إن نبي الله موسى (ع) من الأنبياء أولي العزم، الذين يمثلون قمة الأنبياء من حيث المرتبة والمكانة، وهم: إبراهيم، ونوح، وموسى، وعيسى، والنبي الخاتم صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين.. إن هؤلاء هم الأنبياء الذين بلغوا الدرجات العالية، في مجال القرب من الله سبحانه وتعالى.
إن هذا النبي (ع) مر بتقلبات كثيرة منذ صغره، وهو محط العناية الإلهية.. فقد ولد موسى عليه السلام في وقتٍ، كان فرعون يذبح الأبناء، ويستحي النساء.. فالطفل الكافر محترم في حد نفسه، والإنسان إذا لم يبلغ سن التكليف، فإنه يبقى في دائرة البراءة، ومما يثير الشفقة والحنان.. ولكن فرعون قد بلغ به الظلم إلى درجة، أنه كان يقتل الأطفال، ويذبحهم، وهم أبرأ الموجودات على وجه الأرض، لئلا يوجد فيهم مثل نبي الله موسى.
لكن الله عز وجل أراد رغم أنف فرعون، أن يجري مشيئته، وهذه سنّة الله في الأرض، إذا أراد شيئا أخضع الأسباب كلها لمشيئته.. فبعد أن وضعته أمه، خافت عليه؛ لأن هذا السلطان الجائر يذبح الأبناء.. وإذا بالوحي الإلهي يأتي إلى أم موسى: {أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ}.
إن كلمة (الوحي) في هذه الآية، استعملها القرآن الكريم لأم موسى.. واستعملها للنحل: {وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ}.. واستعملها بالنسبة إلى الأرض: {بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا}.. أي أن الله سبحانه وتعالى، إذا أراد أن يوصل معلومة إلى شيء من الموجودات: كالأرض.. أو الأشياء غير العاقلة: كالنحل.. أو الأشياء العاقلة: كأم موسى؛ فإنه لا يمنعه شيء.. ومن هنا نعلم أن المؤمن مرشح، لأن يُفاض عليه.. فما المانع بأن نعتقد أن الله عز وجل -كما أوحى إلى أم موسى.. ويقول العلماء: المراد بالوحي هنا، الكلام الخفي، والوحي لا يتم دائماً عن طريق نبي الله جبرائيل مثلاً- يكرم المؤمن بهذا الكلام الخفي.. وخاصة لعلمائنا، ومراجعنا، وخاصة في المنعطفات التاريخية، وفي الشدات والأزمات.. فمن طرق حفظ الشريعة، بأن يأتي التسديد الإلهي من خلال هذا النمط من الوحي الذي كان لأم موسى؟. .إن رب العالمين يعلم مستقبل موسى، وبأنه سينصر به الدين.. ولهذا جعل الوحي نازلاً على أم موسى، حفظاً لنبيه موسى (ع)
{أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِّي وَعَدُوٌّ لَّهُ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِّنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي}.. تقول بعض النصوص: أنه ما من أحد رأى موسى، إلا وأحبه.. فإذا كانت المحبة صادرة من قِبل الله عز وجل، هكذا يكون أثره.
{فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا}.. إن فرعون كان جالساً على شاطئ النهر أو البحر، وإذا به أمام صندوق خشبي فيه موسى.. فأول كلمة صدرت من امرأة فرعون: {وَقَالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ قُرَّتُ عَيْنٍ لِّي وَلَكَ لَا تَقْتُلُوهُ عَسَى أَن يَنفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ}.. إن امرأة فرعون بهذه الحركة المباركة، كتبت قرباً إلهياً.
وهناك رواية طريفة في هذا المجال تعرفنا على قاعدة: أن حركة الإيجابية من العبد قد تكون حركة إيجابية بسيطة، ولكن الله عز وجل يبارك في هذه الحركة.. فعن النبي الأكرم صلى الله عليه وآله: (والذي يُحلف به!.. لو أقر فرعون أن يكون قرة عين، كما أقرت به؛ لهداه الله تعالى، كما هدى به امرأته.. ولكن الله تعالى حرمه ذلك) للشقاء الذي كتبه الله عليه.. إن امرأة فرعون هي آسيا، ومعروفة بأنها من النساء الخالدات، التي طلبت من الله عز وجل أن يبني لها بيتاً عنده في الجنة.. فهذه الخاتمة السعيدة لآسيا، يبدو أنها مرتبطة بالبداية، التي فيها شيء من الحركة الإيجابية.. امرأة تقف أمام فرعون الذي يقتل الأبناء، وتقول له: {لَا تَقْتُلُوهُ عَسَى أَن يَنفَعَنَا}.. وهذا يذكرنا بموقف الحر عندما أظهر ذلك الاحترام للحسين عليه السلام، من خلال عدم التطاول على أمه الزهراء، عندما قال له: (ثكلتك أمك)!..
{وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغًا}.. يا للعجب!.. كيف أصبح فؤاد أم موسى فارغاً؟!.. يقول المفسرون: أصبح فؤادها فارغاً من الحزن والألم.. فأم تجعل ولدها في صندوق خشبي، وترمي به في النيل، ولا تعلم مصيره، في زمن يُقتل فيه الأطفال الرضع.. وإذا بهذه الأم يصبح فؤادها فارغاً من كل هم وغم!.. انظروا إلى التصرف الإلهي في قلب الإنسان المؤمن!.. فتارة يوحي إليها، وتارة يفرغ فؤادها من الحزن، وكل ذلك بمباركة إلهية.
{إِن كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلَا أَن رَّبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا}.. فطبيعة الظرف هنا تقتضي أن تبين أم موسى ما حل بها من المصيبة، ولكن رب العالمين ربط على قلبها.. وعليه، فإن ذلك الموقف الذي أخذته أم موسى، هو تفضل إلهي.. فهو الذي ربط على قلبها، وهو الذي فرغ قلبها من الحزن، وهو الذي أوحى لها قبل ذلك.
{وَقَالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ فَبَصُرَتْ بِهِ عَن جُنُبٍ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ}.. إن الله عز وجل إذا رسم هدفاً، وإذا قرّر أمراً، فهو بيده عالم الأسباب، يسوق المقدمات واحدة واحدة، لتؤدي بمجموعها إلى النتيجة المرجوة .
إن رب العالمين وعدها، حيث قال لها: {وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ}.. ولكن كيف يتحقق هذا الوعد الإلهي بعد أن رمته في النيل، وفي التابوت؟..
أولا: أمواج الماء، ساقته إلى قصر فرعون .
ثانياً: المحبة الملقاة على زوجة فرعون، وعلى فرعون.. لأن فرعون لو أصر على موقفه أيضاً، لقتل موسى كما قتل الرضع.
ثالثاً: تقصي الأثر، {وَقَالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ}.. أي تتبعي أثره، {فَبَصُرَتْ بِهِ عَن جُنُبٍ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ}.
رابعا: تحريم المراضع، {وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِن قَبْلُ}.. لا تحريماًُ تشريعياً، وإنما تحريماً تكوينياً.. فموسى امتنع عن شرب لبن غير أمه.
هنا تدخلت أخت موسى {فَقَالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ * فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ}.. فبحركة قصيرة وبسيطة، وفي أيام معدودة، عاد موسى إلى أمه.. ولكن انظروا إلى سلسلة الأسباب والعلل: السموات، والرياح، والبحار، والقلوب، واللبن، والمراضع، والأفئدة.. فكلها تحركت من أجل أن تصل الأم لولدها، {كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ}.. فإذن، إن رب العالمين وعد أم موسى، بإرجاع الولد، ووفى بوعده.
وعليه، فإن معنى ذلك أن كل الوعود القرآنية من هذا القبيل.. فلو سئلت أم موسى: ما هي الحيل التي يمكن أن توصلك إلى ولدك؟.. لم يخطر ببالها هذه الأمور، ولكن الله عز وجل رتب هذه الأمور.
إن في سياق هذه الآيات، هناك عدة أمور ملفتة:
فالذي وفى لأم موسى بوعده، سيفي بهذا الوعد، الذي وعده الله تعالى في نفس السورة، ولكن قبل آيات من قصة موسى.. ففي أول سورة القصص: {وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ * وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِي فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُم مَّا كَانُوا يَحْذَرُونَ}.. فإذن، إن رب العالمين وفى لأم موسى، ووفى لأمة موسى، حيث جعل موسى خليفة على الأرض.. وهنا إن البعض قد يسأل: لماذا نستخدم هذه الآية، في مقام الوعد بدولة الإمام المهدي -صلوات الله عليه وعلى آبائه- والحال بأن هذه الآية ناظرة إلى موسى وهارون، وإلى فرعون وهامان؟..
الجواب: إن ما قاله العلماء في هذه الآيات دائماً: (قانون الجري والانطباق) إن المورد لا يخصص الوارد.. والآية نزلت بهذه المناسبة، ولكن لا يمنع ذلك أن يجري هذا القانون الإلهي، في كل الموارد المتشابهة، حيث هناك طغيان، وحيث هناك خليفة.. ففي ذلك الزمان كان موسى، وفي زماننا هذا إمامنا المهدي صلوات الله عليه.. وفي هذا الزمان مكان فرعون، هناك طواغيت العصر.
إن طبيعة الصراع بين الحق والباطل، هذه الطبيعة نتيجتها ما جرى على موسى عليه السلام.. ورب العالمين إذا أراد إن يفي بوعده في نصرة المؤمنين واستخلافهم في الأرض، فإنه يعمل في هذا الوجود تقليباً لعالم الأسباب والمقدمات، بما يحقق النتيجة.. بما لا يخطر على الأذهان، كما كان كذلك بالنسبة لموسى (ع).