2 ـ الرحمة والرأفة:


تحدثنا عن الرحمة في مطلع الكتاب، حيث تحدثنا عن الرحمة الرحيمية التي تشمل عباد الله المؤمنين الذين ينبغي أن يتوادّوا ويتراحموا ويتواصلوا والاّ يظلم بعضهم بعضاً انطلاقاً من هذه القاعدة المتجذّرة: ««ارحم ترحم»» «284».
ان الانسان الذي يتساهل في أداء الواجبات والفرائض الالهية ولا يعمل بما أمر الله به ولا يجتنب المعاصي ولا يعاشر الناس بالحسنى عليه ألاّ يتوقع أن يعامله الله والناس بالرأفة والرحمة. وفي موضوع الرحمة ورد كثير من الروايات الهامة في كتب الحديث القيمة نشير الى بعضها:
««قال رسول الله « ان لله تعالى مئة رحمة انزل منها رحمة واحدة بين الجنّ والانس والطير والبهائم والهوامّ فبها يتعاطفون وبها يتراحمون، وأخر تسعاً وتسعين رحمة يرحم الله بها عباده يوم القيامة»» «285».
««وقال رسول الله « إن الله عزوجل يقول يوم القيامة للمؤمنين: هل احببتم لقائي؟ فيقولون: نعم يا ربّنا. فيقول: لمَ؟ فيقولون: رجونا عفوك ومغفرتك فيقول: قد أوجبت لكم مغفرتي»» «286».
««وقال رسول « يقول الله يوم القيامة: أخرجوا من النار من ذكرني يوماً أو خافني في مقام»» «287».
وقال رسول الله «: ««الله أرحم بعبده المؤمن من الوالدة الشفيقة بولدها»» «288».
وقال رسول الله «: ««الراحمون يرحمهم الله. ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء»» «289».
وجاء في الأثر ان موسى بن عمران « سأل ربّه وهو يناجيه؛ أي خصالي رضيتها يا رب؟ قال: لما كنت ترعى غنم شعيب وكان الوقت قيظاً وقد فرّت ماعز فذهبت وراءها حتى وجدت في أمرها نصباً حتى اذا ادركتها قلت لها لقداجهدت نفسك واياي ثم حملتها على عاتقك وعدت بها الى غنمك فمن أجل رحمتك بها ورأفتك اصطفيتك وأرسلتك«290».
وجاء في الأثر:
««قال رجل للنبي « أحبّ أن يرحمني ربّي؛ قال: ارحم نفسك وارحم خلق الله يرحمك الله»» «291».
وروي عن رسول الله «:
««تعرضوا لرحمة الله بما أمركم من طاعته»» «292».
وروي عن أميرالمؤمنين «:
««أبلغ ما تُستدرّ به الرحمة أن تُضمر لجميع الناس الرحمة»» «293».
وعنه « أيضاً: ««بالعفو تنزل الرحمة»» «294».
وعنه « أيضاً:
««رحمة الضعفاء تستنزل الرحمة»» «295».

3 ـ القناعة والرضا بما رزقه الله:


يتجلّى الله عزوجل في عوالم الغيب والشهادة بعلمه وحكمته وعدلـه وبرحمته؛ فالعالم كله قائم على رحمته وباراداته؛ فهو فاطر كل شيء وخالق كل شيء وواهب كل شيء.
خلق الاشياء وقدر لها رزقها وكل شيء عنده بمقدار.
«وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلاَّ عَلَى الله رِزْقُهَا««296».
«إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاء وَيَقْدِرُ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا««297».
إنّ الله الكريم المطلق خلق الناس وهيّأ لهم ارزاقهم من خلال الكسب الحلال، زراعة وتجارة وصناعة وأعمال ايجابية أخرى هي حصيلة العقل والفكر والقوى البشرية التي منحها الله عزوجل عباده.
وقد أوجب الله تبارك وتعالى على عباده طلب الرزق الحلال وعدّه عبادة كبرى، حيث يجهد الانسان ويتعب ويتحمل المشاق ليكسب قوته بعرق جبينه، فالعمل من مفاتيح الرزق الحلال ومن الفرائض التي أوجبها الله تبارك وتعالى على العباد.
وقد ورد في ذلك العديد من الروايات عن سيدنا محمد « وآله الأطهار:
قال سيدنا محمد «:
««طلب الحلال فريضة على كل مسلم ومسلمة»» «298».
««طلب الحلال فريضة بعد الفريضة»» «299».
««طلب الحلال جهاد»» «300».
وتدخل في طلب الرزق ونيل البركات عوامل أخلاقية وعبادية كثيرة، فقد جاء في الحديث النبوي الشريف:
««دُمْ على الطهارة يُوسّع عليك في الرزق»» «301».
وعن أميرالمؤمنين «:
««مواساة الأخ في الله عزوجل تزيد في الرزق»» «302».
وعنه « أيضاً:
««استعمال الأمانة يزيد في الرزق»» «303».
وقال الامام الباقر «:
««عليك بالدعاء لاخوانك بظهر الغيب فإنّه يهيل الرزق»» «304».
وقال الامام الصادق «:
««من حسَّن برّه أهل بيته زيد في رزقه»» «305».
وعنه « أيضاً:
««حسن الخلق يزيد في الرزق»» «306».
ومن هنا يعدّ العمل جهاداً وعبادة، يقول رسول الله «: ««من أكل من كدّ يده، نظر الله اليه بالرحمة ثم لا يعذّبه أبداً»» «307».
وعن صلوات الله عليه وآله:
««من أكل من كدّ يده كان يوم القيامة في عداد الانبياء ويأخذ ثواب الانبياء»» «308».
وعن الامام الرضا «:
««إن الذي يطلب من فضل يكفّ به عياله أعظم أجراً من المجاهد في سبيل الله»» «309».
وقال سيدنا محمد «:
««العبادة عشرة أجزاء تسعة اجزاء في طلب الحلال»» «310».
ان الرزق هو مائدة الوجود الكبرى حيث قسّم الرزاق رزقه الوفير فكل يأتيه رزقه على قدر؛ فهو سبحانه يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر.
ان اغداق النعم على العباد يعود الى حكمته عزوجل ولكل رزقه فلا يظن من انعم الله عليه وأغدق عليه انه محبوب اثير عند الله؛ ولا يتصور الذي يعيش في ضيق وفي جشب ان ذلك من غضب الله فكلاهما امتحان واختبار؛ فالذي اوتي من النعم يتعيّن عليه الشكر والذي لا يملك قوته عليه أن يصبر والله سبحانه يجزي الشاكرين والصابرين. وشكر النعمة يكون بالانفاق على البائس والفقير فيدفع بذلك عن نفسه بلاء الدنيا وأهوال يوم القيامة.
أما من كان في ضيق من العيش فيصبر لأنّ الاستقامة والصبر طريق يؤدي بالمرء الى الجنة ورضوان من الله أكبر.
ان السعة والضيق في الرزق كلاهما اختبار للانسان ينظر هل يشكر ويصبر أم يكفر؟
يقول سيدنا علي بن أبي طالب «:
««وقدّر الارزاق فكثرها وقللها وقسّمها على الضيق والسعة فعدل فيها ليبتلي من أراد بميسورها ومعسورها وليختبر بذلك الشكر والصبر من غنيّها وفقيرها»» «311».
من جانب آخر على المؤمن أن يرضى بما قسم الله له من الرزق والاّ يعترض على نصيبه لأن تقسيم الرزق يأتي ضمن تقدير للمصحلة الهي وهذا ما يجهر به مولى الموحدين أميرالمؤمنين عندما يناجي الله عزوجل قائلاً: ان تسامحني وترحمني وتجعلني بقسمك راضياً قانعا.
وتساءل نجله الامام الحسن المجتبى سبط رسول الله « قائلاً: ««كيف يكون المؤمن مؤمنا وهو يسخط قسمه ويحقّر منزلته والحاكم عليه الله»» «312».
ويسأل سيدنا محمد « جبريل عن الرضا فيقول الأمين:
««الراضي لا يسخط على سيّده أصاب من الدنيا أم لم يصب ولا يرضى لنفسه باليسير من العمل»» «313».
وقال الامام الصادق «:
««ارض بما قسم الله لك تكن غنياً»» «314».
ويقول الامام أميرالمؤمنين «:
««من رضي من الله بما قسم له استراح بدنه»» «315».
وعن الامام الصادق «:
««من لم يرض بما قسم الله عزّوجل اتهم الله تعالى في قضائه»» «316».
ويفسّر الامام علي « الحياة الطيبة بالقناعة في قولـه تعالى: ««لنحيينّه حياة طيبة»» «317».
ويوصينا « قائلاً:
««انتقم من حرصك بالقنوع كما تنتقم من عدوّك بالقصاص»» «318».
ووفقاً لمعطيات ثقافة أهل البيت « ان الحرص والطمع لا يزيدان في الرزق ولا يزيدان في الثروة الحلال بل انهما يضطران الانسان للتورط في الحرام.
والحرام يضعف اسس الايمان ويقضي على الاصول الاخلاقية ويدمّر حياة الانسان في الدنيا والآخرة ويقضي على سمعة الانسان فيما القناعة بالحلال وبما قسم الله تبارك وتعالى هو الكنز الحقيقي الذي يمكن أن يصبح الانسان به غنياً هذا الكنز الذي لا ينفد أبداً.
يقول رسول الانسانية وخاتم الانبياء:
««خيار أمتي القانع وشرارهم الطامع»» «319».
ويروي الامام الباقر « قائلاً:
««أكل عليّ من تمر دقل ثم شرب عليه الماء ثم ضرب على بطنه وقال: من أدخله بطنه النار فأبعده الله؛ ثم تمثل:
فإنّك مهما تعط بطنك سؤله وفرجك نالا منتهى الذمّ أجمعا»» «320».
ويقول الامامان الباقر والصادق «:
««من قنع بما رزقه الله فهو من أغنى الناس»» «321».
وقال الامام الصادق «:
««اقنع بما قسم الله لك ولا تنظر الى ما عند غيرك، ولا تتمنَّ ما لست نائله، فانّه من قنع شبع، ومن لم يقنع لم يشبع، وخذ حظك من آخرتك»» «322».
ويقول الامام علي «:
««كيف يستطيع على صلاح نفسه من لا يقنع بالقليل؟»» «323».

4 ـ التواضع في جميع الاحوال


التواضع في طليعة القيم الاخلاقية النبيلة والتي تمهد للانسان طريقه الى المقامات الروحية الرفيعة.
ويمكن أن نكتشف قيمته من خلال تضرع الامام في دعائه وهو يطلب من الله أن يرزقه نعمة التواضع لما لها من أثر انساني كبير.
والتواضع يكون أمام الحق وأمام الخلق والتواضع للحق هو في تنفيذ الاحكام الالهية سواء في الشؤون الدنيوية أو الاخروية وأن تكون عبادته نابعة من صميم القلب، بحيث تخف الجوارح للقيام بالأعمال العبادية وانجازها في نشاط وحيوية وخلوص نيّة.
والتواضع أمام الخلق هو الاّ يشعر المرء انه أفضل من إخوانه المؤمنين فيتعالى عليهم وينظر اليه نظرة فيها شيء من الاحتقار. ومشاعر التواضع تجاه الناس تتجسد في طريقة تعامله وتسامحه مع الآخرين كما تتجسد ايضاً في الاحترام الكامل لهم والاحسان والتودد اليهم.

القرآن والتواضع


القرآن الكريم يدعو المؤمنين ليس الى التواضع أمام الحق فحسب بل والتواضع للناس المؤمنين ومن خلال كثير من الآيات التي خاطبت النبي « تكتشف قيمة التواضع الاخلاقية.
فالنبي « الذي هو سيد الخليقة وآخر الانبياء في تاريخ البشرية وهو حبيب الله عزوجل نجد القرآن الكريم يخاطبه قائلاً:
«وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ««324».
كما تعبر هذه الآية عن سمو التواضع الذي يوصل الانسان الى أعلى مرتبة يمكن أن يبلغها بشر؛ قال تعالى:
«تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ««325».
ونجد القرآن الكريم نفوراً من الاستكبار والمستكبرين في كثير من الآيات:
«إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ««326».
«أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِّلْمُتَكَبِّرِينَ««327».

التواضع في الروايات


روي عن سيدنا محمد « قوله:
«مالي لا أرى عليكم حلاوة العبادة؟ قالوا: وما حلاوة العبادة؟ قال: التواضع» «328».
وقال أميرالمؤمنين يصف تواضع قوم سابقين:
««ولكنه سبحانه كرّه إليهم التكابر ورضى لهم التواضع فألصقوا بالأرض خدودهم وعفّروا في التراب وجوههم وخفضوا اجنحتهم للمؤمنين»» «329».
وقال « أيضاً:
««عليك بالتواضع فانّه من أعظم العبادة»» «330».
وروي عن الامام الصادق « قوله:
««التواضع ان ترضى من المجلس بدون شرفك وأن تسلّم على من لاقيت وأن تترك المراء وإن كنت محقّاً؛ ورأس الخير التواضع»» «331».
وجاء في الحديث النبويّ الشريف:
««إنّ أفضل الناس عبداً من تواضع عن رفعة»» «332».
وجاء عنه « أيضاً:
««ان التواضع يزيد صاحبه رفعةً فتواضعوا يرفعكم الله»» «333».
يرى علماء الأخلاق أن صفة التكبر من الصفات القبيحة جداً وهي حالة شيطانية ناشئة عن الاحساس بالحقارة.
أما التواضع فهو الجادّة الوسط التي ترتفع بالانسان الى انسانيته فلا يكون ذليلاً ولا يكون طاغياً مستكبراً والتواضع كما تحاول الروايات تحديده هو تذلل الانسان لله عزوجل فهو محور العبودية وانصاف الناس في المعاملة وانتهاج العدالة واحترام حقوق الآخرين.

تواضع رسول الله

«عرف سيدنا محمد « بخلقه الجم وأدبه العظيم، فكان يقوم ويقعد مع المساكين والفقراء وما دخل عليه أحد الاّ نهض له حتى وإن كان طفلا.
وكان أكثر أُنسه بالبؤساء يتفقدهم ويسأل عنهم.
وكان مركبه بسيط يحلب نعجته بنفسه ويغسل ثيابه ويأكل مع خادمه وكان مع الناس كأحدهم.

تواضع أميرالمؤمنين

«كان الامام علي كسيده وابن عمه محمد « في خلقه وتواضعه.
قال ابن عباس «:
««دخلت على أميرالمؤمنين « بذي قار وهو يخصف نعله فقال لي: ما قيمة هذا النعل؟ فقلت لا قيمة لها! فقال «: والله لهي أحبّ اليّ من إمرتكم، الاّ أن أقيم حقّاً أو لا أدفع باطلاً، ثم خرج فخطب الناس»» «334».
وكان الامام سلام الله عليه يرقع ثوبه بيده.

تواضع سليمان النبي

«أوتي سليمان الحكيم « ملكاً لم يؤته أحد قبله ولا بعده سخر الله الرياح والجن وعلمه منطق الطير وكانت مملكته من أعظم الممالك ولم تبطره السلطة ولم يغرّه السلطان؛ كطغاة التاريخ بل عاش حياته متواضعاً في غاية التواضع.
وجاء في قصص سليمان النبي «:
ان نملة دبّت على سليمان فحملها ورمى بها، فوقعت النملة فقالت: ما هذه الصولة وما هذا البطش؟ أما علمت أني أمة من أنت تعبده؟ فغشي على سليمان، فلما أفاق قال أئتوني بها، فأتوه بها فسألها، فقالت له: جلدي رقيق وبدني ضعيف وأخذتني ورميتني؛ فقال لها سليمان: اجعليني في حلّ فإني لم أقصد ذلك؛ فقالت بشرط أن لا تنظر الى الدنيا بعين الشهوة ولا تستغرق في شهواتك وضحكك ولا يستعين أحد بجاهك الاّ بذلته له.
قال: قد فعلت ذلك؛ قالت: أنت في حل«335».
اللهم وأسألك سؤال من اشتدت فاقته
اللهم وأسألك سؤال من اشتدت فاقته
ها أنا يا الهي بائس فقير عصف به البؤس واذلّته الحاجة.

المالك الحقيقي الله


على الداعي وهو يترنم بهذا المقطع من الدعاء، أن يرى بعين البصيرة حقيقتين:
الأولى: انه لا مالك في الوجود الاّ الله عزوجل؛ فهو نبع الفيض وهو الغني المطلق.
الحقيقة الثانية: إنّ هوّية الانسان وذاته الحقيقية هي الفقر المطلق شأنه في ذلك شأن جميع مفردات الوجود الأخرى في عوالم الغيب والشهادة.
إنّ الله سبحانه هو الذي خلق الخلق وهو غني عنهم وهو الذي قدر ارزاقهم وما وجود الخلائق الاّ رشحة فيض من وجوده تبارك وتعالى ونفحة رحمة من رحمته المطلقة وما أمره في الخليقة الاّ كرمش من بصر يقول للشيء كن فيكون.
كل مفردات الوجود كانت في ظلمات العدم و««كن»» هي وحدها التي أضاءت لهم رحاب الوجود، وستنطفئ لأمره إن قال: ««لا تكن»» تنطفئ لتعود الى ديار العدم والفناء.
ولولا رحمته سبحانه ما كان هذا الوجود، فكيف للانسان أن ييأس من رحمته وقد وسعت كل شيء؟!
ان حاجة الكائنات الى لطفه ورحمته وغناه عنها دليل على رحمته ولطفه ومحبته المطلقة ودليل على الفقر المطلق الذي تتصف به الكائنات.
انه هو الخالق المصور والرزاق ذو الطول وهو الودود الرحيم الكريم وهو الغفور المحيي لا شريك له في الخلق والرزق وكل الوجود مملكته.
وهو مالك الملك رب العالمين مدبّر أمور الخلائق أجمعين.
وأولئك الذين يشعرون بغناهم ويتطالون بجاههم وثرائهم لا يدركون ارتباطهم بنبع الفيض؛ قد اسكرتهم النعم وتلبستهم حالة من الشيطان يتقلبون في اللذائذ غافلين وما يشعرون انهم يأكلون ثمار اشجار الغفلة المرّة قد عميت بصائرهم عن رؤية الرحمة المطلقة. وقد حرموا من الحضور في رحاب رب الوجود ربّ الارباب حيث الكائنات تتضرع في حضرته وتطلب منه وتسأله وتشكر وتتغنى بوحدانيته.
أمّا الغافلون فهم في غيّهم سادرون قد استحالت حياتهم الى غابة مظلمة لا تسمع فيها سوى اصوات حيوانات مسعورة يغير بعضها على بعض ويأكل بعضها بعضاً في غفلة عن مالك السموات والأرض رب العالمين.
وقد تحدث القرآن عن الغني المطلق الفياض ذي الرحمة الجامع لكل صفات الكمال سبحانه وتعالى:
«وَلِلّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَالله عَلَىَ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ««336».
«وَلِلّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ««337».
«لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ««338».
«وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَن يَشَاء وَيُعَذِّبُ مَن يَشَاء««339».
وتحدّث الكتاب العزيز عن الانسان فوصفه قائلاً:
«يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَاء إِلَى الله وَالله هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ««340».
بل هو الفقر المطلق.. انه لا يملك لنفسه نفعاً ولا ضراً ولا موتاً ولا حياةً ولا نشوراً.
الله سبحانه وتعالى هو الذي خلقه وأفاض عليه نعمه التي لا تحصى. ومن أجل هذا ينهض الانسان الذي عرف ربّه؛ ينهض في منتصف الليل يناجي خالقه وربّه فيرفع كفيه الى الله قائلاً: اللهم وأسألك سؤال من اشتدت فاقته..
أجل لا فاقة اشدّ من فاقة كل الكائنات الى الله الغني المطلق الذي له ملك السماوات والأرض.
وأنزل بك عند الشدائد حاجته
وأنزل بك عند الشدائد حاجته
وها قد نزلت بي النوائب وعصف بي البلاء أسألك يا الهي أن تساعدني.
الله سبحانه خلق الانسان وهيأ له سبل الحياة وفتح أمامه طرق العيش وهذه مائدة الوجود حافلة بكل النعم الالهية وهذا نهر الحياة يتدفق جارياً تعترض المياه صخور ولكن المياه تظل تجري وتسير وهكذا قدّرها الله عزوجل.
وبالرغم من أن رزق الانسان مكفول في هذه الحياة، حيث يجد كل رزقه المقسوم؛ ولكن الله عزوجل يحب أن يسمع صوت عبده يطلب منه ويسأله ويقول حاجته؛ حتى لا ينسى الانسان ويغفل عن هدفه وغايته في رحلة الحياة.
يا الله يا رحمن يا رحيم يا مفتاح اللطف والخير والبركة ويا حلاّل المشكلات، افتح أمامي الطريق.. طريق الحياة وابعد عني غصص الحياة.. انت يا رب خلقتني وربّيتني، برحمتك وكرمك ساعدني واقض اللهم حاجاتي يا نبع الفيض ومصدر الرحمة.
وعندما تنساب كلمات الانسان المؤمن منقوعة بدموعه مفعمة بصوت متهدّج، حينئذ تتجسد معاني العبودية لله، التي تحقق للانسان أرقى وأسمى أنواع الحرّية، لأنه عندما يعبد الله وحده ويسأل من الله وحده ولا يخشى شيئاً سوى الله وحده، حينئذ يكون قد استنشق نسائم الحرّية والكرامة الانسانية.
وما دام الله هو الخالق الرازق وهو مالك كل شيء وما دام قد قطع على نفسه الاستجابة عند الدعاء، فلم الهواجس واليأس وقد قال عزوجل: ««ادعوني استجب لكم»».
أجل هو الحبيب الذي يشفق على عباده ويغمرهم برحمته.
جاء في الحديث القدسي الشريف: «أيأمل عبدي في الشدائد غيري؟ والشدائد بيدي ويرجو سواي؟ وأنا الغني الجواد وأبواب الحوائج عندي، وبيدي مفاتيحها وهي مغلقة؛ فما لي أرى عبدي معرضاً عني وقد اعطيته بجودي وكرمي ما لم يسألني؛ فاعرض عني وسأل في حوائجه غيري، وأنا الله لا اله الاّ أنا ابتدئ بالعطية من غير مسألة؛ أفأُسئل فلا أجود؟ أليس الجود والكرم لي؟ أليس الدنيا والآخرة بيدي؟ فلو أن كلّ أهل السماوات والأرض سألني مثل السماوات والأرض واعطيته ما نقص ذلك من
ملكي جناح بعوضة فيا بؤساً لمن أعرض عني وسأل في حوائجه وشدائده غيري»» «341».
وعظم فيما عندك رغبته
وعظم فيما عندك رغبته
ليس هناك ما هو أعظم من الحب الالهي حيث تضطرم الحقيقة في أعماق البشر فتتأحّج شعلة العشق.
الامام علي حينما يتغنّى بهذا الدعاء يعفر وجهه بالتراب متضرعاً الى الله سبحانه ويتوسل اليه بالحب الذي يضطرم لهيبه في الاعماق.
ولو اردنا ان نستعرض ما ادخر الله عزوجل لعبده ممّا لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب انسان للزمنا في ذلك عشرات المجلدات وينتهي عمر الانسان وتبقى كلمات الله لا تنتهي، وهذا غيض من فيض الآيات والنصوص المقدسة.

1 ـ ثواب الأعمال


خلق الله الانسان وفرض عليه أداء العبادات من صلاة وصوم وحج وزكاة وجهاد في سبيل الله وخدمة الناس واداء الحقوق الاجتماعية والواجبات وجعل لكل ذلك ثواباً جزيلاً وأجراً كبيراً، وقد قطع الله عزوجل الوعد على نفسه أنه يجري العاملين.
«وَالَّذِينَ يُمَسَّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ إِنَّا لاَ نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ««342».
«إِنَّ الله لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ««343».
«إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً««344».
وقد أشار القرآن الكريم في حديثه عن الأجر الى انواع من الثواب:
1 ـ أجر عظيم. 2 ـ أجر كريم. 3 ـ أجر غير ممنون. 4 ـ أجر كبير. 5 ـ أجر مضاعف.
قال تعالى:
«لِلَّذِينَ أَحْسَنُواْ مِنْهُمْ وَاتَّقَواْ أَجْرٌ عَظِيمٌ««345».
«إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقَاتِ وَأَقْرَضُوا الله قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعَفُ لَهُمْ وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ««346».
«إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ««347».
«وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ««348».
«أُوْلَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُم مَّرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا وَيَدْرَؤُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ««349».
هكذا ثواب الله لمن آمن وعمل صالحاً وقال أنني من المسلمين ثواب لا يزول ونعيم دائم لا ينتهي وكيف لا يكون كذلك والله سبحانه هو الغني السخيّ ذو الجود الكريم.
وقد تحدثت الروايات الواردة عن أهل البيت « عن الثواب الالهي يقول سيدنا علي «:
««ثواب عملكم أفضل من عملكم»» «350».
««ثواب الصبر أعلى الثواب»» «351».
««إن أعظم المثوبة مثوبة الانصاف»» «352».
««ثواب الجهاد أعظم الثواب»» «353».
ويقول الامام الباقر «:
««النائم بمكّة كالمجتهد في البلدان، والساجد بمكّة كالمتشحّط بدمه في سبيل الله ومن خلّف حاجّاً في أهله كان لـه كأجره حتى كأنه يستلم الحجر»» «354».
ويقول سيدنا محمد «:
««رباط يوم في سبيل الله خير من الدنيا وما عليها»» «355».
يقول « أيضاً:
««حرس ليلة في سبيل الله عزوجل أفضل من ألف ليلة يقام ليلها ويصام نهارها»» «356».
««إنّ العبد اذا تخلّى بسيده في جوف الليل المظلم وناجاه، أثبت الله النور في قلبه»» «357».
وقال سيدنا علي «:
««قيام الليل مصحّة البدن ورضى الربّ وتمسّك بأخلاق النبيّين وتعرّض لرحمته»» «358».
وقال سيدنا محمد «:
««ان العبد ليؤمر به الى النار يوم القيامة فيسحب فيقول المؤمنون والمؤمنات: يا ربّ هذا الذي كان يدعو لنا فشفّعنا فيه. فيشفّعهم الله فينجو»» «359».
وعنه « أيضاً:
««ألا من تعلّم القرآن وعلّمه وعمل بما فيه فأنا له سائق الى الجنّة ودليل الى الجنّة»» «360».

الجنّة


من الحقائق عند الله وأهل المعرفة هو الشوق إذ جعل الله عزوجل الجنة ثواباً لمن آمن به وأطاعه، وعمل بأحكامه.. فجزاء المؤمنين المحسنين الجنة خالدين فيها أبداً. من اجل هذا نجد في القرآن الكريم دعوة أكيدة وحثاً على الذهاب الى الجنّة في الآخرة، التي هي المستقبل الحقيقي للانسان:
«وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ««361».
«سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاء وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِالله وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ الله يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء وَالله ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ««362».
ان الجنة لا يستحقها الاّ المؤمنون العاملون للصالحات المتقون وهي محرّمة على الكافرين العصاة الخاطئين الذين استغرقوا في المعاصي والذنوب فهؤلاء لا يدخلون الجنّة.
«وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ««363».
«وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ الله وَرَسُولَهُ أُوْلَـئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ الله إِنَّ الله عَزِيزٌ حَكِيمٌ * وَعَدَ الله الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِّنَ الله أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ««364».
جاء عن زين العابدين سيدنا علي بن الحسين « أنه قال:
««اعلموا أنه من اشتاق الى الجنّة سارع الى الحسنات وسلا عن الشهوات ومن اشفق من النار بادر بالتوبة الى الله من ذنوبه وراجع عن المحارم»» «365».
ويقول الامام علي «:
««ثمن الجنّة العمل الصالح»» «366».
وعن الامام الباقر «:
««عشر من لقى الله عزوجل بهنّ دخل الجنّة: شهادة ان لا اله الاّ الله وأن محمداً رسول الله والاقرار بما جاء من عند الله، واقام الصلاة وايتاء الزكاة وصوم شهر رمضان وحجّ البيت، والولاية لأولياء الله، والبراءة من أعداء الله واجتناب كل مسكر»» «367».

رحمة الله


وتحدث القرآن الكريم بشكل واسع عن رحمة الله لعباده، ودعا الناس جميعاً الى نيل رحمته عزوجل من خلال التوسل بالايات والعمل الصالح والتوبة عن الذنوب وتقوى الله تبارك وتعالى:
«فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُواْ بِالله وَاعْتَصَمُواْ بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِّنْهُ««368».
«وَإِذَا جَاءكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ««369».
«فَقُل رَّبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ وَاسِعَةٍ««370».
«وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ««371».
التوافر على أمور تحددها الأحاديث التالية:
يقول الامام الباقر «:
««تعرّض للرحمة وعفو الله بحسن المراجعة واستعن على حسن المراجعة بخالص الدعاء والمناجاة في الظُلَم»» «372».
وجاء رجل الى النبي « فقال:
ـ احب أن يرحمني ربي.
قال «: ««ارحم نفسك وارحم خلق الله يرحمك الله»» «373».
وقد سبق أن تحدثنا عن رحمة الله عندما شرحنا المقطع الأول من الدعاء الكريم: ««اللهم اني اسألك برحمتك التي وسعت كل شيء»» ولكي نستطيع تفهم هذه الحقيقة، ينبغي التوقف عند بعض المفاهيم حول عفو الله تبارك وتعالى.

عفو الله عزوجل


العفو بمعنى غض النظر وصرف النظر عن الجزاء والعقوبة بسبب الذنب ومحو الآثار المترتبة على السيئات.
وقد فتح الله عزوجل أبواب عفوه للتائبين العائدين من الذين عصوه في لحظة ضعف بشري ثم شعروا بالندم وطلبوا من ربهم المغفرة ولذا أكد الله سبحانه هذه الحقيقة في صريح آياته البينات قال تبارك وتعالى:
«إِنَّ الله كَانَ عَفُوًّا غَفُورًا««374».
ويقول سيدنا علي «:
««أمره قضاء وحكمه ورضاه أمان ورحمة يقضي بعلم ويعفو بحلم»» «375».
««وسأل أعرابي رسول الله « قائلاً:
يا رسول الله من يحاسب الخلق يوم القيامة؟
قال «: الله عزوجل.
قال الاعرابي: نجونا وربّ الكعبة!
قال «: وكيف ذاك يا اعربي؟
قال الاعرابي: لأن الكريم اذا قدر عفا»» «376».
وقال الامام علي «:
««من تنزه عن حرمات الله سارع اليه عفو الله»» «377».