يرجى الانتظار

الـصّـَمـَدُ

 قال تعالى: ﴿قل هو الله أحد، الله الصمد﴾.(1)

 

قال الشيخ الصدوق قدِّس سرُّه في كتابه التوحيد:

الصمد: الصمد معناه السيد، ومن ذهب إلى هذا المعنى جاز له أنْ يقول لم يزل – الله - صمداً، ويقال للسيد المطاع في قومه الذي لا يقضون أمراً دونه: صمد، وقد قال الشاعر:علوته بحسام ثم قلتُ له خذها حذيف فأنت السيد الصمد

 

وللصمد معنى ثان: وهو أنَّه المصمود إليه في الحوائج، يقال: صمدتُ صمد هذا الأمر أي قصدت قصده، ومن ذهب إلى هذا المعنى لم يجز له أنْ يقول: لم يزل - الله - صمداً، لأنَّه قد وصفه عزَّ وجل َّبصفة من صفات فعله، وهو مصيب أيضاً، والصمد الذي ليس بجسم ولا جوف له..(2)


 

وقال الغزالي:

الصمد: هو الذي يُصمد إليه في الحوائج، ويُقصد إليه في الرغائب، إذ ينتهي إليه منتهى السؤدد.(3)

 

الصمد في الروايات

هناك مجموعة من الروايات تصدت لبيان المراد من معنى الصمد، نزولاً واستجابة لطلب الكثير من الصحابة والرواة والشيعة،إذ كان لهذا اللفظ الشريف نحو غموض في أذهان الناس، فكانت الأسئلة تتوالى عليهم، وكانوا بدورهم عليهم السلام يبينون معنى هذا الاسم الشريف بمقتضى ما يسع إدراك السائل ومقتضى المقام، وهذه بعض ما ورد في كتاب التوحيد للشيخ الصدوق قدس سره:

 

أ - عن الإمام الباقر عليه السلام: حدثني أبي زين العابدين، عن أبيه الحسين بن علي عليهم السلام أنَّه قال: الصمد الذي لاجوف له، والصمد الذي قد انتهى سؤدده، والصمد الذي لا يأكل ولا يشرب، والصمد الذي لا ينام، والصمد الدائم الذي لم يزل ولا يزال.

 

وعنه عليه السلام: كان محمد بن الحنفية رضي الله عنه يقول: الصمد القائم بنفسه، الغني عن غيره، وقال غيره: الصمد المتعالي عن الكون والفساد، والصمد الذي لا يوصف بالتغاير.

وعن الإمام الباقر عليه السلام: الصمد السيد المطاع الذي ليس فوقه آمر وناه.

قال: وسئل علي بن الحسين زين العابدين عليهما السلام، عن الصمد، فقال: الصمد الذي لا شريك له ولا يؤوده حفظ شئ ولا يعزب عنه شئ.(4)

 

ب - عن وهب بن وهب القرشي: سمعت الصادق عليه السلام يقول: قدم وفد من أهل فلسطين على الباقر عليه السلام فسألوه عن مسائل فأجابهم، ثم سألوه عن الصمد، فقال: تفسيره فيه، الصمد خمسة أحرف:

 

فالألف دليل على إنِّـيـَّته وهو قوله عزَّ وجلَّ ﴿شَهِدَ اللّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ﴾(5)، وذلك تنبيه وإشارة إلى الغائب عن درك الحواس.

 

واللام دليل على إلهيته بأنَّه هو الله، والألف واللام مدغمان لا يظهران على اللسان (6)، ولا يقعان في السمع ويظهران في الكتابة دليلان على أنَّ إلهيته بلطفه خافية لا تدرك بالحواس ولا تقع في لسان واصف، ولا أذن سامع، لأنَّ تفسير الإله هو الذي إله الخلق عن درك ماهيِّته وكيفيَّته بحس أو بوهم، لا بل هو مبدع الأوهام وخالق الحواس، وإنَّما يظهر ذلك عند الكتابة دليل على أنَّ الله سبحانه أظهر ربوبيته في إبداع الخلق وتركيب أرواحهم اللطيفة في أجسادهم الكثيفة، فإذا نظر عبد إلى نفسه لم يرَ روحه كما أنَّ لام الصمد لا تتبيَّن ولا تدخل في حاسة من الحواس الخمسة، فإذا نظر إلى الكتابة ظهر له ما خفي ولطف، فمتى تفكر العبد في ماهية البارئ وكيفيته، أَلِهَ فيه وتحيَّر ولم تحط فكرته بشيء يتصور له لأنَّه عزّ وجلّ خالق الصور، فإذا نظر إلى خلقه ثبت له أنَّه عزّ وجلّ خالقهم و مركب أرواحهم في أجسادهم.

 

وأما الصاد فدليل على أنَّه عزّ وجلّ صادق وقوله صدق وكلامه صدق ودعا عباده إلى إتباع الصدق بالصدق ووعد بالصدق دار الصدق.

 

وأما الميم، فدليل على ملكه وأنَّه الملك الحق لم يزل ولا يزال ولا يزول ملكه.

 

وأما الدال، فدليل على دوام ملكه وأنَّه عزّ وجلّ دائم تعالى عن الكون والزوال، بل هو عزّ وجلّ يكوِّن الكائنات، الذي كان بتكوينه كل كائن.

 

ثم قال عليه السلام: لو وجدت لعلمي الذي آتاني الله عزّ وجلّ حملة لنشرت التوحيد والإسلام والإيمان و الدين والشرائع من "الصمد "، وكيف لي بذلك ولم يجد جدي أمير المؤمنين عليه السلام حملة لعلمه حتى كان يتنفس الصعداء، ويقول على المنبر: "سلوني قبل أنْ تفقدوني فإنَّ بين الجوانح منِّي علماً جمَّاً، هاهٍ هاهٍ إلا لا أجد من يحمله، ألا وإنِّي عليكم من الله الحجة البالغة فلا تتولوا قوماً غضب الله عليهم قد يئسوا من الآخرة كما يئس الكفار من أصحاب القبور "..(7)

 

ج - عن الربيع بن مسلم، قال: سمعت أبا الحسن عليه السلام وسئل عن الصمد فقال: الصمد الذي لاجوف له. (8)

وعن داود بن القاسم الجعفري، قال: قلت لأبي جعفر عليه السلام: جعلت فداك ما الصمد ؟

قال: السيد، المصمود إليه في القليل والكثير. (9)

 

ولعلك تجد في بادي الأمر أنَّ الروايات مختلفة في مضامينها لبيان معنى الصمد، إلا أنَّ الواقع أنَّ هذه الروايات تشير إلى بعض مصاديق معنى الصمد وليس المراد من كثير منها بيان المراد التام منه أو بيان الحقيق ةبما هي حيث ذلك مما لا يسع قدرة الإنسان كما أشار الإمام عليه السلام في الحديث الثاني، ويكفيك لمعرفة عظمة هذا الاسم الشريف أنْ تمعن في كلام الإمام عليه السلام المتقدم حيث قال بإمكانه أنْ ينشر تعاليم السماء والدين الحنيف من كلمة الصمد فقط.

 

ومن هنا نقول: لعل المراد من الصمد هو المقصود في جميع الأمور، لأنَّه الكامل المطلق الحقيقي والمنزََّه عن النقص، وأما غيره فلا يمكن أنْ يكون مقصوداً على نحو الحقيقة لما فيه من النقص والضعف والحرمان والإمكان وهو يشابهه الأجوف الذي قد ينخدع الإنسان بظاهره القوي والمحكم في حين أنَّ باطنه في غاية الضعف والهوان،إذ لا يملك لنفسه نفعاً ولا ضراً فكيف ينفع الآخرين ويرفع الضر عنهم.

 

إنْ قلت: إنَّنا نجد بالوجدان رفع الكثير من المحن والصعاب وغير ذلك من خلال البشر، كما أنَّ الكثير منا يجلب الخير لنفسه أو للآخرين من خلال الالتجاء إلى غير الله تعالى.

قلنا: إنَّ تحقق النفع من أولئك ودفع الضر من خلالهم كان بتسديد الله تعالى وتوفيقه لهم لخدمتك، ولولا ذلك التأييد واللطف الإلهي لما رقَّ قلبَّه لك، أو لم يوفَّق في رفع المانع من أمامك، كأن يخطأ في ذلك أو يغفل أو غير ذلك. وما أكثر وقوع ذلك في حياتنا تنبيهاً لنا إلى هذه الحقيقة الحقة، كي نتَّجه إلى صمدانية الله تعالى، ولكن أكثر الناس لا يعلمون.

 

بل أنَّ عدم التوجه إلى الله تعالى والتوجه إلى خلق الله تعالى على نحو الاستقلال مما يوجب سلب الكثير من التوفيقات الإلهية، وحرمانه الكثير من النعم المادية والمعنوية، وعلاوة على ذلك فهو شرك وإثم عظيم إذ جعل لله تعالى نداً يلتجئ إليه في طلب الحوائج وقضائها.

 

تجليات الصمد

من جملة الغرائز الإلهية التي أودعها الله تعالى في نفوس بني البشر هو التوجه إليه في الحوائج والمعضلات، إلا أنَّ الإنسان قد يغفل ويذهل عن هذا الأمر برهة من الزمن لشدِّة أُنسه بالمادة والماديات، فكانت أتربة الغفلة وأوساخ المعاصي والتعلقات الدنيوية غشاءً وحجاباً لما كتب على مرآة القلب من الآية شريفة، وهي قوله تعالى ﴿الله الصمد﴾ (10)، وحيث أنَّ هذه الأتربة والأوساخ كانت عارضة على صفحة القلب ولم تكن ذاتية وأصيلة، تجد سرعان ما تزول عنها حينما تعرض بلية عظيمة يعجز البشر عن حلِّها وعلاجها، قال تعالى ﴿ فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ ﴾. (11)

 

وقال تعالى: ﴿وَإِذَا غَشِيَهُم مَّوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ﴾.(12)

 

قال تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِم بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُواْ بِهَا جَاءتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءهُمُ الْمَوْجُ مِن كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُاْ اللّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنِّ مِنَ الشَّاكِرِينَ﴾. (13)

 

فهذه الآية تشير إلى رجوع الإنسان الذي هو خلاصة وزبدة عالم الإمكان إلى الله تعالى في أموره نزولاً لما فطر عليه، لذا تعرف سرَّ إستنكار الله تعالى ويتجلَّى غضبه، حينما يقصد الإنسان غيره لقضاء حوائجه وأموره، إذ أنَّ العبد بذلك خرج من دائرة العبوديَّة، ولم يعتمد على صمدانيَّة الله تعالى، بل قصد هذا العبد نظرائه في الضعف والفقر والحاجة في عالم الإمكان وهو كاشف عن جهله، و مدى تعلقه بالمادة والطبيعة الفانية الضعيفة.

 

ومن هنا تجد الباري ينهانا من تلك التوسلات الغير منطقية والبعيدة من الشرع، وقد كشف المعصومون عليهم السلام عن هذا الستار في خطبهم ورواياتهم، من قبيل ما روي:

 

أ - عن أبي عبد الله عليه السلام قال: أوحى الله عزّ وجلّ إلى داود عليه السلام:ما اعتصم بي عبد من عبادي دون أحد من خلقي، عرفتُ ذلك من نيته، ثم تكيده السماوات والأرض ومن فيهن إلا جعلتُ له المخرج من بينهن، وما اعتصم عبد من عبادي بأحد من خلقي، عرفتُ ذلك من نيَّته إلا قطعتُ أسباب السماوات والأرض من يديه، وأسختُ الأرض من تحته، ولم أبال بأي وادٍ هلك.(14)

 

ب - عن الحسين بن علوان قال: كنَّا في مجلس نطلب فيه العلم وقد نفدت نفقتي في بعض الأسفار فقال لي بعض أصحابنا: مَنْ تؤمل لِمَا قد نزل بك ؟

فقلت: فلاناً.

فقال: إذاً والله لا تسعف (15) حاجتك ولا يبلغك أملك ولا تنجح طلبتك.

قلت: وما علمك رحمك الله ؟

 

قال: إنَّ أبا عبد الله عليه السلام حدثني أنَّه قرأ في بعض الكتب أنَّ الله تبارك وتعالى يقول: وعزّتي وجلالي ومجدي وارتفاعي على عرشي، لأَقطِّعنَّ أمل كلِّ مُؤَمِّلِِ من الناس غيري باليأس، ولأكسونَّه ثوب المذلَّة عند الناس لأُنَحِينَّه(16) من قُربي ولأُبعدنَّه من فضلي، أَيُؤمِّلُ غيري في الشدائد ؟! والشدائد بيدي (17)، ويرجو غيري، ويقرع بالفكر باب غيري (18) ؟! وبيدي مفاتيح الأبواب، وهي مغلقة وبابي مفتوح لمن دعاني، فمَنْ ذا الذي أمَّـلني لنوائبه فقطعتُه دونها ؟! ومَنْ ذا الذي رجاني لعظيمة فقطعت رجاءه مني ؟! جعلت آمال عبادي عندي محفوظة فلم يرضوا بحفظي، وملأت سماواتي ممن لا يملُّ من تسبيحي، وأمرتهم أنْ لا يغلقوا الأبواب بيني وبين عبادي، فلم يثقوا بقولي(19)، ألم يعلم أنْ من طَرَقَتْه نائبة مٍنْ نوائبي أنَّه لا يملك كشفها أحدٌ غيري إلا من بعد إذني، فمالي أراه لاهياً عني ؟! أعطيته بجودي ما لم يسألني، ثم انتزعته عنه فلم يسألني رده وسأل غيري، أفيراني(20) أبدأ بالعطاء قبل المسألة ثم اسأل فلا أجيب سائلي ؟! أبخيل أنا فيبخلُّني عبدي (21) أو ليس الجود والكرم لي ؟! أو ليس العفو والرحمة بيدي ؟! أو ليس أنا محل الآمال ؟! فمن يقطعها دوني ؟ أفلا يخشى المؤمِّلُُون أنْ يؤمِّلوا غيري، فلو أنَّ أهل سماواتي و أهل أرضي أملَّوا جميعاً، ثم أعطيتُ كل واحد منهم مثل ما أمَّل الجميع ما انتقص من ملكي مثل عضو ذرة، وكيف ينقص ملك أنا قَيِّمُهُ، فيا بؤساً للقانطين مِنْ رحمتي ويا بؤساً لمَنْ عصاني ولم يراقبني. (22)

 

صمدانـيَّة العبد

يقول الغزالي في ما يناسب المقام: ومن جعله الله تعالى مقصد عباده في مهمات دينهم ودنياهم، وأجرى على لسانه ويده حوائج خلقه، فقد أنعم عليه بحظٍّ من معنى هذا الوصف. لكن الصمد المطلق هو الذي يصمد إليه في جميع الحوائج.. وهو الله تعالى.(23)

 

أقول: يتجلى من هذا الكلام أنَّ العبد كي يجسِّـد الصمدانية في وجوده وخُلُقه، لابد من أنْ يكون مقصوداً من فبل الخلق لا قاصداً، ويقضي حوائجهم لا أنْ يقضون حوائجه، يكون بخدمتهم لا أنْ يكونوا بخدمته، وهكذا..

 

وهذا يستدعي توفُّر العبد على عدة أمورٍ من قبيل الغنى، والكرم، والجود، والحكمة، والعلم، والقوة، والسيادة، والوجاهة، والزهد عما في أيدي الناس. وبعيداً تمام البعد من الفقر والضعف والبخل والحرص والجهل وسائر الرذائل.

 

وبعبارةٍ أخرى: إنَّ السجايا الحسنة كلها من مفردات الصمدانية ومصاديقه، فتجد الخَلق يسعون نحوه ويقصدونه ليقضي حوائجهم المختلفة من رفع الجهل والحيرة منهم، أو رفع فقرهم وفاقتهم،أو حلِّ مشاكلهم الاجتماعية، وأمثال ذلك.

 

ومن هنا نحن نستعرض بعض تلك المفاهيم الكمالية السامية، ونترك للقارئ الكريم الإبحار في بحر الصمدانية بفطنته:

 

أ- العلم

لا يخفى عليك أنَّ من أعظم النعم الإلهية على البشر هي نعمة العلم، فهو نور يضيء ويستنير به بني البشر، فيخرجهم من ظلمة الجهل والتخبط والهرج والمرج إلى المعرفة والحكمة والنظم والانتظام، وما هذا التقدم الحضاري والتقني والتكنولوجي إلا بفيض العلم ونعمة وجوده.

 

وكذلك السعادة المعنوية مرهونة بالعلم، الذي من خلاله يعرف الإنسان كمالات ربه وبارئه فينجذب إليه ويعشقه ولا يلتفت إلى سواه، فتجده متحرراً من الرغبات أو الوساوس الشيطانية أو الزخارف الدنيوية وغير ذلك، فيعيش في الدنيا سعيداً لا يعرف معنى الهمّ أو الغمّ أو الحسرة، ولا ينظر ما في أيدي الناس خيرا وبركات، لعلمه أنَّ الرزق بيد الرزاق الحكيم الذي إنْ أعطى فلحكمة، وإنْ منع فلحكمة أخرى، وإنْ كان العبد يجهل هذه الحكمة والمصلحة على نحو التفصيل.

 

و لا يصدر منه شيء من المعاصي والذنوب لعلمه ويقينه بالآثار والأضرار الوخيمة المترتبة عليها في الدنيا والآخرة، وإنَّ المنشأ الوحيد للسعادة في النشأتين هو من خلال تنظيم حياة الدنيا، وهذا ما يضمنه العمل على وفق الشريعة المقدسة.

 

فيحترم ويقدِّس الأحكام الشرعية في الخلوة والملأ، وبذلك يحقق الخلافة الإلهية في الأرض، ويكون أقرب الناس إلى الأنبياء والأوصياء بما يملك من المعارف والملكات النفسية الراقية.

 

وإذا أردتَ أنْ تتعرف على أحدهم فإنَّك ترى الناس كل الناس إلا شياطين الإنس في رضاً وارتياح منه، إذ يترشح منه الخير، ويتقاطر منه الإحسان للخلق، فيقصده كل مَنْ يريد النجاة والسعادة، ويلتجئ إليه مَنْ اشتاق إلى مجالسة الأنبياء في الجنة، ويزاحم ركبتيه من أراد أنْ يجمع الخير كله، ولهذا السبب وغيره من الأسباب تجد المدح والحث على التعلم والعلم، لأنَّهما المقدمة المهمة التي توصلك إلى الخير كل الخير، وهذه بعض النصوص المثبتة لدعوانا:

أ-عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: العلم رأس الخير كله، والجهل رأس الشرّ كله.(24)

 

ب -عن رسول الله صلى الله عليه وآله: من سلك طريقاً يطلب فيه علماً سلك الله به طريقاً إلى الجنة. وأنَّ الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم رضاً به، وأنَّه ليستغفر لطالب العلم مَنْ في السماء ومَنْ في الأرض حتى الحوت في البحر، وفضل العالم على العابد كفضل القمر على سائر النجوم ليلة البدر، وأنَّ العلماء ورثة الأنبياء، إنَّ الأنبياء لم يورثوا ديناراً ولا درهماً ولكن ورثو العلم، فمن أخذ منه أخذ بحظ وافر.(25)

 

ج-عن أبي عبد الله (عليه السلام) أنَّه قال: لست أحب أنْ أرى الشاب منكم إلا غادياً في حالين: إما عالماً أو متعلماً، فإنْ لم يفعل فرط، فإنْ فرط ضيع، فإنْ ضيَّع أثم، وإنْ أثم سكن النار والذي بعث محمدا بالحق. (26)

 

د -عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله يقول: طلب العلم فريضة على كل مسلم، فاطلبوا العلم من مظانه، واقتبسوه من أهله فإن تعليمه لله حسنة، وطلبه عبادة، والمذاكرة به تسبيح، والعمل به جهاد، وتعليمه مَنْ لا يعلمه صدقة، وبذله لأهله قربة إلى الله تعالى لأنَّه معالم الحلال والحرام، ومنار سبل الجنة، والمونس في الوحشة، والصاحب في الغربة والوحدة، والمحدث في الخلوة، والدليل على السراء والضراء، والسلاح على الأعداء، والزين عند الأخلاء، يرفع الله به أقواماً فيجعلهم في الخير قادة تقتبس آثارهم، ويهتدي بفعالهم، وينتهي إلى رأيهم، وترغب الملائكة في خلتهم، وبأجنحتها تمسحهم، وفي صلاتها تبارك عليهم، يستغفر لهم كل رطب ويابس حتى حيتان البحر وهوامه، وسباع البر وأنعامه، إنَّ العلم حياة القلوب من الجهل، وضياء الأبصار من الظلمة، وقوة الأبدان من الضعف، يبلغ بالعبد منازل الأخيار، ومجالس الأبرار، والدرجات العلى في الدنيا والآخرة، الذكر فيه يعدل بالصيام، ومدارسته بالقيام، به يطاع الرب ويعبد، وبه توصل الأرحام، وبه يعرف الحلال والحرام، العلم أمام العمل، والعمل تابعه، يلهمه السعداء، ويحرمه الأشقياء، فطوبى لمن لم يحرمه الله منه حظه. (27)

 

ب-السيادة

هناك الكثير من البشر يسعون بكل ما أعطوا من القوة لنيل السيادة والوجاهة بين الناس، متصورين أنَّ ذلك من عوامل السعادة والنجاح، في حين أنَّ عوامل السعادة الحقيقية تكمن في انقياد العبد لمولاه، وتسخير كل ما أعطي في طاعة ربه سبحانه وتعالى، والأولياء والكُمَّل من البشر يجعلون سيادتهم ووجاهتهم ومقامهم طريقاً ووسيلة لكسب رضا الله تعالى ونيل القرب منه سبحانه وتعالى، شكراً وتقديرًا منهم لمولاهم على هذه النعمة، إذ جعلهم مقصدًا لضعفاء الناس، دون عكسه، وصاروا سبباً لقضاء حوائج الناس من خلال هذا المنصب أو ذلك الكمال، وبهذا الشكر العملي لهذه النعمة ينال التوفيق في عمله، والأعظم من ذلك هو نيله الرضا الإلهي وحبه وقربه من خلال هذا العمل.

 

إلا أنَّ الكثير من البشر يجهل أنَّ سيادته هذه إلهية أم شيطانية، ومن ثمّ يتألم ويحتار صاحب النفس الطيبة الإيمانية لجهله بحاله، خشية أن تكون سيادته شيطانية وهو لم يلتفت.

 

ويمكن تشخيص ومعرفة حاله من خلال عرض سيادته على المصاديق التي أشارت إليها الروايات الشريفة من قبيل:

 

أ-عن أمير المؤمنين عليه السلام: السيد من تحمّل أثقال إخوانه وأحسن مجاورة جيرانه.

 

ب- وعنه عليه السلام: السيد من لا يصانع، ولا يخادع، ولا تغرّه المطامع.

 

ج- عن أمير المؤمنين عليه السلام: ما ساد من احتاج إخوانه إلى غيره.

 

ولكي تعرف حقيقة أمر السيادة لدى الكُمّل من البشر انقل لك هذه الرواية عن ابن جمهور وغيره من أصحابنا قال: كان النجاشي وهو رجل من الدهاقين عاملاً على الأهواز وفارس، فقال بعض أهل عمله لأبي عبد الله عليه السلام: إنَّ في ديوان النجاشي عليَّ خراجاً وهو ممن يدين بطاعتك فإنَّ رأيت أنْ تكتب إليه كتاباً، قال، فكتب إليه كتاباً:

"بسم الله الرحمن الرحيم سر أخاك يسرك الله ".

 

فلما ورد عليه الكتاب وهو في مجلسه، فلما خلانا وله الكتاب، وقال: هذا كتاب أبي عبد الله عليه السلام فقبله ووضعه على عينيه ثم قال: ما حاجتك ؟

فقال: عليَّ خراج في ديوانك.

قال له: كم هو ؟

قال: هو عشرة آلاف درهم.

قال: فدعا كاتبه فأمره بأدائها عنه ثم اخرج مثله فأمره أنْ يثبتها له لقابل، ثم قال له هل سررتك ؟

قال: نعم.

قال: فأمر له بعشرة آلاف درهم أخرى.

فقال له: هل سررتك ؟

فقال: نعم، جعلت فداك.

فأمر له بمركب، ثم أمر له بجارية وغلام وتخت ثياب، في كل ذلك يقول هل سررتك ؟ فكلما قال نعم، زاده حتى فرغ.

قال له: احمل فرش هذا البيت الذي كنتَ جالساً فيه حين دفعتُ إليَّ كتاب مولاي فيه وارفع إليَّ جميع حوائجك.

قال: ففعل، وخرج الرجل فصار إلى أبي عبد الله عليه السلام بعد ذلك فحدثه بالحديث على جهته، جعل يستبشر بما فعله.

قال له الرجل: يا ابن رسول الله كأنَّه قد سرَّك ما فعل بي ؟

قال: إي والله لقد سرَّ الله ورسوله. (28)

 

انظر أيها العزيز: كيف تأثَّر النجاشي بأربع كلمات من الإمام الصادق عليه السلام،" وهي سر أخاك يسرك الله ". ففي بعض الأخبار أنَّه ناصفه كل شيء، وما ذلك إلا لأنَّه نظر إلى السيادة طريق وآلة ووسيلة إلى التقرب الله تعالى لا إلى النفس ورغباته وميوله، فنال سرور الإمام والنبي صلى الله عليه وآله وسلم. والأعظم منهما سرور الله تعالى ورضاه. رزقنا الله ذلك.

 

والذي يدل على أنَّ النجاشي أراد السيادة وسيلة إلى التقرب إلى لله تعالى لا إلى إشباع رغبات النفس والهوى، هو مقولة الإمام فيه وسروره منه، فإنَّه عليه السلام لا يستَر ولا يفرح من فعل المرائي أو العاصي، ولا يمدح أصحاب الهوى والميول الدنيوية قط، وأضف إلى ذلك ما ورد من اهتمامه – أي النجاشي - البالغ في تطبيق حدود الله تعالى، وأحكامها في هذا التولي والسيادة، ولم تغرّه المناصب الآنية والفانية، فعن عبد الله بن سليمان النوفلي قال: كنتُ عند جعفر بن محمد الصادق عليه السلام فإذا بمولى لعبد الله النجاشي قد ورد عليه فسلم وأوصل إليه كتابه، ففضَّه وقرأه، وإذا أول سطر فيه بسم الله الرحمن - إلى أنْ قال: - إنِّي بليت بولاية الأهواز فإنْ رأى سيدي ومولاي أنْ يحدّ لي حداً أو يمثّل لي مثالاً لأستدل به على ما يقربني إلى الله عزّ وجلّ وإلى رسوله، ويلخّص لي في كتابه ما يرى لي العمل به وفيما ابتذله، وأين أضع زكاتي وفيمن أصرفها، وبمَنْ آنس وإلى من أستريح، وبمن أثق وآمن وألجأ إليه في سري ؟ فعسى أنْ يخلِّصني الله بهدايتك فإنَّك حجة الله على خلقه، وأمينه في بلاده، لا زالتْ نعمته عليك.

 

قال عبد الله بن سليمان: فأجابه أبو عبد الله عليه السلام: بسم الله الرحمن الرحيم حاطك الله بصنعه ولطف بك بمنِّه، وكلأك برعايته فإنَّه ولي ذلك أما بعد:

 

فقد جاءني رسولك بكتابك فقرأته، وفهمت جميع ما ذكرت وسألته عنه، وزعمت أنَّك بليت بولاية الأهواز فسرني ذلك وساءني، وسأخبرك بما ساءني من ذلك، وما سرّني إنْ شاء الله.

 

فأما سروري بولايتك، فقلتُ: عسى أنْ يغيث الله بك ملهوفاً خائفاً من آل محمد عليهم السلام، ويعزّ بك ذليلهم، ويكسو بك عاريهم، ويقوى بك ضعيفهم، ويطفئ بك نار المخالفين عنهم.

 

وأما الذي ساءني من ذلك فإنَّ أدنى ما أخاف عليك أنْ تعثر بولي لنا فلا تشم حظيرة القُدُس، فإنِّي ملخص لك جميع ما سألت عنه إنْ أنت عملت به ولم تجاوزه، رجوت أنْ تسلم إنْ شاء الله.

 

أخبرني يا عبد الله، أبي، عن آبائه، عن علي بن أبي طالب عليهم السلام، عن رسول الله صلى الله عليه وآله أنَّه قال: من استشاره أخوه المؤمن فلم يمحضه النصيحة سلبه الله لبَّه.

 

واعلم أنَََِّي سأشير عليك برأي إنْ أنت عملت به تخلَّصت مما أنت متخوفة، واعلم أنَّ خلاصك مما بك من حقن الدماء، وكفّ الأذى عن أولياء الله، والرفق بالرعية، والتأني وحسن المعاشرة مع لين في غير ضعف، وشدّة في غير عنف، ومداراة صاحبك، ومن يرد عليك من رسله، وارتق فتق رعيتك بأنْ توقفهم على ما وافق الحق والعدل إنْ شاء الله، وإياك والسعاة وأهل النمائم فلا يلتزقن بك أحد منهم، ولا يراك الله يوماً وليلة وأنت تقبل منهم صرفاً ولا عدلاً، فيسخط الله عليك، ويهتك سترك، واحذر مكر خوز الأهواز فإنَّ أبي أخبرني، عن آبائه، عن أمير المؤمنين عليهم السلام أنَّه قال: إنَّ الإيمان لا يثبت في قلب يهودي ولا خوزي أبداً.

 

فأما مَنْ تأنس به وتستريح إليه وتلجئ أمورك إليه فذلك الرجل الممتحن المستبصر الأمين الموافق لك على دينك، وميِّز عوامك وجرِّب الفريقين، فإنْ رأيت هناك رشداً فشأنك وإياه، وإياك أنْ تعطى درهماً أو تخلع ثوباً أو تحمل على دابة في غير ذات الله لشاعر أو مضحك أو ممتزح إلا أعطيت مثله في ذات الله، ولتكن جوائزك وعطاياك وخلعك للقواد والرسل والأجناد وأصحاب الرسائل وأصحاب الشرط والأخماس، وما أردت أنْ تصرفه في وجوه البر والنجاح والفتوة والصدقة والحج والمشرب والكسوة التي تصلي فيها وتصل بها والهدية التي تهديها إلى الله عزّ وجلّ وإلى رسوله صلى الله عليه وآله من أطيب كسبك.

 

يا عبد الله: اجهد أنْ لا تكنز ذهباً ولا فضة ً فتكون من أهل هذه الآية: ﴿وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللّهِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ﴾(29)، ولا تستصغرن من حلو ولا من فضل طعام تصرفه في بطون خالية تسكن بها غضب الرب تبارك وتعالى.

 

واعلم أنِّي سمعت أبي يحدث، عن آبائه، عن أمير المؤمنين عليهم السلام أنه سمع عن النبي صلى الله عليه وآله يقول لأصحابه يوما ً: ما آمن بالله واليوم الآخر مَنْ بات شبعاناً وجاره جائع.

فقلنا: هلكنا يا رسول الله.

فقال: من فضل طعامكم، ومن فضل تمركم ورزقكم وخلقكم وخرقكم تطفؤون بها غضب الرب.

وسأنبئك بهوان الدنيا وهوان شرفها على من مضى من السلف والتابعين. ثم ذكر حديث زهد أمير المؤمنين عليه السلام في الدنيا وطلاقه لها - إلى أنْ قال: - وقد وجهت إليك بمكارم الدنيا والآخرة عن الصادق المصدق رسول الله صلى الله عليه وآله، فإن أنت عملت بما نصحت لك في كتابي هذا، ثم كانت عليك من الذنوب والخطايا كمثل أوزان الجبال وأمواج البحار رجوت الله أنْ يتجافى عنك جلَّ وعزَّ بقدرته.

يا عبد الله: إياك أنْ تخيف مؤمناً، فإنَّ أبي محمد بن علي حدثني عن أبيه، عن جده علي بن أبي طالب عليه السلام أنَّه كان يقول: مَنْ نظر إلى مؤمن نظرة ليخيفه بها أخافه الله يوم لا ظل إلا ظله، وحشره في صورة الذر لحمه وجسده وجميع أعضائه، حتى يورده مورده.

 

وحدثني أبي عن آبائه عن علي عليه السلام، عن النبي صلى الله عليه وآله قال: مَنْ أغاث لهفاناً من المؤمنين أغاثه الله يوم لا ظل إلا ظله، وآمنه يوم الفزع الأكبر وآمنه من سوء المنقلب، ومن قضى لأخيه المؤمن حاجة قضى الله له حوائج كثيرة مَنْ إحداها الجنة، ومَنْ كسى أخاه المؤمن من عري كساه الله من سندس الجنة وإستبرقها وحريرها، ولم يزل يخوض في رضوان الله ما دام على المكسو منه سلك، ومَنْ أطعم أخاه من جوع أطعمه الله من طيبات الجنة، ومَنْ سقاه من ظماء سقاه الله من الرحيق المختوم ريه، ومَنْ أخدم أخاه أخدمه الله من الولدان المخلدين، وأسكنه مع أوليائه الطاهرين، ومَنْ حمل أخاه المؤمن من رجلة حمله الله على ناقة من نوق الجنة، وباهى به الملائكة المقربين يوم القيامة، ومَنْ زوج أخاه المؤمن امرأة يأنس بها وتشد عضده ويستريح إليها زوجه الله من الحور العين، وآنسه بمن أحبه من الصديقين من أهل بيت نبيه وإخوانه وآنسهم به، ومَنْ أعان أخاه المؤمن على سلطان جائر أعانه الله على إجازة الصراط عند زلة الأقدام، ومَنْ زار أخاه إلى منزله لا لحاجة إليه كتب من زوار الله، وكان حقيقاً على الله أنْ يكرم زائره.

 

يا عبد الله: وحدثني أبي، عن آبائه، عن علي عليه السلام أنَّه سمع رسول الله صلى الله عليه وآله يقول لأصحابه يوما: معاشر الناس إنَّه ليس بمؤمن مَنْ آمن بلسانه ولم يؤمن بقلبه، فلا تتبعوا عثرات المؤمنين، فإنَّه من تتبع عثرة مؤمن اتبع الله عثراته يوم القيامة وفضحه في جوف بيته.

 

وحدثني أبي، عن آبائه، عن علي عليه السلام أنَّه قال: أخذ الله ميثاق المؤمن أنْ لا يصدق في مقالته، ولا ينتصف من عدوه، وعلى أنْ لا يشفي غيظه إلا بفضيحة نفسه، لأنَّ كل مؤمن ملجم، وذلك لغاية قصيرة، وراحة طويلة، وأخذ الله ميثاق المؤمن على أشياء أيسرها عليه مؤمن مثله يقول بمقالته يبغيه ويحسده، والشيطان يغويه ويضله، والسلطان يقفو أثره، ويتبع عثراته، وكافر بالله الذي هو مؤمن به يرى سفك دمه ديناً، وإباحة حريمه غنماً، فما بقاء المؤمن بعد هذا.

 

يا عبد الله: وحدثني أبي عن آبائه، عن علي عليه السلام عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: نزل على جبرئيل فقال: يا محمد إنَّ الله يقرأ عليك السلام ويقول: اشتققت للمؤمن اسماً من أسمائي، سميته مؤمناً، فالمؤمن مني وأنا منه، مَنْ استهان مؤمناً فقد استقبلني بالمحاربة.

 

يا عبد الله: وحدثني أبي، عن آبائه، عن علي عليه السلام عن النبي صلى الله عليه وآله قال يوماً: يا علي، لا تناظر رجلاً حتى تنظر في سريرته، فإنْ كانت سريرته حسنة فإنَّ الله عزَّ وجلَّ لم يكن ليخذل وليه، فإنْ تكن سريرته رديه فقد يكفيه مساوية، فلو جهدت أنْ تعمل به أكثر مما عمل من معاصي الله عزَّ وجلَّ ما قدرت عليه.

 

يا عبد الله: وحدثني أبي، عن آبائه، عن علي عليه السلام، عن النبي صلى الله عليه وآله أنَّه قال: أدنى الكفر أنْ يسمع الرجل من أخيه الكلمة فيحفظها عليه يريد أنْ يفضحه بها ﴿أُوْلَئِكَ لاَ خَلاَقَ لَهُمْ﴾.(30)

 

يا عبد الله، وحدثني أبي، عن آبائه، عن علي عليه السلام أنَّه قال: من قال في مؤمن ما رأت عيناه، وسمعت أذناه ما يشينه ويهدم مروءته فهو من الذين قال الله عزوجل جل ﴿إنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾(31)

 

يا عبد الله: وحدثني أبي، عن آبائه، عن علي عليه السلام قال: من روى عن أخيه المؤمن رواية يريد بها هدم مروءته وثلبه أوبقه الله بخطيئته حتى يأتي بمخرج مما قال، ولن يأتي بالمخرج منه أبداً، ومَنْ أدخل على أخيه المؤمن سروراً فقد أدخل على أهل البيت سروراً، ومَنْ أدخل على أهل البيت سروراً فقد أدخل على رسول الله صلى الله عليه وآله سروراًَ، ومَنْ أدخل على رسول الله صلى الله عليه وآله سروراً فقد سرَّ الله، ومن سرَّ الله فحقيق على الله عزَّ وجلَّ أنْ يدخله جنته.

 

ثم إنِّي أوصيك بتقوى الله، وإيثار طاعته، والاعتصام بحبله، فإنَّه من اعتصم بحبل الله فقد هدي إلى صراط مستقيم، فاتق الله ولا تؤثر أحداً على رضاه وهواه، فإنَّه وصية الله عزَّ وجلَّ إلى خلقه لا يقبل منهم غيرها، ولا يعظم سواها.

 

واعلم أنَّ الخلائق لم يوكلوا بشئ أعظم من التقوى، فإنَّه وصيتنا أهل البيت، فإنْ استطعت أنْ لا تنال من الدنيا شيئاً تسأل عنه غداً فافعل.

 

قال عبد الله بن سليمان: فلما وصل كتاب الصادق عليه السلام إلى النجاشي نظر فيه، وقال: صدق والله الذي لا إله إلا هو مولاي فما عمل أحد بما في هذا الكتاب إلا نجا، فلم يزل عبد الله يعمل به أيام حياته. (32)

 

ذكر الصمد

جاء في المصباح للشيخ الكفعمي، نقلاً عن العارف الشيخ رجب بن محمد البُرسي أنَّ: الصمد: ذاكره لا يجد ألم الجوع. (33)

لعل المراد من الجوع هو كل أنواع الحاجة والافتقار المادي والمعنوي إلى الناس، وهو كذلك فمَن كان خالقه وبارئه هو الله جبار السماوات والأرض الذي يعتمد كل شيء عليه، ولا يحتاج إلى شيء، كيف يعيش من يعرف هذه الحقيقة ألم الجوع والحاجة إلى الناس.

 

وقد قيل: إذا ضاقت بك الدنيا: فلا تقل يا رب عندي همّ كبير.. ولكن قل يا همّ عندي رب كبير.

 

المصدر: التخلق بأسماء الله

--------------------------------------------------------------------------------

1- مستدرك الوسائل- الميرزا النوري ج 5، ص 219- 220، ح6.

2- مستدرك الوسائل- الميرزا النوري ج 5، ص 219- 220، ح7.

3- المصباح- الشيخ الكفعمي، ص481.

4- سورة التوحيد: الآية 1- 2.

5- التوحيد- الشيخ الصدوق، ص 197.

6- المقصد الأسنى- الغزالي، ص213.

7- التوحيد- الشيخ الصدوق، ص90، ح3.

8- سورة آل عمران: الآية 18.

9- في حال الوصل، وهذا معنى الإدغام اللغوي. من تعليقات المحقق السيد هاشم الحسيني الطهراني على المصدر.

10- التوحيد- الشيخ الصدوق، ص 92-93،ح6.

11- التوحيد- الشيخ الصدوق، ص 93،ح7.

12- التوحيد- الشيخ الصدوق، ص 94، ح10.

13- سورة الإخلاص: الآية 2.

14- سورة العنكبوت: الآية 65.

15- سورة لقمان: الآية 32.

16- سورة يونس: الآية 22.

17- الكافي- الشيخ الكليني ج 2، ص63، ح 1.

18- أسعف حاجته أي قضاها له وفى بعض النسخ. لا يسعف وفى أكثرها لا تسعف و كذا ولا تنجح فهما بالتاء على بناء المفعول وبالياء على بناء الفاعل، والنجاح: الفوز وفى بعض النسخ لا يبلغ أملك.

19- أي لأبعدنه وأزيلنه.

20- أي تحت قدرتي.

21- تشبيه الفكر باليد مكنية وإثبات القرع له تخييلية وذكر الباب ترشيح

22- أي وعدى الإجابة لهم.

23- في بعض النسخ أفتراني.

24- بخله بالتشديد أي نسبه إلى البخل. تنبيه: أن الهوامش المتقدمة مأخوذة من المصدر. تعليقات علي اكبر الغفاري.

25- الكافي- الشيخ الكليني ج 2، ص 64- 65، ح 7..

26- المقصد الأسنى- الغزالي، ص 213.

27- ميزان الحكمة- الشيخ محمد الري شهري ج6، ص 453.

28- بحار الأنوار- العلامة المجلسي ج1، ص 164، ح2.

29- بحار الأنوار- العلامة المجلسي ج 1، ص170، ح 22.

30- بحار الأنوار- العلامة المجلسي ج 1، ص171، ح 24.

31- تهذيب الأحكام- الشيخ الطوسي ج 6، ص 333، 334، ح 46.

32- سورة آل عمران: الآية 77.

33- سورة النور: الآية 19.

المصدر :
العلامات :
آراء المستخدمين (0)
إرسال الرأي