رمز العبادة:

ليس هناك في كل طقوس العبادة ما يرقى الى حالة الصلاة في التعبير عن العبادة لله والعبودية له، ليس هناك ما هو أجلى وأعمق في تجسيد الخضوع في حضرة الله والسجود في رحابه.
أجل ليس هناك ما هو اجمل وأكثر تعبيراً من الصلاة، وليس هناك ما هو أعظم من الصلاة فائدة للانسان.
ان اللحظات التي يقف فيها الانسان أمام ربّه للصلاة لهي اكثر اللحظات المفعمة بالاشراق الالهي والتلقي القلبي فالانسان سيكون في اشدّ الحالات صفاءً واستعداداً لتلقي الرحمة والنور والبركة.
ومن هنا جاءت الرسالات الالهية منذ فجر التاريخ الانساني الطويل وهي تؤكد على الصلاة وتدعو الى الصلاة.
يقول سيدنا محمد «:
««الصلاة من شرائع الدين وفيها مرضاة الربّ عزوجل وهي منهاج الانبياء»» «518».
««جعل الله جلّ ثناؤه قرّة عيني في الصلاة وحبّب اليَّ الصلاة كما حبّب الى الجائع الطعام، والى الظمآن الماء وانّ الجائع اذا أكل شبع، وان الظمآن اذا شرب روى وأنا لا اشبع من الصلاة»» «519».
ويقول « أيضاً:
««اذا قمت الى الصلاة وتوجهت وقرأت أم الكتاب وما تيسر من السور ثم ركعت فأتممت ركوعها وسجودها وتشهدت وسلّمت، غفر لك كل ذنب فيما بينك وبين الصلاة التي قدّمتها الى الصلاة المؤخرة»» «520».
ويقول سيدنا علي «:
««الصلاة تستنزل الرحمة»» «521».
««الصلاة قربان كل تقي»» «522».
««أوصيكم بالصلاة وحفظها، فانها خير العمل وهي عمود دينكم»» «523».
««ان الانسان اذا كان في الصلاة فإن جسده وثيابه وكل شيء حولـه يسبّح»» «524».
ويقول لصاحبه كميل بن زياد:
««يا كميل! ليس الشأن أن تصلّي وتصوم وتتصدّق إنما الشأن أن تكون الصلاة فعلت بقلب نقيّ وعمل عند الله مرضيٍّ وخشوع سويّ»» «525».

حسن الظن بالله

المؤمن الذي يثق بالله عزوجل ويعمل صالحاً يمضي سنوات عمره في سعي حثيث بأمل كبير في لطف الله ورحمته ومغفرته يحسن الظن بالله فالمؤمن يعيش حالة متوازنة بين الخوف والرجاء؛ يعني إن عاش حالة خوف من الله ومن أهوال يوم القيامة تدفق نبع الأمل في قلبه في أن الله سيغفر له ويعفو ويفتح له أبواب جنته؛ وقد جاء عن أئمة أهل البيت في ذلك ما يجذّر هذه الحالة الايمانية السوّية.
قال سيدنا علي «:
««حسن الظن ان تخلص العمل وترجو من أن يعفو عن الزلل»» «526».
وقال الامام جعفر الصادق «:
««حسن الظنّ بالله أن لا ترجو الاّ الله ولا تخاف الاّ ذنبك»» «527».
وقال سيدنا سيد المرسلين وخاتم النبيين محمد «:
««والله الذي لا اله الاّ هو، لا يحسن ظن عبد مؤمن بالله الاّ كان الله عند ظن عبده المؤمن؛ لان الله كريم بيده الخيرات يستحي أن يكون عبد المؤمن قد أحسن به الظن ثم يخلف ظنّه ورجاه فأحسنوا بالله الظن وارغبوا اليه»» «528».
وقال « أيضاً:
««لا يموتنّ احدكم حتى يحسن ظنّه بالله عزوجل، فإن حسن الظن بالله عزوجل ثمن الجنّة»» «529».
وقال «:
««حسن الظن بالله من عبادة الله»» «530».
وأنت تعلم ضعفي، عن قليل من بلاء الدنيا وعقوباتها وما يجري فيها من المكاره على أهلها، على ان ذلك بلاء ومكروه قليل مكثه، يسير بقاؤه، قصير مدّته، فكيف احتمالي لبلاء الآخرة وجليل وقوع المكاره فيها، وهو بلاء تطول مدّته، ويدوم مقامه، ولا يخفف عن أهله، لانّه لا يكون الاّ عن غضبك وأنتقامك وسخطك وهذا ما لا تقوم له السماوات والأرض يا سيدي فكيــف لـي وأنـا عبدك الضعيف الذليل
الحقير المسكين المستكين
وانت تعلم ضعفي
ويا لا اله الاّ أنت تعلم مدى ضعفي..
أتململ من سهام القدر وعقوبته.. وأفرّ من من مصائب الدهر وعاديات الزمن، وأعرف انها لن تدوم.
فكيف يا الهي استطيع مواجهة عذابات الآخرة وأيّ عذاب سيكون وهو يتفجّر من غضبك وانتقامك.
يا سيدي ارحم عبدك البائس الذليل المستكين الذي لا يملك من نفسه حولاً ولا قوة.

بلاء الدنيا والآخر


لا يمكن أن يقارن المرء بين بلاء الدنيا وبلاء الآخرة، فالمصائب التي تضرب الناس في الدنيا من قبيل الزلازل والسيول والقحط والغلاء والتشرّد وانواع المرض انماهي عابرة أما بلاء الآخرة فدائم لا يزول وباق لا ينتهي.
من جانب آخر ان بلايا الدنيا لها بعد اختياري وامتحاني فإذا صبر الانسان وحافظ على استقامته وايمانه اعطاه الله من الثواب الجزيل ورضوان من الله اكبر.
وهذا صبر الانبياء ومعاناتهم ومقاومتهم أمثلة قائمة لمن أراد أن يسلك طريق الانبياء.. ليس الانبياء وحدهم فهناك قوافل الصديقين والشهداء عبر التاريخ.
يقول القرآن الكريم:
«وَاصْبِرُواْ إِنَّ الله مَعَ الصَّابِرِينَ««531».
ويقول سيدنا محمد «:
««الصبر ثلاثة: صبر عند المصيبة، وصبر على الطاعة وصبر عن المعصية»» «532».
ان الصابر انسان مؤمن يعي جيداً حركة الانسان والتاريخ ولذا تجده ثابتاً ثبات الجبال فإذا حلّت به مصيبة قال وكأنه يذكّر نفسه وغيره: انا لله وانا اليه راجعون.
الانسان مبدأه من الله ومعاده اليه وهؤلاء سوف يتلقون البشرى من الله على وعيهم وايمانهم.
يقول القرآن الكريم:
«وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّـا إِلَيْهِ رَاجِعونَ * أُولَـئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَـئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ««533».
الصابرون أولئك الناس الذين يداومون على طاعة الله صابرين عليها متمسكين بها في كل الظروف يكسبون رزقهم من الحلال ويجتنبون المعاصي مهما تعرضوا للاغراء.
وتراهم ينفقون مما رزقهم الله لا بخل في حياتهم ولا تبذير«534».
ومن الفروق بين بلاء الدنيا وبلاء الآخرة هو أن بلاء الآخرة عذاب شديد لا يطاق وحتى لو تحمله المرء فلا ثواب له لأنه ليس امتحان بل انتقام وجزاء وعقاب.

عذاب البرزخ والقيامة


اختص قسم كبير من آيات القرآن الكريم بوصف العذاب في البرزخ والقيامة وتجد الاجزاء الثلاثة الأخيرة من كتاب الله من التفصيل ما يصوّر مشاهد رهيبة من العذاب الشديد والأليم.
وهناك من الروايات ما يرسم صورة مهولة لأهوال يوم القيامة.
ويروي علي بن ابراهيم عن الامام الصادق «:
ان جبرائيل جاء إلى رسول الله « وهو قاطب وقد كان قبل ذلك يجيء وهو مبتسم فقال رسول الله «: يا جبرئيل جئتني اليوم قاطباً؟ فقالك يا محمد قد وضعت منافخ النار، فقال: وما منافخ النار يا جبرئيل؟ فقال: يا محمد إن الله عزوجل أمر بالنار فنفخ عليها الف عام حتى ابيضت ونفخ عليها الف عام حتى احمرت ثم نفخ عليها الف عام حتى اسودت، فهي سوداء مظلمة لو أن قطرة من الضريع قطرت في شراب أهل الدنيا لمات أهلها من نتنها وان حلقة من السلسلة التي طولها سبعون ذراعاً وضعت على الدنيا لذابت الدنيا من حرها، ولو أن سربالا من سرابيل أهل النار علق بين السماء والأرض لمات أهل الأرض من ريحه ووهجه، فبكى رسول الله « وبكى جبرئيل فبعث الله اليهما ملكا فقال لهما: إن ربكما يقرؤكما السلام ويقول قد آمنتكما أن تذنبا ذنباً أعذبكما عليه، فقال أبو عبدالله «: فما رأى رسول الله « جبرئيل مبتسما بعد ذلك. ثم قال: إن أهل النار يعظمون النار وان أهل الجنة يعظمون الجنة والنعيم وان اهل جهنم إذا دخلوها هووا فيها مسيرة سبعين عاماً فاذا بلغوا أعلاها قمعوا بمقامع الحديد وأعيدوا في دركها هذه حالهم وهو قول الله عزوجل: ««كلما أرادوا أن يخرجوا منها... الخ»» ثم تبدل جلودهم جلوداً غير الجلود التي كانت عليهم فقال أبو عبدالله « حسبك يا ابا محمد قلت حسبي حسبي«535».
ويروي الشيخ الصدوق عن الامام الباقر «:
ان أهل النار يتعاوون فيها كما يتعاوى الكلاب والذئاب مما يلقون من أليم العذاب ما ظنك يا عمرو بقوم لا يقضى عليهم فيموتوا ولا يخفف عنهم من عذابها؛ عطاشى فيها جياع كليلة ابصارهم صم بكم عمي مسودّة وجوههم خاسئين فيها نادمين مغضوب عليهم فلا يرحمون ومن العذاب فلا يخفف عنهم وفي النار يسجرون ومن الحميم يشربون ومن الزقوم يأكلون وبكلاليب النار يحطمون وبالمقامع يضربون...»» «536».
يقول أميرالمؤمنين « في حديث له عما يجري على الكافر بعد الموت:
««... واذا كان لربّه عدوّاً فأنه يأتيه اقبح خلق الله بأساً وأنتنه ريحاً فيقول له من أنت؟
فيقول: أنا عملك ابشر ««بنزل من حميم وتصلية جحيم»» وانه ليعرف غاسله ويناشد حامله أن يحبسه فإذا ادخله قبره اتيا القبر فالقيا اكفانه ثم قال له: من ربك ومن نبيك وما دينك؟ فيقول: لا أدري؛ فيقولان: لا دريت ولا هديت فيضربانه بمرزية «عصا من الحديد» «537» ضربة ما خلق الله دابّة الاّ تذعر لها ما خلا الثقلين ثم يفتحان له باباً الى النار ثم يقولان له: نم بشرّ حال فهو في الضيق مثل ما فيه القنا من الزج «الرمح» حتى ان دماغه يخرج مما بين ظفره ولحمه ويسلط عليه حيّات الارض وعقاربها وهوامها فتنهشه حتى يبعثه الله من قبره وانه ليتمنى قيام الساعة مما هو فيه من الشرّ«538».
اللهم إنّا نعوذ بك من أهوال القيامة ونلوذ بك يا رب من عذاب الآخرة..
اللهم اني لم اعبدك حق العبادة، وهذه ذنوبي كبتلني.. الهي ولا أمل لي الاّ بك غفرانك اللهم..
الهي ليس لي الاّ حبّك وايماني بك وبرسلك وانبيائك وأوليائك.
الهي ديدني العصيان وعملي اقتراف الذنوب.. وأنت يا رب مقلّب القلوب تعرف ما في قلبي من الحب لك والشوق اليك.
الهي اعف عني فانا الضعيف وأنت القوي، وأنا المذنب وأنت الرب الغفور الرحيم.
الهي لا يضع عن السلاسل والأغلال الاّ أنت.. الهي جئتك فارّاً هارباً منك اليك راج احسن ما لديك فاقبلني وأقل عثرتي يا رؤوف يالله.
الهي وربّي وسيدي ومولاي لأي الأمور اليك اشكو ولما منها أضج وابكي؟ لأليم العذاب وشدّته؟ أم لطول البلاء ومدّته، فلئن صيّرتني للعقوبات مع اعدائك وجمعت بيني وبين أهل بلائك وفرّقت بيني وبين أحبائك وأوليائك فهبني يا الهي وسيدي وربي صبرت على عذابك فكيف أصبر على فراقك، وهبني صبرت على حرّ نارك فكيف أصبر عن
النظر الى كرامتك أم كيف أسكن في النار ورجائي عفوك؟
لأي الأمور اليك أشكو
ويا معبودي الأوحد ماذا اشكو اليك.. هل اشكو العذاب وآلامه أم الزمن المتمادي.. أم اشكو فراق الحبيب؟
وكيف أصبر على فراق المحبوب.. النار أهون من ذلك يا الهي!

شكوى الى الحبيب


في هذا المقطع نجد آلام العاشقين وقد تفجرت عاطفة الحب النقية.. عاطفة العشق الالهي فإذا هي جياشة معبّرة تخترق الحجب وتنفذ في عمق السماوات وفي قلوب المؤمنين..
القلب المؤمن العاشق لا يعرف سوى الله عزوجل.. يعترف بعجزه وفقره وبؤسه ومسكنته وحاجته المستمرة للغني المطلق؛ الله وحدة سبحانه الذي يرحم عباده، سبحانه وحده الذي لا يعتدي على أهل مملكته.
الهي اسألك واتضرع اليك واقسم عليك بدموع فاطمة الزهراء وهي تتوسل اليك وتمجّدك أنت وحدك الباقي كل شيء آخذ طريقه نحو المغيب؛ النجوم القمر.. الارواج البيضاء تتجه اليك لا تبالي بأشواك الطريق في الصحراء حتى لو كانت حافية.
انت وحدك الحق يا ربّ.. أنت نور عيني وفرحة قلبي.. دعني ألج ملكوتك اسبحك وأطوف مع النجوم حول عرشك.. أنت وحدك الحقيقة وما سواك وهم.. أنت وحدك نبع الحياة وعداك سراب يحسبه الظمآن ماء؛ واسألك اللهم بكلمات سيدتنا الزهراء « وهي تتضرع اليك: ««اللهم بعلمك الغيب، وقدرتك على الخلق أحيني ما علمت الحياة لي خيراً، وتوفّني اذا كانت الوفاة خيراً لي.
اللهم اني اسألك كلمة الاخلاص، وخشيتك في الرضا والغضب والقصد في الغنى والفقر.
واسألك نعيماً لا ينفد، واسألك قرّة عين لا تنقطع، وأسألك الرضا بالقضاء واسألك برد العيش. بعد الموت، وأسألك النظر الى وجهك والشوق الى لقائك من غير ضرّاء مضرّة ولا فتنة مظلمة.
اللهم زيّنا بزينة الايمان واجعلنا هداة مهديين يا رب العالمين.
واسألك اللهم بكلمات خليلك:
«وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ * رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَآ إِنَّكَ أَنتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ * رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنتَ العَزِيزُ الحَكِيمُ««539».
انت يا الهي الذي نصرت نوح واغرقت الذين كفروا بالطوفان من بعد مئات السنين من العذاب ففتحت على قومه من السماء الماء المنهمر وفجرّت الارض ينابيع وفار التنور فالتقى الماء علىأمر قد قدر! فانجيت الذين آمنوا واغرقت الكافرين.
الهي يا مجيب المضطر يا قابل التوب يا أرحم الراحمين.. يا من لا يخيب سائليه ولا ييأس من رحمته آمليه اليك تشدّ الرحال وبك تتعلق الآمال.

البكـاء


ليس هناك تعبير ابلغ من دموع يذرفها الانسان في حضرة الربّ تبارك وتعالى؛ والبكاء من نعم الله تعالى وهبها للانسان لتكون له وسيلة في التعبير عن الحب والشوق للمحبوب انها لآلئ العشق الالهي.
يقول سيدنا محمد « يوصي عليا «:
«أوصيك يا علي في نفسك بخصال فاحفظها اللهم أعنه.. والرابعة البكاء لله يبنى لك بكل دمعة بيت في الجنّة»» «540».
وعنه صلوات الله عليه وآله:
««طوبى لصورة نظر الله اليها تبكي على ذنب من خشية الله عزوجل لم يطّلع على ذلك الذنب غيره»» «541».
وعنه « أيضاً:
««ومن ذرفت عيناه من خشية الله كان له بكل قطرة من دموعه مثل جبل أحد يكون في ميزانه من الآجر»» «542».
وعنه « أيضاً:
««من خرج من عينيه مثل الذباب من الدمع من خشية الله آمنه الله به يوم الفزع الأكبر»» «543».
وقال سيدنا علي «:
««بكاء العيون وخشية القلوب من رحمة الله تعالى ذكره فإذا وجدتموها فاغتنموا الدعاء»» «544».
ان انهمار الدموع من المؤشرات الأكيدة على الاعتراف بالحقيقة والايمان بالحق قال الله عزوجل يصف بعض النصارى من المؤمنين:
«وَإِذَا سَمِعُواْ مَا أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُواْ مِنَ الْحَقِّ««545».
ويقول الامام الصادق «:
««ما من شيء الاّ وله كيل أو وزن الاّ الدموع فإنّ القطرة منها تطفيء بحاراً من نار، واذا اغرورقت العين بمائها لم يرهق وجهه قتر ولا ذلّة، فإذا فاضت حرّمه الله على النار ولو أنّ باكياً بكى في أمّة لرحموا»» «546».
وجاء في كتب التراث ان يحيى بن معاذ قال: من رأى نفسه في المنام يبكي يفرح ويسرّ في يقظته، فالعيش في الدنيا كالحلم والآخرة يقظة فابكوا في دنياكم تسعدوا في آخرتكم.

فراق الاحبّة


ان من يعشق الانبياء ويتلهف على رؤية الأولياء ويشتاق الى زيارة الصديقين والشهداء فإنه سيحظى برؤيتهم يوم القيامة ويكون من جلسائهم، لأن من عقوبات الآخرة جزاءً على الذنوب هو فراق الاحبّة، وقد يصل الأمر بالمذنبين أن يكون جزاؤهم أن يقرنوا بأعدائهم وهذا اشدّ إيلاماً للنفس.
وأسأل عن ألم الفراق من أبتلي به ولا يعرف طعمه الاّ من ذاق مرارته.
يعرفه أبونا آدم يوم أكل من الشجرة المحرّمة فأخرج من الجنة وحرم العيش مع الملائكة والحياة في الجنّة.
يعرفه أيوب يوم فارق ثروته وأهله وأحبته وودّع عافيته فإذا هو وحيد سقيم.
ويعرفه يونس يوم القي في البحر فالتقمه الحوت فحرم فضاء الحياة الواسعة الرحبة ليعتقل في ظلمات متكاثقة في بطن الحوت.
ويعرفه يعقوب وقد فقد بصره بكاءً على المحبوب.
ويعرفه يوسف اذ فارق احضان والديه الدافئة بعد أن أُلقي في غيابات الجب.
ولكن الله عزوجل تاب على آدم واجتباه، وأعاد العافية لأيوب وأهله ومثلهم معهم.
ويونس نجاه الله من الكرب العظيم وأوحى الى الحوت أن ينبذه في الساحل وأنبت عليهم شجرة من يقطين، ثم ارسله رحمةً الى مئة ألف أو يزيدون.
ويوسف أوى اليه أبويه من بعد ما مكن له في الأرض وجعله عزيز مصر وآتاه الله الملك وعلّمه من تأويل الاحاديث.

أهل الكرامة


وهبني يا الهي استطعت تحمّل النار وصنوف العذاب فكيف لي ان أتحمل الاّ انظر الى وجهك الكريم.
وجاء في الاثر ان الله سبحانه لم يخلق أحداً حتى يعلم مكانه في الجنة أو الجحيم. فإذا سكن أهل الجنة في الجنة والقي أهل النار في النار يأتي النداء الى أهل الجنة أن يطلعوا على النار ثم يقال لهم:هذا ما توعد به الله عزوجل العصاة من عباده وخلقه ولو أنكم عصيتم لكان مأواكم جهنم وبئس المصير. فيفرحون بما أنعم الله عليهم من الجنة والنعيم والنجاة من النار والجحيم.
ثم ينادى في أهل النار أن انظروا الى الجنّة ومنازلها ثم يقال لهم: هذه الجنةخلقها لأهل طاعتة ولو انكم اطعتم لكنتم فيها منعمين.
فيتضاعف حزنهم وعذابهم ويتمنون لو أن الله قضى عليهم.

الأمـل


وكيف يا الهي ابقى في النار وليس لي أمل الاّ بك، يا الهي وهذه رحمتك وسعت كل شيء فتجاوز عنّي.. اليس يا الهي وعدت عبادك بالعفو؟ فمن يعفو غيرك؟
جاء في بعض كتب التراث:
ان إحدى المغنيات من أهل المجون في مكة كانت تقيم حفلات الطرب والغناء وكانت ترقص فيها وتغنّي، وبعد سنوات من هجرة سيدنا محمد « وقد تقدمت بها السن وذهب بهاؤها وحسنها كسدت بضاعتها فشدّت الرحال الى المدينة المنورة ودخلت على النبي « فسألها النبي عما أقدمها أتجارة للدنيا أم تجارة للآخرة؟ فقالت: لا هذا ولا ذاك ولكني سمعت بجودك وكرمك فجئت رجاء ان تعطيني.
فخلع سيدنا محمد « رداءه وأعطاها ثم أمر أصحابه أن يعطوها ما تيسّر لهم فجمعوا لها ما يغنيها.
أجل هذا نبي الرحمة يفعل ذلك ويكرم امرأة كانت ما كانت؛ فكيف بمن أرسل نبينا رحمة للعالمين؟! كيف بالرحمة المطلقة الواسعة التي وسعت كل شيء؟!
اللهم ليس لنا الاّ الرجاء والامل وأنت اكرم الاكرمين وارحم الراحمين.
فبعزتك يا سيدي ومولاي أقسم صادقا لئن تركتني ناطقاً لأضجنّ اليك بين أهلها ضجيج الآملين ولاصرخنّ اليك صراخ المستصرخين، ولأبكينّ
عليك بكاء الفاقدين ولأنادينك أين كنت يا وليّ المؤمنين
يا غاية آمال العارفين، يا غياث المستغيثين ويا
حبيب قلوب الصادقين ويا اله العالمين
فبعزتك يا سيدي ومولاي أقسم صادقا
مقطع من الدعاء الكريم تصل فيه البلاغة في التعبير غاياتها لأنها تنبع من قلب صادق مؤمن عاشق؛ قلب يتدفق حباً ولوعة وشوقاً وهكذا القلوب الوالهة والنفوس الهائمة والارواح المتيّمة عندما تتشرب الحب الالهي وهكذا هو حال العاشقين.. تراهم يتحملون كل شيء الاّ فراق المحبوب.
يمرّ أحدهم بأمرأة ثكلى تندب ابنتها عند قبرها فيقول: طوبى لهذه الأم تعرف عن أية جوهرة نأت.
ويتغنى آخر:
يبكي الطفل اضاع طريقه الى المنزل
فلماذا لا ابكي وقد اضعت صاحب المنزل«547»
وحقاً كيف ستكون مشاهد يوم القيامة.. ويا له من يوم عصيب، فطوبى لمن استحق يومئذ رحمة الله ورضوانه.
وحريّ بنا اليوم ولمّا ينشب الموت مخالبه في اعناقنا ان نعرض انفسنا على القرآن الكريم لنعرف الى أي جهة نسير.

هارون وبهلول:


عاد هارون الرشيد من الحج فتوقف في الكوفة أياماً فمرّ ذات يوم بسكّة من سككها فإذا به يسمع صوتاً يصيح عليه ثلاث مرّات
يا هارون ‍ يا هارون ‍ يا هارون ‍
فتعجب من هذا الذي يناديه باسمه دون لقب من القاب التبجيل والتجليل فالتفت اليه قائلاً:
ـ اتعرفني؟
ـ نعم اعرفك.
ـ فمن أنا؟
قال بهلول:
ـ انت الذي اذا ظلم أحد في المشرق وأنت في المغرب سئلت عنه يوم القيامة.
فبكى هارون وقال:
ـ كيف ترى حالي؟
قال بهلول:
ـ أعرض نفسك على كتاب الله:
«إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيم * وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍٍ««548».
قال هارون:
ـ ما ترى في سعينا؟
قال بهلول:
ـ «إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ الله مِنَ الْمُتَّقِينَ««549».
قال هارون:
ـ ونسبنا من رسول الله «؟
قال بهلول:
ـ «فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَسَاءلُونَ««550».
قال هارون:
ـ وشفاعة رسول الله «؟
قال بهلول:
ـ «يَوْمَئِذٍ لا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلاً««551».
قال هارون:
ـ الك حاجة؟
اجاب بهلول:
ـ نعم، تغفر ذنوبي وتدخلني الجنة.
قال هارون:
ـ ليس لي قدرة على ذلك ولكن اقضي دينك؟
قال بهلول:
ـ وهل يقضى الدين بالدين؟
قال هارون:
ـ اجري عليك عطاءً؟
قال بهلول:
ـ انا عبد من عبيدالله ورزقي عليه أفتراه يذكرك وينساني؟‍
أفتراك سبحانك يا الهي وبحمدك تسمع فيها صوت عبد مسلم سجن فيها بمخالفته وذاق طعم عذابها بمعصيته وحبس بين اطباقها بجرمه
وجريرته، وهو يضج اليك ضجيج مؤمل لرحمتك، ويناديك
بلسان أهل توحيدك، ويتوسل اليك بربوبيتك
أفتراك سبحانك يا الهي وبحمدك

يا اعظم معبود:


هل يعقل ان تسمع اصوات المعذبين في النار وهم قد آمنوا بك ولكن زلّت بهم الاقدام وسقطوا في براثن المعاصي رغم حبهم لك واستغاثتهم برحمتك وتوسلهم اليك.

كلا وحاشا يا رب


ان اصحاب اليقين من الصدّيقين اذا قرأوا القرآن ومرّوا بآيات الجحيم ارتعدت نفوسهم وامتلأت قلوبهم خوفاً واقشعرت لهول المشاهد جلودهم ثم تلين قلوبهم وجلودهم لذكر الله ويتولد في ارواحهم عزم على الطاعات ونفور من المعاصي والآثام.

حكـايـة


عن ابي عبدالله الصادق « قال:
««مرّ سلمان « على الحدّادين في الكوفة، فرأى شاباً صعق والناس قد اجتمعوا حوله: فقالوا له: يا ابا عبدالله هذا الشاب قد صرع، فلو قرأت في أذنه. قال: فدنا منه سلمان، فلمّا رآه الشاب أفاق وقال: يا أبا عبدالله ليس بي ما يقول هؤلاء القوم ولكنّي مررت بهؤلاء الحدادين وهم يضربون بالمرزبات «المطرقة الكبيرة التي بيد الحداد» فذكرت قوله تعالى: «وَلَهُم مَّقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ««552».
فذهب عقلي خوفاً من عقاب الله تعالى. فاتخذه سلمان أخاً، ودخل قلبه حلاوة محبّته في الله تعالى، فلم يزل معه حتى مرض الشاب فجاءه سلمان فجلس عند رأسه وهو يجود بنفسه فقال: يا ملك ارفق بأخي.
فقال: يا أبا عبدالله اني بكل مؤمن رفيق»» «553».
ويروي أميرالمؤمنين « قال: قال رسول الله «: ««ما من عبد اهتم بمواقيت الصلاة ومواضع الشمس الاّ ضمنت له الروح عند الموت وانقطاع الهموم والاحزان والنجاة من النار، كنا مرّة رعاة الأبل فصرنا اليوم رعاة الشمس»» «554».
وجاء في بعض الاحاديث القدسية الشريفة ان الله عزوجل قال: يا بن آدم اني لم أخلق النار الاّ للكافر والبخيل والنمام والعاق ومانع الزكاة وآكل الربا والزاني والمعرض عن القرآن ومؤذي الجيران الاّ من تاب وآمن وعمل صالحاً..
يا عبادي ارحموا انفسكم فابدانكم ضعيفة والسفر بعيد والحمل ثقيل والصراط دقيق، والنار ذات لهيب والمنادي اسرافيل والقاضي ربّ العالمين«555».

وصـايـا


اراد أحدهم السفر فجاء الى حاتم الاصم وقال له:
ـ أوصني ‍
قال حاتم:
ـ ان اردت نصيراً فالله نصيراً.
وان اردت رفيقاً فكرام كاتبين عن اليمين وعن الشمال قعيد.
وان اردت العبرة تكفيك الدنيا
وان اردت انيساً كفاك القرآن
وان اردت عملاً فالعبادة
وان اردت واعظاً فكفى بالموت لك واعظاً.
يا مولاي فكيف يبقى في العذاب، وهو يرجو
ما سلف من حلمك؟ أم كيف يحرقه لهيبها وأنت تسمع صوته
وترى مكانه؟ م كيف يشتمل عليه زفيرها وأنت تعلم ضعفه أم كيف
يتقلقل بين أطباقها وأنت تعلم صدقه؟ أم كيف تزجره زبانيتها وهو يناديك
يا ربّه أم كيف يرجو فضلك في عتقه منها فتتركه فيها؟
يا مولاي فكيف يبقى في العذاب
كيف يبقى عبدك في العذاب وهو يثق بعفوك ويرجو رحمتك وكيف تزجره زبانية العذاب وهو يستغيث بك يا رب؟‍
وكيف يأمل في الخلاص من الجحيم ويبقى فيها وهو يستنجد برأفتك؟‍

الرحمة والكرامة


الله سبحانه وتعالى لطيف بالجميع رحيم بهم ولهذا فهو سبحانه يرزقهم وعطاؤه لهم غير محدود.
ولكن البعض لا يسعى لكسب رزقه فتجده كسولاً متواكلاً يعرض عن رزق الله عزوجل؛ فيعيش الحرمان لأن نعم الله تلزمها جدارة من الانسان نفسه فيستحق بذلك الرزق، ولهذا لا نرى انسان يسعى ويكدح ويعمل الاّ والله يرزقه ويعطيه من خزائنه.
أما الكسالى والفاشلون فهؤلاء هم الذين يحرمون انفسهم من الانتهال من فائدة الوجود الزاخرة بكل انواع النعم والله سبحانه يرزق على العمل الضئيل خيراً وفيراً وهذا شأنه عز وجل مع عباده رحمة وبركات وفضل.