دعاء كميل:


دعاء كميل
العارفون العاشقون والعاشقون العارفون من الذين امتلأت قلوبهم بنور الحقيقة وحدهم يعرفون شأن هذا الدعاء ومنـزلته فكما ان الانسان هو اشرف المخلوقات فان دعاء كميل هو اشرف الادعية ولذا قالوا عنه: ««انسان الادعية»» وقد عدّ المجلسي « وهو الخبير ومن علماء الحديث دعاء كميل افضل الأدعية.
قال عنه ذلك في كتاب ««زاد المعاد»» وهو يروي عن كتاب ««الاقبال»» للسيد بن طاووس قصة الدعاء عن كميل بن زياد رضوان الله عليه.
««حل المساء وأوى الناس الى النوم، وفي تلك الساعة نهض كميل صوب منزل أميرالمؤمنين وطرق الباب.. وسأله الامام: ما جاء بك يا كميل؟
قال: يا أميرالمؤمنين دعاء الخضر.
واملى الامام على كميل الدعاء ثم قال: اذا حفظت هذا الدعاء، فادع به كل ليلة جمعة.
وظل كميل طوال حياته يفعل ذلك كلما غابت شمس يوم الخميس وتألقت النجوم في السماء.
وينبغي لمن يريد قراءة هذا الدعاء الكريم أن يختار لذلك ليلة الجمعة فيجلس قبالة الكعبة البيت الحرام كما يفعل ذلك عند كل صلاة ولتكن جلسته متواضعة للغاية لأنه يجلس في رحاب الله عزوجل وأن يخلص نيته وأن تغمره حالة من الخشوع تجمّع الدموع في عينيه ثم يتلو الدعاء بصوت حزين، ومن المؤكد أن لمن يفعل ذلك ثواباً عظيماً وأجراً جزيلاً وسيكون دعاؤه مستجاباً«34».
ان العيون الندية بالدموع والآهات المتصاعدة من قلب محزون هي التي تغسل القلوب وتمحو الذنوب وتطفئ غضب الربّ وتقرّب العبد الى المحبوب«35».

نص الدعاء


ويبدأ نص الدعاء كما هو في كل الادعية الكريمة بالبسملة حيث كل شيء باسمه عزوجل وانه:
بسم الله الرحمن الرحيم
وقد جاء في الروايات ما يبين دلائل ذلك:
1 ـ عن أميرالمؤمنين « عن سيدنا محمد « عن الله عزوجل: ««كل أمر ذي بال لا يذكر بسم الله فيه فهو ابتر»» «36».
2 ـ وروى الطبرسي في كتابه القيم ««مكارم الأخلاق»» عن الامام موسى بن جعفر «:
««ما من أحد دهمه امر يغمّه أو كربته كربة فرفع رأسه الى السماء ثم قال ثلاث مرّات: بسم الله الرحمن الرحيم الاّ فرج الله كربته وأذهب غمّه إن شاء الله تعالى»» «37».
3 ـ وفي حديث غاية في الاهمية:
««لا يُردّ دعاءٌ أوله بسم الله الرحمن الرحيم»» «38».
كما جاء في الاحاديث الشريفة ان المرء يوم القيامة اذا الهمها دفعت عنه الملائكة الغلاظ.
وان تعليمها للاطفال في الصغر تكون سبباً في غفران الذنوب لأبويه ومعلميه.
وأن امّة الاسلام سوف تبزّ الامم الاخرى يوم القيامة في علو الشأن والمرتبة والثواب لأنها الأمّة التي تبدأ أعمالها ونشاطها الانساني بقول؛ بسم الله الرحمن الرحيم؛ فهذه الجملة على قصرها تشتمل على ثلاثة أسماء لله عزوجل. وجاء عن الامام علي بن موسى الرضا ان بسم الله الرحمن الرحيم تقترب من الاسم الاعظم اقتراب سواد العين من بياضها«39».
واذن من المؤكد ان دعاء كميل الذي يبدأ بالاسم الاعظم سيكون مضمون الاجابة وان الله سبحانه يستجيب لدعاء عبده اذا جاء مع قراءة هذا الدعاء الجليل.
ان ««بسم الله»» شراب طهور يسقي القلب الظامئ للحب الالهي ويرويه ويبعث في النفس الانسانية نشاطاً وشوقاً ويجعل القلب اكثر تفتحاً لتلقي الاشراق فيشعر بالهيام من أجل لقاء المحبوب.
اسم الله:
يعتقد بعض علماء الصرف ان ««اسم»» مأخوذ من ««السمو»» وهي العظمة والارتفاع.
وان الله سبحانه الهم عباده اضافة حرف «ب» ليكون كل شيء باسم الحبيب.
ولا يجري هذا على لسان فقط بل انه يزيل عن القلب لدى جريه على اللسان كل الادران فيصبح برّاقاً متألقاً كما المرآة عندما تمسح عنها الغبار.
ولا يكون ذلك الاّ بالصدق في الذكر والأخلاص والاّ يذكر اسم غيره، وهذا بدور لا يحصل الاّ لدى النفوس الزكية والارواح الطاهرة والنوايا المخلصة وشعور المرء انه فقير وصفر وعدم أمام الله عزوجل الغني المطلق.
تبارك اسمه عزوجل وتقدّس؛ وما الانسان الا تراب فهو في أدنى المراتب وسيبقى في مرتبته الدنيا، ما لم يرتبط بسبب.
يرفعه من مرتبته المتدنية الى الأوج؛ من أجل هذا جعل الله عزوجل بينه وبين عبده وسيلة هي: ««بسم الله»» ليتسنى له الاتصال بالمفهوم والمعنى لهذا الكلام العلوي ويكون الاتصال مع العالم السفلي ويكون بمقدور المخلوق الطيني مشاهدة الجمال النوراني ويطل على عالم الغيب.
يقول عارف تلقى قلبه الاشراق: ان حرف ««ب»» اشارة الى البدء. بدء الحركة والسير والسلوك وان بين ««الباء»» و««السين»» صحارى مترامية الاطراف شاسعة لا نهائية.
من أجل هذا ذابت الألف في تلك الفلوات الواسعة، وفي هذا اشارة الى ان السالك لا يبلغ سرّ المعرفة ولا يصل الى انوار ««الميم»» حتى ينـزع عن نفسه ««أنانيته»» ؛ و««أنيته»» وتحترق ذاته في لهب العشق ويسلّم تسليماً تاماً ويكون عبداً خالصاً.
ويقول بعض العاشقين ان ««الباء»» انما هي اشارة الى البرّ والاحسان الالهي الذي يغمر عوام الناس وهم اصحاب النفوس وأنّ ««السين»» عبارة عن ««سرّه»» الذي أودعه لدى الخواص من ارباب القلوب وان ««الميم»» هي رمز محبته التي وهبه لأخص الخواص من أصحاب الاسرار.
وجاء في بعض الكتب الشريفة من قبيل ««الكافي»» و««التوحيد»» للصدوق و««معاني الأخبار»» وفي ««تفسير العياشي»» عن الامام الصادق « ان كل حرف من هذه الحروف الثلاثة يشير الى اسم من اسمائه الحسنى فـ««الباء»» تشير بهاء الله و««السين»» الى سناء الله و««الميم»» الى مجده تبارك وتعالى.
وقال عرفاء آخرون: ان الباء ترمز الى البصير والسين الى السميع والميم الى المحصي.
وكأن على الداعي ان يعي وهو يقرأ بسم الله هذه المعاني.
ان الله بصير يعلم ويرى باطن وظاهر اعمالنا وانه عزّوجل يسمع ما تخفي الصدور. وانه تبارك وتعالى يحصي الاعمال ويعلم عدد الانفاس فليجتنب المرء الرياء وليرتدي حلل النعيم الدائم الذي لا يعرف الزوال، وليبتعد عن قول الزور وعن اللغو؛ ليكون أهلا لارتداء معاطف الفيض والمغفرة والصفاء وفي ظلال من يحصي كل شيء لينتبه الانسان فلا يغفل عن ذكره عزوجل لحظة واحدة ليكون أهلاً للقاء المحبوب.
ويقول العارفون السالكون ممن احترقوا بنار الحب ولهيب المحبوب ان لبسم الله معان ملكوتية وعرفانية وعرشية منها الصبر على بلاء الحبيب وأن يكون هم العبد وهاجسه السلوك في صراطه المستقيم حتى يبلغ ساحة ««الميم»» النورانية.
ان لفظ الجلالة ««الله»» اسم جامع وكامل للذات المقدسة الأحدية حيث تنضوي فيه كل صفات الكمال والجمال والجلال.


فقالوا: ان فيه ثلاثة معاني:
1 ـ انه دائم ازلي وقائم ابدي وذات سرمدي.
2 ـ وان العقول والأوهام لا تدرك كنهه وانه لا يعرف الاّ بالعجز عن معرفته.
3 ـ وأنه المعاد والمرجع الذي ترجع اليه كل الخلائق والكائنات.
وقال بعض من تشرق على نفسه الالطاف؛ ان لفظ الجلالة ««الله»» هو الاسم الاعظم وأن أساس التوحيد قائم عليه وان الكافر إذا نطق بهذا الاسم اذا كان صادق النية وكان لسانه في قلبه فإنه سينتقل من انحطاط الكفر الى أوج الايمان.
وانه اذا تلفظ به مخلصاً واعياً فانه سيخرج من دنيا الغفلة والادران من عرصة الوحشة والوحدة الى دائرة الوعي والصفاء والنقاء والأمن والطمأنينة والسلام.
وانه لو قال ««لا اله الاّ الرحمن»» أو شياً غير ««لا اله الاّ الله»» ما خرج من عرصة الكفر وما دخل الى دائرة الاسلام؛ فالفلاح والنجاح لعباد الله يكمن في ذكر هذا الاسم النوراني والكلمة الطيبة والمفردة العرشية.
وان تمام مناقب الكمال لدى الذاكرين هي في شرف هذا الاسم وان نجاح الاعمال وصحتها انما تتم في البدء به وفي الاختتام، ولا تستحكم قواعد الرسالة الاّ به حيث ««محمد رسول الله»» ولا تستمر الاستقامة والثبات على ولايته الا به حيث ««علي ولي الله»».
فمن خواصّ هذا الاسم انه اذا حذف الألف اصبح كل شيء له حيث: «لِلَّهِ الْأَمْرُ مِن قَبْلُ وَمِن بَعْدُ««40».
وإن حذفت اللام بقي له كل شيء إذ «لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ««41».
وإن حذفت اللام الاخرى بقي ««هو»» حيث «قُلْ هُوَ الله أَحَدٌ««42».
واذن فالاسم الذي له كل هذه الخصائص انما هو الاسم الاعظم.
وان كلمة ««الرحمن»» اساسها ««الرحمة»» وهي على ما يقوله الضالعون في علم الصرف واللغة صيغة مبالغة ودلالة على الكثرة. وهي لدى العلماء تعني ««مصدر الرحمة»» العامّة التي تغمر كل الكائنات.
وهي في لغة أهل الكشف واليقين افاضة الوجود والكمال على كل الذرّات وبحسب ماتقتضيه الحكمة وما تستوعبه القابلية وانه لولا هذه الافاضة ما كان للوجود من خبر ولا للكمال من اثر.
ويقول أهل البصيرة ان الرحمن هي ارادة الحق في ايصال الخير ودفع الشر عن كل الموجودات.
فكل النعم ما ظهر منها وما استتر؛ هي من حيث التجلّي رحمانية الحق وقد بيّنت سورة الرحمن جزءً من هذا التجلّي الرحماني.
وان مفردة ««الرحيم»» هي لدى ارباب علوم العربية صفة مشبهة لدلالتها على الثبات والدوام؛ يعني ان رحمة الله ابدية لا تزول.
وقال بعض العلماء ان الرحمة الرحيمية انما تخص الناس المؤمنين وأهل اليقين لأنهم ارتضوا الهداية الالهية وعرفوا الحلال والحرام؛ فأخذوا بالأول واجتنبوا الآخر ولأنهم تحلّوا بالاخلاق الكريمة وشكروا الله عزوجل على انعامه واكرامه فشملتهم هذه الرحمة وخصهم الله عزوجل بها.
وقد جاء في تراث الاسلام ان الرحمة الرحمانية هي يوم الرحمة العامّة لكلّ البشر مؤمنهم وكافرهم محسنهم ومسيئهم.
وان الرحمة الرحيمية هي افاضة الكمال على الانسان المؤمن حيث تشمله الرحمة في الدنيا والآخرة.
وفي الرحمانية ««الرحيمية»» ينضوي معنى العافية احدها عافية الدنيا والثانية عافية الآخرة.
والرحمة الرحيمية تشمل المطيعين بقبول الحسنات والعبادة وتشمل ايضاً العاصين من أهل الايمان بالرحمة وغفران السيئات.
فالمؤمنون المحسنون ينتظرون نزول الرحمة جزاءً لعبوديتهم لله عزوجل والمسيئون خجلون نادمون بائسون يرجون عفو الله تبارك وتعالى.
وفي رأي ابن المبارك ان ««الرحمن»» ان تطلب منه عزجل ان يأخذ بيدك و««الرحيم»» يعني اذا لم تطلب منه غضب عليك ويقول عارف: ان الله تعالى ««رحمن»» يرزق الخلائق اجمعين وانه عزوجل رحيم يغفر سيئات المؤمنين؛ فتوكل على ««رحمانيته»» سبحانه في الرزق لا على عملك وكسبك ونشاطك وتجارتك شرط الاّ تدع العمل والتجارة والكسب الحلال لأن ذلك خلاف العقل.
وتوكل على رحيميته عزوجل في غفران السيئات لا على عملك وفعلك؛ شرط الاّ تدع العمل الصالح لأن في ذلك معصية لله وطاعة للشيطان.
يقول أهل الاسرار؛ ان للعبد ثلاث حالات:
الأولى: حالة المعدوم الذي يحتاج الى الوجود.
الثانية: حالة الموجود الذي يحتاج الى اسباب البقاء.
الثالثة: حالة الحضور يوم القيامة والحاجة الى الرحمة والمغفرة.
وهذه الحالات الثلاث منضوية تحته مندرجة فيه.
لان لفظ الجلالة ««الله»» مستجمع لكل صفات الكمال.
فتدبّر كيف جئت ايها الانسان من ديار العدم الى رحاب الوجود.
وتأمل في ««رحمانيته»» كيف اصبحت مصدراً لأسباب البقاء والحياة.
وترقب رحيميته غداً يوم القيامة لأنها ستكون الملاذ والمأوى والخلاص وغفران الذنوب ومحو السيئات وستر العيوب.
يقول أهل البصائر وعشاق الحقيقة: ان الانسان عبارة عن قلب ونفس وروح.
فالنفس هواها الرزق والقلب مناه المعرفة والايمان، والروح تنشد الرحمة والرضوان.
ولكل نصيبه اسم من الاسماء فالقلب يجد في اسم ««الله»» طعم المعرفة والايمان، والنفس تجد في اسم ««الرحمن»» الرزق والاحسان والروح في الرحيم؛ الرحمة والرضوان.
والذي يندمج قلبه وروحه مع هذه المفاهيم الثلاثة ويندك في هذه الاسماء الثلاثة المباركة سوف يتحرر عن عبادة كل معبود غير الله ويكون نبعاً للرحمة لكل عباد الله ويكون سبباً لنزول الرحمة على الجميع.
ان ذكر هذا الكلام النوراني والافادة من هذا الكنـز الربّاني في وقت وعلى كل حال وفي كل عمل أمر مطلوب. ومن يفعل ذلك باخلاص ويتشرب معانيه بعمق ويكون هدفه تزكيةالباطن من كل ادران المادّة ومن كل ما يشدّه الى الدنيا الزائلة؛ فانه سيجد من الفوائد والعوائد ما لا يتصوره يتنزل عليه الخير في الدنيا والرضوان في الآخرة.
وقد جاء في الاحاديث النبويّة الشريفة ان المرء اذا ذكر ««بسم الله الرحمن الرحيم»» و««لا حول ولا قوة الاّ بالله العلي العظيم»» عشر مرات غفر الله له كل ذنوبه وحفظه الله من بلايا الدنيا كالبرص والجذام والشلل.
كما جاء في هذه الاحاديث الشريفة ان المؤمن اذا قال ««بسم الله»» كتب الله تعالى على كل حرف أربعة آلاف حسنة ومحى عنه أربعة آلاف سيئة.
وجاء في الروايات ان من قال عند تناولـه الطعام ««بسم الله»» لم يشاركه الشيطان طعامه ومن غفل عن ذلك شاركه الشيطان وكان له رفيقاً«43».

اللهم إني اسألك برحمتك التي وسعت كل شيء


اللهم اني اسألك برحمتك التي وسعت كل شيء
بهذه الكلمات الموحية المعبّرة بايقاعها، يبدأ هذا الدعاء الكريم.. كلمات تتضمن ينابيع من المعرفة السماوية الزاخرة بالرموز والاشارات والأسرار الملكوتية.
اسألك يا الله برحمتك التي غمرت كل الاشياء في هذا الوجود المترامي البعيد.
««اللهم»» هذه المفردة التي تستند الى الاصل والتي تعني ««يا الله»» وقد حذفت ««الياء» ليشغل مكانها ««ميم»» مشدّدة لتؤدي دور التعظيم والاجلال والتقديس ولتعبّر عن عظمة ورفعة وعلوّ المخاطب ««الله»» جل شأنه وتعالى مكانه وحيث وجوده يمتد من الأزل الى الأبد وحيث لا شيء قبله ولا شيء بعده.
ومن هنا فمن غير اللائق أن يتقدم على ««الله»» سبحانه شيء حتى لو كان مجرّد حرف فهو الأول والآخر، لكي يحدث الانسجام بين الحقيقة والقوالب اللفظية التي تعبّر عنها وتحاول تجسيدها.
إنّ على الداعي الذي يريد مخاطبة ذلك الوجود المقدّس أن يدرك انه وهو يقول ««اللهم»» ان الله عزوجل لو لم يأذن له في ذلك لافتقد العاشق الهائم قدرته على التفوّه بأية كلمة مع المعشوق ولما كان له من الحول أن يلج رحابه ولأنعقد لسانه وامّحت أحواله.
فلسان داعي الحق متصل بقدرة الحق ««اللهم»» وبه ينطق وبلطفه وكرمه ينفتح.
وعلى الداعي أن يعي هذه الحقيقة؛ وهي لولا ارادة المحبوب لما كان له من القدرة على أداء الدعاء ولولا تجلّيه تبارك وتعالى في وجود عبده لما استطاع العبد أن يدعوه ويطلب منه جل شأنه حاجته أو يخطو في رحابه.
أجل إنّ الدعاء الهامّة عزوجل وحياة الداعي رشحة منه سبحانه.
وان وجود عبده الداعي في قبضته ورهن ارادته وطوع قدرته وفي حريم مملكته.
««إني اسألك»»
إنّي بمعنى ««أنا»» ولكن هذه الأنا تتجرد من كل الانانية والحالة الفرعونية.
وما هذه الأنّية في هذه الاطلالة الملكوتية وفي غيرها من مفردات الدعاء الاّ اشارات الى إنيّه الطبيعة والعقل والأنا المتجرّدة من الأنانية والغرور وهي ««أنا»» لا تتمتع بالاستقلال أبداً وانما مرتبطة ارتباطاً تبعياً ومستسلمة استسلاماً تاماً أنا معنوية تجسّد الفقر الذاتي، والعوز والحاجة الدائمة.
وليس للداعي في هذا المقام من أنيّته وذاته سوى الفقر والانكسار والذلّة والبؤس والتضرّع والمسكنة والخشوع والخضوع والضعف المطلق.
أما المحبوب فهو الرحمة المطلقة والكرم والجود واللطف والحب والاحسان والفضل والعفو والمغفرة.
من أجل هذا تمتد له الأيدي تسأله وتستعطفه وتتضرع اليه لأنها تمتد الى الاله الواحد الأحد الصمد وهذه هي العلاقة الحقيقية بين الانسان وربّه.
««برحمتك التي وسعت كل شيء»»
ان رحمة المحبوب تغمر كل شيء ظاهر الاشياء واعماقها وهذه الرحمة الواسعة هي فيض المحبوب العامل والشامل الذي يغمر الاشياء كل الاشياء بالبركة والنماء.
لقد كانت الاشياء في ظلمات العدم لتخرج برحمته سبحانه الى نور الوجود الساطع، وكل قد علم مكانه حيث تتوافر فيه اسباب النمو والسمو النمو في طبيعته والسمو في كينونته وروحه وجوهره وكيف لا يكون ذلك وواهب الوجود كريم ليس مثل جوده جود.
جاء في كتاب ««أنيس الليل»» : ان صفة الفيض الالهي العام كالشمس إذ تشرق فتغمر كل الاشياء باشعتها، لا تجد في اشراقها ذرة بخل وقصور وكل شيء يتلقى نورها بقدر قابليته علىالتلقي واستقبال الانوار.
وهكذا كل الكائنات في عوالم الغيب والشهادة، من المجرّات والسدم الكبيرة، الذرّات الصغيرة المتناهية في الصغر مغمورة بالرحمة الالهية والفيض الربّاني كل حسب طاقته واستعداده.
فهي تنمو في ظلال هذه الانوار الالهية؛ أجل تنمو وتتقدم وتسير في طريق التكامل والكمال.
وهذا الوجود المترامي الشاسع من اقصاه الى أقصاه، من عوالم الغيب والشهادة، مما ظهر منه وما استتر، من غاية الأوج الى نقطة الحضيض انما هو في دائرة الرحمة الالهية والفيض الربّاني اللانهائي.
انه خالق الوجود وواهب الحياة وربّ العالمين.
ان الوجود هو في معرض الفيض باستمرار لا ينقطع عنه لحظة واحدة لو افترضنا انقطاعه لاستحال الى عدم؛ انه موجد الكائنات ورزاق الخلائق والموجودات ونموّ النباتات وكمال الجمادات ومنزل الآيات ومظهر وباعث النبوّات ومنزّل الرسالات، وهادي الضالين ودليل المتحيّرين وخالق الملائكة اجمعين، محيي الموتى وهو الذي يثيب المحسنين ويجازي المسيئين يكرم المؤمنين ويمحق الكافرين، ديّان يوم الدين يوم يقوم الناس لرب العالمين.
خالق الجنة والجحيم ومن يغفر للعاصين من أهل الايمان وهو سبحانه نبع الخير في الوجود؛ وما هذا الوجود الاّ شعاع من فيض رحمته الواسعة وقد وسعت رحمته كل شيء، وكل شيء هنا لا يمكن أن يتصوره خيالنا أو تجتازه اوهامنا فلو كان الشجر كله أقلام والبحار مداداً وكان البشر كله كتاباً لنفذ البحر ولعجز البشر وما انتهت كلمات الله وآثاره وموجوداته.
فهل يمكن ان نتصور رحمة الله التي غمرت كل شيء وكل شيء هو جزء من هذه الرحمة الواسعة الشاسعة؟! لا أبداً إنّ عقولنا لا تدرك ذلك وخيالنا الوثاب لا يمكن أن يتصور أبداً.

عالم الوجود:


ولكن هلموا لنتأمل جزءً متناهياً جداً في الصغر من صرح الوجود العظيم.
هذا الانسان الذي يعيش على جزء بسيط على كوكب صغير في هذا العالم الفسيح المغمور بالنعيم والمواهب الالهية.
أجل إن هذا الوجود الكبير بكل دقائقه الصغيرة الى مجرّاته الكبيرة كل هذا يتألف من ذرّات متناهية في الصغر لا يمكن رؤيتها أبداً بل يستحيل رؤيتها حتى في ادق وإعقد المكرسكوبات إن رأس الأبرة يتكون من
««55.000.000.000.000.000.000»» أي 55 مليون مليون مليون ذرّة!!!
ومع كل هذا التناهي المدهش في الصغر فان الذرّة هي الأخرى تنقسم الى ثلاثة أجزاء هي: الالكترون، البروتون والنيوترون.
فلألكترون هو الشحنة السالبة والبروتون هو الشحنة الموجبة والنيوترون متعادل.
والنيوترون يشكل مع البروتون نواة الذرّة فيما تدور حول النواة الالكترونات في مدارات، كما تدور الكواكب السيارة حول الشمس مركز المنظومة.
والذرات التي هي أجزاء العالم ودقائق الوجود ومادّة الكون كيف ظهرت كيف خرجت من ديار العدم؟ لا يعلم ذلك الاّ الخالق تبارك وتعالى: «مَا أَشْهَدتُّهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلا خَلْقَ أَنفُسِهِمْ««44».
إنّ مادّة هذا العالم كما أثبتها القرآن الكريم وكما وصل اليه العلم البشري عبارة عن ذرات دخان وغاز هائمة في فضاء واسع اذ يمكن تصورها كالغبار ومع كل هذا فمن النادر أن تصطدم الذرات الهائمة فيما بينها .
«ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء وَهِيَ دُخَانٌ««45».
وهذه السماء الدنيا حيث تناثرت فيها ملايين وملايين من النجوم كمصابيح مضيئة، اضافة الى المجرّات والسدم الهائلة والغازات الكونية حيث تولد نجوم جديدة وتظهر شموس وشموس تضيء في فضاء غارق في ظلمات متكاثقة.
ومن بين مجرّات ومجرّات تبدو مجرّة تشبه طريقاً تناثر عليه التبن عندما يعود الفلاحون حاملين معهم التبن أو حليباً تناثر في طريق الرعاة بعد أن ملأوا أوعيتتهم من اللبن منطلقين الى سوق القرية لبيعة.
هذه المجرّة هي مجرّة درب التبّانة حيث توجد فيها منظومتنا الشمسية وحيث تسطع الشمس في المركز وقد تناثرت حولها الكواكب تسبح في مدارتها:
«وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا««46».
فترى الكواكب السيّارة دائمة في سيرها تدور وتدور حول الشمس أقربها الى الشمس عطارد ثم يليه كوكب الزهرة ثم كوكبنا الارض وبعدها المريخ ثم يليه الكوكب العظيم المشتري ثم زحل بحلقاته الملوّنة ثم أورانوس ونبتون ثم في أقصى امنظومة يدور الكوكب الازرق بلوتو«47».
وهذا العالم الكبير الكبير هو كالذرة الصغيرة وان الانسان لن يتمكن من رؤية حدوده أبداً.
وهذا النور الذي يطوي مسافات هائلة في الثانية الواحدة حيث سرعة الضوء 300.000 كم في الثانية انه يستغرق اربعة أعوام كاملة لكي يصل الينا من أقرب نجمة الى الاض.
ان التلسكوب المتربع فوق جبل ««پالومار»» في كاليفورنيا بامريكا حيث يبلغ قطر مرآته خمسة أمتار يرصد نجوماً في الفضاء السحيق يصلنا نورها منذ ألف مليون عام.
ولو أراد الانسان ان يحصي نجوم السماء بمعدل نجمة في كل ثانية لتطلب منه زمناً يمتد الى مئة عام لا يفتر لحظة واحدة عن العدّ والاحصاء ثم تكون النتيجة انه لم ينته من عمله بعد، لأنه بقي عليه الكثير الكثير من النجوم التي لم يعدّها.
ان مجرّتنا تشتمل على حوالي الف مليون نجم تمتد على مسافة تبلغ مئة الف سنة ضوئية فيما بلغ عرضها عشرين ألف سنة ضوئية.
واستطاع الانسان في الوقت الحاضر حيث علم الفلك ما يزال يحبو أن يخمن وجود 150.000.000 مجرّة!!
وحيث يبلغ متوسط المسافة بين مجرّة وأخرى 2.000.000 سنة ضوئية«48».
وما يزال هناك المزيد من الكشوفات البشرية في هذا العالم الشاسع.
يقول سيدنا علي « يصف نشوء العالم:
أنشأ الخلق إنشاءً، وأبتدأهُ ابتداءً، بلا رويَّة أجالها، ولا تجربة استفادها، ولا حركة أحدثها، ولا همامة نفس اضطرب فيها. أحال الأشياء لأوقاتها، ولأمَ بين مختلفاتها، وغرَّز غرائزها، وألزمها أشباحها، عالماً بها قَبل ابتدائها، محيطاً بحدودها وانتهائها، عارف بقرائنها وأحنائها.
ثم أنشأ ـ سبحانه ـ فتق الأجواء، وشقّ الأرجاء، وسكائك الهواء فأجرى فيها ماءً متلاطماً تيّاره، متراكماً زخاره. حمله على متن الريح العاصفة، والزعزع القاصفة، فأمرها بردّه، وسلّطها على شدِّه، وقرنها إلى حدّه. الهواء من تحتها فتيق، والماءُ من فوقها دفيق.
ثم أنشأ سبحانه ريحاً اعتقم مهبّها، وأدام مربّها، وأعصف مجراها، وأبعد منشاها، فأمرها بتصفيق الماء الزخار، وإثارة موج البحار، فمخضته مخض السقاء، وعصفت به عصفها بالفضاء. ترُدُّ أولـه إلى آخره، وساجيه إلى مائره، حتى عبّ عُبابه، ورمى بالزبد ركامُه، فرفعه في هواء منفتق ، وجوٍّ منفهق، فسوى منه سبع سموات، جعل سفلاهن موجاً مكفوفاً، وعلياهن سقفاً محفوظاً، وسمكاً مرفوعاً، بغير عمد يدعمها، ولا دسار ينظمها. ثم زيّنها بزينة الكواكب، وضياء الثواقب، وأجرى فيها سراجاً مستطيراً، وقمراً منيراً: في فلك دائر، وسقف سائر، ورقيم مائر.
واصغ الآن الى ما يقولـه مؤسس البلاغة في دنيا العرب في خلق الانسان:
ثم جمع سبحانه من حَزْن الأرض وسهلها، وعذبها وسبخها، تُربةً سنها بالماء حتى خَلَصت، ولاطها بالبلّة حتى لزبت، فجبل منها صورةً ذات أحناء ووصول، وأعضاء وفُصُول: أجمدها حتى استمسكت، وأصلَدَها حتى صلصلت، لوقت معدود، وأمد معلوم؛ ثم نفخ فيها من روحه فمثلت إنساناً ذا أذهان يُجيلها، وفِكَرٍ يتصرف بها، وجوارح يختدمها، وأدوات يقلّبُها، ومعرفة يفرق بها بين الحق والباطل، والأذواق والمشام، والألوان والأجناس، معجوناً بطينة الألوان المختلفة، والاشباه المؤتلفة، والأضداد المتعادية، والأخلاط المتباينة، من الحرَّ والبرد، والبلّة والجمود، واستأدى الله سبحانه الملائكة وديعته لديهم، وعهد وصيته إليهم، في الإذعان بالسجود لـه، والخنوع لتكرمته، فقال سبحانه: «اسْجُدُواْ لآدَمَ فَسَجَدُواْ إِلاَّ إِبْلِيسَ««49».

الانسان اشرف ضيوف العالم:


وهدأت الأرض.. هدأت الأمواج المتلاطمة في البحار الزخّارة، وهدأت العواصف الثائرة وانطفأت البراكين، ونمت الغابات وامتلأت بالحيوانات والطيور وتدفقت الانهار بالمياه العذبة واصبحت الارض خضراء مزدهرة وحينئذ اصبح كل شيء موائماً لاستقبال مخلوق شريف هو الانسان خليفة في الارض الزاخرة بالنعم والخيرات.
أجل ظهر الانسان على سطح هذا الكوكب بكل عناصره المنسجمة مع الرسالات الالهية من أجل تمهيد الطريق طريق الانسان الى الله وليمتحن الانسان في تجربته في هذا العالم ليلج من بوابة الموت فيما بعد الى عالم آخر عالم خالد لا يزول وهناك يتم تقييم تجربة الانسان في الارض؛ فيكون الجزاء ومصير الانسان.
وعندما تكون تجربته ايجابية فسيكون العالم الأخضر الجنة هو عالمه الدائم المفعم بالسعادة والخير في ظلال رحمة الله الابدية.
والآن لنحاول مشاهدة آثار رحمة الله الواسعة التي تغمر الانسان من كل جانب ومكان.

مراحل تبلور حياة الانسان:


سجّل القرآن الكريم مراحل تبلور حياة الانسان ببلاغة اعجازية مشيراً الى هذه المراحل في قوله تعالى: «وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا««50».

المرحلة الاولى: التراب
«وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن سُلالَةٍ مِّن طِينٍ««51».
ان نطفة البشر إنما هي حصيلة انواع الغذاء من نبات ولحوم وألبان؛ والحيوانات هي الاخرى انما تعود في تكونها الى النباتات على أساس ان ما تتغذى به هو النبات والنباتات مصدرها التراب.
من هنا فان نطفة الانسان التي تتخلق وتصبح انساناً سوياً إنّما هي وليدة التراب وها هي كشوفات العلم الحديث تحلل تكوين الانسان وتبيّن العناصر التي يتألف منها وهي عناصر موجودة في الأرض من قبيل الحديد، النحاس، الكالسيوم، اليود الى آخره من عناصر التراب.
فالانسان في تكوينه المادّي انما هو عصارة هذه العناصر الترابية التي تنتقل باستمرار عبر الحيوان والنبات.

المرحلة الثانية: الماء
«هُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاء بَشَرًا««52».
يشبّه علماء الاحياء الانسان بانه اسفنجة منقوعة بالماء.
ان جسم الشخص الذي يزن 70 كغم فيه من الماء ما يساوي 50 لتراً وهذه نسبة ثابتة.
ولو فقد انسان 20 % من الماء الذي في جسمه فانه لن يستعيد عافيته أبداً.
والماء الموجود في بدن الانسان يحوي مقادير كبيرة من البوتاسيوم ولا يحوي ملحاً ولكن الماء الخارج من خلايا لا يحوي على البوتاسيوم بل على مقادير كبيرة من الملح وهذا الماء الذي يخرج من الخلايا يشبه في تكوينه ماء البحر حيث شهد قبل ملايين السنين أول اشكال الحياة ثم اعقب ذلك انتقال هذه الكائنات الحية الموجودة في الماء الى اليابسة واصطحبت معها ايضاً هذه الحالة البحرية. ولولا ذلك لأصبحت الحياة في اليابسة بالنسبة له امراً مستحيلاً.
أجل هذه معجزة القرآن الكريم الذي اعلن من صحراء الجزيرة العربية هذه الحقيقة المذهلة في مجتمع أمي لا يعرف من اسباب العلم شيئاً.

المرحلة الثالثة: العلق
العلق في اللغة نوع من الديدان الذي يلتصق ويتعلق بجدار الرحم وقد يعني ايضاً حيواناً يسبح ويتغذى على الدم وعندما يوضع الاسبروماتوزيد تحت المجهر فانه يشاهد اعداداً هائلة من الكائنات الحية تسبح وعندما تلج هذه الكائنات الرحم فأنها تلتصق بالجدار.
ان السانتمتر المكعب من ماء الذكر يحوي على من مئة الى مئتي مليون من الحيامن.

المرحلة الرابعة: الماء المهين
«ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِن سُلالَةٍ مِّن مَّاء مَّهِينٍ««53».

المرحلةالخامسة: الامشاج:
«إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن نُّطْفَةٍ أَمْشَاجٍ««54».

المرحلة السادسة: الجنين
«هُوَ الله الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْمَاء الْحُسْنَى««55».

المرحلة السابعة: الظلمات الثلاث
«يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقًا مِن بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلاثٍ««56».

المرحلة الثامنة: ولوج الروح
«ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ الله أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ««57».

المرحلة التاسعة: الميلاد
«وَالله أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ««58».

عرس الحياة:


إذا كانت أعراسنا الاجتماعية لا تخلو من شيء من الفوضى أو التناقضات، وإذا كانت احتفالاتنا لا تخلو من نقص في الترتيب، أو خطأ في اختيار الوقت المناسب لها، فليس شيء من ذلك في عرس الحياة، العرس الذي يحفظ النسل، ويدفع بالحياة إلى الأمام باستمرار، فلنقف على بعض أحداث هذا العرس المهيب:
ـ من مراسيم العرس: مع مطلع الشهر، وبأمر من ملكة الغدد الصماء «الفص الأمامي للغدة النخامية» وتحت إشراف مركز المراقبة العليا في قشرة الدماغ Cortex، تبدأ إحدى فتيات المبيض «إحدى الجريبات الابتدائية» بالاستعداد لأن تكون عروس الشهر، فتكبر بالحجم بشكل ملحوظ، وتتكاثر من حولها الخلايا الجريبية المحيطة بها، وتفرز هذه الخلايا هرمون الجريبين Ostrogen، فيتجمع قسم من هذا الهرمون في السائل الجريبي داخل الجريب نفسه، ويمتص الدم القسم الآخر منه، وتحت تأثير هذا الهرمون تحصل تغيرات عديدة في مخاطية الجهاز التناسلي، وخاصة في المهبل والرحم والبوقين، فتنمو غدد هذا الغشاء، وتزداد عناصره الخلوية، وتنمو أوعيته الدموية وتحتقن، وبذلك تزداد سماكته حوالي 4 ـ 5 أضعاف، حتى إذا حصلت الإباضة في اليوم الرابع عشر من الشهر، كان هذا الجهاز على أتم استعداد لإستقبال وفد العريس الضيف. ومما يلفت الإنتباه هو ذلك السائل الشفاف اللزج، والقلوي التفاعل الذي نلاحظه على عنق الرحم في وقت الإباضة تماماً، ويستمر ليومين فقط، هذه المادة تجذب النطاف، وتزودهم بمقدرة على اجتياز جوف الرحم والبوق بشكل جيد في سباقها المثير نحو العروس ««البويضة»».
أما البويضة، فعندما تطل من حجرها ««المبيض»» بواسطة عملية الإباضة، Ovulation تكون محاطة بتاج شعاعي من الخلايا الجريبية، كأحلى ما تكون العروس في يوم زفافها فهي ناضجة تماماً، وتكون قد كبرت بالحجم حوالي 5 ـ 6 مرات، وتعرضت لإنقاسمين: أولهما خيطي، والثاني مُنَصِّف يتم فيه اختزال العدد الصبغي الى النصف، فيصبح «22 + ×» بعد أن كان
«44 + 2 ×» في الجريب الإبتدائي. وهكذا تصبح البويضة جاهزة لتضم النطفة إليها، ولتشيد معها ذلك البناء العظيم، الا وهو الإنسان، قال تعالى في سورة الدهر: «إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن نُّطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَّبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا * إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا« [الدهر: 2 ـ 3].
ولكي تكتمل المراسيم، وتتم عملية الإلقاح في أحسن جو، فإن تلك القربة من السائل الجريبي التي تجمعت خلال تطور الجريب، تنسكب مع البويضة في جوب البطن أثناء عملية الإباضة، وبسبب غناء هذا السائل بهرمون الجريبين Ostrogen، فإن امتصاصه للدم بسرعة يؤدي لتغير مزاج المرأة بشكل يتلائم مع غريزةالإلقاح، حيث يزيد من توترها الجنسي، وميلها النفسي للجماع،وفي ذلك حكمة مدبرة، حيث إن هذه الفترة هي أكثر أيام الشهر إخصاباً.
موكب العريس: قال تعالى في سورة الطلاق: «فَلْيَنظُرِ الْإِنسَانُ مِمَّ خُلِقَ * خُلِقَ مِن مَّاء دَافِقٍ« [الطارق: 5 ـ 6].
موكب العريس سباق جبار بين نصف مليار نطفة«59» ، يبدأ هذا السابق من مهبل الأنثى، وينتهي ليس بالوصول إلى العروس فقط، وإنما ينتهي بقفزة النصر ألا وهي اجتياز جدار البيضة الشفاف، فما يصل إلى البيضة عشرات النطاف، لكنها لا تستطيع الدخول إليها كلها، ««وتجذب البيضة من هذه النطاف الكثيرة واحدة فقط، وذلك بالانجذاب الإيجابي الذي تتحلى به Positive chimotoxie، فيظهر على سطحها بمحاذاة هذه النطفة نتوء هيولي، يدعى مخروط الجذب Attraction cone، وهي البقعة التي سيجتاز منها الحيوان المنوي الغشاء الشفاف»» «60» . وبعدها تحدث حادثات خلوية دقيقة وغريبة، تنتهي بالتحام نواتي النطفة والبيضة، فيكتمل العدد الصبغي، ويطلق عندئذ على البيضة الملقحة إسم البيضة Zygot، وتكتسب البيضة بالالقاح قوة حيوية جديدة على الحياة والإنقسام والنمو لتكون الجنين، وبذلك يشترك الوالد والوالدة في إيراث صفاتهما لوليدهما.
وهكذا نجد أن من بين مئات الملايين من النطف التي بدأت السباق، لا يصل سوى العشرات الى البيضة، وتموت النطاف الباقية صرعى على الطريق، ومن تلك العشرات التي وصلت، تدخل البيضة نطفة واحدة فقط، لتشاركها في عملية الإلتحام المصيري، ويمكن استشفاف ذلك من قوله تعالى وهو يذكّر الإنسان حيث كان نطفة من نصف مليار، كلها متجة إلى البيضة فقال في سورة القيامة: «أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِّن مَّنِيٍّ يُمْنَى« [القيامة: 17]: وقوله في سورة السجدة: «ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِن سُلالَةٍ مِّن مَّاء مَّهِينٍ« [السجدة: 8]، فحرف ««من»» في هاتين الآيتين تبعيضية كما يسميها النحاة، وتعني هنا أنه شيء قليل من شيء كثير.وكذلك لفظة ««سلالة»» والطريف في هذا السباق إن النطاف بعد أن تجتاز جوف الرحم لا تدخل إلا إلى البوق الذي يحوي البيضة، ولا تدخل في البوق الآخر، فتبارك الله الذي قدر فهدى، والذي علم النطاف أين تسير.
وفوق ذلك كله تشترط البيضة على الفائز الأول أن يلاقيها في الثلث الأخير ـ البعيد ـ من البوق، وهو شرط أساسي لا يتم الإلقاح إلا بتحقيقه«61» والحكمة في ذلك بالغة جداً، فلكي يتم العلوق أو التعشيش Implantation يلزم أن يتحقق شرطان وهما:
1 ـ تطور البيضة الملقحة لمرحلة تصبح معها قادرة على العلوق في جدار الرحم بواسطة الخلايا المغذية.
2 ـ أن يكون غشاء الرحم المخاطي قد تهيأ لاستقبال البيضة الملحقة تلك، وذلك بتكاثر غدده، وزيادة مفرزاته، وبادخار مولد السكر ««الغليكوجين»» والكالسيوم والبروتين في خلاياه. وهذا يتحقق بتأثير هرمون البروجسترون الذي يفرزه الجسم الأصفر، الذي هو تحور الخلايا الجريبية التي بقيت في المبيض بعد الإباضة.
وهذان الشرطان يتحققان خلال الفترة التي تقضيها البيضة الملقحة في مسيرها من الثلث البعيد للبوق إلى جوف الرحم، وتقدر هذه المدة
بـ«7 ـ 10» أيام، وهكذا نجد وباستمرار أن كل شيء يسير نحو هدف واحد، بتعاون وتقدير محكم، وصدق الله إذ يقول في سورة الرعد: «وَكُلُّ شَيْءٍ
عِندَهُ بِمِقْدَارٍ « [الرعد: 8] وفي سورة القمر: «إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ« [القمر: 19].

ظاهرة غريبة في آليات المناعة الحيوية:


ونحن نقف أمام هذا المشهد الرائع من علاقة التعاون والحب بين النطفة والبيضة في عرس الحياة، حيث تعطي عملية الإلقاح العروسين قوة حيوية جديدة للحياة والتكاثر، وإذا لم تتم عملية الإلقاح فالموت مصيرهما، ونحن نرى هذا الإستعداد العام والخاص عند الفتاة، فتبدي استعداداً نفسياً وعصبياً كما بينا سابقاً، ويُظهر الجهاز التناسلي عندها حفاوة بالغة للضيف العزيز، فيقدم له الفرش والغذاء رغم أنه في حقيقته جسم غريب تماماً. وإذا ما تذكرنا خاصة المناعة التي يتميز بها الجسم الحي أمام العناصر الغريبة التي تحاول دخولـه، حيث تتحرك كل آليات المناعة وكل وسائل المقاومة التي يمتلكها للقضاء عليه... نشعر فعلاً أننا أمام ظاهرة غريبة في آليات المناعة الحيوية، رغم أنها تكرر في كل ثانية مئات المرات، وهكذا «وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَتَ الله لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ الإِنسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ« [ابراهيم: 34].