
فلسفة المجتمع في القرآن
الجانب الفلسفي من نظرة الإسلام إلى المجتمع نابع من الإيمان بأن الإنسان كائن محدود المعطيات وانه يملك خط السلبيات وخط الإيجابيات، وعلينا حين نلاحظ المجتمع، التفتيش عن تفرعات حقائق الخطين. والقواعد الأساسية لفلسفة المجتمع في القرآن تتأطر ضمن نقاط:
1- دراسة علم النفس أساسية في معرفة المجتمع؛ فكل شيء نجد مصغره في الفرد، نجده في المجتمع بصورة متجسدة؛ تشابك الخير والشر في نفس كل إنسان يعكس ظاهرة تشابك الأخيار والأشرار في المجتمع، وذات القوانين التي تحكم طبيعة التشابك على صعيد النفس ذاتها تحكم التشابك على صعيد الجماعة.
2- وبناء على ذلك؛ فإننا لا نستطيع إرجاع كل الظواهر الاجتماعية إلى الجانب السلبي من الإنسان حتى نجد أنفسنا في حلقة مفرغة لا نعرف من أين تبدأ المؤثرات، بل يجب ان نبحث عن خطي السلبية والإيجابية معا؛ فمثلا في موضوع أساس المجتمع، لا نستطيع ان نجعله الحاجة وضرورة العيش فقط، (وهو -طبعا- أساس تقتضيه الغريزة الإنسانية) بل لابد ان ندخل في حسابنا الحب البريء الذي يتمتع به كل فرد إزاء ولده ووالديه وأقاربه فمجتمعه.
وليس من الصائب ان نجعل اكتشاف الحديد واستسلام الإنسان له، سببا لطور جديد من المجتمعات، خاضعة للزراعة والصبر والعمل، بل لابد ان نلاحظ أيضا حالة الصبر والعمل الذي سبق اكتشاف الحديد، وكان جانبا ايجابيا من الإنسان وغير متأثر بالظروف المادية.
كذلك لا نجعل العصبية أساس الملك، ونربط العصبية بالقبلية فالعنصرية فالإقليمية ثم التيار القومي والحضاري (كما جعله ابن خلدون وتابعوه) بل نلاحظ إلى جانب هذا الخط السلبي في تسيير المجتمعات خطوطا إيجابية إبتدأت من الفكرة الحضارية وطليعة المبشرين بها، والأمة وتموجاتها في العالم و.. و.. مما هو جانب إيجابي بناء في حياة الإنسان.
3- وبالتالي في تقييم دور الفرد في تسيير المجتمع، أو تسييره بالمجتمع لابد ان نقدر ليس فقط حاجات الفرد المادية، والتي ترتبط بصورة أخرى بالمجتمع وضغوطه، بل وأيضا تطلعاته الإصلاحية المبدعة، ومدى (إرادته) في فرض هذه التطلعات على التيار الاجتماعي، وهكذا يجب رسم خط بياني كالتالي في معرفة التأثير المتقابل في المجتمع.
في تأثر الفرد بالمجتمع نقول:
الفرد = نسبة ضغطه + نسبة ضعف مقاومة المجتمع له = نسبة التأثير.
وبالعكس نقول:
المجتمع = نسبة ضغطه+نسبة ضعف إرادة الفرد = نسبة التأثير.
4- وقد يكون تيار الاجتماع خاطئا كما قد يكون الفرد خاطئا، ولكن لن تكون القوانين التي لابد من تسليم التيارات الاجتماعية لها لن تكون خاطئة أبدا.
بمعنى ان أي فعل اجتماعي سليم ينطوي على مردود سليم، وأي فعل اجتماعي خاطئ ينطوي على مردود خاطئ مثله، وأفضل مثل له: (ألم تر كيف ضرب الله مثلا كلمة طيبة كشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء* تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها ويضرب الله الأمثال للناس لعلهم يتذكرون* ومثل كلمة خبيثة كشجرة خبيثة اجتثت من فوق الأرض مالها من قرار) [إبراهيم /24-26].
5- وليست النظم الصحيحة هي التي تتبع تيارات اجتماعية معينة، بل التي تتعرف على سنن الاجتماع وتحدد أهدافه، ووفق تلك السنن تخطط للأهداف (فالعارف بزمانه لا تهجم عليه النوائب).
ولكن يجب على النظام الإجتماعي، لكي يكون واقعيا ان يحدد بدقة مرحلة الاجتماع التي يريد ان يضع لها الشرائع ثم يضع تلك السنة.
6- والمجتمع كيان قائم فعلا، وتستطيع تحديد سمات أي مجتمع من ناحية القوة والضعف، والصحة والمرض، والكياسة والتبلد، والشجاعة والجبن، وسائر الصفات البشرية.
ولا يعني هذا سوى ان المجتمع سيضغط على الفرد بإتجاه الطابع العام، وهذا الضغط هو بدوره مجموع ضغوط الأفراد الذين يشملهم إطار المجتمع.
والضغط قد يرتفع إلى مستوى العقاب المادي، فيكون بمستوى الحكومة، وقد يكتفي بالعقاب الأدبي فنسميه بالقيم. إلا ان الضغط سواء كان عقابا أو عتابا، لا يحول الفرد إلى آلة صماء، يستجيب لنداء الجماعة، بل انه:
أولا: يمتص بعض ضغط الجماعة بمستوى مقاومته لهذا الضغط، فإذا كان الضغط مثلا بدرجة يحمل كل فرد من المجتمع (وهم فرضا مائة شخص) إلى التحدث نصف ساعة حول القيمة التي يقدرها الجميع، وكانت مقاومة الفرد بقدر تحتاج إلى نصف ساعة من التشجيع، كان يعني ان هذا المجتمع لا يستطيع سوى دفع مائة فرد آخر نحو تطبيق منهجه، ذلك لأن كل فرد يقوم بإمتصاص قدر من القوة الجماعية.
ثانيا: يستطيع بعض الصمود أمام ضغط الجماعة بمستوى إمتلاكه للإرادة الحرة التي لا تستسلم لأي نوع من الضغط، حتى يصل إلى مستوى سحرة فرعون الذين آمنوا بموسى عليه السلام، وضحوا بكل شيء في سبيل إيمانهم، مقاومين جميع الضغوط.
ان المجتمع الذي قاومه هؤلاء السحرة التائبون كان يتمتع بقوة رادعة عقابية، بيد ان المؤمنين وهم أفراد من المجتمع ذاته، كانوا يتمتعون بالعقل الذي يهديهم إلى الحق، ثم بإرادة تحررهم من ضغوط المجتمع والتي عبرت عن نفسها في أقسى العقوبات، ولكنها عجزت عن تحويل الإنسان إلى آلة لا تعقل ولا تشاء.
ان هذه النقطة عظيمة، ليست لأنها تشكل فقط حجر الزاوية في بناء الإنسان الكامل، بل لأنها تعتبر عدسة ضرورية في مجهر علم الإجتماع، فحين تتجاهل هذه الحقيقة نتخبط في تقديراتنا للأحداث وللأشخاص ولمسيرة الحياة.
7- والمجتمع بثنائية الخيوط التي تحركه والتي ترتبط بنفسيات المجموعة البشرية التي يتحرك كل فرد منهم ضمن محور الإيجاب والسلب، لابد وان يتكون من خيرين وأشرار، ولابد ان تكون المقاومة بإتجاه الإصلاح أو بإتجاه الفساد، هي التي تحدد تحركات هذا المجتمع، فأمام كل فريق ينشد الخير بفعل تفوق الجانب الإيجابي في نفسه على الجانب السلبي، لابد ان يقف فريق آخر يقاوم هذا الخير، وإذ لا يمكن ان يكون الأخيار خالصين من كل عيب، لا يمكن ان يكون الأشرار مفلسين من كل خير أيضا.
فإن الفريق المقاوم يجد في بعض ما في الأخيار من شر، وبعض ما لديه من خير مبررا للقضاء على الخير بإسم الخير ذاته.
وهذا الخير والشر موزع في البدء بين الناس توزيعا يكاد يكون عادلا، فكل منهم يأمر بالخير وينهى عن الشر، ولكنه يعمل بهما فعلا، وهذه مرحلة الضلالة العامة، وفيها لا نجد شرا مستطيرا كما لا نجد أيضا خيرا خالصا.
8- ولابد ان الإنسان يبقى على هذه الضلالة التي هي ذاتية بالنسبة إلى طبيعته حسبما عرفناها سابقا، حتى يأتيه من الله نور وهدى مبين، فيصبح البشر فريقين؛ إذ ان فريقا منهم يشاء بإرادته الحرة ان يهتدي ويطهر نفسه من رواسب الشر، بينما يبقى الفريق الآخر على ضلالته، التي سرعان ما يضطر، للدفاع عنها، ان يتحول إلى شر محض!!!
كذلك قال الله سبحانه حين قص علينا قصة البشرية الأولى: (كان الناس امة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه وما اختلف فيه الا الذين اوتوه من بعدما جاءتهم البينات بغيا بينهم فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم) [البقرة/213].
فهناك ضلالة شاملة، ثم يهدي الله الناس، ثم يختلف الناس في الهداية.