأة ومكانتها في التاريخ

ان ما تعرضت له المرأة على ايدي الجهلة على مر التاريخ امر يثير الدهشة ، فالمرأة بنظر من كانوا يعيشون بعيداً عن منطق الحق ونور الوحي كانت بمثابة اداة ووسيلة لارضاء غرائز الرجل ، ويعتبرونها سبباً في اثارة شهواته .
وكانوا يرون خطورة تعلمها القراءة والكتابة ، ولا يسمحون لها بالخروج من الدار لقضاء الحاجات الحياتية وزيارة الارحام ، ويحددون حياتها بين جدران المنزل ، ويعدونها فاقدة للاختيار ازاء الرجل الذي يعتبرونه فعالاً لما يريد .
ففي المناطق المسيحية التي انحرف فيها الناس 180 درجة عن الديانة المسيحية كانوا يقولون : يجب كمُّ فم المرأة كمايُكم فم الكلب ، وكانوا يشككون في روح المرأة هل هي روح بشرية ام حيوانية ؟ !
وكانت المرأة في افريقيا تعامل ، كالبضاعة والثروة ولا يرون لها قيمة أكثر من قيمة البقرة أو رأس الغنم ، والاغنى لديهم مَنْ تحت تصرفه أكثر عدد من النساء ، ثم ان بيع المرأة وشراءها واستخدامها لحراثة الارض كان عملاً متعارفاً وعادياً .
وكانت النساء في كلدة وبابل تباع كسائر السلع ، ويقام في كلِّ عام سوقٌ لهذا الغرض حيث تعرض البنات ممن بلغن سنّ الزواج انفسهن للبيع .
وفي الهند كانوا يزوجون الفتاة وهي في الخامسة من عمرها ، ولا يرون لها حقاً ، وكانوا يعتبرون حياة المرأة مرهونة بحياة الرجل فعندما يموت الرجل يحرقونها معه ، وليس هنالك مخلوقٌ في نظرهم اسوء من الارملة .
وفي عصرنا الراهن تكتب الصحف ان الكثير من الهندوس يقتلون بناتهم وهن في سنّ الطفولة خشية عدم القدرة على توفير اثاث الزواج لهن .
في الصين وهضبة التبت لم يكن للنساء حقٌ سوى العمل في اطار المنزل ، وكانوا يقيدون الاناث بقوالب حديدية بعد الولاة لاضعاف قدرتهن على المشي ثم يفصلون تلك القوالب عن اقدامهن عند بلوغهن الخامسة عشر !
وفي اليونان التي كانت مركزاً للعلم والفلسفة والحكمة ، كان انجاب المرأة للانثى يعد جرماً ، وإذا ما انجبت انثى لمرتين فإنّها تحاكم وتجبر على دفع غرامة ، وإذا ماكررت ذلك ثالثة فإنّها تحكم بالاعدام !
اما في الجزيرة العربية فقد كان دفن البنات وهن احياء امراً عادياً وبسيطاً كما نوّه اليه القرآن الكريم :
(وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُم بِالاُْنثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدّاً وَهُوَ كَظِيمٌ * يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِن سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُون أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلاَ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ)(1) .
هذا بعض ما تعرضت له المرأة من جرائم على أيدي الجاهلين والحمقى ، وقد وردت تفاصيل ذلك في الكتب التي تتناول حياة المرأة وبامكانكم الرجوع اليها .
لقد اطلعتم على رأي الدين الاسلامي الحنيف بشأن المرأة من خلال النقاط العشر التي طرحت آنفاً ، واستناداً إلى ما ورد في القرآن والروايات من تعابير بحق المرأة من قبيل :
اُم : مصدر ومنبع كل شيء(2) حرث : مبعث بقاعٌ النوع(3) .
لباس : غطاء الحياة(4) .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ النحل : 58 ـ 59 .
2 ـ القصص : 7 .
3 ـ البقرة : 223 .
4 ـ البقرة : 187 .
تسكين : سبب السكينة(1) .
ريحانة : باقة ورد ظريفة(2) .
نعمة : رحمة الله(3) .
يتعين على الرجال والشباب مَنْ تزوج منهم أو الذين يعتزمون الزواج ايلاء المزيد من الاهتمام بالمكانة المعنوية والآثار الوجودية لهذا المخلوق الجميل ذي المنافع الثرّة ، وليعلموا ان انبياء الله والاولياء والعلماء والعارفين والحكماء والكتّاب والمراجع والصالحين من عباد الله قد خرجوا من احضانهن الطاهرة إلى دائرة الوجود ، وهنَّ منبعُ كل هذا الخير والبركة التي تعم حياة البشر .
وعلى الآباء والامهات التشديد أكثر فأكثر من اجل تبلور الكمال في نفوس بناتهم ، والسعي إلى حد التضحية لتربيتهن تربية الهية وانسانية ، وعلى الأزواج اداء حقوقهن بمنتهى الرصانة والادب حتى تتهيأ احضانهن في بيوت آبائهن أو في ظل رعاية الأزواج لحقوقهن لتربية جيل صالح . وبذلك يتم رفد المجتمع البشري معنوياً وعلى افضل نحو .
ألم يولد الامام الثاني عشر ، ناشر راية العدل على العالمين في الحضن الطاهر لامرأة كانت تعتنق المسيحية وقعت اسيرة في الحرب ثم دخلت بيت الامام الهادي ((عليه السلام)) وتلقت التربية الالهية من قبله ومن السيدة حكيمة ؟
هكذا هي المرأة ، فهي ينبوع من الكمال والحقائق الكامنة التي تتفجر حين يشرق عليها نور هداية الوحي وتخضع لتربية معلم يتصف بالصلاح ، وتصبح مصدراً لمعطيات خالدة ومناهل دائمية .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ الروم : 21 .
2 ـ الروايات الواردة في الوسائل في باب الأولاد .
3 ـ نفس المصدر .
ان احتقار المرأة والتعرض لشخصيتها وتقييدها باُمور تخرج عن اطار التعاليم الاسلامية ، وزجرها ومنعها من زيارة الوالدين والاقارب والتعايش معها بعنف وحدّة ونقل متاعب العمل ومشاكله إلى البيت وعدم تلبية حاجاتها لا سيما غرائزها الجنسية ، كل ذلك مما يرفضه الدين وتعتبر اعمالاً قبيحة وظلماً فاحشاً .
ولو اردتم بناء الحياة على اساس الحب والمودة فعليكم احترام شخصية المرأة ، والتعبير لها عن محبتكم ومودتكم ، واعانتها في اعمال البيت ، وتجنب ايذائها ، والتجاوز عن بعض الاخطاء الناجمة عن الاعمال اليومية والاتعاب التي تواجهها وطبيعة تكوينها ، حتى تتذوقوا حلاوة الحياة ، وبهذا تكونون قد عبدتم الله سبحانه عبادة لا تضاهى .
ان المرأة تمثل مصدر الخير وينبوعه وحرث الانسانية ، وهي لباسكم في الدنيا ومدعاة الراحة وهي الريحانة التي تزين حديقة الوجود ، وهي نعمة الله .
لقد قرن رسول الله((صلى الله عليه وآله)) حبّ المرأة إلى جانب حب الطيب والصلاة،فقال((صلى الله عليه وآله)):
« حَبّبَ اليّ من الدنيا النساء والطيب وقرة عيني الصلاة »(1) .
وإذا ما ادى المرء حقوق المرأة واحترم شخصيتها ، وظفر منها بولد صالح فإنّ ملف عمله لا ينقطع حتى بعد موته ، بل ينعم بما يتمتع به ولده من صلاح وطهارة .
قال رسول الله ((صلى الله عليه وآله)) :
« إذا مات الانسان انقطع عمله الاّ من ثلاث : من صدقة جارية ، وعلم يُنتفع به ، أو ولد صالح يدعو له »(2) .
فاعرفوا ايها الآباء والامهات قدر البنت ، وقدّروا ايها الرجال زوجاتكم الطاهرات الصالحات ، فالبنت والزوجة غدير خير لدنيا الانسان وآخرته .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ البحار : 13.html/218 .
2 ـ المواعظ العددية : 138 .
« لا تكن عبد غيرك وقد جعلك الله حرّاً »
ــــــــــــــــــــــــــــــــــ
البحار : 77 / 217

استقلال الرجل والمرأة في الاسلام

استقلال الانسان وحريته

استقلال الرجل والمرأة في الاسلام   
ان خلق الانسان يرتكز على تحرر الروح والاستقلال في شؤون الحياة والحرية في الاختيار ، فلا يحق لأحد استعباد الانسان واسترقاته وتسخيره رهناً لمآربه .
وسلب الحرية والاستقلال والاختيار من اي انسان يعدُّ ذنباً كبيراً وخيانة عظمى ، وقد عُجنت الحرية والاختيار والاستقلال مع وجود الانسان ، وخلقت مع فطرة الانسان وطبيعته ، فالحرية والاستقلال من أعظم النعم التي منَّ الله بها على الانسان واشرف مناهل الكمال وارتقاء مدارج السمو ظاهرياً وباطنياً .
والاجواء التي تتسم بالحرية هي أفضل الاجواء ، والظروف التي تتوفر فيها حرية الاختيار والانعتاق هي من أروع الظروف بالنسبة للانسان .
وهذا الجانب يمثل اهم الدوافع في مقارعة الاسلام للظلم ، اذان الاسلام قد أعلن حرباً ضاريةً ضد مَنْ يشيد كيانه على اساس استعماري واسغلالي ويحاول استعباد البشر الذين خُلقوا احراراً ، وقد انصبت التعاليم الاسلامية في مسألة الجهاد من أجل تحطيم عروش الظلم والظالمين الذين يتجاوزون على الحرية والاستقلال .
ان جميع ما لحق بالبشرية من دمار على مر التاريخ انما هو نتيجة لسلب الحريات والتجاوز على حرية البشر واستقلالهم .
وان الخضوع للاستبداد والقوة وارتضاء الظلم وهدر الحرية يعتبر من اعظم الخطايا وسبباً في الحرمان من رحمة الحق تعالى وتعريض المصالح إلى الخطر بجانبيها المادي والمعنوي .
ومن الواجب المحافظة على الحرية والارادة وحق الاختيار التي وهبها الله سبحانه للانسان في سبيل كماله وتفتح قابلياته ، ويتعين الدفاع عنها إذا ما تعرضت للاخطار حتى وان كلّف ذلك التضحية بالنفس .

قصة عن الحرية

ورد في كتب التاريخ : ان يزيد بن معاوية دخل المدينة وهو يريد الحج فبعث الى رجل من قريش فأتاه ، فقال له يزيد : اتقرّ لي انك عبدٌ لي ان شئتُ بعتُك وان شئتُ استرققك ؟ فقال له الرجل : والله يا يزيد ما أنت باكرم مني في قريش حسباً ولا كان ابوك افضل من ابي في الجاهلية والاسلام ، وما انت بافضل مني في الدين ولا بخير مني فكيف أقر لك بما سألت ؟
فقال له يزيد : ان لم تقرّ لي والله قتلتك ، فقال له الرجل : ليس قتلك إياي باعظم من قتلك الحسين بن علي ((عليهما السلام)) ، ابن رسول الله ((صلى الله عليه وآله)) فأمر به فقُتل(1) .
قال أمير المؤمنين ((عليه السلام)) : « ايها الناس ان آدم لم يلد عبداً ولا أمة وان الناس كلهم احراراً »(2) .
وقال ((عليه السلام)) أيضاً : « لا تكن عبد غيرك وقد جعلك الله حراً »(3) .
وينبغي الالتفات إلى ان المراد من الحرية هو تحرر الانسان من عبودية أبناء جلدته والشهوات والنزعات المنحرفة والانحرافات الاخلاقية .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ روضة الكافي : 313 .
2 ـ ميزان الحكمة : 2/351 .
3 ـ البحار : 77/214 .
عندما يأتي الانسان إلى الدنيا فهو يدخلها طاهراً مطهراً بمثابة الجوهرة النفسية ، مخلوقاً متحرراً من عبودية الغير ، كريم النفس ، شريف الكيان ، وباختصار منعتقاً من الرذائل والموبقات مالكاً للارادة والاختيار ، وقد جاءت الهداية الالهية عن طريق العقل والفطرة والابنياء وما ورد في القرآن الكريم وسيرة الائمة وجهود العلماء والحكماء لدفع الانسان من أجل الاستفادة من هذه الحرية والارادة والاختيار ويحسن الانتفاع من حريته في ظل هذه الالطاف والرعاية الالهية ، ويبادر إلى اختيار ما حَسُن من الامور لينال من خلال هذا السبيل سعادة الدنيا والآخرة .
وإذا ما غفل الانسان عن ذلك وتنكر للهداية الالهية فلا شك في انّه سيفقد ما بحوزته من جوهرة الحرية والارادة وحق الاختيار في مواجهة الفراعنة والطواغيت ويستسلم ازاء الحرص والتكبر والحسد والغرائز والنزعات ويتحول إلى عبد لدنياه وللاخرين ولشهواته وغرائزه ويقع اسيراً للطمع والبخل ولن ينتهل من منهل الكرامة والسعادة ولا ينعم بخير الدنيا والآخرة .
ان الذين يتشبثون بكل فعل مناف للشرع وينغمسون بالمعاصي والذنوب ويطيعون ما هبَّ ودبَّ من البشر ويصورون الطيش والانفلات حرية ، إنما هم عبيد جهلاء ورقيق أذلاء ومخلوقات دنيئة .
يقول أميرالمؤمنين ((عليه السلام)) : « من ترك الشهوات كان حراً » .
وقال ((عليه السلام)) أيضاً : « الدنيا دارُ ممرٍّ والناس فيها رجلان : رجلٌ باع نفسه فاوبقها ، ورجلٌ ابتاع نفسه فاعتقها » .
وقال الامام الصادق ((عليه السلام)) : « خمس خصال من لم تكن فيه خصلةٌ منها فليس فيه كثير مستمتع : أولها الوفاء ، والثانية التدبير ، والثالثة الحياء ، والرابعة حسن الخلق ، والخامسة وهي تجمع هذه الخصال : الحرية »(1) .
وعن علي ((عليه السلام)) انّه قال : « لا يسترقنّك الطمع وقد جعلك الله حراً »(2) .
وعنه ((عليه السلام)) أيضاً : « مِنْ توفيق الحر اكتساب المال من حلِّهِ »(3) .

اشارة مهمة

بالنظر إلى ما تنطوي عليه الحرية من حقيقة ومعنى ، واهمية الارادة وحق الاختيار ، وان الانسان يصل إلى اسمى المنازل والمراتب والمقامات التي تفوق التصور إذا ما انتفع من حريته وارادته وحق الاختيار الذي يتمتع به في ظل الهداية التي أنعم الله بها عليه ، فالحري بنا السعي من أجل المحافظة على حريتنا ما دمنا على قيد الحياة وازاء جميع الحوادث والابتلاءات اذ يترتب على ذلك نيل رضى الباري تعالى .
الكل يعلم ان الذرة مركبة من نواتين وعدة الكترونات ، وهذه الاخيرة تتجاذب فيما بينها وتدور حول المركز الذرة وفق نظام خاص وسرعة محددة وفقاً لارادة الحق سبحانه ، وما دام هذا الدوران وهذه السرعة قائمان في ظل ذلك النظام والجاذبية فإنّ الذرة مستقرة في مكانها وتتولى القيام بكلّ عمل من شأنه المنفعة ، ولكن ما ان تنقطع تلك الجاذبية وتخرج الالكترونات عن اطار نظامها الخاص وتحدث فجوة بينها وبين النواة المركزية فلن تورث الاّ الخراب والفساد والدمار .
الانسان شبيه بالذرة ، فنواته المركزية فطرتُه وروح التوحيد والعبودية التي تنطوي بين جوانحه ، وقوام كيانه يتمثل في انجذاب كافة قواه وجوارحه الظاهرية والباطنية نحو الحق تعالى وتحركها على ضوء المشيئة الالهية ، ولا يبتعد عن بارىء الكون وتعاليمه في كل حركاته وسكناته ، اذ ان الابتعاد عنه تعالى والخروج عن نطاق معرفته ومحبته والانفصال عن محوريته انما يعني الفساد والافساد في جوارح الانسان وباطنه وظاهره .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ المواعظ العددية : 268 .
2 ـ ميزان الحكمة :2/351 ـ 352 .
3 ـ نفس المصدر .
يقول تعالى : ( فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَأُعَذِّبُهُمْ عَذَاباً شَدِيداً فِي الدُّنْيَا وَالاْخِرَةِ وَمَا لَهُم مِن نَاصِرِينَ )(1) .
والزواج من جملة العوامل التي تمنع الانسان من الوقوع في بعض المفاسد ، فعند ما يتمتع الانسان بالاهلية أي الايمان والأخلاق والعمل بما تتسع له طاقته ويظفر بالزوجة الصالحة الكفوءة حينذاك سيسيطر على كيانه ظاهرياً وباطنياً إلى حد ما ، وبذلك تُحفظ حريته ويصان من عبودية الشهوات المحرّمة والموبقات واصدقاء السوء .

زوجة صالحة وكريمة

في عامل 60 هـ توجه زهير بن القين البجلي وبعض ذويه إلى مكة المكرمة لاداء مناسك الحج ، وبعد ان ادى الحج قفل عائداً بقافلته الصغيرة إلى دياره .
كان يدور في خلد زهير انّه عائدٌ إلى بيته ، الاّ ان المصير كان يخبّيء عكس ذلك ، فزهير كان يتوجه من بيت الله إلى الله ، غير انّه لم يكن على علم بهذه الحقيقة .
لم يكن زهير اثناء عودته يرغب ان يحل في منزل يجمعه مع الحسين ، فاذا حط ركب الحسين ((عليه السلام)) رحالة في منزل ما رحلَ ركب زهير لينزل في مكان آخر ، فكان يحاول جاهداً انّه لا يرى الحسين ((عليه السلام)) او يقابله ! وعلى طول الطريق ثمة نهر عذب المياه ينبع من جبال مكة لينتهي عند البحر !
ــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ آل عمران : 56 .
لقد كانت مكانة زهير الاجتماعية تحتم عليه ان يفعل ذلك ، فهو لم يكن من اتباع علي وآل علي ((عليه السلام)) بل لم يكن على صلة بهذه الاسرة وانما كان عثماني الهوى ومن المقربين لدى الحكم الاموي ومن انصار الجهاز الحاكم .
ومن جانب آخر فهو يعرف الحسين ((عليه السلام)) جيداً ويكنّ فائق الاحترام لآل علي ((عليه السلام))ولم يكن يرغب المشاركة في قتل الحسين بن علي ((عليه السلام)) بل يريد الوقوف على الحياد ، فيحافظ على علاقته بالنظام الاموي ولا يقاتل الحسين ((عليه السلام)) ، ومقابلته للحسين ((عليه السلام)) تعارض هذا المراد ، وقد وصلت الاخبار إلى يزيد بما مفاده ان زهيراً قد التقى الحسين ((عليه السلام)) .
ماذا يصنع إذا دعاه الحسين ((عليه السلام)) لنصرته ؟ فإن نصره فذلك يعني الافتراق عن رفاق دربه ومسلكه ، وان ابى فليس من الوارد رد الحسين ((عليه السلام)) فهو ابن علي وفاطمة رجل عظيم المنزلة ، سبط رسول الله ((صلى الله عليه وآله)) ، كيف يُعصى أمره ، وبمَ يجيب الحق تعالى يوم القيامة ، وكيف يتحمل عذاب نار أوقدها بارؤها ؟
الحياد افضل الخيارات ، فلابد اذن ان ينزل ركب زهير في مكان لا يُتوقع فيه مقابلة الحسين ((عليه السلام)) ، . . . وكان زهير يريد شيئاً والمصير يريد شيئاً آخر .
كانت المنازل في الجزيرة العربية متباعدة ولا مناص من ان تضع القوافل رحالها في منزل ما شاءت أم ابت ، واُجبرت قافلة زهير على أن تجتمع مع قافلة الحسين ((عليه السلام)) في أرض واحدة ، الأرض التي صنعت من العثماني علوياً ومن اليزيدي حسينياً ! !
فَنُصبت خيام زهير ، وعلى مقربة منها خيام الحسين ((عليه السلام)) ، وقد كان الحسين ((عليه السلام)) على علم ببطولة زهير ورجولته وشهامته وفصاحته وبأسه وعلمه ، اذن من الغبن بقاؤه خارج نطاق الانسانية بما يمتلكه من مؤهلات ، ويبقى قابعاً في ظل وحوش كاسرة من امثال بني امية ، ولا ينتفع هذا الحر من حريته ، وليس من الملائم ان تدفن هذه الجوهرة الثمينة بين الانقاض وتنطفىء جذوة هذا الانسان العظيم .
وفي هذا المنزل أيضاً لم ينفك زهير عن التزام الحذر ، فقد سعى جاهداً ان لا يواجه الحسين ((عليه السلام)) ولا يدنو منه ، فالحسين ((عليه السلام)) ثائر بوجه الحكم القائم ، وزهير من انصار هذا الحكم ، والنظام يتوقع من انصاره معاداة اعدائه والمبادرة إلى قمع المتمردين عليه ، فيما يعتبر التقرب إلى هؤلاء الاعداء جُرماً لا يغتفر .
وفيما كان زهير جالساً في خيمته يتناول الطعام مع ذويه فاذا برسول الحسين ((عليه السلام)) يطلّ عليهم مسلما قائلاً :
زهير ! الحسين بن علي ((عليه السلام)) يدعوك .
هنا اصبح زهير أمام ما كان يحذر ، فلم يستطع الكلام لما اصابه من اضطراب ، وسُدّت أمامه جميع نوافذ التفكير ، اذ لم يكن يتوقع ذلك ، واصابته الحيرة ، ماذا يصنع ؟ هل يتجاهل دعوة الحسين ((عليه السلام)) ويتمرد عليها ، أم يتنكر ليزيد وينطلق نحو الحسين ((عليه السلام)) ؟ فكلا الخيارين يتناقضان مع ما كان يبتغيه من حياد ، وقد بلغ الحال حداً يتعذر معه التزام الحياد .
استحوذ صمتٌ مروع على الجميع ، والقت الافواه ما فيها من طعام ، اذ دُهشوا عن الاكل والكلام ، فيما كان رسول الحسين ((عليه السلام)) واقفاً يرقب الاوضاع قد استحوذته الحيرة ، فأخذ يتساءل مع نفسه : لِمَ هذا السكوت ، ولِم لا يأت زهير معه ، ولماذا لا يرفض المجيء ؟ فليس هنالك ضغط من قبل الحسين ((عليه السلام)) ، وزهيرٌ حرٌّ في اتخاذ القرار .
مضت دقائق على هذا المنوال وزهير لم يقوّ على اتخاذ القرار ، فلا بد هنا من بصيص نور ينقذ زهيراً من الحيرة والازدواجية ويدفعه إلى اتخاذ القرار .
لقد كانت اصعب اللحظات على زهير مدى حياته ، ففيها وقف على مفترق طريقي الموت والحياة ، فهو كان على علم بصرامة النظام ، انّه على معرفة باصحاب الحسين ((عليه السلام)) ، ويعلم ان الحسين ((عليه السلام)) مقتولٌ لا محالة هو ومن معه ، وان عياله تُسبى ، ويعرف إلى مَ يدعوه الحسين ((عليه السلام)) ، وان طريق الحسين ((عليه السلام)) هو طريق الجنة وطريق يزيد طريق النار ، وتلك السعادة وهذه الشقاء .
وإذا بالبارقة تتقد وتبادر امرأة إلى اختراق جدار الصمت وتعيد إلى زهير القدرة على اتخاذ القرار ، ولم تكن تلك المرأة سوى دلهم زوجته ، فقالت : سبحان الله ايدعوك ابن رسول الله ((صلى الله عليه وآله)) ولا تجبه ؟ ! واسمع ما يقول !
لا حظوا اي عمل صالح تفعله المرأة الصالحة ؟ !
نهض زهير وتوجه نحو الحسين ((عليه السلام)) ، ولم يطل المقام حتى عاد زهير والبسمة تعلو محيّاه قد زال عنه الهم ، وطفح السرور على تقاسيم وجهه ، فقد انجلى الظلام وحلّ النور ، ولّى زمان الحياد وحلَّ زمان الانحياز إلى الحق .
ولم يكن لاحد علمٌ بما قاله الحسين ((عليه السلام)) لزهير وما سمعه زهير في غضون تلك المدة الوجيزة .
لما عاد زهير إلى خيمته أمر بنقلها إلى جانب خيام الحسين ((عليه السلام)) فالتحق النهر بالبحر ، وتحول زهير من معسكر يزيد إلى معسكر الحسين ((عليه السلام)) وتحرر من قيود الظلم ، ودخل رحاب العدالة ، واصبح علوي الهوى بعد ان كان عثمانياً .
تأملوا كيف تبحث السعادة بنفسها عن ابن آدم ؟
ثم خاطب زهيرٌ من كان معه قائلاً : من ارادني فليتبعني والاّ فالوداع ، فالتحق به سلمان البجلي وهو ابن عمه واصبح من انصار الحسين ((عليه السلام)) ، وقد استشهد يوم عاشوراء بعد ان ادى صلاة الظهر خلف الحسين ((عليه السلام)) .
لقد هجر زهير الدنيا وما فيها والتحق بالحسين ((عليه السلام)) ، فقد كان مع الحسين واستشهد معه وهو معه الآن خالدٌ في ذلك العالم .
ودَّع زهيرٌ زوجته قائلاً : الحقي بقومك كي لا يمسكِ سوٌ بسببي ، واعطاها ما لها من حقوق وسرَّحها مع ابن عمها إلى قومها ، فبكت دلهم بكاءً شديداً وودعت زوجها قائلة : رعاك الله ونصرك واراك خيراً ، ولا اريد منك الاّ ان تذكرني يوم القيامة عند رسول الله ((صلى الله عليه وآله)) .
نعم ، لقد صودرت الحرية وحق الاختيار من زهير من قبل الامويين ، بيد ان زوجته كانت السبب في عودتها اليه ، وفي رحاب تحرره من قيود الطاغوت عروج إلى السعادة الابدية ! !
بناءً على ذلك ، ليس عبثاً إذا ما قيل ان الزواج يضمن الحرية والاختيار أو يكون سبباً في استعادة حرية الانسان واستقلاله .
علينا ان نحافظ من خلال الزواج على النعمة الالهية الكامنة في انفسنا ، ونصون مقام الخلافة الذي وهبه الله لنا من ان تخطفه الشهوات والمفاسد ، ونعزز ايماننا وعملنا الصالح ، ونعمل على احراز نصف ديننا ونحافظ على النصف الآخر من خلال التزام التقوى وتجنب المحرمات .
فالرجل في ظل الزواج يعد شريكاً في تنامي كمال المرأة ، وهي شريكة في تسامي مراتبه .
ان المرأة مخلوقٌ عظيم وجديرٌ وهذا ما حدا بالعظماء إلى التصريح قائلين : وراء كل عظيم امرأة ، والرجل مخلوق مقدّسٌ وعظيم وكريم حتى قيل بحقه انّه الدافع الذي يقف وراء ارتقاء المرأة المراتب السامية .
يقول علي ((عليه السلام)) : اول من يدخل الجنة من النساء خديجة .
وهذا يدلل ما تحمله المرأة من روح الهية ، ومنزلتها الجليلة في خلافة الله على ارضه ، وتمتعها بالخصال السامية والذخائر الانسانية والاخلاقية والايمانية .
نعم ، فالمرأة المتحررة من قيود الهوى والطاغوت والغرائز المحرمة ، وكذا الرجل ، كلاهما بمثابة الجوهرتين النفيستين وعبارة عن حقيقتين شامختين في عالم الخلق الرحب .
لقد نسب الامام الحسين ((عليه السلام)) حرية الحر بن يزيد الرياحي إلى امه ، وكان اميرالمؤمنين ((عليه السلام)) يؤكد ان عظمة مالك الاشتر انما هي نفحة من حجر امه الطاهر الذي تربى فيه .
على الرجل ان يكون قدوة واسوة لكل خير في بيته ، وهكذا المرأة ، وكلاهما يكونان اسوة حسنة وقدوة صالحة لابنائهما .
قبل فهرست بعد