
السبيل إلى مقام الصديقين والشهداء
لا شك ان بلوغ مقام الصديقين والشهداء، لهي أمنية في غاية السمو؛ فهل لبلوغها من سبيل؟
نعم؛ ان الباب الأوسع للدخول إلى مقام الصديقين والشهداء، هو التسليم نفسيا وعمليا لله ولرسله. هذا ما بينته الآية (19) من سورة الحديد، حيث قال ربنا عزوجل: (والذين آمنوا بالله).
الإيمان تسليم مطلق للحق وعمل صالح مخلص بما في رسالته يستمر مع الإنسان حتى الموت، ولا يمكن لأحد ان يحقق ذلك إلا بالطاعة للقيادات الرسالية، أنبياء ورسلا وأئمة ومن يمثل خطهم في الحياة.
قال الله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله واطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم) (النساء/59) لأنهم حجة الله، وبابه الذي يؤتى منه. والإنتماء إليهم والتسليم لقيادتهم جزء لا يتجزء من الإيمان الحق، الذي يرفع الإنسان إلى درجة الصديقين والشهداء، وهل يصدق الإيمان إلا تولي الأولياء، والتجرد عن كل قيادة سواهم؟ وهل تتم شهادة الأمة الوسط إلا بشهادة الرسول عليها؟..
لذلك عطف الله تعالى على الإيمان به، الإيمان برسله، قائلا: (والذين آمنوا بالله ورسله) كلهم، لأن مسيرتهم واحدة متكاملة، وما جاءوا به من القيم وبينوه من العظات وجسدوه من السير الصالحة ذخرا للحضارة ينبغي للبشرية وبالذات المؤمنين ان ينتفعوا به، وان كانت الطاعة العملية تبقى للرسول فيما تناسخ من الشرائع، وإنما تتابعت الرسالات لتكميل المسيرة.
ولعل الحكمة في التأكيد على الإيمان بالرسل جميعا، انه حيث انتقد آنفا-في آيات سبقت- أهل الكتاب وبين إنحرافهم، كان من الممكن ان تنصرف بعض الأذهان إلى ان الطعن متوجه إلى الرسالات، فأزال السياق القرآني هذه الشبهة بالتأكيد على ضرورة الإيمان بها جميعا.
وإذا إرتفع الإنسان إلى مستوى الإيمان المتقدم بيانه، صار صديقا وشهيدا، وشملته إشارة القرآن: (أولئك هم الصديقون والشهداء عند ربهم).
ونقرأ في آية أخرى: (ومن يطع الله والرسول فاولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا) (النساء/ 69).
أي تجمع أنبل من هؤلاء، وأقرب إلى الله؟
بالطبع إختلف المفسرون والقراء عند هذه الآية، فوقف بعضهم عند كلمة (الصديقون) وإعتبر الواو في قوله تعالى: (والشهداء) للإستئناف، فألحق (عند ربهم لهم أجرهم ونورهم) بالشهداء وأوقفه عليهم. والذي يظهر أنه منصرف إلى الإثنين (الصديقون والشهداء)، لان الشهادة في القرآن ليست منصرفة إلى القتل بالسيف، وإنما هي تنصرف لكل من وافاه أجله مؤمنا بالله ورسله متحملا لمسؤوليته الرسالية، وهي بمعنى الشهود والحضور والميزان والتأثير.
روى العياشي عن منهال القصاب، قال: قلت لأبي عبد الله عليه السلام أدع الله ان يرزقني الشهادة. فقال: (ان المؤمن شهيد)، وقرأ هذه الآية (الحديد/19). [تفسير نور الثقلين، ج5، ص244]
وعن الحارث بن المغيرة قال: كنا عند أبي جعفر عليه السلام، فقال: (العارف منكم هذا الأمر، المنتظر له، المحتسب فيه الخير، كمن جاهد والله مع قائم آل محمد بسيف). ثم قال: (بل والله كمن جاهد مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بسيفه). ثم قال ثالثة: (بل والله كمن إستشهد مع رسول الله صلى الله عليه وآله في فسطاطه، وفيكم آية من كتاب الله). قلت: وأية آية جعلت فداك؟!
قال: قول الله: (والذين آمنوا بالله ورسله اولئك هم الصديقون والشهداء عند ربهم). قال: (صرتم والله شهداء عند ربكم)، [تفسير نور الثقلين، ج5، ص244].
وقال الإمام الصادق عليه السلام: (نزلت هذه الآية (الحديد/19) في المهاجرين الذين أخرجهم أهل مكة من ديارهم وأموالهم)، [تفسير نور الثقلين،ج3، ص503].
ان تصديق الشهادة الحقيقية يتجلى في الإيمان بالله والطاعة للقيادة الرسالية، لان المهم ان يكون الإنسان في خدمة الدين ليكون صديقا أو شهيدا، ثم لا يهم اين يكون وأي عمل إختار..
(لهم أجرهم ونورهم)
أما الأجر فيتمثل في الآخرة بالجنات، أما في الدنيا فقد يتجلى في النظام الحياتي المتكامل بماله من معطيات حضارية كريمة.
وأما النور فيتمثل في الآخرة بالضياء الذي يفقده الناس في المحشر، أما في الدنيا فهو ذلك الهدى الذي يمشي عليه المؤمن في كل حقول الحياة.
(والذين كفروا وكذبوا بآياتنا أولئك أصحاب الجحيم) في الدنيا، لأنهم كذبوا بالرسالة التي تشمل على النظم والمناهج لأبعاد الحياة السعيدة، بينما إختاروا الأنظمة الفاسدة التي لا ينتج عنها إلا الدمار والإنحطاط والعذاب، وفي الآخرة لأن الطريق الذي إختاروه يهديهم إلى النار.
صفاء السراج