الأخلاق في غياب الإسلام:
إن صناعة الإنسان المسلم الكامل، وبناء الأسرة الكريمة المتماسكة، وإقامة المجتمع الفاضل السعيد، هي أسمى أهداف بعثة الأنبياء والرسل عليهم السلام.
وإن أخطر ما استهدفته الجاهليات القديمة والحديثة في كل الأزمنة والعصور، هو اكتساح دعوتنا التوحيدية، وتقويض تشريعاتنا السماوية، وهدم أخلاقنا الربانية، التي صاغت خير أمة أخرجت للناس، فرداً واسرةً ومجتمعاً ودولة على مدى تاريخ الحضارات.
وبعد أن طغى طوفان الفساد الذي أعقب الغزو الاستعماري الكافر لبلاد المسلمين، عمد أول ما عمد إليه أعداء الإسلام الى هدم الجانب الأخلاقي في الشخصية الإسلامية بإشاعة الفساد الخلقي في كل جانب من جوانب حياتنا، وتقويض كل حصن من حصون أخلاقنا وآدابنا، حتى دبّ هذا الفساد الى كل ناحية، وتسرّب الى كل مجال.
وكان مما حَمَلهُ سيلُ هذا الطوفان من الأوبئة الخلقية الكذب والدجل، والحسد والنفاق، والفسق والفجور، والظلم والخيانة، والحمية والعصبية، والغش والتدليس، والطمع والجشع والمكر، والحيلة والفحش، والخلاعة، والحرص والبخل، والترف والتبذير، وسوء الظن بالله والرياء، وعقوق الوالدين وأكل السحت الحرام، وأخذ الرّشى، والمحسوبية والمنسوبية، وبخس المكيال والميزان، وأكل مال اليتيم ظلماً، ناهيك عن جرائم الالحاد والشرك، والقتل والسرقة، والزنا واللواط، وشرب الخمور، ولعب القمار، والعمالة والجاسوسية للمستعمر الكافر...الخ.
وفي فجر اليقظة الإسلامية الحاضرة، حين تعالت الدعوات الجهادية، وتصاعدت الحملات الاصلاحية والواعية الهادفة التي يقودها علماؤنا الأعلام ـ أيّدهم الله تعالى ونصرهم ـ وانبرى المؤمنون المجاهدون يقاومون بجرأة وبسالة هذا الانحلال والانهيار، باليد واللسان والقلب، أدّت هذه الجهود الخيّرة المباركة الى تضاؤل نسبة تلك المفاسد الخلقية، التي انتابت مجتمعاتنا في فترة غياب الإسلام عن الساحة، وظل القسم الآخر من هذه المفاسد شائعاً مع الأسف الشديد.
الأخلاق في ظل الإسلام:
من بين سائر الأمم منّ الله تعالى على أمتنا الإسلامية العزيزة الجاه عنده، الرفيعة المنزلة لديه، برسول جاء بشريعة سمحة تُطهّر العقول، وتزكّي النفوس، وتهذّب الطباع.
شريعة تطهّر العقول من أدران الالحاد والشرك، بعقيدة توحيدية كونية شاملة، تحلّق بالعقول السليمة الى أقصى آفاق المعرفة، وتنهض على أقوى الأدلة وأوضح البراهين.
شريعة تزكّي النفوس بشعائر العبادات، فتحقّق في الإنسان قمّة السموّ الروحي، والاخاء الإنساني، والتحرر النفسي، والمساواة بين يدي رب العالمين.
شريعة تهذّب الطباع بتعاليم خلقية هي غاية ما تحلم به البشرية في أوقى مدارج وتقدمها الحضاري.
قال تعالى:
{لقد مَنّ الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رَسولاً مِن أنفسهم يَتلو عليهم آياته ويُزكيهم ويُعلّمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبلُ لفي ضلال مُبين} . (آل عمران/164)
وإن الشيء الملموس والمحسوس في شريعتنا الإسلامية الغرّاء هو أن الأخلاق الفاضلة هي الإطار العام لكل ركائزها العقيدية وقواعدها التشريعية، فهي سمة عامة مشتركة، يتّسم بها الإسلام.
* نجدها في طلب العلم، كما نجدها في المعارك الجهادية. يقول تعالى:
{وقل ربّ زدني علماً}. (طه/114)
فهذا مظهر من مظاهر التواضع النفسي في طلب العلم والاستزادة منه، كما أنه صورة تجسيدية من صور الإقرار بالنقص والاعتراف بالعبودية للخالق الفرد الصمد.
ويقول سبحانه:
{وقاتلوا في سبيل الله الذين يُقاتلونكم ولا تعتدوا إن الله لا يُحب المعتدين}. (البقرة/190)
فقواعد العدالة والنبل والخلق الرفيع، محفوظة في الإسلام حتى مع الأعداء حين تشتبك الأسنّة وتستعر الحرب.
* ونلحظ هذه السمة في أصول المجادلة مع أهل الكتاب، كما نلحظها في مجالات الانفاق والبرّ والاحسان.
يقول عز وجل:
{وجادلهم بالتي هي أحسن}. (النحل/125)
فليس الخلاف في الرأي أو العقيدة، مدعاة الى إساءة الخلق أو استعمال القسوة والشدّة، بل إنّ منهج الإسلام العظيم يحضّ على حسن الخلق باعتباره خير وسيلة الى الاقناع والهداية والارشاد. ويقول سبحانه:
{قول معروف ومغفرة خير من صدقة يتبعها أذى}. (البقرة/263)
{يا أيها الذين آمنوا لا تُبطلوا صدقاتكم بالمنّ والأذى}. (البقرة/264)
فالمنفق في سبيل الله، والمحسن الى عباد الله لا ينبغي له أن يَمُنّ أو يستكثر، لأن عمله هذا حسنة، ومن جاء بالحسنة فله عشر أمثالها.
* وتتجلى هذه السمة في العبادات، كما تتجلى في المعاملات. يقول سبحانه في تهذيب سلوكية المصلّين:
{فويل للمُصلّين * الذين هُم عن صلاتهم ساهون}. (الماعون/ 4 ـ 5)
{وإذا قامُوا الى الصلاة قامُوا كُسالى}. (النساء/142)
فليس أداء الصلاة، وكذا سائر العبادات، يحقّق هدف التشريع الإسلامي، إذا خلا من الخلق الكريم، والأدب الرفيع، والسلوك القويم.
ويقول عزّ وجلّ:
{وَعاشروهُنّ بالمعروفِ}. (النساء/19)
{فَمن عُفي له من أخيه شيء فاتّباع بالمعروف وأداء إليه بإحسان}. (البقرة/178)
فعقود النكاح، وأحكام القصاص والديات، وسائر المعاملات والايقاعات محاطة بسياج من دماثة الخلق الإسلامي الرفيع.
فالأخلاقية الإسلامية صفة مشتركة في كل ما جاء به الإسلام، ومن أجل أن تؤدّي الرسالة الغرّاء دورها التربوي، في رفعة الإنسان، وتقدم الحضارة، وسعادة البشرية، على أتم وأكمل نظام ولتصنع الإنسان الكريم. قال (ص):
(إنما بُعثتُ لأتمّم مكارم الأخلاق)(1).
الأخلاق الذميمة:
لقد بلغ حرص الإسلام على حسن الخلق أن جَعَله شرطاً ضرورياً لسلامة إيمان المسلم، فمن ساء خلقه ذهب إيمانه.
قال الإمام جعفر الصادق(ع):
(إنّ سوء الخُلق ليُفسد الإيمان، كما يُفسد الخلّ العسل)(2).
ومن البديهي ان الإيمان إذا فسد حل محله الكفر.
وإنّ مما يؤسف عليه أن هناك عاهات سلوكية قد ألفها الناس في مجالسهم وندواتهم، حتى في المسجد، قبل الصلاة أو بعدها، من غير مُنكر ولا رادٍ ولا رادع، كالغيبة والبهتان، والنميمة والفتنة، وهي موضّحة كما يلي:
1 ـ الغيبة:
هي: ذكرك أخاك بما يكره.
لقد جعل الإسلام العظيم اقتراف غيبة المؤمن بمثابة أكل لحمه ميتاً، وجعلها أشد من جريمة الزنا، قال تعالى:
{ولا يغتب بعضكم بعضاً أيحبّ أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتاً فكَرهتموهُ}. (الحجرات/12)
وقال الرسول(ص):
(إياكم والغيبة، فإن الغيبة أشد من الزنا، فإن الرجل قد يزني فيتوب، فيتوب الله عليه، وان صاحب الغيبة لا يفغر له حتى يغفر له صاحبه)(3).
والغيبة سبيل لإشاعة الفاحشة بين المؤمنين، لأن المغتاب يقول في أخيه المؤمن ما ستره الله.
أما الظاهر من تصرفاته مثل الحدّة والعجلة والحماقة، فليس من الغيبة في شيء، فكشف المستور هو هتك لشخصية المؤمن وإشاعة للمنكرات المخفية، والله تعالى كما حرّم الفواحش ما ظهر منها وما بطن، حرّم اشاعتها، قال سبحانه:
{إن الذين يحبّون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا لهم عذاب أليم في الدنيا والآخرة}. (التوبة/19)
وقد حذّر رسول الله(ص) من الغيبة، وأخبر أن الله تعالى للمغتاب بالمرصاد، يراقب سلوكه، ويذيقه وبال سوء خُلقه، حيث قال:
(لا تطلبوا عثرات المؤمنين فإن من تتبع عثرات أخيه تتبع الله عثراته، ومن تتبع الله عثراته يفضحه ولو في جوف بيته)(4).
2 ـ البهتان:
وهو أشد حرمة من الغيبة، لأن الإنسان إذا ذكر أخاه المؤمن بما فيه فقد اغتابه.
أما إذا ذكره بما ليس فيه، فقد بّهتّهُ أي كذب عليه واغتابه فالبهتان كذب وغيبة.
وإن من المعلوم أن الإيمان لا يجتمع مع الكذب، لأن الله تعالى يمقت الكذّاب، ولأن الكذب يسوق صاحبه الى النار، فكيف بالكذب مع الغيبة، وهو معنى البهتان.
ولقد بين القرآن الكريم معنى البهتان وجزاءه:
{وَمَن يكسب خطيئةً أو إثماً ثُمّ يَرم به بريئاً فقد احتمل بُهتاناً وإثماً مُبيناً}. (النساء/112)
وللبهتان آثار ضارّة، ومفاسد اجتماعية، فهو يؤدي الى فقدان الثقة بين الناس، وشيوع سوء الظن بينهم، وتوقف حركة التعاون والتآزر والتعاطف، التي هي سمة من سمات المجتمع الإسلامي.
3 ـ النميمة والفتنة:
كل قول أو فعل أو إشارة أو كتابة صدرت عن شخص لا يرضى بإشاعتها أو نقلها الى غيره، فإن نقلها أحد الى شخص ثالث فهو نمّام وعمله نميمة.
فالنميمة هي إفشاء سر، أو هتك ستر، لجلب الشر وإرادة السوء بالمحكي عنه، ولكن قد يكون الدافع للنميمة التودّد الى المحكي له، أو الخوض في فضول الحديث أو أي دافع آخر.
وليس كل ما يُرى من أحوال الناس ولا يرضون بإفشائه نميمة، فليس من النميمة ما فيه نفع المسلم أو المسلمين، وليس من النميمة ما فيه دفع معصية، أو فيه نصيحة مسلم، أو تحذيره من الوقوع في المصائد، كما أنه ليس من النميمة الشهادة على السارق بالسرقة وسائر الشهادات، وكذلك انكار المنكر، ومقاومة الظلم... الخ.
والنميمة من أقبح الرذائل الخلقية التي حرّمها الإسلام، وجعل الساعين بها بمثابة أولاد الزنا. قال سبحانه:
{هَمّاز مشّاء بنميم * مَنّاع للخير مُعتدٍ أثيمٍ * عُتُلّ بعد ذلك زَنيم}. (القلم/11ـ13)
ومن المعلوم أن الزنيم هو ولد الزنا.
أما الفتنة: فهي أخص من النميمة، فالفتنة هي النميمة التي لا يراد بها سوى الوقيعة بين شخصين أو أكثر، وإشعال نار العداوة والبغضاء بين المؤمنين.
وفي القرآن الكريم:
{والفتنة أشد من القتل}. (البقرة/191)
عبّر عن الكفر بالفتنة، وهو أشد من القتل، لأنّ في الكفر اقتتالاً وصراعاً، وشيوع ما أمر الله تعالى بتحريمه من أنواع الفواحش والفساد والمنكرات.
إن الإسلام العظيم رسالة خلقية رفيعة، جاءت لضبط سلوك الإنسان ومنعه من كل تصرف إلا ما ينفع الجماعة المؤمنة، ويعود بالخير على البشرية.
وإذا كانت الغيبة، والبهتان، والنميمة والفتنة، من الجرائم التي يساهم فيها اللسان بالقسط الأوفر، فقد أحكم الإسلام العظيم نشاط هذا العضو، ومنعه إلا من القول الصالح، والدعوة الى الصلاح. قال سبحانه:
{وقُل لعبادي يَقولوا التي هي أحسن إنّ الشّيطان يَنزَغُ بينهم إنّ الشيطان كان للإنسان عدواً مُبيناً}. (الاسراء/53)
{لا يُحبُّ الله الجهر بالسوء من القول إلا من ظُلم}. (النساء/ 148)
{كلمةً طيبةً كشجرة طيبة أصلُها ثابت وفرعها في السماء}. (ابراهيم/24)
{ومثَلُ كلمةٍ خبيثةٍ كشجرةٍ خبيثةٍ أجتُثت من فوق الأرض ما لها من قرار}. (ابراهيم/26)
وعن رسول الله(ص):
(من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت)(5).
(الكلمة الطيّبة صدقة)(6).