
عوامل التحصين في المجتمع الإسلامي
يتمتع المجتمع الإسلامي بعوامل ومؤهلات عديدة تمنحه الأصالة والقوة، وتمده بأسباب المناعة والبقاء، وتساعده على الصراع والثبات والنصر.
وهذه العوامل التحصينية مجتمعة تمنح المجتمع الإسلامي القدرة على التخلص من أسباب التوتر والتخريب التي تؤدي إلى التمزق والانهيار.
وكما تساهم هذه العوامل في حذف الظواهر والمؤثرات السلبية، تساهم كذلك في دفع المجتمع الإسلامي باتجاه التطور والنمو الايجابي.
فهي تعمل على تكثيف الطاقة الحركية والبنائية في المجتمع الإسلامي، كما تساعد على تصعيد مسار الخط الحضاري، واثراء مسيرة الحياة، واغنائها بكل عناصر الخير والنماء.
ويمكننا أن نقسم هذه العوامل التحصينية التي تحفظ الحضارة والحياة الإسلامية من الانهيار والسقوط، وتحميها من التبعية والذوبان في أوعية الحضارات الأجنبية الغازية، يمكننا أن نقسم هذه العوامل إلى قسمين رئيسين حسب موقعهما ودورهما في عملية التحصين والوقاية والاثراء، وهما:
أ- منطلقات حضارية.
ب- ضوابط وقوى حضارية.
أ- منطلقات حضارية:
وتحتل هذه المنطلقات الحضارية موقع القاعدة في بناء شخصية الفرد والمجتمع والدولة، وعلى أساسها تقوم بنية الحياة الفكرية والثقافية، وتنظيم أنماط السلوك الإنساني، وأسلوب الحياة وتوجيه تطلعات الإنسان وغاياته.
وبهذه المنطلقات يقوم المجتمع الإسلامي وحدة تنظيمية وفكرية وغائية واجتماعية متماسكة، توجه طاقة الإنسان، وتوظف عناصر القوة والإبداع فيه باتجاه واحد، وتبنيه بناء سليما من التناقض وعوامل الهدم والصراع.
وتشتمل هذه المنطلقات الحضارية على:
1- نظرة حضارية شاملة تفسر الكون والحياة، وتحدد موقع الإنسان ودوره فيهما، وفق منهج تنظيمي متقن، يستهدف تفجير طاقة الإنسان، وتوجيهها نحو الخير والبناء، والحفاظ عليها من التيه والضياع، فالإسلام يقدم للإنسان اطروحة مترابطة كاملة من العقيدة والنظام والأخلاق، تتكفل تنظيم حياته الاجتماعية والفردية بطريقة تحفظ له إنسانيته، وتأخذ بيده إلى آفاق النور، والوضوح في الحياة.
قال تعالى:
(ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء). (النحل/ 89)
2- قدرة الإسلام على الهضم والاستيعاب الملتزم، فالإسلام بطبيعته الفكرية والقانونية والقيمية يسلك كقواعد كلية، ومفاهيم عامة متحررة من عالمي الزمان والمكان، وبهذه الطبيعة الكلية المطلقة اصبح قادرا على استيعاب النشاط الإنساني المتنامي، والتفاعل مع شتى صور الجهد البشري، في مجالات الحضارة والعلم والثقافة، إلا أن هذا التفاعل والاستيعاب يحافظ بصورة دائمة على الاصالة واستقلال الهوية، ويتحرك باستمرار نحو التأثير في النشاط البشري سواء ما ولد في محيطه واطاره، أو المتبنى والمستفاد من غيره بصبغته العقائدية الخاصة، وتحويله بعد هضمه إلى مادة فكرية سليمة وصبغة حضارية ملتزمة، كما يقوم بطرح وافراغ النفايات والافرازات الحضارية التي تنتجها الحضارات المنحلة المريضة أو تقذف بها المجتمعات الجاهلية المتفسخة:
(صبغة الله ومن أحسن من الله صبغة ونحن له عابدون). (البقرة/ 138)
كما فعل مع حضارات الأمم التي تفاعل معها، كالحضارة اليونانية والفارسية والهندوسية والصينية في عصور الإسلام الأولى.
3- مقياس عملي واضح المعالم: يملك الإسلام وحدة فكرية وتشريعية وأخلاقية واضحة المعالم، متماسكة الأهداف، متحدة الغاية، توفر للإنسان المسلم رؤية واضحة في مجال الفكر والسلوك وبناء الحياة، وتمكنه من التعامل بوعي وأصالة مع كل أنشطة الحضارة ومظاهر الإبداع المدني الذي تصنعه العقول والمساعي الإنسانية المبدعة، فقد وسع العلماء والباحثون الإسلاميون مدارات الفكر الإسلامي، ومدوا دائرة الاستيعاب والشمول فيه، فبحثوا العقيدة والتشريع والأخلاق والسلوك بحثا ضافيا، وأوضحوا الضوابط والقواعد والمقاييس الفكرية والعملية على ضوء القرآن وعلى هدى السنة الواضحة، قال تعالى:
(تلك حدود الله فلا تعتدوها ومن يتعد حدود الله فأولئك هم الظالمون). (البقرة/ 229)
ففي القرآن نقرأ تأكيدا معززا بالأدلة والمفاهيم على ضرورة الالتزام بالمقاييس المحددة، واخضاع كل وافد ومستجد لهذه القواعد والمقاييس، والعمل بما يوافقها، ولا يتعارض معها، ورفض الناشز والمتعارض مع تلك القيم والمقاييس والمبادئ الأساسية الواضحة، وفي القرآن الحكيم آيات كثيرة، وقرارات حاسمة بوجوب الرجوع إلى المقاييس والمبادئ الواضحة في الإسلام، قبل قبول أية فكرة، أو طريقة في الحياة، ليتم التأكد من تطابقها مع منهاج الإسلام، وطريقته في التفكير والعمل:
(واذا جاءهم امر من الامن او الخوف اذاعوا به ولو ردوه إلى الرسول والى اولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم ولو لا فضل الله عليكم ورحمته لا تبعتم الشيطان الا قليلا). (النساء/ 83)
(يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم فان تنازعتم في شيء فردوه الى الله والرسول ان كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلا). (النساء/ 59)
وفي الحديث الشريف نقرأ ما فيه الوضوح الكافي لمسيرة الإنسان المسلم وطريقته في الحياة، قال رسول الله (ص):
(تركتكم على المحجة البيضاء، ليلها كنهارها لا يزيغ عنها بعدي إلا هالك).
وقال (ص):
(إنما هما نجدان: نجد خير ونجد شر، فلا يكن نجد الشر أحب اليكم من نجد الخير).
وهكذا تعمل هذه المنطلقات الأساسية على بناء الحياة والمجتمع الإسلامي، وتأخذ على عاتقها توضيح شخصية الحضارة الإسلامية، وحمابة الفرد والمجتمع المسلم من التبعية والذوبان والتمزق.
ب- ضوابط وقوى عملية:
وبالاضافة إلى الأسس والمنطلقات العقائدية والقانونية والأخلاقية التي تسلك كقواعد وضوابط يشاد عليها بناء الحياة الإسلامية، ويتحدد وفق مفاهيمها نظام الحياة وطبيعة الحضارة، فبالاضافة إلى ذلك توجد هناك قوى وأسيجة تحصينية تحمي المجتمع من الغزو الخارجي أو الانهيار الداخلي الذي قد تتعرض له الحياة الإسلامية فتعمل هذه القوى والضوابط على حفظ الفرد المسلم، والمجتمع والدولة الإسلامية، وتيار الحياة، ليسير وفق منهج الإسلام وطريقته في تنظيم الحياة وقيادتها.
وهذه الأطر هي عبارة عن قوى رادعة، وحراسة أمينة متيقظة، تمارس دور الصيانة والتنقيح في مجالات الفكر والسلوك والاتجاه العام، وتخليصه من كل شائبة، أو وارد نقيض يفد على دنيا الإسلام.
وهذه العناصر الاطارية تملك قوة عملية، وصلاحيات قانونية واسعة، منحها إياها المبدأ الإسلامي باعتبارها الأدوات التنفيذية التي تقوم بدور التحصين والحماية، وقوامها العناصر الرئيسية التالية:
1- الرأي العام الإسلامي ومسؤولية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر:
يحتل الرأي العام مركز الضغط والتأثير على حياة الأفراد والجماعات والمؤسسات الاجتماعية وعلى السلطة ومؤسساتها وأجهزتها المختلفة، وبامكانه أن يمارس دور الحماية وينهض باعباء الحراسة في المجتمع.
لذلك جعل الإسلام الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، (مسؤولية الأصلاح الاجتماعي) ومحاربة الفساد والتدهور واجبا على الأمة الإسلامية لحماية الحياة الإسلامية والنظام الإسلامي والالتزام الفكري والسلوكي.
وجعل هذا الواجب التعبدي الخطير واجبا كفائيا على عموم المسلمين القادرين ليكون مسؤولية جماعية لا تسقط عن أحد من أفراد المجتمع إلا بعد تحقق أغراضها، ونجاح مهمتها الاصلاحية في الحياة، وقد خاطب القرآن الكريم الأمة الإسلامية بقوله:
(ولتكن منكم أمة يدعون الى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون). (آل عمران/ 104)
وبهذه الطريقة العبادية، وبهذا التكليف التشريعي أحاط الإسلام المبادئ الإسلامية والمجتمع الإسلامي بسور من الحماية والصيانة.
2- الفقهاء والعلماء والمفكرون الإسلاميون:
لقد شكل الفقهاء والعلماء والفلاسفة والمفكرون الإسلاميون قوة حضارية رادعة وسدا منيعا أمام تيارات الهدم والتخريب الفلسفية والسياسية والعقائدية والأخلاقية منذ صدر الإسلام وحتى يومنا الحاضر، بما قاموا به من رد على الفلسفات والنظريات والمبادئ الغريبة على العقيدة الإسلامية وشخصوا موارد الانحراف والتناقض مع الفكر والعقيدة الإسلامية كما حصل بالنسبة للفلسفة اليونانية والهندية والفارسية القديمة والأفكار الاسرائيلية والكهنية.
وفي العصر الحاضر مارس العلماء والمفكرون الإسلاميون وخصوصا في هذا القرن الرد على الفكر الماركسي والغربي الرأسمالي والوجودي وأمثاله، كما جابهوا الحملة الصليبية التي قادها المستشرقون ضد الفكر الإسلامي.
لقد كان لهذه القوة الفكرية الدور التحصيني الكبير للعقيدة والفكر والحضارة الإسلامية، ولولا هذه الجهود العلمية العملاقة لتسربت الأفكار والمبادئ الغريبة عن روح الإسلام الى صميم الفكر والحضارة الإسلامية ولدب الانحراف إلى ذلك الكيان الفكري المتماسك.
وبالاضافة إلى الدور الفكري والثقافي، فقد كان لعلماء الإسلام دور سياسي بارز في قيادة الأمة الإسلامية ضد الاحتلال الأجنبي في البلاد التي ابتليت بالغزو الاستعماري جميعها.
لقد مثل العلماء المجاهدون دور الطليعة في الدفاع عن الإسلام وحماية الأمة من الانحراف والسقوط، لذلك كانوا قوة حضارية وضابطا من ضوابط التحصين الحضاري في الأمة الإسلامية نظرا لما يتمتعون به من سلامة في منهج التفكير واستيعاب لاصول الإسلام واحكامه، وقد جعل الإسلام الولاية للفقيه المتصف بالاستقامة والكفاءة ليستطيع ممارسة دوره الرسالي والقيادي في الأمة.
لقد مارس الفقهاء عبر مراحل التاريخ عملية استنباط الأحكام والقوانين الإسلامية من أدلتها الشرعية لحل المشاكل الاجتماعية وتغطية المساحات الحياتية المختلفة، كالاقتصاد والمال والتجارة والأسرة وغيرها، وبذا أغنوا الفكر التشريعي عن اللجوء الى النظريات والمبادئ التي تحاول أن تصور للمسلمين عجز الإسلام عن مسايرة الحياة لتطرح نفسها بديلا عنه.
ولقد كان الرسول الكريم (ص) معبرا عن هذه الحقائق حين قال:
(الفقهاء أمناء الرسل ما لم يدخلوا في الدنيا. قيل: يا رسول الله ما دخولهم في الدنيا؟ قال: اتباع السلطان، فاذا فعلوا ذلك فاحذروهم على أديانكم).
(اذا ظهرت البدع في أمتي فليظهر العالم علمه فمن لم يفعل فعليه لعنة الله).
وروى جعفر بن محمد الصادق (ع) عن رسول الله (ص):
(يحمل هذا الدين في كل قرن عدول ينفون عنه تأويل المبطلين وتحريف الغالين وانتحال الجاهلين كما ينفي الكير خبث الحديد).
إن الرسول الكريم (ص) حين يعطي هذا المقام للعلماء، انما كان يعني العلماء الذين وعوا كتاب الله وسنة نبيه وعملوا بهما ودعوا اليهما ولم يتواطأوا مع ظالم أو يستكوا على منكر:
(الذين يبلغون رسالات الله ويخشونه ولا يخشون أحدا إلا الله). (الأحزاب/ 39)
3- الدولة والسلطة القانونية:
(الذين ان مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة). (الحج/ 41)
حمل الإسلام الدولة الإسلامية مسؤولية الحفاظ على الدين الإسلامي وتطبيقه ونشره، والدفاع عنه، واعطى الدولة صلاحيات واسعة، فهي المسؤولة عن تربية الأمة وتوجيهها، وصياغة حياتها وفق مبادئ دستورية إسلامية واضحة المعالم والاتجاه، ذلك لأن الدولة هي التي تتولى مهمة توجيه الحياة الاجتماعية كالتربية والتعليم والاعلام وتخطيط البرامج الحياتية ومشاريع الاقتصاد ومؤسسات المال والادارة، لذلك فان سياسة الدولة وفلسفتها الاجتماعية تنعكس بشكل مباشر على حياة المجتمع، وتتحمل مسؤولية البناء الأخلاقي والحضاري والعقائدي له، ولذلك تسببت الدول المنحرفة بحرف الشعوب والأمم واشاعة الفساد والفحشاء والانحراف.
وعن طريق السلطة القانونية للدولة يمكن الحفاظ على بناء الأمة الاسلامية، وحماية تيار الحياة الإسلامي، ومواصلة سير الحضارة الإسلامية، والحيلولة دون محاولات الهدم والتخريب الموجه ضد الإسلام، أما حين تغيب هذه السلطة الشرعية المخلصة، فان الحضارة الإسلامية والحياة الإسلامية تصير معرضة للخطر، ومهددة بالانهيار، ويشكل القضاء والقانون الجنائي الإسلامي أحد الأسس الرئيسة لحماية الحضارة والمجتمع الإسلامي من السقوط والانهيار.
4- الجهاد:
(يا أيها الذين آمنوا اذا لقيتم فئة فأثبتوا واذكروا الله كثيرا لعلكم تفلحون). (الأنفال/ 45)
الجهاد فريضة وأداة أساسية من أدوات حماية الإسلام والحفاظ على دولته وحضارته وأمتة ومصالحها المشروعة في الحياة.
والإسلام حينما أعطى الأمة الإسلامية حق استعمال القوة لنشر الإسلام عندما تعجز الوسائل السلمية لانقاذ البشرية من الضلال والفساد والتخلف والإنساني، أعطاها حق القيمومة والدور القيادي للبشرية والنهوض بمهمة اصلاح الإنسان وهدايته، كما وضع هذا التشريع الأمة الإسلامية بموقع القوة والإيجابية والمبادرة، ومنحها الهيبة بالتصاغر والخوف أمامها.
وقد صنع الجهاد من الأمة الإسلامية أمة قوية منيعة، مهيبة الجانب، مرهوبة الكيان، لايجرؤ عليها أحد، ولا يهددها خطر.
وعندما ضعفت الأمة الإسلامية وماتت روح الجهاد والكفاح، واستسلمت للضعف والاسترخاء، تكالب عليها أعداؤها، وخنعت للغزو والاستعمار والتبعية الفكرية والسياسية والاقتصادية... الخ.
فتحولت من أمة قوية الى أمة منهارة تابعة مقلدة، لذا فان الجهاد مصدر للقوة والتحصين الحضاري.
وكما فرض الجهاد من أجل الدعوة الى الإسلام ونشر مبادئ الهدى، وانقاذ البشرية من شرور الجاهلية والطغيان، كذلك شرع الإسلام الجهاد وأوجبه من أجل (الدفاع) عن المقدسات الإسلامية ومن أجل حماية العقيدة والوطن الإسلامي، ومن أجل ارغام الحكام المنحرفين والطغاة على تطبيق الإسلام، وعدم الوقوف بوجه الأمة، ولئلا يستبد بها ظالم أو يتسلط عليها عميل او منحرف، لذلك نجد القرآن الحكيم يخاطب المسلمين بقوله:
(وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله). (الأنفال/ 39)
ويأتي قول الإمام علي (ع) إيضاحا وبيانا لأهمية الجهاد وقيمته الحضارية:
(ان الله فرض الجهاد وجعله نصره وناصره، والله ما صلحت دنيا ولا دين إلا به).
فهذه الدعائم الأربع هي المرتكزات الأساسية التي تشكل السور والحارس الأمين والدرع الواقي للعقيدة والأمة والحضارة والإسلامية، وتحميها من الانحراف والانهيار والسقوط، وتجعل بيدها المشروعية القانونية لاستعمال القوة لحماية الإسلام والأمة الإسلامية من أي خطر يهددها.