معاهد الخطابة الحسينية
العوائق والمنطلقات
دراسة في أسباب الفشل وعوامل النجاح
المقدمة
إنّ من الأمور الهامّة التي يجب أن نأخذها بعين الاعتبار هي أن لا نجامل على حساب الحقيقة ؛ وإلاّ لن نتقدّم شبراً في خدمة الإسلام .
والحقيقة وصحة الفكرة ، وصواب الرأي ليست من الأمور الخاصّة بالكبار ( كبار السن ، أو كبار العلم ) ؛ فإنّ ما يكتبه الشاب بصدق ومعاناة يكون في الغالب أقرب إلى كبد الحقيقة ممّا يكتبه الكبار ، الذين كثيراً ما تشوّش المداراة ، وكثرة الحسابات والاعتبارات رؤيتهم ، وتعقل ألسنتهم .
تمهيد
من الواضح إنّ تجربة إنشاء المعاهد والمدارس التي تُعنى بشؤون الخطابة الحسينية وإعداد الخطيب في النجف الأشرف تجربةٌ جديدة ؛ لذا فهي بحسب طبيعة أي عمل جديد يكتنفها الكثير من المصاعب والعقبات ، وعدم الوضوح في الرؤية ؛ لقلّة الخبرة أوّلاً ، وعدم وجود نماذج ناجحة من هذه المعاهد ثانياً ، ولأسباب أخرى عديدة . بل وإنّ المعاهد التي أُنشأت لهذا الغرض في أماكن أخرى ، حيث توجد الحوزات العلمية لم تحقق النجاح المطلوب ، ولم تجن الثمرة المرجوة منها ، ممّا يشير ذلك إلى وجود خلل أو ربّما مجموعة كبيرة من الأسباب تقف كعقبات في الطريق ، وهي تؤدّي بالتالي إلى فشل هذه المحاولات وجعلها عديمة الجدوى ، أو عقيمة عن الإنتاج في أغلب الأحيان .
أوّلاً : أسباب الفشل
يعود فشل المعاهد ومدارس الخطابة الحسينية ، وعدم تحقق المأمول منها إلى عدّة أسباب نذكرها تباعاً .
ا ـ المناهج
إنّ المناهج الدراسية المعتمدة في هذه المعاهد والمدارس تفتقر إلى الموضوعية . وأقصد بها الواقعية ، أي إنّها لم تأخذ حاجة الخطيب الفعلية في مناهجها .
ومردّ ذلك هو إنّها غير موضوعة على أساس علمي سليم ، نابع من ملاحظة حاجة الخطباء للمواد الدراسية ، كما إنّها لم تأخذ بنظر الاعتبار الهدف والغاية من الخطابة ؛ فإنّ الغاية والهدف من ممارسة الخطابة هي إقناع الجمهور بما يلقيه الخطيب على مسامعهم ، واستمالتهم إلى قبول تلك الآراء والأفكار ، وتبنّيها من قبل الجمهور ، ومن ثم العمل على طبقها .
الصفحة (2)
ويمكن إن يتحقق ذلك بوضع المناهج على أساس علمي من خلال القيام بدراسات إجرائيه ، واستطلاع لآراء الطلبة الراغبين بالانضمام إلى هذه المعاهد ، وبالخصوص آراء الخطباء ذوي الكفاءة والمستوى العلمي والثقافي الجيد ، والذين يتمتّعون بمستوى جيد من الوعي .
ثمّ تُجمع هذه الآراء وتدرس دراسة جيدة ، وتنقّح بنظرة فاحصة ، وبموضوعية وواقعية شاملة ، بحيث تلاحظ في هذه المواد الدراسية ظروف الزمان والمكان والثقافة الاجتماعية المعاصرة .
إنّ مناهجنا بشكلها وصورتها الحالية أخذت بنظر الاعتبار النجاحات التي حققتها الأجيال السابقة من الخطباء ، وهذه النظرة قد لا تكون صحيحة ؛ لأنّ شروط النجاح وعواملة قد تختلف من حال إلى حال ، ومن زمان إلى آخر .
كما يمكن إن يتحقق النجاح لهذه المناهج بحيث تكون نافعة من الناحية العملية والنظرية للخطيب ، بأن نستفيد ثانياً من مناهج بعض المعاهد والمدارس التي تشترك في بعض جوانبها مع مدارس الخطابة .
فالخطابة عمل إعلامي من دون شك ، فالمفروض حينئذ أن نطّلع على مناهج المعاهد والكليات الإعلامية ـ إن صح التعبير ـ ؛ لنرى ما ينفعنا منها في مجال عملنا ، أي وضع المناهج لمدارس الخطابة .
وهكذا نتفحّص كلّ ما له صلة بالخطابة من قريب أو بعيد ؛ لنستثمره في اختيارنا للمناهج الدراسية ، وهذا هو أحد جوانب الخلل في مناهجنا ؛ إذ إنّ موادنا الدراسية في معاهد الخطابة ومدارسها لا تتجاوز ما هو مألوف ومعروف عندنا تدريسه في الحوزة العلمية .
وإذا تجاورنا هذه النظرة قليلاً سعينا لوضع مواد دراسية أخرى تفتقدها الحوزة ، مثل علوم القرآن والتاريخ ، وكل ما هو موجود أمام أعيننا ، وأمّا ما غاب عن أذهاننا ، أو لم نألف تدريسه فهو غير مأخوذ بالحسبان .
إنّ الخلل في اختيار المناهج الدراسية ، وانتقاءها بشكل عشوائي وغير سليم ، بالشكل الذي وصفت قبل قليل خلّف مشكلة مع المتقدّمين للدراسة في هذه المدارس أو المعاهد .
وتتلخّص : في أنّ الطالب الذي ينتمي إلى هذه المعاهد لا يجد ما يريد من الدروس ، والذي يكون هو بحاجه ماسّة إليها غالباً ، وأمّا ما لا يريده من المواد الدراسية كأن يكون قد درسها في الحوزة ، أو إنّه قادر على اكتسابها خارج نطاق هذه المعاهد اعتماداً على المطالعة الخارجية ، كعلوم القرآن ، والإسلام يقود الحياة .......إلخ .
فهذه المواد التي لا يرغب الطالب في دراستها يجدها أمامه ، وتُفرض عليه دراستها في هذه المعاهد .
الصفحة (3)
وأنا هنا لا أتحدّث عن الطلبة ذوي المستويات العلمية والثقافية والفكرية المتواضعة ؛ فإنّ هؤلاء لا يميّزون أصلاً بين ما ينفعهم وبين ما لا ينفعهم .
فلو ألقيت على مسامعه حديثاً ثم كتبه وذهب ليلقيه على مسامع الناس تصوّر إنّ هذا هو النجاح الذي ما بعده نجاح ، فأنا لا أتحدّث على هؤلاء أبداً .
ثمّ على فرض قبول الطالب بهذه المواد الدراسية وهذه المناهج ، وإبداء الرغبة في دراستها ، إلاّ إنّه لا تنفعه في الغالب ؛ لأنّها علوم تلقينية يزق بها الطالب زقاً ، فهو كوعاء للحفظ فقط ، إن أُعطي شيئاً حفظ بعضه وأهمل الكثير منه .
وما لم يُدرّس من العلوم في هذه المعاهد فهو غير قادر على تحصيلها من منافذ أخرى ؛ لأسباب منها :
عدم الالتفات لأهمية ذلك العلم أو الفن . أو لضعف الإدراك عنده ، أو لضعف الهمّة والنشاط أو غير ذلك ، ممّا يجعله بالتالي ، وبتعبير جريء ، يتخرّج من هذه المعاهد أو المدارس ببغاءً يردد ما ألقيناه على مسامعه .
إنّ المهم في المناهج أن تكون ممّا يحرّك فكر الطالب ، وينمّي فيه روح الإبداع ، وتولّد لديه القدرة على التفكير والاستدلال ، والابتكار والتفنن على المستوى النظري ، أي عند إعداد الخطبة والمستوى العملي ، أي حال الإلقاء ، وليس المهم في المنهج أن يكون حشواً يُملأ به رأس الطالب .
وثمّة خلل آخر في هذه المناهج ، وهو إنّها لم تأخذ التفاوت العقلي ، ولا المستوى الدراسي للطلاب في نظر الاعتبار ، فالذكي يقرن مع الأقل ذكاءً في مادةٍ واحدة ، وطالب المقدّمات مع طالب البحث الخارج .
ولقد خلق هذا الخلل في التنظيم ، وتوزيع المواد الدراسية مشكلة أخرى ، وهي شعور الطالب ذي المستوى الجيد والعقلية الناضجة بالإحباط وخيبة الأمل ؛ لقرنه مع تلاميذ تلاميذه في درسٍ واحد .
وإذا ما راعى الأستاذ حال الأدون في المستوى الفكري والعلمي في عرض مادته على الطلاب ، فلا شك إنّه قد غمط حقّ ذي الكفاءة الجيدة .
وإن راعى حال الطلبة الأذكياء والمتقدّمين في المستوى العلمي ، خرج الأقل كفاءة من دون فائدة ، والسبب في ذلك واضح .
فهو إمّا لضعف استيعابه ، أو لعدم توفّره على المقدّمات اللازمة ؛ ليكون قادراً على الفهم والاستيعاب .
إنّ البناء يفترض أن يبدأ من الأساس ، ثمّ توضع فوقه اللبنات العليا .
الصفحة (4)
لكنّنا نرى في معاهدنا العكس ، حيث تقوم مناهجنا بتشييد البناء العلوي وتدع الركائز التي ينبغي إن يُعتمد عليها .
ولزيادة هذه الفقرة شرحاً وتوضيحاً لابد من بسط الكلام فيها ؛ لتنجلّى حقيقة الأمر ، ونكتشف الخلل الكبير في المناهج الدراسية في معاهد ومدارس الخطابة .
فنقول : لا شك إنّ الخطابة علمٌ وفن . فالقواعد والأصول تمثّل الجنبة العلمية منها ، وتطبيق هذه القواعد ومراعاتها تمثّل الجانب الفنّي في ممارسة الخطابة .
فقواعد وأصول الخطابة تُعدّ البناء الأساسي في سلّم مواد المنهج الأساسي ، ومتى ما وجدنا فراغاً في بحثٍ من بحوث هذا الفن ، أو كان البحث غير مستوفٍ لكل جوانب الموضوع يجب أن نقوم حينذاك بسدّ هذا الفراغ ، بوضع مادة دراسية واسعة ومستوفية ؛ لتغطية ذلك النقص .
مثلاً : يذكر في كتب فن الخطابة بحث كيفية إعداد الخطبة ، إلاّ إنّ هذا البحث ليس بكافٍ ولا وافٍ ، بحيث ينتفع الخطيب منه بشكل كامل ، فلابد حينئذٍ بسدّ هذا النقص ، بوضع مادةٍ دراسية تستوفي كلّ جوانب إعداد الخطبة ، أو كتابة موضوعها .
وهنا تجب الاستعانة بمناهج البحث العلمي أو الأدبي ؛ لسد هذا النقص ، وإعطاء التصوّر الكامل للخطيب في كيفية إعداد موضوع خطبته .
وهكذا باقي المواد الدراسية ، إلاّ إنّ هذه المادة الرئيسية الهامّة ( فن الخطابة ) مغفولٌ عنها تماماً في معاهدنا ، وإن عوّضت بشيء فهو لا يسمن ولا يغني عن جوع .
إنّ الكتب التي وضعت عن فن الخطابة وأصولها إذا لاحظتها فستجد إنّها غالباً تبحث في المواضيع التالية :
تعريف الخطابة ، وبيان أهميتها ، ونبذة تأريخية عنها ، وأقسام الخطب ... إلخ .
وفي هذه المعلومات نفع للطالب ؛ إذ هي تثري ثقافته في المهنة التي يمارسها ، إلاّ إنّ المهمّ غير هذا ، بل المهمّ فيها هو أركان الخطابة الثلاثة ، وهي :
أوّلاً : الخطيب
وينبغي أن تتوفّر في الخطيب سماتٌ ثلاثة :
الأولى : تكوينية
أي ما يرتبط بشخصية الخطيب من ناحية الصوت ، وصحة النطق بالألفاظ ـ أي سلامة اللسان من العيوب ـ والفطنة والذكاء ، والمظهر الخارجي له بعامّه .
ويجب أن تراعى هذه الأمور في اختبارات الشخصية ، والمقابلات التي تسبق قبول الطالب في هذه المعاهد ؛ ليُعرف توفّره على هذه السمات أم لا .
الصفحة (5)
إلاّ إنّ معاهدنا لا تنظر إلى هذا الجانب في شخصية الخطيب أصلاً ، بل المدارس الدينية والحوزوية عامّة لا تنظر إلى هذا الجانب ، ولا تعير المقابلات الشخصية أيّ أهمية ؛ لذا تجد الكثير بين طلاب العلوم الدينية مَنْ لا يجد القراءة والكتابة ، فضلاً عن مراعاة درجة الذكاء والنباهة .
وعلى الإجمال : فإنّ هذا الجانب ـ السمات التكوينية ـ مغفولٌ عنها تماماً .
وبالبداهة فإنّ أيّ شخص ينظمّ إلى هذه المعاهد وهو فاقد لهذه الصفات كلاًّ أو بعضاً ، فإنّه محكوم عليه بالفشل لا محالة .
وإن أجرت بعض المعاهد الدينية مقابلات شخصية للمتقدّمين فغالباً ما يكون ذلك على أيدي أُناس غير متخصّصين .
الثانية : سمات أخلاقية
وليس المقصود هنا أن توضع في المناهج المعتمدة في معاهد الخطابة ومدارسها كتب الأخلاق المتعارفة ؛ لتدرّس للطالب ، فهذه الأخلاقيات العامّة ـ إن صحت التسمية ـ ينبغي أن يتحلّى بها كل مسلم .
لكن المفروض أن يدرس الطالب أخلاقيات العمل التبليغي والدعوي ، وأخلاقيات وأبجديات العمل الاجتماعي ؛ ليعرف كيفيّة التعامل مع المجتمع ، وبتعبير جامع الأخلاقيات الخاصّة بالخطيب والمبلغ .
وإذا جئنا لكتب فن الخطابة فسنجدها مفتقرة لهذا الجانب من شخصية الخطيب ، وحينئذٍ يتوجّب علينا سدّ هذا الفراغ ، بوضع مادةٍ دراسيةٍ في الأخلاق .
إلاّ إنّ معاهدنا عندما تقوم بتدريس مادة الأخلاق تهتمّ بتدريس الأخلاقيات العامّة ، أي إنّها تهتمّ بما هو موجود وعلى مرمى البصر .
والمشكلة إنّ مكتباتنا العامّة والخاصة مليئة بهذا النوع من الكتب ، ككتاب ( الأربعون حديثاّ ) ، و( مكارم الأخلاق ) ، و( أخلاق أهل البيت ) وغيرها العشرات .
وهذه الكتب متوفّرة وفي متناول أيدي الطلبة أوّلاً ، كما إنّها ليست كتباً معدّة كمنهج للتدريس ثانياً ، والخطيب قد لا يحتاج إلى دراستها ؛ لأنّه تكفيه مطالعتها كلّها أو بعضها .
وعلى أثر ذلك غدت هذه المادة الدراسية للأسف حجر عثرة ومصدر قلق وإرهاق للطالب ؛ لأنّها تحصيل حاصل كما يُقال ، خصوصاً للطالب الحوزوي المُجد .
نعم ، هذه يمكن أن تدرّس للخطيب غير المنخرط في صفوف الحوزة ، أمّا الحوزوي وعلى مستوى اللمعة فتدريسه لمثل هذه الكتب إهدار لوقته .
الثالثة : سمات علمية
العلوم التي يحتاجها الخطيب قسمان :
الصفحة (6)
القسم الأول : مجموعة من العلوم والمعلومات ، بعامة التي تدخل بشكل مباشر في صياغة مادته الخطابية ، أي تدخل في تكوين وإعداد الخطبة ( المحاضرة ) .
إذ ينبغي أن يكون الخطيب واسع الاطّلاع ، ملمّاً بكثير من العلوم والمعلومات في المجالات المختلفة ، كالتفسير والعقائد ، والتاريخ وسير الرجال ، والأخلاق والفلسفة ، والرجال والفقه .
وإجمالاً : أن يكون ذا ثقافة عالية ملمّاً بعدد وافر من العلوم والفنون والآداب ؛ ليكون موفّقاً في إعداد ، أو تأليف محاضرات ترضي ذوق الجمهور ، وحاجته العلمية والثقافية ، ومأخوذة من منابع سليمة صافية .
والملاحظ إنّ معاهدنا الخطابية تركّز على هذا القسم من العلوم فقط ، وتضع بيضها كلّه في هذه السلة ، بل وتنحى بعض المدارس منحى متطرّفاً عندما تقوم بتدريس دورة تفسير ، أو تضع ضمن مناهجها شرح كتاب نهج البلاغة ، إضافة إلى الرجال والفقه ، والعقائد والأخلاق ، و... و... إلى ما شاء الله .
ظانين إنّهم كلّما زقّوا الطالب بهذه العلوم والمعلومات تمكّن من ناحية الخطابة ، وأصبح فيما بعد خطيباً مصقعاً ، ولكن هذا خطأ فاحش ، وقعت وتقع فيه جلُّ معاهد ومدارس الخطابة تقريباً ؛ إذ مع عدم وجود الموهبة ، والقدرة على الابتكار والوعي ؛ للاستفادة من هذه العلوم والمعلومات في وقت الحاجة إليها لا تنفع ولو لقن الطالب ألف كتاب وكتاب .
فالطالب الفاقد للوعي أو قليل الذكاء لا تنفعه هذه العلوم والمعلومات على كثرتها ، وذو العقل والوعي يكفيه أقل القليل منها .
فما الفائدة إذن في تضييع الوقت والجهد على تحصيلها ؟
ومعظم الطلبة الجيدين ذوي المستويات العلمية والفكرية والثقافية الجيدة لا يرون وجهاً لتضييع وقتهم الثمين ، واستهلاك جهدهم في دراستها والتتلمذ عليها ؛ لإمكانية توفرهم عليها من غير الالتزام بحضور إلى الدرس .
فيقتصر حينئذ حضور دروس المعاهد على الطلبة الذين يتميّزون بالكسل وحب الراحة ، وأخذ المعلومة الجاهزة ، وهؤلاء للأسف لا ينفعوننا بشيء حتى لو أمضينا أعمارنا في رعايتهم .
وتغيب عن هذا الحقل كمشكلة أخرى ، مفردات التثقيف العام ، والقضايا المعاصرة التي لها مساس مباشر بحياة الأمّة ، أو إنّ الحركة الثقافية في المجتمع تسير نحوها ، فالطالب يتخرّج وهو لا يعرف شيئاً عن العولمة مثلاً كمفردة من مفردات التثقيف العام ، الذي ينبغي أن تُطرح على صورة محاضرات تثقيفية ، ولا يعرف شيئاً كذلك عن الغزو الثقافي وكيفية مواجهته ، ولا مفردات القاموس السياسي أو الاجتماعي ، فلا شيء عن مفهوم الحرية أو التطرّف ، أو التعصّب أو وسائل التأثير في الرأي العام ، أو … أو ... إلخ .
الصفحة (7)
بل حتى المفاهيم الإسلامية غائبة لا تدرّس ، وإن أغلب طلبة حوزاتنا لا اطّلاع لهم على مثل هذه المعلومات والقضايا البتة .
القسم الثاني : مجموعة من العلوم التي لا تدخل في بناء المادة الخطابية الملقاة للجمهور بشكل مباشر ، بل تُعدّ من مكمّلات الخطابة ، وتدخل في تحسين المادة ( الموضوع ) ، وأداء الخطيب وكفائتة ، وزيادة قدرته على التأثير في الجمهور ، وعدم دخولها في موضوعات الخطابة مباشرةً لا يعني عدم أهميتها .
ومن بين هذه العلوم : النحو والصرف ، والبلاغة والأصول .
ومن المفترض أن يكون الطالب قد أتقنها عند دراسته في الحوزة الشريفة ، لكن للأسف في مجال التطبيق لا نجد لها أثراً إلاّ عند القليل منهم ؛ إذ يلاحظ اللحن عند أغلب الخطباء بشكل يخرم الأذن .
كذلك نرى الكثير منهم يفتقرون إلى أبسط الأساليب البلاغية ، ولا ينكر هذه الحقيقة إلاّ مكابر .
والمشكلة إنّ هذه العلوم التي يجب أن تركّز عليها معاهد الخطابة خصوصاً ، النحو والبلاغة ، وبالذات البلاغة الحديثة ، إلاّ إنّنا لا نجد في مواد مناهجها شيئاً من ذلك .
ويحتاج الخطيب في هذا القسم من العلوم أيضاً إلى معلومات وفنون أخرى تسهم في تعميق تأثيره في الجمهور ، وهي كثيرة وتستحق التأمّل والبحث عن أهميتها ، ودورها كمادة دراسية في مناهج معاهد الخطابة ، وأذكر منها ما يخطر ببالي الآن :
أـ أساليب الدعوة والتبليغ
وللأسف فإنّا لا نرى لهذه المادة وتدريسها في معاهد الخطابة أثراً ، مع أهميتها من الوضوح بمكان ، وإمكانية وضع كتاب ، أو كتيب على الأقل في هذا المجال ، على إنّ هنالك محاولات كثيرة موجودة يمكن جمعها والاستفادة منها ، وتنقيحها ومطابقتها مع ما يطرحه القرآن الكريم من أساليب في الدعوة ، واستنباط أساليب أخرى من سيرة النبي (صلّى الله عليه) العطرة والأئمّة الأطهار (عليهم السلام) ؛ ليعرف الخطيب والمبلغ كيف كانوا يمارسون الدعوة إلى الله (عزّ وجلّ) وتبليغ أحكامه .
فتُجعل هذه الأساليب كقواعد وأصول في عملنا التبليغي ، ولا بأس من الاستفادة من مناهج معاهد أو كليات أخرى إن كانت تتوفّر على مثل هذه المادة الدراسية .
فلماذا يتكبّر بعضنا على بعض ؟ فإذا وضعت مدرسة ما مادة دراسية في مناهجها تركته المدرسة الأخرى تكبّراً واستعلاءً .
ب_ مرتكزات العمل الإعلامي وسمات الشخصية الإعلامية الناجحة
الصفحة (8)
وهذا اللون من المعلومات لا تجد له أثراً في معاهدنا ، رغم أهميتها التي لا أظنّ إنّها تخفى على أحد .
ج ـ علم النفس الاجتماعي
إنّ هذا العلم يدرس سلوك الإنسان من حيث تأثيره في الآخرين ، وحينئذ فمن الأهمية بمكان أن يطّلع الخطيب ولو على بعض الأبواب الهامّة فيه ، كالرأي العام ووسائل التأثير فيه ، والاتجاهات والدعاية ، والحرب النفسية ، والتجمّع وسماته ، وسايكلوجية الجمهور ؛ لأنّ سلوك الفرد يختلف عن سلوكه في الجماعة ، وبالتالي سلوك الجماعة يتباين ويختلف عن سلوك الأفراد .
فما هي خصائص الجماعة مثلاً ؟ ليمكن للخطيب أن يستثمر هذه الخصوصيات في تحقيق هدفه والوصول إلى غاياته .
د ـ مناهج البحث
إنّ الطالب يدخل معاهدنا بمناهجها الحالية ؛ لتُلقي على رأسه كوماً من الكتب والعلوم ، ولكن هلاّ يعلم كيف يستفيد منها ، وكيف يجمعها ، وكيف ينظّمها ؟ وما هي سمات التفكير العلمي ، ومن أين يأتي بفكرة الموضوع ؟ وما هي مقوّمات موضوع البحث ، وما هي آليّات البحث العلمي والأدبي ؟ … إلى غير ذلك .
ومعاهدنا للأسف في غفلةٍ تامّة ، وجهلٍ مطبقٍ عن مناهج البحث .
هـ ـ علم النفس
ولا أقل باب العمليات العقلية منه . إنّ الطالب صحيح درس المنطق في الحوزة ، لكن ذلك ليس بكافٍ ؛ لأنّه لم يعرف به شيئاً عن طرق التفكير السليم ، ولا عوائق وموانع الاستدلال ، ولا شيئاً عن نظريات التعلّم ، ولا عن التذكّر والنسيان ، ولا عن الانتباه ومشتتاته مثلاً .. إلى غير ذلك العشرات من البحوث القيّمة .
والخلاصة : إنّ مثل هذه المعلومات والعلوم التي هي حاجة فعلية للخطيب ، ولا يتوفّر عليها الطالب بسهولة مفقودة في معاهد ومدارس إعداد الخطباء .
والعلوم والمعلومات التي يحصل عليها بيسر وسهولة يجدها حاضرة أمامه ويجبر على دراستها .
والطالب الذي يدرك جيداً إنّ مقدّماته الفكرية والعلمية تسمح له باستيعاب مطالب كتاب (علوم القرآن) مثلاً ، أو (الأربعون حديثاً) ، أو (المدرسة القرآنية) ... إلخ . يرى إنّه من العبث تضييع وقته في دخول دروس كهذه ؛ إذ هو قادر على تحصيلها من غير ارتباط بدرس .