عربي
Saturday 20th of April 2024
0
نفر 0

الشهادة تعني الرؤية أو الحضور، وشـــَهِد الرجل الشيء أي رآه، وكل مشاهدة رؤية وما كل رؤية مشاهدة، والشاهِد اسم فاعل ويُطلق على من يشهَد على ما يرى من أعمال الناس وجمعه شهود وأشــْهاد وشهداء وشــُـهَّـد، والمَشهود أي المحضور أو ما يُشهَد عليه، والإشهاد على

الشهادة تعني الرؤية أو الحضور، وشـــَهِد الرجل الشيء أي رآه، وكل مشاهدة رؤية وما كل رؤية مشاهدة، والشاهِد اسم فاعل ويُطلق على من يشهَد على ما يرى من أعمال الناس وجمعه شهود وأشــْهاد وشهداء وشــُـهَّـد، والمَشهود أي المحضور أو ما يُشهَد عليه، والإشهاد على الشيء هو إحضار الشاهد وإراءته حقيقة الشيء ليتحمَّله علماً تحمُّلاً شـُهوديـًّا ثم أداء ما تحمَّله إذا ما سئل بذلك، والمراد من الشهود في هذا المنزل الذين يرون أعمال الناس في الحياة الدنيا لا بظاهر صورها ومحسوس هيئاتها بل بالعلم بحقائقها وبواطنها ثم يشهدون عليها يوم القيامة.
وأما الشهود فهم من حيث الشهادة على مراتب:
الشاهد الأول: وله الشهادة المطلقة العليا وهو ذات الحق تبارك وتعالى: (الـَّذِي لــَـهُ مُـلْـكُ الـسَّـمـَاواتِ وَالأرْضِ وَهـُـوَ عَـلَـى كـُـلِّ شــَـيْءٍ شـَـهِـيـدٌ) (1)، فهـو الشـاهد الحقيقي المطلق الذي لا يعـزب عنـه مثقــال ذرة ولا تخفــى عليـه خافيـة من إحسان أو إساءة ومن قول أو فعـل وما تخفـي الصـدور وهـو السـميـع البصير والخبير المهيمن الذي أحاط بعلمه كل شيء (.... اعْـمَلوا مَـا شـِـئْـتُـمْ إنـَّـهُ بــِمَـا تَـعْـمَـلُـونَ بَـصِــيـرٌ) (2)، فشهـادته شهادة عامة مطلقة سواء وُجِد شاهد غيـره من عباده ورسله أو لم يوجد وكفى بالله شهيـدا وحسيبا: (.... وإن تــُبْـدوا مَا فِي أنفُـسِـكُمْ أوْ تـُخْـفــُوهُ يُحَـاسـِـبْكُمْ بــِـهِ اللهُ)(3).
روي أن الحسين بن علي (ع) جاءه رجل وقال: أنا رجل عاص ولا أصبر عن المعصية فعظني بموعظة، فقال (ع) «افْــعَــلْ خـَـمْـسَــةَ أشــْـيـاءٍ وأذْنـِـبْ ما شِــئــْتَ....» إلى أن قال: «والـثـالـِـثُ اطْـلُـبْ مَـوْضِـعــاً لا يَــراكَ اللهُ وأذْنـِـبْ مـا شِــئـْـتَ....»(4)!
الشاهد الثاني: رسول الله (ص) الذي عصمه الله تعالى بالعصمـة الإلهـيـة المنيعة فسَلِم روحه الطاهر من كل كذب وجور وافتراء، وكانت شهادته حقيقة من الحقائق القرآنية، قال الله تبارك وتعالى: (فَكَـيْفَ إذا جِــئــْنـا مِـن كُلِّ أمـَّــةٍ بــِشَــهيـدٍ وَجــِئــْنـا بـِكَ عَـلَـى هــؤلاءِ شـَهِـيداً)!!(5) وقال أيضا: (يا أيُّها الـنـَّبــِيُّ لَـقَدْ أرْسَـلْـناكَ شـاهـِداً وَمُـبَشـِّراً وَنـَـذيراً)(6)، فشهادته على أعمال الأمة بتحملها في نشأة الدنيا وأدائها يوم القيامة.
ولبيان معنى شهادة رسول الله (ص) في هذا المقام نستدل بروايات نقلها ثقة الإسلام الكليني رضي الله عنه في كتابه «أصول الكافي»:
عن علي بن إبراهيم عن أبيه عن عثمان بن عيسى عن سماعة عن أبي عبدالله الصادق (ع) أنه قال: سمعته يقول ما لَكُمْ تـــَسُوؤونَ رَسولَ اللهِ (ص)؟ فقال رجل: كيف نسوؤه؟! فقال: أما تــَعْلَـمـونَ أنَّ أعـْمالَـكُـمْ تــُـعْـرَضُ عَـلَـيْـهِ فَإذا رَأى فـيـهـا مَـعْـصِـيَـةً سـاءهُ ذلـِـكَ فَـلا تـــَـسُـوؤا رَسولَ اللهِ وسـُـرُّوهُ!(7)
وعن أبي بصير عن أبي عبدالله (ع) قال: «تـُـعْـرَضُ الأعـْمـالُ عَلَى رَسولِ اللهِ (ص) كُلَّ صَـبـاحٍ أبـْـرارُها وفــُجَّـارُهـا فـاحـْـذرُوهـا وهـُـو قَـولُ اللهِ تعالى «وَقـُلِ اعْـمَـلوا فــَسَـيَرَى اللهُ عَمَـلَـكُـمْ ورَسُـولــُهُ» وسكت!!(8)
وعن أبي عبدالله (ع) قال قال رسول الله (ص): إنَّ لَـكُـمْ فـي حَـيـاتـي خـَــيـْـراً وفـي مَـمـاتـي خـَـيْـراً، فقيـل: أما حيـاتـك فقد علمنـا فما لنا في وفاتك؟ فقال: أمـّـا حَـيــاتـي فَــإنَّ اللهَ عَــزَّ وجَـلَّ قـالَ «وَ مَـا كَـانَ اللهُ لِـيُـعَـذِّبـَهُـمْ وَأنـْتَ فـيـهِـمْ وَمَـا كَـانَ اللهُ مُـعَــذِّبـَهُـمْ وَهـُمْ يَـسْـتَـغْـفِـرون» وأمَّـــا فـي مَـمـاتـي فَــتُـعْـرَضُ عَـلَـيَّ أعْـمـالــُـكُـمْ فـأســْــتَـغـْــفِــرُ لَـكُـمْ!(9)
يقول العلامة الطباطبائي رضي الله عنه أن سعة وجودية رسول الله (ص) مسيطرة وحاكمة على عالمنا هذا سواء في حياته أو بعد وفاته لأنه الإنسان الكامل وملاك الأكملية السـعة الوجـوديـة فمن كان أكمل وجودا وأتم درجة كانت سـعته الوجـودية أكبر وأشمل، وعلى هذا فرسول الله (ص) شاهـِد يرى حقائق الأشياء عيانا والاتصال بينه وبين المَشاهد مستمر إلى يوم القيامة.
الشاهد الثالث: الإمام المعصوم المفترض الطاعة، فعن بريد قال سألت أبا عبدالله (ع) عن قـول الله عـزَّ وجـلَّ «وَكَذلـِـكَ جَـعَــلْـنـاكـُمْ أُمـَّـةً وَسـَطـاً لـِـتـَكُونــُوا شــُـهَـداءَ عَـلَـى الـنـَّـاسِ» فـقـال (ع): نـحـنُ الأمـَّـةُ الـوُسـْـطَى ونـحـنُ شــُــهَـداءُ للهِ عـَـلَى خـَـلْـقِــهِ وحُـجَـجُـهُ فـي أرْضـِــهِ و «لـِـيَكـونَ الـرَّسُـولُ عَـلَـيْـكُـمْ شَـهِـيـداً» فَــرَســولُ اللهِ (ص) الـشَّـــهــيـدُ عَـلَــيـنــا بـمـا بَـلَّــغْــنـا عَـنِ اللهِ عَـزَّ وَجَـلَّ ونـحـنُ الـشُّــهَــداءُ عـَلَـى الـنـاسِ فَـمَـن صَــدَّقَ صَـدَّقـــْـنـاهُ يــومَ الـقـيـامـَـةِ ومـَن كَـذَّبَ كَـذَّبـْـنــاه!!(10)
وعن عبدالله بن أبان الزيات قال قلت للرضا (ع): ادْعُ الله لي ولأهل بيتي، فقال: أوَلَـسْـتُ أفــْـعَـلُ!! والله إنَّ أعـْمالَـكُـمْ لَـتُـعْـرَضُ عَـلَـيَّ فـي كُلِّ يـَـومٍ ولَــيْـلَـةٍ!! قال: فاستعظمْت ذلك، فقال لي: أما تــَـقْـرَأ كِتــابَ الله عـَـزَّ وَجَـلَّ «وَقــُـلِ اعْـمَـلُـوا فــَسَـيَرَى اللهُ عَـمَـلَـكُمْ وَرَسُـولــُـهُ وَالْـمُـؤْمــِنـُونَ»(11)!!
الشاهد الرابع: الخواص من المؤمنين، فإن الله جل ثناؤه يجتبي من عباده الأولياء المقربين والأتقياء الصالحين الذين يتولى أمرهم ويكشف لهم حقائق أعمال الناس فيكونوا شهداء رقَباء عليها في الحياة الدنيا ويشهدوا عليها يوم يقوم الأشهاد، وهذه الكرامة - أي الشهادة في محضر الإشهاد - خاصة بهم يسَّرها لهم ربهم دون غيرهم (12).
ونشير في هذا المقام إلى حكاية نقلها أحد الأساتذة العرفاء هي في الحقيقة مصداق لشهادة الخواص من أولياء الله على أعمال العباد في الحياة الدنيا:
قال الأستاذ العارف: كنت ذات يوم في محضر الأستاذ محمَّد حسن الطباطبائي رضي الله عنه- الأخ الأكبر للسيد العلامة محمَّد حسين الطباطبائي رضي الله عنه صاحب تفسير الميزان - وكان ارتباطه بعالم الأرواح ارتباطا قويا ويطلعني بين حين وآخر على بعض حالاتي الباطنية وكان يقول لي: حينما أواجه معضلة أعجز عن حلها أتشرف بالحضور في محضر السيد علي القاضي الطباطبائي - وقد مضت على وفاته آنذاك سنوات طويلة - وأطرح عليه مشكلتي ثم آخذ منه الجواب على الفور، فقلت لجنابه: متى ما كنتم في حالاتكم هذه أبلغوا سلامي إلى السيد علي القاضي وقولوا له أن فلانا يلتمس منكم الدعاء!! فقبل مني ذلك ووعدني عليه.
مضت الأيام وانتقل السيد محمَّد حسن الطباطبائي إلى بلدته تبريز وأما أنا فغادرت قم في الصيف - حيث تعطل الدروس في الحوزة - وسافرت إلى بلدتي آمل واشتغلت هناك بالبحث والتدريس. وذات يوم من أيام الصيف الحار وبعد فراغي من التدريس رجعت إلى المنزل وتناولت غدائي ثم آويت إلى الفراش لأستريح قليلا، ولكني لم أستطع النوم لشدة صراخ الأطفال ولعبهم، فقمت من فراشي غضِبا وأخذت ألحق بهم لكي أعاقبهم، ففر كبيرهم من بين يدي وأمسكت بالثاني فضربته على ظهره وأما الأصغر فقد ركضت خلفه إلى أن حصرته في زاوية من فناء المنزل ولما رأى الطفل هذه الحالة مني لم يـــرَ بـدًّا إلا أن يرمي بنفسه في أحضاني، فتأثرت من هذا الموقف كثيرا وتأسفت على ما بدر مني في شأن الأطفال، ورأيت أن أتدارك هذا الموقف فذهبت واشتريت لكل منهم ما يحب ويشتهي.
ثم قال: بقيت تلك الحالة من القلق والاضطراب تساورني فعزمت على السفر إلى طهران ومنها إلى تبريز، ولما وصلت إلى تبريز ذهبت مباشرة إلى منزل المرحوم السيد محمَّد حسن الطباطبائي فطرقت الباب وأقبل السيد بنفسه وأدخلني بيته، فبادرني بالكلام قائلا: كنت أفكر كيف أجدك لأعرض عليك هذا المطلب والحمد لله قدمت بنفسك، فقلت له: خيرا إن شاء الله!!
فقال: كنت البارحة محشورا مع السيد علي القاضي رضي الله عنه وأبلغته سلامكم والتماس الدعاء لكم ولكن للسيد القاضي عتاب عليكم، فقلت: وكيف؟ فقال: قال لي السيد علي القاضي قل له كيف تريد الدخول في هذا المسلك في حين أنك تتعامل مع أطفالك بهذه الشدة!
فقلت: أقسم بالله أني لم أكن معتادا على ذلك وبدر مني ذلك الموقف لأول مرة ولن يتكرر ثانية!!
ونستدل من سياق الآية الكريمة: (وقُلِ اعْمَـلوا فــَسَـيَرَى اللهُ عَـمَـلَـكُـمْ وَرَسُـولُـهُ وَالْـمُـؤْمـِنـُونَ...) أن الرؤية المذكورة في هذه الآية إنما هي رؤية في الدنيا وما قبل البعث بدليل قوله تعالى في تتمة الآية: (.... وَسَتُرَدُّونَ إلَى عـالِمِ الْغـَـيْـبِ وَالشَّـهَـادَةِ فَيُنـَبِّـئــُكُمْ بـِـمـا كُنتُمْ تــَعْـمَـلُونَ)(13)، وتدل الآية كذلك على أن حقائق أعمال الناس جلية واضحة يشهدها الله عزَّ وجلَّ ورسوله والأئمة المعصومون والخواص من المؤمنين وهم شهداء الأعمال في حين أن العاملين بها لا يرون إلا ظاهر أعمالهم وأما حقيقتها فهي مستورة عنهم ولا يقفون عليها إلا يوم القيامة كما في قوله عزَّ وجلَّ: (لَقَـدْ كُـنتَ فـي غَـفْـلَـةٍ مِـنْ هذا فَكَـشَـفْنا عَـنكَ غِـطـاءكَ فــَـبَصَـرُكَ الْيَوْمَ حَــدِيدٌ)(14).
أيها الإنسان!! لقد تعدَّد الشهود على أعمالك فإلى أين الفرار من محكمة رب العالمين وهو أحكم الحاكمين الذي قال بعد إقامة الحجة وإتمامها: (ما يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَمَـا أنـَا بــِظَـلاَّمٍ لِـلْعَـبِـيـدِ)!!(15)، فهل تعزم على المعصية فضلا عن ارتكابها وأنت تعلم أن لله عزَّ وجلَّ الحجة البالغة وهو محيط بك علما ويشهد عليك شهودا وتعلم أيضا أن كتاب أعمالك الحسنة منها والسيئة الكبيرة منها والصغيرة الظاهرة منها والباطنة تـُعرَض على رسول الله (ص).
إذا جعلت في تصورك وحسبانك أن كل عمل سيئ تقوم به وتعتقد ظاهرا أنك في الخلوة فاعلم أنك أمام ملأ من الشهود الناظرين المراقبين فهل تتجرأ أن تقوم به!!
لما كانت الشهادة تؤدَّى يوم القيامة ولازمة الشهادة هي الرؤية بمعنى أن الشاهد لابد أن يكون حاضرا في مشهد العمل سواء كان عملا صالحا أو عملا سيئا لكي يرى ويشهد شهادة حقيقية صادقة فهلاّ تخجَّلنا من أنفسنا ونحن نرتكب ذنبا أو معصية في معرض شهادة رسول الله (ص) والأئمة (ع) فضلا عن شهادة رب العالمين سبحانه وتعالى!! إن ارتكاب الذنب والمعصية إلى جانب أنه يوجب الزجر والعقاب فهو هتك لحرمة الله سبحانه وتعالى وحرمة رسوله وأوليائه الصالحين!! فواخجلتاه من مشهد يوم عظيم إن كنا غافلين عن مراقبة أنفسنا في أقوالنا وأفعالنا ونياتنا وضمائرنا وسرِّنا وعلانيتنا!!
لعلنا بعد معرفة هذه الحقائق الغيبيَّة نصل إلى مفهوم كلمة الإمام زين العابدين علي بن الحسين (ع) حيث يقول في دعائه: «لِـماذا لا أبْـكـي!! أبـْـكـي لِـخُـروجِ نــَفْـسـي أبْـكـي لِـظُـلْـمَـةِ قَـبْـري أبـْـكـي لِـخُـروجـي عُـرْيـانـاً مِـنْ قَـبْـري»!! فالبكاء على النفس وأحوالها في مواقف النزع والاحتضار والقبر ما هي إلا مقدمات للوقوف يوم البعث بين يدي الله عزَّ وجلَّ في محكمة عدله ومحضر شهادته وشهادة الذين أكرمهم بهذا المقام يوم يكشف فيه عن كل مستور وتبلى فيه كل سريرة!!
أيها السالك إلى الله!! لا يَعمِي أبصارَ القلوب عن رؤية الحق ولا يمنع النفس عن معرفته إلا حب الدنيا واتباع الهوى، فلابد بعد التوبة والإنابة والصدق والإخلاص والتضرع إلى الله عزَّ وجلَّ أن تلزم المراقبة الشديدة والحياء الدائم من الله عزَّ وجلَّ حق الحياء في الظاهر والباطن والسر والعلن وأن تمثِّل كلمة الحق (ألمْ يَعْـلَمْ بأنَّ اللهَ يَرَى)(16) بين عينيك وتعتقد بحقيقتها اعتقادا قلبيا راسخا وتشعر بأنك في محضر الشهود في كل زمان ومكان وأن أعمالك كلها مرئية مشهودة لديهم، فإذا كنت ترى ربك بعين الباطن والقلب ولم ترَ سواه وراقبت أعمالك وأقوالك ولم تكن غافلا عن مراقبة الحق لك ولكل شيء كما قال جل شأنه: (وَكَانَ اللهُ عَلَى كُلِّ شيءٍ رَقِيباً)(17)، هنالك تكون نفسك مطمئنة غير وجلة ولا خائفة من شهادة الشهود عليها يوم الأزفة (إذِ الْقُلوبُ لَدَى الْحَنـَاجــِرِ كَاظِمينَ)(18)!!
يقول رسول الله (ص): «حَـاسـِـبـوا أنـفُـسَـكـم قَـبْـل أن تــُحاسـَبوا ومَـهِّـدوا لـهـا قَـبْـل أن تــُعـذَّبـُوا وتــَزوَّدوا للـرَّحـيـلِ قَـبْـلَ أن تــُزعَـجـوا فإنــَّهـا مَوقــِـفُ عَــدْلٍ واقــْـتِـضـاءُ حَــقٍّ وسـُـؤالٌ عَـن واجـِبٍ وقَـدْ أبـْـلَـغَ في الإعـْذارِ مَنْ تـــَـقَــدَّمَ بالإنــْـذارِ»(19).
ويقول الإمام الصادق (ع): «مَــنْ يـَــرَى الـقـيـامـَــةَ بـأهـْوالـِـهـا وشــَـدائـِـدِهـا قـائــِمَــةً فـي كـلِّ نَـفْــسٍ ويـعـايــِنْ بـالـقَـلْـبِ الـوقـوفَ بـيـنَ يَدَي الـجَـبَّـارِ حـيـنـئـذ يـأخـُـذُ نــَفْـسَــه بالـمُـحـاسَـبَـةِ كـأنــَّـه إلـى عَـرَصـاتـِـهـا مَـدْعـُـوٌّ وفـي غَـمَـراتـِـهـا مَـسْـؤولٌ»(20).
فالمراقبة والمحاسبة من حتميات السلوك إلى الله تعالى وتترتب عليها مقامات أخرى كالذكر والفكر وغيرهما وقد أوصى بهما أساتذتنا ومشايخنا العظام وتختلف مراتبهما حسب تفاوت درجات السالكين ومقاماتهم.
والمثال الحي الذي يمكن أن نعـتبر منه في حياتنا الدنيا ويذكرنا بالآخرة والوقوف بين يدي الله عزَّ وجلَّ يوم الحشر الأكبر هو الوقوف بعرفات حيث يجمع الله تعالى الخلائق في صعيد واحد ويكون الحاج فيه محرما عن كل زخارف الملذات الظاهرية وزينة العلائق الدنيوية ويعيش في صحرائها سويعات يحاسب فيها نفسه ويعترف بذنوبه فيتضرع إلى الله ويستغفر وتتمثل أمام عينيه محكمة العدل الإلهي والشهود مأمورون بأمر الله للإدلاء بشهاداتهم عليه فيشهد على نفسه ويحاسبها من قبل أن يشهد عليه الآخرون!!
ما ملاك الشهود؟!
ملاكه الحضور، فعلى قدر حضورك ترى ربك بتجليه في قلبك!! وأكثر العبادات تقربا إلى الله تعالى وأتمها اتصالا به وحضورا معه هي الصلاة، وملاك قبول صلاتك وتمامها وكمالها حضور قلبك في الصلاة والتوجه إلى الله تعالى بكليَّتك وذلك بالتأهب لها وجعل الحق تبارك وتعالى نصب عينيك في قبلتك لكن من غير تحديد وتشبيه لأنه ليس كمثله شيء، والحضور في الصلاة بمثابة الروح لها وهي مع عدم الحضور كالبدن الذي لا روح فيه، فإحياء روح الصلاة بحضور القلب فيها يشعرك بحضور رب العالمين.
قال رسول الله (ص) في حديث سؤال جبريل (ع) في معنى الإحسان: «الإحـْـسـانُ أنْ تــَـعْـبُـدَ اللهَ كأنــَّـكَ تـــَـراهُ»(21) وما سوى ذلك فهو سوء أدب في محضر الحق جل وعلا ولهذا تمم (ص) قـولـه: «فَـإنْ لَـمْ تـــَكُـنْ تـــَراهُ فَـإنــَّـه يَــراكَ» وهو مـقـام المراقبة، والرؤية في الشطر الأول من الحديث بنحو «كأ» وهي المرتبة الدانـيـة لأن العبادة على الغيب مـشـكل وأما المرتبـة الأعلى في الرؤيــة والمقـام الأسمى في الإحسـان فهي الرؤيــة القلبية الصــريحة كما ورد في قول مولى الموحدين أمير المؤمنيـن (ع): «ما كُـنــْتُ أعـْـبُـدْ رَبـًّــا لَـمْ أرَهُ»(22)!!
قال أبو عبد الله الصادق (ع) لإسحاق بن عمار: «يا إسـحـاقَ خِـــفِ اللهَ كــَأنــَّـكَ تـــَراهُ وإن كُـنــْـتَ لا تـــَراهُ فَإنــَّـهُ يَـــراكَ فَــــإن كُـنــْـتَ تـــَـرَى أنــَّـهُ لا يـَـراكَ فَـقَــدْ كَـفَـرْتَ وإن كُـنــْـتَ تـــَـعْـلَـمُ أنــَّـهُ يَـراكَ ثـــُمَّ بَــرَزْتَ لَــهُ بـالـمَـعْـصِــيَــةِ فَــقَــدْ جَـعَـلْـتَـهُ مِـنْ أهـْـوَنِ الـنـاظـِـريـنَ عَـلَـيْــكَ»(23)!!
ومن الآفات التي قد يغفـل السالك إلى الله عنها في هذا الطريق آفتان:
الآفة الأولى الاستدراج:
فالاستدراج هو أن العبد حينما يجدد الخطيئة ولم يستغفر منها يجدد له الله النعمة ويسلبه الشكر وينسيه الاستغفار ويأخذه درجة بعد درجة حتى يظن أن النعم التي أنعم الله عليه بها إنما هي من رضا الله لا من سخطه عليه، يقول الله سبحانه وتعالى في كتابه: (وَالَّذِيـنَ كَذَّبُوا بــِآيَـاتـِـنَـا سَـنـَسْـتَـدْرِجـُـهُـمْ مِـنْ حَـيْـثُ لا يَعْــلَـمُـونَ)(24)!!
وقد روي عن النبي (ص) أنه قال: «إذا رَأيــْـتَ اللهَ يـُـعْـطـي عَلَى الـمَـعـاصـي فـذلـِـكَ اسـْـــتِــدراجٌ، ثمَّ تـلا هذه الآيـةَ: (فَـلَـمَّـا نــَـسُــوا ما ذُكِّـــروا بــِـهِ فَـتَـحْــنـا عَـلَـيْـهِـمْ أبـْـوابَ كُـلِّ شــَيءٍ حَـتَّى إذا فَرِحـُوا بــِمـا أوتــُوا أخـَذْنـاهـُــمْ بـَغْــتَـةً فـــَإذا هـُــمْ مـُـبْــلِـسـونَ)(25).
وسئل أبو عبدالله (ع) عن الاستدراج فقال: «الـعـبـدُ يـُـذنِـبُ الـذَّنــبَ فَـيُـمـلـي لــه ويــُـجَـدِّدُ لــه عِـنـدَهـا الــنــِّعــمَ فــيُلْـهــيـهِ عـن الاسـْــتِـغْـفـارِ مِـنَ الـذنــوبِ فـهـو مُــسْـــتَــدْرَجٌ مِــنْ حَـيْـثُ لا يـَـعْـلَـم»!! (26) أما إذا أراد الله تعالى بعبد خيرا فأذنب ذنبا أتبعه بنقمة وذكــَّره الاســتغفار.
والآفة الثانية إيكال العبد إلى نفسه:
فالمريض بأمراض النفس والقلب كالغل والحسد والبخل والغيبة والنميمة وغيرها من الرذائل ووصل إلى مرحلة لا أمل له في الرجوع إلى الله هنالك يكله الله سبحانه وتعالى إلى نفسه ويخليه من عناياته وألطافه كالمريض بالأمراض الظاهرية إذا رأى الطبيب أملا في شفائه يعطيه الدواء اللازم ويحظره من بعض المأكولات المضرة بصحته، أما إذا يئس من شفائه يكله إلى نفسه خفية دون أن يشعر ويدعه يأكل ما يشاء!!
فعن الإمام علي (ع) أنه قال: «واعْــمَـلـوا فـي غـيـرِ ريـاءٍ ولا سُــمْــعَـةٍ فـإنــَّه مَـنْ يعـمَــلْ لـغـيــرِ اللهِ يــَكِـلْـهُ اللهُ إلـى مـَنْ عَـمِـلَ لـــه»(27)!!
وعن أبي عبدالله (ع) أنه قــال: «فـي الــتـوراةِ مـكــتــوبٌ ابــنُ آدَمَ تـــَفَـــرَّغْ لِـعِـبــادَتــي أمـْــلأ قـــَلـبَــك خـوفــاً مِـنــِّي وإن لا تـــَـفْــرَغُ لِـعِـبـادتـي أمـْـــلأ قَــلـبـَــكَ شـــُـغـْــلاً بـالـدنـيـــــا ثــمَّ لا أسـُــدُّ فـاقـــَـتـَـكَ وأكِـلُــكَ إلـى طَـلَـبــِـهــا»(28).
من هنا نعرف معنى هذه الفقرة من الدعاء: «إلــهَـنـا لا تـــَـكِـلْــنــا إلــى أنــفُـسِــنــا طَــرْفـــَةَ عَــيْــنٍ أبـَــداً»(29)، فكيف يكون الحال إذا أخرجنا الله سبحانه وتعالى من عباده وقال دعوه يهيم على وجهه يذهب إلى أي مكان شاء ويسلك أي طريق أراد!!
ولكن ما علامة هذه الآفة؟!
علامتها عدم الشعور بلذة العبادة.
قال عيسى (ع): «بــِحَـق أقـولُ لَـكُـم كـمـا نــَـظَــر الـمَـريـضُ إلـى الـطـعـامِ فـلا يَــلْــتـَــذُّ مـن شِـــدَّةِ الــوَجَــعِ كـذلـك صــاحـبُ الـدنـيـــا لا يَــلْــتــَـذُّ بـالــعِــبــادةِ ولا يــَجـِــدُ حَـلاوتــــَهـا مـع ما يَــجـِــدُه مِــنْ حَــلاوَةِ الـدُّنــْـيــا»(30)!!
يحكى أن رجلا وقف في طريق موسى بن عمران (ع) وقال له: إذا ذهبت إلى ربك فقل له أنت تقول أن من عصاك سلبته كل شيء وجعلته في ضنك من العيش شديد وبلاء طويل، وهأنذا أعصيك وأملك كل شيء من ملذات الدنيا من أموال وبنين وغيرها!! فذهب موسى (ع) لمناجاة ربه ولكنه استحى أن يعرض كلام الرجل على ربه ولما أراد الرجوع قال الله تبارك وتعالى له: يا موسى إن عبدي ينتظر قدومك، فقال موسى (ع): إلهي أهذا عبدك وأنت تعلم ما قال؟ فقال: نعم هذا عبدي، أبلغه سلامي ثم قل له أنت تقول أنك تعصي الله ومع ذلك تملك كل شيء ولم يسلب الله منك شيئا!! عبدي، أنت لا تعلم أني سلبت من قلبك وروحك أعظم لذة وأكبر سعادة وهي لذة العبادة والصلاة وحلاوة المناجاة(31)!
فمن عمل لنفسه وكله الله إلى نفسه ومن عمل للناس وكله الله إلى الناس ومن عمل للشيطان وكله الله إلى الشيطان الذي ما أن يحصل على غرضه منه وهو الضلال والهلاك تركه وشمت به وتبرأ منه، أي أن كل من عمل لغير الله يكله الله إلى من عمل له وأما من عمل لله سبحانه وتعالى ووثق به عصمه ولم يكله إلى غيره وأخذ بيده إلى الصراط المستقيم.
ربِّ جَـلِّـلْـنـي بسِــتْــرِك واعـْــفُ عـن تـــَـوبــيـخـي بـكَــرَمِ وَجْـهِــكَ فَــلَـو اطَّــلَـعَ الـيــومَ على ذنـبــي غـيــرُكَ مـــا فَــعَـلْــتُـه ولَــو خِــفْـتُ تـعـجـيــلَ الـعُـقــوبــَــةِ لاجــْـتـَـنــَـبْــتـُـهُ لا لأنــَّــكَ أهْــــوَنُ الـنـاظــِـريــنَ إلَـــيَّ وأخــَــفُّ الـمُـطَّــلِـعـيـــنَ عَـلَــيَّ بَــــلْ لأنــَّـــكَ يــا رَبِّ خـــَـيْــــــــرُ الســاتـِــريـــنَ وأحـْــلَـــمُ الأحـْـلَـمــيـــنَ وأكـْـــرَمُ الأكـْــرَمــيـــنَ فَـلَــــكَ الــحـَــمْـــــــــدُ عَـــلَـــى حِـلْـمِـكَ بَـعْـدَ عِلْـمِـكَ وعـَلَى عَـفْــوِكَ بَـعْـدَ قُــدْرَتـِـكَ بـِكَ وبمـحـمَّـدٍ وآلِ مـحـمَّـدٍ (ص) فـاســْـتَـنـْـقِـذْنـي يا مُـحْـسِــنُ يا مُـجْـمِـلُ يا مُـفْـضِـلُ يا مُـنــْـعِـمُ أنتَ الـمُـحْـسِـنُ ونـحْـنُ الـمُـسـيـئــونَ فـتـجـاوَزْ يـــا رَبِّ عَــنْ قَــبــيـحِ ما عِـنـدَنـا بـجَـمـيـلِ ما عِـنـدَكَ يـا أرْحَــمَ الـراحِـمـيـنَ(32).

 

 

0
0% (نفر 0)
 
نظر شما در مورد این مطلب ؟
 
امتیاز شما به این مطلب ؟
اشتراک گذاری در شبکه های اجتماعی:

آخر المقالات

في الدعاء لأخيك بظهر الغيب
علي الأكبر شبيه الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)
تربية أطفالنا في ظلّ الإسلام
الإيمان بالإمام المهدي (عج)
حديث الغدير في مصادر أهل السنة
عصمة الأنبياء (عليهم السلام) عند المذاهب ...
خصال الإمام
أدعية الإمام الرضا ( عليه السلام )
ما هو اسم الحسين عليه السلام
سورة الناس

 
user comment