
الإبـداع الإداري
الرؤية الفلسفية للتعليم بصورة عامة تقول انّ الغاية البعيدة لطلب العلم إنما تكمن في تهيئة أجيال كفوءة ومسلحة بالعلم والمعرفة لكي يكون بإمكانهم أن يخدموا الحياة بما يحقق السير باتجاه الكمالات العليا التي يسعى اليها الانسان.
والرؤية التكتيكية تقول ان غاية التعليم أن يخرج كوادر متخصصة لشتى المؤسسات العاملة على الساحات العملية من صحة وزراعة وصناعة وما شابه.
وإذا فإننا أمام نظرتين مستنبطتين واحدة من الأخرى، واحدة تنظر الى المستقبل بشكله العام وهي الفكرة السامية العليا لهدف التعليم، أما الأخرى فإنها تعني مرحلة ما من الزمن قد تكون أكثر من خمسين عاماً أو أكثر وقد تكون أقل فهي ليست محددة في الوقت ولكنها بالتأكيد تعني الواقع العملي الذي يتطلب المباشرة، في حين تكون النظرة الفلسفية فضفاضة غير محددة حتى بالتخمين ويمكن أن تخمن بالظن فنقول قد يأتي أكل التعليم من وجهة النظر الفلسفية بعد مائتي عام أو أكثر وقد يؤتي أكله بعد مائة عام.
والغاية من إدراج هذه المقدمة هي الأهداف التي ينبغي أن تضعها المؤسسة في الحسبان ويمكن أن نضع ذلك في صيغة سؤال: ما هو الهدف القريب للمؤسسة؟
ما هو الهدف البعيد وكيف يقوم الهدف العاجل بترصين الهدف الأبعد؟
المؤسسات الناجحة يجب أن لا تقف عند حدّ الكفاءة، بمعنى أن تقتنع بالقيام بأعمالها بطريقة صحيحة وتؤدي وظيفتها الملقاة على عاتقها بأمانة وإخلاص على الرغم من أهمية هذا وإنما يجب أن يكون طموحها أبعد من ذلك فترمي ببصرها الى الأبعد والأسمى حتى تكون متألقة أفكاراً وأداءً وأهدافاً.
والمؤسسة يجب أن تضع في حسبانها انّ الأفكار الناجحة هي الأفكار التي يمكن تطبيقها واقعاً وليست أفكاراً غير ممكنة، فان ذلك يضعها في مربع الأحلام والطوباويات المعرقلة والمستنزفة للجهود بلا طائل.
فالتفكير المنطقي يتدرج حسب قانون الأسباب خطوة فخطوة حتى يتوافق مع القواعد المنطقية، لذا فانه لا يتجاوز الأعراف والتقاليد والأنظمة المفروضة والأساليب المألوفة في الغالب.
المنطق يفرض على صاحبه مراعاة توازن الفكر مع العمل مع كسب الأرباح مع الخسائر الأقل.
عناصر العمل الأساسية في قطاع المؤسسات، هم:
المدراء.. العاملون.. المبدعون.
هذه العناصر الثلاث هي خليط التفاعل الحقيقي في العملية الانتاجية، فمتى كان الانسجام شائعاً في نطاقها كانت هناك فرص كبيرة للنجاح، والمؤثر الأول هي الإدارة الناجحة التي تستطيع أن ترعى روح الانسجام وهي أيضاً مسؤولة عن أسباب تنافر اللحمة العملية وتحدث شروخ عميقة بجسد المؤسسة.
أي انّ القرار الإداري هو العلة التي تقف وراء النجاح والفشل، وللتفكير الإنساني الدور البارز في طابع القرارات الإدارية، وفي الغالب فإنّ القرار العقلاني يحدد إما على أساس منطقي أو إبداعي خلاّق.
ليس هناك تعارضات حادة بين النمطية والتجديد وهذه حقيقة يجب على الادارة مراعاتها، فالفرق بينهما لا يتطلب بالضرورة اختراع طريقة مغايرة جديدة إنما المستقبل دائماً يتكئ على الماضي، يتكئ على تجارب خاضتها البشرية لتصل الى الأفضل، وهذا الأفضل مآله أن يكون قديماً لينهض إبداع إنساني آخر، لكنه في كل تلك الحالات لا يفقد الوشائج التي تربطه بالماضي كلياً، فهو يقوم على الأسس التي خلفها له ذلك الماضي أو الذي صار نمطياً في الزمن الراهن.
ومهمة الادارة أن تأخذ التجديد وتوازنه مع المتكئات الرصينة ليتسنى لها أن تساعد بصورة عملية في نمو الجديد وغير النمطي لتوصله الى الحالة الأفضل والأحسن الى ما لا نهاية.
بهذا يتحقق الهدف الآني في جعل التجارب ناجحة من مقياس تلائمها مع الواقع وتستفيد منه كل الاستفادة وكذلك السير الى الهدف البعيد من خلال التأسيس المتنامي للتجربة لكي تبلغ مداها وتتحول الى واقع عملي بانتظار التجديد الآخر القادم من رحم التجربة الجديدة التي تخوضها المؤسسة في وقتها الراهن والمستقبل.
- العاملون:
هم الطرف العملي أو فلنسمهم الجنود المشاة التي تنجز عليهم الانتصارات الحقيقية في الحروب، هم أيضاً الذين يكسبون المعركة السلمية الخيرة لإنجاز النماء والرخاء الاجتماعي من خلال المؤسسات التي يعملون فيها، فعلى الإدارة أن تجعل منهم جنوداً متحمسون بجعل عامل المشاركة في الربحية بحدود معقولة لكي يعطو جهودهم بصدق وإخلاص، وتثقيفهم بعوامل التعاون ومشاركتهم بندوات تنمية المؤسسة والتأكيد عليهم بأنهم جزء حيوي منها، كذلك مشاورتهم بالقرارات وأخذ المفيد الذي يطرحونه.
- المبدعون:
ينبغي دائماً التوجه الى صفات الأفراد وخصوصياتهم لإكتشاف الطاقات المبدعة فيهم، حتى لا نحرم العمل من فرصة أفضل للتقدم.
وحدد بعض العلماء الصفات الإبداعية في الأفراد بعدة مظاهر:
- النهم الى المعرفة والاستطلاع الشخصي في التجمعات.
- يميل المبدعون الى الفضول الإيجابي والبحث وعدم الرضا عن الراهن طلباً للتجديد والتطوير.
- إلتزامهم بهدف سام والتفاني في العمل من أجل الوصول الى غاياته.
- قدرتهم على تقديم الأفكار والاقتراحات المقنعة أو الخطط البديعة.
- التلقائية والمرونة التي يتمتعون بها في التعامل والثقة والتعاطي مع الأزمات والعمل الجاد.
والمبدع يكون من حقه أن يتمتع برعاية خاصة إكراماً له ومن أجل أن يقدم ابداعات جديدة.
والمبدع غالباً يتنزه عن السلبية والتزلف والنفاق كونها تتنافى مع شعوره وتفكيره المتحرر وهم لذلك - أي المبدعون - يتسمون بالصدق والبحث عن الحقيقة وهم أيضاً لا يبطنون شيئاً ويظهرون خلافه، ان بعض نمطيات العمل قد تساهم بضياع الفرصة من المبدع بكونه لا يخضع في كل الأحوال الى النمطيات الإدارية، كممارسة الإستعلاء الإداري أو محاولة فرض التزامات خارج النطاق العملي عليه حباً في ضمه قسراً في الآلية غير المنتجة، وهذه اللوائح والعلاقات الروتينية الصلبة غالباً ما تؤدي الى عدم الاستفادة من الإبداع والوقوف كحجر عثرة أمام التجديد.
ونستطيع أن نجمل الشروط الواجب اتخاذها من أجل التطوير الاداري والانتاجي والتجديد بما يلي:
1ـ تضمين خطة العمل للأهداف البعيدة والقريبة.
2ـ ايجاد السبل والمستلزمات لإشاعة الانسجام الاداري والانسجام بين الادارة والعمل أي العمّال ممن يباشرون العملية الانتاجية.
3ـ اتخاذ القرارات والأخذ بمبدأ المشاركة الجماعية أي العمّال والاداريون.
4ـ البحث عن المبدعون ورعايتهم بصورة خاصة ومتميزة.
5ـ التثقيف بأسس التعاون والجوانب الانسانية الحميدة.
6ـ ايجاد مصلحة مادية ومعنوية للعامل في المؤسسة، بحيث تتصاعد تلك المصلحة مع الخط البياني للانتاج.
7ـ جعل الجو العام للمؤسسة جواً مبهجاً وليس غائماً بالقرارات الادارية الجامدة، واستهلاك الزمن بالمماطلات التي تزمع الادارة أن تروض بها العمّال أو المبدعون لكي ينصاعوا للسبل الروتينية، والاستعلاء الذي يتحكم ببعض الاداريين على حساب حيوية العمل.