عربي
Saturday 23rd of November 2024
0
نفر 0

الاِجماع ودليل العقل

الاِجماع ودليل العقل

 

أولاً : الاِجماع :
يعتبر الاِجماع ـ في أصح أقوال المسلمين ـ أداة كاشفة عن وجود دليل متين وقويم كآية من كتاب الله عزَّ وجل أو حديث شريف ينطق بالحكم المجمع عليه ، وان اعتبره فريق منهم دليلاً قائماً بنفسه تماماً كالكتاب والسُنّة ، وهو بهذا المعنى يستحيل في حقّه الخطأ ويكون معصوماً كعصمة الكتاب والسُنّة المطهّرة ، وان من ردَّ عليه هو كمن ردّ قول الله عزَّوجل وسُنّة رسوله الكريم صلى الله عليه وآله وسلم .
ومع هذا فلم يختلف اثنان من المسلمين في أن أهم مصادر التشريع في الاِسلام هما : القرآن الكريم ، والسُنّة المطهّرة القطعية ، وانه لا يوجد مصدر تشريعي آخر يبلغ شأوهما في الحجية .
والحق ، ان ما تقدم من أدلة التقية يغني عمّا سواه ، خصوصاً مع اتفاق المفسرين والمحدثين على عدم وجود الناسخ لتلك الاَدلة ، مع انعدام الشك في ما دلت عليه من جواز التقية عند الخوف الشخصي أو النوعي ، ولهذا لم يناقش أحد منهم في ذلك ، وعليه سيكون الحديث عن الاجماع على مشروعية التقية حديثاً زائداً عند من لا يراه دليلاً مستقلاً وقائماً بنفسه .
ولهذا سنكتفي بقول من يراه دليلاً مستقلاً كالكتاب والسُنّة ، إذ سيكون ذلك أبلغ في دحض حجة كون التقية نفاقاً كما يزعم بعض أتباع القول باستقلالية الاِجماع الذي ادعاه غير واحد من علماء العامّة كما يفهم من


( 87 )

أقوالهم وإليك نموذجاً منها :
1 ـ قال أبو بكر الجصاص الحنفي (ت | 370 هـ) : (ومن امتنع من المباح كان قاتلاً نفسه متلفاً لها عند جميع أهل العلم) (1).
2 ـ ابن العربي المالكي (ت | 543 هـ) ذكر في كلامه عن حديث الرفع ـ كما مرّ ـ اتفاق العلماء على صحة معناه ، وانهم حملوا فروع الشريعة عليه وهذا يكشف عن اجماعهم على أن ما استُكرِه عليه الاِنسان فهو له ، وهذا هو معنى التقية (2).
3 ـ عبدالرحمن المقدسي الحنبلي (ت | 624 هـ) قال : (أجمع العلماء على إباحة الاَكل من الميتة للمضطر وكذلك سائر المحرمات التي لا تزيل العقل) (3) .
والاكراه داخل في المفهوم العام للضرورة كماسبق التأكيدعليه،كما أن الاضطرارإلىأكل الميتةكماقديكون بسبب المخمصة،فقديكون بسبب الاكراه من ظالم أيضاً .
4 ـ القرطبي المالكي (ت | 671 هـ) قال : (أجمع أهل العلم على أن من أُكرِه على الكفر حتى خشي على نفسه القتل انه لا إثم عليه إن كفر وقلبه مطمئن بالايمان) (4).
5 ـ ابن كثير الشافعي (ت | 774 هـ) قال : (اتفق العلماء على أن المكره
____________
1) أحكام القرآن | الجصاص 1 : 127 .
2) أحكام القرآن | ابن العربي 3 : 1179 .
3) العدة في شرح العمدة | عبدالرحمن المقدسي : 464 ، نشر مكتبة الرياض الحديثة .
4) الجامع لاَحكام القرآن | القرطبي 10 : 180 .


( 88 )

على الكفر يجوز له ان يوالي أيضاً لمهجته ، ويجوز له أن يأبى) (1).
6 ـ ابن حجر العسقلاني الشافعي (ت | 852 هـ) قال : (قال ابن بطال ـ تبعاً لابن المنذر ـ : أجمعوا على أن من أُكره على الكفر حتى خشي على نفسه القتل فكفر وقلبه مطمئن بالايمان ، أنه لا يحكم عليه بالكفر) (2).
7 ـ الشوكاني (ت | 1250 هـ) قال : (أجمع أهل العلم على أن من أُكرِه على الكفر حتى خشي على نفسه القتل ، إنّه لا إثم عليه إن كفر وقلبه مطمئن بالايمان ، ولا تبين منه زوجته ، ولا يحكم عليه بحكم الكفر) (3).
8 ـ جمال الدين القاسمي الشامي (ت | 1332 هـ) قال : (ومن هذه الآية : ( إلاَّ أنْ تَتَّقُوا مَنهُم تُقَاةً ) استنبط الاَئمة مشروعية التقية عند الخوف ، وقد نقل الاجماع على جوازها عند ذلك الاِمام مرتضى اليماني)(4).
ثانياً : الدليل العقلي :
وأما عن الدليل العقلي ، فالواقع إنّه لم يكن للعقل البشري صلاحية الاستقلال بالحكم عند جميع المسلمين بما في ذلك المعتزلة ؛ إذ لم يثبت عنهم اعتبار العقل حاكماً في المقام وتقديمه على حكم الشرع(5)،
____________
1) تفسير القرآن العظيم | ابن كثير 2 : 609 .
2) فتح الباري | ابن حجر العسقلاني 12 : 264 .
3) فتح القدير | الشوكاني 3 : 197 .
4) محاسن التأويل | القاسمي 4 : 197 . واُنظر هذه الاَقوال وغيرها من الاَقوال الاُخر المصرحة باجماع علماء العامّة على مشروعية التقية في كتاب واقع التقية | السيد ثامر هاشم العميدي : 93 ـ 96 ، ط1 ، نشر مركز الغدير للدراسات الاِسلامية ، 1416 هـ .
5) راجع مباحث الحكم عند الاصوليين | محمد سلام مدكور 1 : 162 . فقد نقل عن كتاب مسلّم الثبوت قوله : (في كتب بعض المشايخ : إنّ المعتزلة يرون ان الحاكم هو العقل) ثم نقل في ردّه عن

=


( 89 )

والصحيح من الاَقوال : إنّه الطريق الموصل إلى العلم القطعي ، والسبيل إلى معرفة حجية القرآن ودلائل الاَخبار (1).
فالعقول وإن كان لها قابلية الادراك ، إلاّ أن ادراكها يتناول الكليات ولايتعدى إلى الجزيئات والفروع التي تحتاج إلى نص خاص بها ، وهذا لا يمنع من أن يدرك العقل السليم خصائص كثيرة في تفسير النصوص بشرط أن لا يكون خاضعاً لتأثيرات اُخرى تصده عن الوصول إلى الواقع ، كما لو ناقش في الاَوليّات والبديهيات ولم يفرق بين قبح الظلم وحسن العدل مثلاً .
كما لا يمنع أيضاً من أن يستقل ببعض الاَحكام ، إذ لو عُزل العقل عن الحكم لهدم أساس الشريعة ، غير أنّه لا يتعرض للتفاصيل والاشياء الخارجية ولا يتخذ منها موضوعات لاحكامه ، وإنما يحكم بأمور كلية عامّة كما مرّ .
فهو مثلاً لا يحكم بوجوب الصوم والصلاة ، وإنّما يحكم باطاعة الشارع المقدس وامتثال أوامره التي منها الاَمر بالصوم والصلاة .
وهو لا يتعرض للبيع والاِجارة والزواج والطلاق ، بل يقرّ كل ما يصلح الجميع ويحفظ النظام العام .
وهو لا يحلل هذا أو يحرم ذاك ، وإنّما يحكم بقبح العقاب بلا بيان ، وبوجوب دفع الضرر عن النفس ، وبحرمة ادخاله على الغير .
فالعقل له القدرة في أن يحكم بهذه الكليات العامة وما إليها حكماً
____________

=

محيط الزركشي قوله : (إنّ المعتزلة لا ينكرون ان الله هو الشارع للاَحكام والموجب لها ، والعقل عندهم طريق إلى العلم بالحكم الشرعي) .
1) التذكرة باُصول الفقه | الشيخ المفيد : 28 ، مطبوع ضمن سلسلة مؤلفات الشيخ المفيد في المجلد التاسع ، ط2 ، دار المفيد ، بيروت | 1414 هـ . وقد نقله عنه الكراجكي في كنز الفوائد 2 : 15 ، دار الاَضواء ، بيروت | 1405 هـ ، إذ أورد فيه مختصر التذكرة باُصول الفقه للشيخ المفيد .


( 90 )

مستقلاً ، حتى وإن لم يرد فيها نص شرعي ، ونحن نكتشفها ونطبقها على مواردها دون أيّة واسطة . وأما ما جاء في لسان الشارع من الاَحكام في الموارد التي استقل العقل بها فمحمول على الارشاد والتأكيد لحكم العقل، لا على التأسيس والتجديد ، ومن هذه الموارد :
1 ـ حكم العقل بالاحتياط : كما لو كان لديك اناءان : أحدهما طاهر ، والآخر نجس ، ولم تستطع التمييز بينهما ، أو تيقنت أنه قد فاتك فرض العشاء أو المغرب ولم تميز أحدهما . ففي مثل هذا الحال يحكم العقل بوجوب الاحتياط باجتناب الانائين في المثال الاَول ، وباداء الصلاتين في المثال الثاني . ولهذا اشتهر عن الفقهاء قولهم : (العلم باشتغال الذمة يستدعي العلم بفراغها) .
2 ـ حكم العقل البراءة : كما لو كانت هناك قضية لدى الفقيه لا يعرف حكمها هل هو الفعل أو الترك ؟ بعد أن استفرغ ما في وسعه للبحث عنها في جميع أدلة الاحكام، ومع هذا لم يجد شيئاً في خصوص تلك القضية .
فهنا يلجأ الفقيه إلى العقل الذي يحكم في مثل هذه الحالة التي لم يصل بها بيان من الشارع بقبح العقاب بلا بيان ، وبناء على هذه القاعدة العقلية يحكم الفقيه بجواز الاَمرين : الفعل والترك .
ومن هنا يتضح أن الفرق بين الاحتياط والبراءة العقليين ، هو أن مورد الاحتياط هو الشك في المكلف به بعد العلم بوجود التكليف ، ومورد البراءة هو الشك في أصل وجود التكليف .
3 ـ حكم العقل بدفع الضرر : قسّم الفقهاء الضرر على قسمين ، وهما : الضرر الدنيوي كالمتعلق بالنفس والعرض والمال ، والضرر الاخروي كالعقاب على مخالفة الشارع .


( 91 )

والواقع ، إنّ وجوب دفع الضرر لا ينكره إلاّ الجاهل الغبي ، لاَنّه من أحكام الفطرة التي فُطرت عليها النفوس ، ومن ينكر ذلك فهو أقل رتبة من الحيوانات التي تعرف ذلك بفطرتها ، ألا ترى أنها تنفر من الضرر وتسعى الى النفع بفطرتها دون توسط حكم العقل بالحسن والقبح ؟
إنّ هذه القاعدة قاعدة التحسين والتقبيح العقليين اعتنى بها المتكلمون كثيراً ، وأما علماء الاصول فهم وان لم يخصصوا لها باباً مستقلاً ، إلاّ أنهم تكلموا عنها استطراداً في مباحث الظن والاحتياط والبراءة ، وتتلخص أقوالهم بأن الضرر إما أن يكون دنيوياً ، أو أخروياً ، وكل منهما إمّا أن يكون معلوم الوقوع أو مظنوناً أو محتملاً .
أما الضرر المعلوم ، فان العقل يحكم بوجوب دفعه مهما كان نوعه .
وأما المظنون والمحتمل ، فإنّ كان اخروياً ، وكان ناشئاً عن العلم بوجود التكليف والشك في المكلَّف به ، فهو واجب الدفع ؛ لاَنّه يعود إلى وجوب الاِطاعة فيدخل في باب الاحتياط .
وان كان الخوف من الضررالاخروي ناشئاً من الشك في أصل وجود التكليف ، فالعقل لا يحكم بوجوب الدفع ؛ لوجود المؤمِّن العقلي وهو قاعدة ( قبح العقاب بلا بيان) أي : إنّ عدم البيان أمان من العقاب ، كما في قوله تعالى : (وَمَا كُنّا مُعَذِّبينَ حتّى نبعَث رسولاً)(1)زيادةعلىحديث الرفع المشهوركما تقدم ، وحديث السّعة في الكافي عن أمير المؤمنين عليه السلام ، أنّه قال : ..هم في سعة حتى يعلموا(2)وقول الاِمام الصادق عليه السلام :
____________
1) سورة الاِسراء : 17 | 15 .
2) فروع الكافي 6 : 297 | 2 باب 48 من كتاب الاَطعمة .


( 92 )

«كل شيء مطلق حتى يرد فيه نهي » (1)، وقوله عليه السلام : « كلّ شيء مطلق حتى يرد فيه نص » (2)، وهذا يعني دخوله في باب البراءة .
أما الضرر الدنيوي المظنون والمحتمل ، فإنّ العقل يحكم بوجوب دفعه ولا فرق بينه وبين الضرر المعلوم من هذه الجهة ؛ لاَنّ الاِقدام على مالا يؤمَّن معه الضرر قبيح عقلاً . فأي منا مثلاً إذا تردد عنده سائل موجود في اناء بين كونه سماً أو ماءً ولا يحكم عقله بوجوب اجتناب ذلك السائل ؟
والخلاصة : إنّ الضرر الدنيوي يحكم العقل بوجوب الابتعاد عنه معلوماً كان أو مظنوناً أو محتملاً (3).
وواضح أنّ الاستدلال بالعقل على مشروعية التقية ، إنّما هو من جهة حرص العاقل على حفظ نفسه من التلف ، بل ومن كل ما يهدد كيانه بالخطر ، أو يعرّض شرفه إلى الانتهاك ، أو أمواله إلى الضياع .
والتقية ما هي إلاّ وسيلةٌ وقائيةٌ لحفظ هذه الامور وصيانتها عندما يستوجب الاَمر ذلك ، على أن لا يؤدي استخدامها إلى فسادٍ في الدين أو المجتمع كما لو أبيحت في الدماء مثلاً .
____________
1) من لا يحضره الفقيه 1 : 208 | 937 باب 45 .
2) عوالي الآلي 2 : 44 | 111 .
3) راجع في ذلك مقالات الشيخ محمد جواد مغنية : 250 ـ 253 ، ط2، دار ومكتبة الهلال ، بيروت | 1993 م .

0
0% (نفر 0)
 
نظر شما در مورد این مطلب ؟
 
امتیاز شما به این مطلب ؟
اشتراک گذاری در شبکه های اجتماعی:

آخر المقالات

شهادة الإمام علي زين العابدين (عليه السلام)
الرسائل
شخصية أهل البيت
اعلام الشيعة ایام الحسن (ع)
فضل زيارة الإمام الرضا ( عليه السلام )
أدوار السيدة زينب (عليها السلام) ومهامها
اوجه التشابه بين وصي موسى (عليه السلام) ووصي محمد ...
خصائص النبیّ فی القرآن الکریم
عبادة الإمام زين العابدين (عليه السّلام) ومنزلته ...
من معاجز الإمام الهادي عليه السّلام

 
user comment