أولاً : الاِجماع :
يعتبر الاِجماع ـ في أصح أقوال المسلمين ـ أداة كاشفة عن وجود دليل متين وقويم كآية من كتاب الله عزَّ وجل أو حديث شريف ينطق بالحكم المجمع عليه ، وان اعتبره فريق منهم دليلاً قائماً بنفسه تماماً كالكتاب والسُنّة ، وهو بهذا المعنى يستحيل في حقّه الخطأ ويكون معصوماً كعصمة الكتاب والسُنّة المطهّرة ، وان من ردَّ عليه هو كمن ردّ قول الله عزَّوجل وسُنّة رسوله الكريم صلى الله عليه وآله وسلم .
ومع هذا فلم يختلف اثنان من المسلمين في أن أهم مصادر التشريع في الاِسلام هما : القرآن الكريم ، والسُنّة المطهّرة القطعية ، وانه لا يوجد مصدر تشريعي آخر يبلغ شأوهما في الحجية .
والحق ، ان ما تقدم من أدلة التقية يغني عمّا سواه ، خصوصاً مع اتفاق المفسرين والمحدثين على عدم وجود الناسخ لتلك الاَدلة ، مع انعدام الشك في ما دلت عليه من جواز التقية عند الخوف الشخصي أو النوعي ، ولهذا لم يناقش أحد منهم في ذلك ، وعليه سيكون الحديث عن الاجماع على مشروعية التقية حديثاً زائداً عند من لا يراه دليلاً مستقلاً وقائماً بنفسه .
ولهذا سنكتفي بقول من يراه دليلاً مستقلاً كالكتاب والسُنّة ، إذ سيكون ذلك أبلغ في دحض حجة كون التقية نفاقاً كما يزعم بعض أتباع القول باستقلالية الاِجماع الذي ادعاه غير واحد من علماء العامّة كما يفهم من
( 87 )
أقوالهم وإليك نموذجاً منها :
1 ـ قال أبو بكر الجصاص الحنفي (ت | 370 هـ) : (ومن امتنع من المباح كان قاتلاً نفسه متلفاً لها عند جميع أهل العلم) (1).
2 ـ ابن العربي المالكي (ت | 543 هـ) ذكر في كلامه عن حديث الرفع ـ كما مرّ ـ اتفاق العلماء على صحة معناه ، وانهم حملوا فروع الشريعة عليه وهذا يكشف عن اجماعهم على أن ما استُكرِه عليه الاِنسان فهو له ، وهذا هو معنى التقية (2).
3 ـ عبدالرحمن المقدسي الحنبلي (ت | 624 هـ) قال : (أجمع العلماء على إباحة الاَكل من الميتة للمضطر وكذلك سائر المحرمات التي لا تزيل العقل) (3) .
والاكراه داخل في المفهوم العام للضرورة كماسبق التأكيدعليه،كما أن الاضطرارإلىأكل الميتةكماقديكون بسبب المخمصة،فقديكون بسبب الاكراه من ظالم أيضاً .
4 ـ القرطبي المالكي (ت | 671 هـ) قال : (أجمع أهل العلم على أن من أُكرِه على الكفر حتى خشي على نفسه القتل انه لا إثم عليه إن كفر وقلبه مطمئن بالايمان) (4).
5 ـ ابن كثير الشافعي (ت | 774 هـ) قال : (اتفق العلماء على أن المكره
____________
1) أحكام القرآن | الجصاص 1 : 127 .
2) أحكام القرآن | ابن العربي 3 : 1179 .
3) العدة في شرح العمدة | عبدالرحمن المقدسي : 464 ، نشر مكتبة الرياض الحديثة .
4) الجامع لاَحكام القرآن | القرطبي 10 : 180 .
( 88 )
على الكفر يجوز له ان يوالي أيضاً لمهجته ، ويجوز له أن يأبى) (1).
6 ـ ابن حجر العسقلاني الشافعي (ت | 852 هـ) قال : (قال ابن بطال ـ تبعاً لابن المنذر ـ : أجمعوا على أن من أُكره على الكفر حتى خشي على نفسه القتل فكفر وقلبه مطمئن بالايمان ، أنه لا يحكم عليه بالكفر) (2).
7 ـ الشوكاني (ت | 1250 هـ) قال : (أجمع أهل العلم على أن من أُكرِه على الكفر حتى خشي على نفسه القتل ، إنّه لا إثم عليه إن كفر وقلبه مطمئن بالايمان ، ولا تبين منه زوجته ، ولا يحكم عليه بحكم الكفر) (3).
8 ـ جمال الدين القاسمي الشامي (ت | 1332 هـ) قال : (ومن هذه الآية : ( إلاَّ أنْ تَتَّقُوا مَنهُم تُقَاةً ) استنبط الاَئمة مشروعية التقية عند الخوف ، وقد نقل الاجماع على جوازها عند ذلك الاِمام مرتضى اليماني)(4).
ثانياً : الدليل العقلي :
وأما عن الدليل العقلي ، فالواقع إنّه لم يكن للعقل البشري صلاحية الاستقلال بالحكم عند جميع المسلمين بما في ذلك المعتزلة ؛ إذ لم يثبت عنهم اعتبار العقل حاكماً في المقام وتقديمه على حكم الشرع(5)،
____________
1) تفسير القرآن العظيم | ابن كثير 2 : 609 .
2) فتح الباري | ابن حجر العسقلاني 12 : 264 .
3) فتح القدير | الشوكاني 3 : 197 .
4) محاسن التأويل | القاسمي 4 : 197 . واُنظر هذه الاَقوال وغيرها من الاَقوال الاُخر المصرحة باجماع علماء العامّة على مشروعية التقية في كتاب واقع التقية | السيد ثامر هاشم العميدي : 93 ـ 96 ، ط1 ، نشر مركز الغدير للدراسات الاِسلامية ، 1416 هـ .
5) راجع مباحث الحكم عند الاصوليين | محمد سلام مدكور 1 : 162 . فقد نقل عن كتاب مسلّم الثبوت قوله : (في كتب بعض المشايخ : إنّ المعتزلة يرون ان الحاكم هو العقل) ثم نقل في ردّه عن
=
( 89 )
والصحيح من الاَقوال : إنّه الطريق الموصل إلى العلم القطعي ، والسبيل إلى معرفة حجية القرآن ودلائل الاَخبار (1).
فالعقول وإن كان لها قابلية الادراك ، إلاّ أن ادراكها يتناول الكليات ولايتعدى إلى الجزيئات والفروع التي تحتاج إلى نص خاص بها ، وهذا لا يمنع من أن يدرك العقل السليم خصائص كثيرة في تفسير النصوص بشرط أن لا يكون خاضعاً لتأثيرات اُخرى تصده عن الوصول إلى الواقع ، كما لو ناقش في الاَوليّات والبديهيات ولم يفرق بين قبح الظلم وحسن العدل مثلاً .
كما لا يمنع أيضاً من أن يستقل ببعض الاَحكام ، إذ لو عُزل العقل عن الحكم لهدم أساس الشريعة ، غير أنّه لا يتعرض للتفاصيل والاشياء الخارجية ولا يتخذ منها موضوعات لاحكامه ، وإنما يحكم بأمور كلية عامّة كما مرّ .
فهو مثلاً لا يحكم بوجوب الصوم والصلاة ، وإنّما يحكم باطاعة الشارع المقدس وامتثال أوامره التي منها الاَمر بالصوم والصلاة .
وهو لا يتعرض للبيع والاِجارة والزواج والطلاق ، بل يقرّ كل ما يصلح الجميع ويحفظ النظام العام .
وهو لا يحلل هذا أو يحرم ذاك ، وإنّما يحكم بقبح العقاب بلا بيان ، وبوجوب دفع الضرر عن النفس ، وبحرمة ادخاله على الغير .
فالعقل له القدرة في أن يحكم بهذه الكليات العامة وما إليها حكماً
____________
=
محيط الزركشي قوله : (إنّ المعتزلة لا ينكرون ان الله هو الشارع للاَحكام والموجب لها ، والعقل عندهم طريق إلى العلم بالحكم الشرعي) .
1) التذكرة باُصول الفقه | الشيخ المفيد : 28 ، مطبوع ضمن سلسلة مؤلفات الشيخ المفيد في المجلد التاسع ، ط2 ، دار المفيد ، بيروت | 1414 هـ . وقد نقله عنه الكراجكي في كنز الفوائد 2 : 15 ، دار الاَضواء ، بيروت | 1405 هـ ، إذ أورد فيه مختصر التذكرة باُصول الفقه للشيخ المفيد .
( 90 )
مستقلاً ، حتى وإن لم يرد فيها نص شرعي ، ونحن نكتشفها ونطبقها على مواردها دون أيّة واسطة . وأما ما جاء في لسان الشارع من الاَحكام في الموارد التي استقل العقل بها فمحمول على الارشاد والتأكيد لحكم العقل، لا على التأسيس والتجديد ، ومن هذه الموارد :
1 ـ حكم العقل بالاحتياط : كما لو كان لديك اناءان : أحدهما طاهر ، والآخر نجس ، ولم تستطع التمييز بينهما ، أو تيقنت أنه قد فاتك فرض العشاء أو المغرب ولم تميز أحدهما . ففي مثل هذا الحال يحكم العقل بوجوب الاحتياط باجتناب الانائين في المثال الاَول ، وباداء الصلاتين في المثال الثاني . ولهذا اشتهر عن الفقهاء قولهم : (العلم باشتغال الذمة يستدعي العلم بفراغها) .
2 ـ حكم العقل البراءة : كما لو كانت هناك قضية لدى الفقيه لا يعرف حكمها هل هو الفعل أو الترك ؟ بعد أن استفرغ ما في وسعه للبحث عنها في جميع أدلة الاحكام، ومع هذا لم يجد شيئاً في خصوص تلك القضية .
فهنا يلجأ الفقيه إلى العقل الذي يحكم في مثل هذه الحالة التي لم يصل بها بيان من الشارع بقبح العقاب بلا بيان ، وبناء على هذه القاعدة العقلية يحكم الفقيه بجواز الاَمرين : الفعل والترك .
ومن هنا يتضح أن الفرق بين الاحتياط والبراءة العقليين ، هو أن مورد الاحتياط هو الشك في المكلف به بعد العلم بوجود التكليف ، ومورد البراءة هو الشك في أصل وجود التكليف .
3 ـ حكم العقل بدفع الضرر : قسّم الفقهاء الضرر على قسمين ، وهما : الضرر الدنيوي كالمتعلق بالنفس والعرض والمال ، والضرر الاخروي كالعقاب على مخالفة الشارع .
( 91 )
والواقع ، إنّ وجوب دفع الضرر لا ينكره إلاّ الجاهل الغبي ، لاَنّه من أحكام الفطرة التي فُطرت عليها النفوس ، ومن ينكر ذلك فهو أقل رتبة من الحيوانات التي تعرف ذلك بفطرتها ، ألا ترى أنها تنفر من الضرر وتسعى الى النفع بفطرتها دون توسط حكم العقل بالحسن والقبح ؟
إنّ هذه القاعدة قاعدة التحسين والتقبيح العقليين اعتنى بها المتكلمون كثيراً ، وأما علماء الاصول فهم وان لم يخصصوا لها باباً مستقلاً ، إلاّ أنهم تكلموا عنها استطراداً في مباحث الظن والاحتياط والبراءة ، وتتلخص أقوالهم بأن الضرر إما أن يكون دنيوياً ، أو أخروياً ، وكل منهما إمّا أن يكون معلوم الوقوع أو مظنوناً أو محتملاً .
أما الضرر المعلوم ، فان العقل يحكم بوجوب دفعه مهما كان نوعه .
وأما المظنون والمحتمل ، فإنّ كان اخروياً ، وكان ناشئاً عن العلم بوجود التكليف والشك في المكلَّف به ، فهو واجب الدفع ؛ لاَنّه يعود إلى وجوب الاِطاعة فيدخل في باب الاحتياط .
وان كان الخوف من الضررالاخروي ناشئاً من الشك في أصل وجود التكليف ، فالعقل لا يحكم بوجوب الدفع ؛ لوجود المؤمِّن العقلي وهو قاعدة ( قبح العقاب بلا بيان) أي : إنّ عدم البيان أمان من العقاب ، كما في قوله تعالى : (وَمَا كُنّا مُعَذِّبينَ حتّى نبعَث رسولاً)(1)زيادةعلىحديث الرفع المشهوركما تقدم ، وحديث السّعة في الكافي عن أمير المؤمنين عليه السلام ، أنّه قال : ..هم في سعة حتى يعلموا(2)وقول الاِمام الصادق عليه السلام :
____________
1) سورة الاِسراء : 17 | 15 .
2) فروع الكافي 6 : 297 | 2 باب 48 من كتاب الاَطعمة .
( 92 )
«كل شيء مطلق حتى يرد فيه نهي » (1)، وقوله عليه السلام : « كلّ شيء مطلق حتى يرد فيه نص » (2)، وهذا يعني دخوله في باب البراءة .
أما الضرر الدنيوي المظنون والمحتمل ، فإنّ العقل يحكم بوجوب دفعه ولا فرق بينه وبين الضرر المعلوم من هذه الجهة ؛ لاَنّ الاِقدام على مالا يؤمَّن معه الضرر قبيح عقلاً . فأي منا مثلاً إذا تردد عنده سائل موجود في اناء بين كونه سماً أو ماءً ولا يحكم عقله بوجوب اجتناب ذلك السائل ؟
والخلاصة : إنّ الضرر الدنيوي يحكم العقل بوجوب الابتعاد عنه معلوماً كان أو مظنوناً أو محتملاً (3).
وواضح أنّ الاستدلال بالعقل على مشروعية التقية ، إنّما هو من جهة حرص العاقل على حفظ نفسه من التلف ، بل ومن كل ما يهدد كيانه بالخطر ، أو يعرّض شرفه إلى الانتهاك ، أو أمواله إلى الضياع .
والتقية ما هي إلاّ وسيلةٌ وقائيةٌ لحفظ هذه الامور وصيانتها عندما يستوجب الاَمر ذلك ، على أن لا يؤدي استخدامها إلى فسادٍ في الدين أو المجتمع كما لو أبيحت في الدماء مثلاً .
____________
1) من لا يحضره الفقيه 1 : 208 | 937 باب 45 .
2) عوالي الآلي 2 : 44 | 111 .
3) راجع في ذلك مقالات الشيخ محمد جواد مغنية : 250 ـ 253 ، ط2، دار ومكتبة الهلال ، بيروت | 1993 م .