علم الله الشامل
إن الله الذي لا يحويه المكان ولا يخلو منه مكان ، وليس له حدّ محدود ، طبيعيّ أن يكون عالماً بكل شيء في نظام هذا العالم ، لا يحويه علم الله الشامسل المحيط ، فالحوادث التي تجري في أقصى نقاط هذا العالم ، والتي مضى عليها ميليارات السنين أو التي تجري في أقصى نقاط هذا العالم ، والتي مضى عليها ميليارات السنين أو التي تحدث بعد ميليارات السنين ، لا تخرج عن إحاطة علم الله سبحانه ، وعلى هذا فلا سبيل إلى الوقوف على حدود علم الله ، إذ لا حدّ له .
لغاية إدراك سعة علم الله لو أمددنا أفكارنا بالتحقيق والتدبّر بعقولنا التي تستطيع أن تستوعب الطبيعة في لحظات ، ومضينا قدماً نحو هذه الغاية بأجنحة أفكارنا الحرة ، فإن أفكارنا لا تزال تفقد الاستعداد لدرك تلك الغاية .
لو كنا في كل مكان كما نحن في مكان ونقطة خاصة ، ولم يكن يخلو منا أيّ محل ، لم يكن ليخفى علينا أيّ شيء ، بل كنا ندرك كل شيء .
ينقسم العالم بالنسبة إلينا إلى قسمين : « غيب وشهود » وليس كون بعض الحقائق من الغيب عنا لعدم ماديتها أو لعدم كونها من المحسوسات بالحواس الظاهرة ، ولعدم محدوديتها ، بل لا ينحصر الوجود في الأمور المحسوسة التي تدخل تحت التجربة .
إننا من أجل أن ندرك رموز وأسرار حقائق الوجود نحتاج إلى مدرجة للقفز إليها ، ومدى فعالية هذه القفزة يتوقف على قوة الفكر الفعّال عندنا ، فإذا أعدّت لنا هذه المدارج تمكّنا من معرفة كثير من الواقعيات .
إن القرآن الكريم يبدي رؤية واسعة عن الوجود تحت عنوان : « الغيب » والأنبياء حاولوا أن يصعدوا برؤية الإنسان عن عالم الخلقة إلى الإيمان بالغيب ، كي تتجاوز رؤيته المحدود إلى اللامحدود وتتعدّى الظاهر حتى آفاق الغيب الخفي .
أما الله فلا غيب بالنسبة إليه بل العالم كله شهود لديه كما يقول القرآن الكريم :
( عالم الغيب والشهادة هو الرحمن الرحيم )(1) .
إن المصنوعات البشرية تنبع من ذكاء وعلوم صانعيها ، وكلما كان المصنوع أدقّ وأكثر فنية ومهارة كان أكثر دلالة على مدى علمية الصانع ، وكان أدلّ على هندسة وهدف ذلك الصانع .
ومع أن عظمة هذا العالم لا يناسب القياس بمصنوعات الإنسان إلاّ أن عظمة هذا العالم وصور موجوداته المتناسبة وما تدل عليه من عظمة تلك الحكمة في هذا النظام العظيم ، وبهذه المناظر الجميلة والمحيّرة ، كلها تدلّ على العلم اللانهائي والمحيط لذلك الناظم والمدّبر الخلاّق ، بل هذه المظاهر من أقوى الأدلة على ذلك الوجود الفيّاض بالعلم والإرادة والحكمة ، ذلك الوجود الذي أبدع هذه العجائب على أساس برنامج دقيق ومنظم ، وبإمكاننا أن نتعرّف على مظاهر هذا العلم الواسع في كل جزء من أجزاء ظواهر هذا الوجود .
والذين يحاولون متابعة تجارب المختبرات ونظريات العلماء بإمكانهم
ــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة الحشر : الآية 22 .
أن يشاهدوا عجائب كثيرة من مظاهر ذلك العلم اللانهائي في الحيوانات والحشرات والنباتات .
أجل ، إنه يعلم بمجاري النجوم والكواكب في فضاء السماوات وبعالم السحابيات ودوران المجرّات ، من الأزل وإلى الأبد ، وبعدد الذرّات في جميع الأجرام والأجسام والأحجام ، وبحركة ميليارات الموجودات الدقيقة والخشنة على وجه الأرض ، وفي أعماق البحار والمحيطات ، وبجميع القوانين والسنن الطبيعية النافذة والمستمرة ، وبالظاهر والباطن لكل شيء ، وبما تضمر الصدور والضمائر بل هو أقرب إليها من أصحابها ، ونستمع مرة أخرى هنا إلى نداء القرآن الكريم ، إذ يقول :
( ألا يعلم من خلق ، وهو اللطيف الخبير )(1) .
( لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء )(2) .
يقول ( نيوتن ) : « بالنظر في جهاز السمع في الأذن والبصر في العين نفهم أن صانع الأذن عالم بقوانين الأصوات بشكل كامل ، وصانع العين خبير بالقوانين المعقدة المتعلقة بالنور والرؤية ، وبالنظر في نظام السماوات نتوصل إلى حقيقة كبرى تدبّر أمرها بهذا النظام الحكيم الخاص »(3) .
ولهذا فإن علماء الطبيعة بفضل اطلاعهم على دقائق النظم في أعماق الوجود ، وبفضل خبرتهم وتجاربهم الكاشفة عن المحاسبات الدقيقة في الوجود الحيّ ، والميت ، وكريات الدم والخلايا ، وكيفية تأثيرها وتأثرها وأفعالها وردودها لديها ومختلف تحولاتها ، حسب تحقيقاتهم العلمية ، وبفضل مشاهداتهم التجريبية في مظاهر الحكمة المحيّرة والعلم الواسع اللانهائي في آفاق الطبيعة ، بفضل كل هذا تتجلى لهم سعة علم الله وكمال
ــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة الملك : الآية 14 .
2 سورة آل عمران : الآية 5 .
3 دائرة المعارف لفريد وجدي ، ج 10 ص 448 .
أوصافه ، وإن هم لم يتعمدوا إخفاء نداء الوجدان فهم يرون وجود الخالق أوضح وأجلى من غيرهم .
يقول أحد المفكرين : « إن عالمنا بمخ مفكر فعال أشبه منه بجهاز ميكانيكي كبير ، وكتعريف علميّ أقول : إن عالمنا مخلوق فكرة عظيمة هي أسمى من مظاهر الفكر فينا ، وأنا أرى أن الأفكار العلمية تسير إلى هذا الهدف » .
إن علم الله ليس قاصراً على الماضي ولا على الحوادث والموجودات الحاضرة ، بل إن علمه بالمستقبل كعلمه بالحاضر .
ولا يشبه علمه بعلم الإِنسان في توقفه على وجود المعلوم في الخارج ، ولا يصح تصور ان علمه حاصل له من طريق التحقيق في المخلوقات ، إن علمه لا يناسب القياس بعلم الإِنسان وليس باستطاعة المقاييس البشرية أن تعمل أي شيء لمعرفة كيفية علمه سبحانه ، إذ لا بد لعلم الإِنسان من وجود المعلوم كي يتعلق به العلم ، وليس الأمر كذلك في علم الله سبحانه ، إن علم الله « علم الحضوري » حسب المصطلح العلمي ، أي لا يجب فيه وجود المعلوم كي يتعلق به العلم ، بل الأمر مكشوف لديه ، وذات الله وإن كان غير موجوداته ولكنه ليس خارجاً عنها أيضاً كما يقول أميرالمؤمنين (عليه السلام) ، فالماضي والمستقبل حاضر لديه بدون أي واسطة ، يقول أميرالمؤمنين (عليه السلام) :
« فارق الأشياء لا على اختلاف الأماكن ، وتمكن منها لا على الممازجة ، وعلمها لا بأداة ، لا يكون العلم إلّا بها ، وليس بينه وبين معلومه علم غيره »(1) .
يشـير أمـيرالمؤمنين (عليه السلام) في حـديثه هـذا إلى مـا اصطلح عليه العلماء بالعلم « الحضوري » إذ لا حاجة لله في علمه بالحوادث ألى الصور
ــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 كتاب التوحيد للشيخ الصدوق ص 73 .
الذهنية التي هي أساس العلم « الحصولي » ، أجل ، لو كان تحقق علمه متوقفاً على تلك الطريقة الحصولية كان محتاجاً إلى تلك الصور الذهنية لتحقق العلم ، في حين أنه هو الغنيّ على الإِطلاق .
إن الله الذي منه نشأ وجود العالم والعالمين ، وهو الذي يقضي كل حاجة مفترضة ، وهو الذي يجود بكل نعمة وكل كمال ، وهو مجمع جميع الكمالات والفضائل ، كيف يتصوّر أن يكون هو قاضي الحاجات وفي نفس الوقت محتاجاً ؟ .
إن الصور الذهنية تبقى في أذهاننا حسب ما نريد ، وإذا أهملناها فإنها سنختفي ، إذ أن الصور الذهنية إنما هي مخلوقة لنا .
ويسمى هذا العلم بالحضوريّ ، إذ يحصل من دون حاجة إلى الواسطة ، بخلاف العلم الحصوليّ الذي لا يحصل بدون واسطة ، بل هو انعكاس للطبيعة في حواس الإِنسان .
والفارق بيننا وبين الله هو أن الله غنيّ على الإِطلاق فلا حاجة له إلى الصور الذهنية .
إن تصوير الحوادث الماضية والآتية ، إنما يكون في آفاق أفكارنا المحدودة ووجودنا المحدود الذي يشتغل محلاً من الزمان والمكان الخاص ، والذي لا وجود له خارج حدود هذا المقطع من الزمان والمكان ، إذ إن وجودنا وجود مادّي ، والمادة في تغيراتها المستمرة وتدرّجها التكاملي تجري على أساس قوانين الفيزياء والنسبية محتاجة إلى الزمان والمكان ، أما الوجود الحاضر من الأزل حتى الأبد في كل زمان بعيداً عن أسر المواد ولوازمها فلا فرق لديه بين الماضي والحاضر والمستقبل .
وبما أن كل حادث يستند في وجوده وظهوره إلى وجود الله المطلق ، فلا يمكن أن يكون بين الله وهذا الوجود أيّ حجاب أو حائل فالله محيط بظاهر كل شيء وباطنه .
وكذلك القرب والبعد والفواصل المكانية ، إنما تنشأ من محدودية وجودنا ، يقول القرآن الكريم :
(ويعلم ما في البرّ والبحر ، وما تسقط من ورقة إلّا يعلمها ولا حبة في ظلمات الأرض ولا رطب ولا يابس إلّا في كتاب مبين)(1) .
نفترض أننا واقفون في غرفة مشرفة على الشارع العام ننظر من نافذة صغيرة إلى مجموعة السيارات التي تسير في الشارع على سرعتها ، بديهيّ أننا لا نتمكن أن ننظر إلى مجموع السيارات مرة واحدة ، بل تمرّ السيارات أمام تلك النافذة الصغيرة واحدة فواحدة تظهر وتختفي ، فإذا كان الواقف خلف النافذة لا يعلم بحقيقة الحال تصوّر أنها توجد في ناحية وتعدم في أخرى .
والحقيقة أن نافذتنا هذه الصغيرة والمحدودة هي التي تصوّر لنا ماضي ومستقبل هذه السيارات ، بينما يرى الواقفون على جوانب الشارع كمية أكبر من السيارات من دون هذا التصوّر الخاطىء ، إن موقفنا بالنسبة إلى ماضي ومستقبل هذا العالم كهذا الواقف الناظر من النافذة الصغيرة إلى السيارات في الشارع .
يقول العلماء : « ذكر في علم الثيوبولوجيا أن للعالم جهات أربع ، ولكن هناك الكثير من الخواص الهندسية في العالم ليس لها سوى أبعاد ثلاثة مخالفة للصورة العامة » .
لو كان شخص خارج إطار شيء ما كان ذلك الشيء حاضراً أمامه ولم يكن أيّ فرق أن يكون ذلك الشيء أمامه أو خلفه ، كذلك لو تحكم شخص على بعد الزمان = البعد الرابع في العالم ، تمكن من النظر في الأبعاد الثلاثة الأخرى ، ولم يكن لأيّ جهة من الجهات الأربع أيّ خصوصية .
ولو تحرك إنسان بسرعة النور كانت فاصلة تقدر بالصفر ، فجميع
ــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة الأنعام : الآية 59 .
النقاط في فضاء الفواصل تبدو في معبر الناظر وكأنها نقطة واحدة مجموعة ، فهو يلاحظ جميع الحوادث وكأنها حادثة واحدة .
والزمان لهذا الإنسان زمان راكد ، أي وإن كانت الحوادث متغيرة ولكنها تبدو في نظرة وكأنها تحدث في آن واحد لا على طول استمرار الزمان ، فلا معنى للماضي والحاضر والمستقبل لدى هذا الناظر البصر على كل مصير »(1) .
وإذ علمنا أن الله فوق الزمان والمكان ، فجميع الموجودات والحوادث الماضية والآتية حاضرة لديه وموجودة عنده كلوحة مصوّرة من دون أن يكون علمه متوقفاً على هذه اللوحة المصوّرة .
وعلى هذا فنحن أمام خالق عالم بكل صغيرة وكبيرة كما يقول القرآن الكريم :
(إ الله يعلم ما تفعلون)(2) .
يجب علينا أن نشعر بالمسؤولية وأن نحذر عن كل زلة وتحريفة تسبب لنا الانحطاط والبعد عن الله سبحانه ، وأن نخضع أمام ذلك العليم على الإِطلاق الذي أخذ بأيدينا وعبر بنا مراحل الحياة المختلفة حتى بلغ بنا مرحلة انفتاح طاقاتنا واستعداداتنا ، ولا نعصي أوامره التي تفتح لنا طريق السعادة والوصول إلى الهدف الإِنساني السامي ، بل لا نقبل أيّ عامل أو دافع فينا سواه .
وللوصول إلى هذا الهدف السامي علينا أن نتحلى بالأوصاف الإِلهية ، وأَّ نعدّ العدة في هذه المدة للقاء الله وضيافته ، كي يتحقق لنا الرجوع إلى الله أي مبدأ الوجود ، ولا نصل إلى تلك المقامات إلّا بالعمل المستند إلى التقوى ، فمعرفة الله وتوحيده تجعل مسؤولية العمل على عاتق الإِنسان بعنوان الأمانة الإِلهية .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 العلم والفن : ص 236 ( بالفارسية ) .
2 سورة النحل : الآية 91 .