موقف بعض الشيعة من الأئمة(ع):
وهناك مشكلة، وهي أنّ بعض الأحاديث الواردة تدلّ على أنّ بعض الناس كان يشكك بالإمام(ع)، كما كان يحدث في حياة أكثر من إمام، حيث كانوا يقفون على بعض الأئمة ولا يتعدونهم إلى غيرهم، وقد سمّوا بـ(الواقفة)، فقد (كتب إليه الشيعة)، وبعض الواقع الشيعي آنذاك كانت تؤثر عليه مؤثرات كثيرة، حتى في قضية الإمامة من خلال الأخلاقية التي يعيشها بعض الناس في إخلاصهم للخطّ وابتعادهم عن الخطّ، والتاريخ يعيد نفسه، فكتب(ع): ((إنما خاطب الله العاقل ـ ولم يخاطب الذين لا يعقلون، لأنهم لا ينفتحون على خطاب الله (خَتَمَ اللّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ) ـ والناس فيّ على طبقات: المستبصر على سبيل نجاة ـ فهناك من يعيش البصيرة في عقله وقلبه وروحه من أجل أن ينجو عندما يقف بين يدي الله، ويحاول أن ينطلق على أساس الحجة والبرهان وهو يبحث عنهما، فإذا التقى بهما في عمق بصيرته انفتح على نتائج الحقيقة ـ متمسّك بالحق متعلّق بفرع الأصل غير شاكّ ولا مرتاب، لا يجد عني ملجأ ـ عندما تطبق عليه الدروب فإنه يلجأ إليّ لأنه يعرف أن الحقيقة عندي، وأنّ الهدى هنا.. ـ وطبقة لم تأخذ الحقّ من أهله ـ يعني أنها أخذت العلم ممّن لا يملك العلم أو ممن لا يملك مسؤوليته، وهذا هو حال الكثير من الناس ممن قد تجده يتزيّى بزيّ العلماء ولكنّه لا يملك تقوى العلم، ولا يملك عمقه، ولا يملك الطريقة والموقع الذي ينفتح فيه على العلم ـ وطبقة لم تأخذ الحقّ من أهله، فهم كراكب البحر يموج عند موجه ويسكن عند السكون ـ فليس عنده قاعدة ثابتة ينطلق منها، ولا أرض يقف عليها، كما قال الشاعر:
إذا الـريـح مالـت مـال حيـث تميـل
ـ فهؤلاء هم الضائعون، وطبقة استحوذ عليهم الشيطان شأنهم الردّ على أهل الحق ـ فلديهم عقد كثيرة وينطلقون من عقدهم النفسية ـ ودفع الحق بالباطل حسداً من عند أنفسهم ـ وما أكثر الحاسدين الذين يتحرّك الحسد في نفوسهم لينطلق في تصرفاتهم وسلوكياتهم ـ فدع من ذهب يميناً وشمالاً، فإنَّ الراعي إذا أراد أن يجمع غنمه جمعها بأهون سعي، وإياك والإذاعة ـ لأنه كانت هناك بعض الأمور السريّة التي تحمي الحق ـ وطلب الرياسة، فإنهما يدعوان إلى الهلكة)).
وخرج في بعض توقيعاته عند اختلاف قوم من شيعته في أمره ـ وانظروا كيف كان الإمام(ع) يعيش المرارة من الذين يحيطون به أو ممن يحسبون من أتباع أهل البيت(ع) ـ: ((ما مُني أحدٌ من آبائي بمثل ما مُنيت به من شكّ هذه العصابة فيّ، فإن كان هذا الأمر أمراً اعتقدتموه ودنتم به إلى وقت ثم ينقطع فللشك موضع ـ فقد تحصل لدى البعض شبهات وشكّ في بعض الأمور، لكنه يحاول أن يتحرّك من أجل أن يزيل الشك ليلتقي بالحقيقة ـ وإن كان متصلاً ما اتصلت أمور الله فما معنى هذا الشك))، لأنَّ الشك لا ينطلق من قاعدة.
وقال لشيعته وهو يوصيهم ـ والوصية هي للشيعة في الخطّ الإسلامي، لأنّ التشيّع ليس شيئاً زائداً عن الإسلام، بل هو الخط الأصيل للإسلام، وهذه الوصية مرويّة أيضاً عن الإمام الصادق(ع) مع بعض التغيير في الألفاظ: ((وأوصيكم بتقوى الله، والورع في دينكم، والاجتهاد لله ـ في معرفته وطاعته وفي عبادته ـ وصدق الحديث، وأداء الأمانة إلى من ائتمنكم من برّ أو فاجر، وطول السجود، وحسن الجوار، فبهذا جاء محمد(ص)، صلّوا في عشائرهم ـ يعني هؤلاء الذين يجاورونكم ممّن تختلفون معهم في المذهب ـ واشهدوا جنائزهم، وعودوا مرضاهم، وأدّوا حقوقهم، فإنّ الرجل منكم إذا ورع في دينه، وصدق في حديثه، وأدّى الأمانة، وحسّن خلقه مع الناس، قيل هذا شيعي، فيسرّني ذلك ـ لأنه سائر على الحق والاستقامة في خط الإسلام ـ اتقوا الله وكونوا زيناً ـ نتزين به ـ ولا تكونوا شيناً، جرّوا إلينا كلّ مودة ـ اجعلوا الناس يحبوننا، فلا تتحدثوا مع الناس بالحقد والبغضاء والسباب وما إلى ذلك ـ وادفعوا عنا كلّ قبيح، فإنه ما قيل فينا من حَسَنٍ فنحن أهله، وما قيل فينا من سوء فما نحن كذلك، لنا حق في كتاب الله، وقرابة من رسول الله، وتطهير من الله لا يدّعيه أحد غيرنا إلاّ كذّاب)).
هذه وصيته، فهل نعمل بوصيته؟ إنها تمثل الخط الإسلامي في عالم العبادة وفي عالم السلوك الاجتماعي الذي يجعل الإنسان في مجتمعه خيراً لكلّ مجتمعه، سواء مع الناس الذين يلتقي معهم في الخطّ، أو مع الذين يختلف معهم. وهكذا أن يكون الإنسان زيناً لمن ينتمي إليهم ولا يكون شيناً على من ينتمي إليهم، وذلك هو نهج رسول الله(ص): (وَإِنّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ). (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانفَضّوا مِنْ حَوْلِكَ). ((أكثروا ذكر الله ـ حتى يعيش الإيمان الحيّ المتحرّك في عقولكم وفي قلوبكم، لأنكم إذا ذكرتم الله ذكرتم أنفسكم في مسؤولياتكم، وإذا نسيتم الله نسيتم أنفسكم (وَلاَ تَكُونُوا كَالّذِينَ نَسُوا اللّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُم(ْ ـ وتلاوة القرآن، والصلاة على النبي، فإنّ الصلاة على رسول الله عشر حسنات. احفظوا ـ والخطاب لنا ـ ما وصّيتكم به، وأستودعكم الله وأقرأ عليكم السلام))، وعليك السلام أيها الإمام البرّ التقي.
وقال في نهاية المطاف عن الذين يستهينون ببعض الذنوب: ((من الذنوب التي لا تغفر، قول الرجل ليتني لا أؤاخذ إلا بهذا)). وقال(ع): ((إياكم ومحقرات الذنوب، فإنها تجتمع حتى تكون كباراً))، ثم قال(ع): ((الإشراك في الناس أخفى من دبيب النمل على المسح الأسود في الليلة المظلمة))، لأن الكثير من الناس قد يشركون بالله وهم لا يشعرون، عندما ينفتحون على رضا الناس عليهم بعيداً عن رضا الله عنهم، ولذلك فهم يقصدون الناس بالعمل ليرفعوا درجتهم عندهم ولا يقصدون الله ليتقرّبوا به إليه. وقد جاء في سيرة الإمام(ع) أنه عندما مرض، أرسلت إليه السلطة الكثير من الأطباء لمعالجته والبقاء إلى جانبه، حتى إذا قبضه الله إلى جواره أرسل الخليفة إلى العلماء والقضاة لينظروا إليه وليشهدوا أنه مات حتف أنفه حتى لا تتهم الخلافة بقتله. ويذكر المؤرخون أنه عندما أعلنت وفاته ضجّت سامراء ضجة واحدة، وانطلق كلّ الناس في تشييعه، وأرسل الخليفة إلى بيته من يفحص هل له ولد، ويفحص جواريه هل أن إحداهنَّ حامل، لأنهم كانوا يريدون أن يطمئنوا لانقطاع الإمامة، ولكنّ الله عز وجل أخفى وليّه بالطريقة التي حفظ بها هذا الولي الذي ينتظره العالم كلّه ليملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما ملئت ظلماً وجوراً، وصلى الله على الإمام الحسن العسكري(ع) وعلى آبائه(ع) وعلى ولده(ع) حجة الله في الأرض، سائلين الله أن ينفعنا ببركته وبركة آبائه، وأن يرزقنا شفاعتهم (يَوْمَ لاَ يَنفَعُ مَالٌ وَلاَ بَنُونَ* إِلّا مَنْ أَتَى اللّهَ بِقَلْبٍ سليم).
وهذه هي بعض آثار الإمام العسكري(ع) التي نريد أن ننفتح عليها لنـزداد علماً من علمه، ووعياً مما يعطينا من عناصر الوعي، وقد كنت ولا أزال أقول لكم: لا تقتصروا في علاقاتكم بالأئمة من أهل البيت(ع) على جانب المأساة، ولكن انطلقوا إلى جانب العلم الذي علّموه، والهدى الذي أرادوا لنا الاهتداء به، والنهج الذي نسير عليه: ((أحيوا أمرنا رحم الله من أحيا أمرنا)). أن نتعلّم علومهم وأن ننهج نهجهم، وأن نطلق سيرتهم كلها للعالم كله، ولا سيما العالم المعاصر، ليعرف مَن هم أهل البيت(ع)، لأنّ الكثيرين، حتى ممن ينتمون إلى أهل البيت(ع)، لا يعرفون مَن هم أهل البيت(ع) علماً وروحانية وحركة ومنهجاً.
كتابه إلى إسحاق بن إسماعيل النيسابوري:
يكتب إلى إسحاق النيسابوري قائلاً:
((سترنا الله وإيّاك بستره، وتولاّك في جميع أمورك بصنعه، فهمت كتابك، ونحن بحمد الله ونعمته أهلُ بيتٍ نرقُّ على أوليائنا، ونُسَرُّ بتتابع إحسان الله إليهم، وفضله لديهم، ونعتدُّ بكلِّ نعمةٍ يُنعمها الله تبارك وتعالى عليهم، والحمدُ لله ـ تقدّست أسماؤه ـ عليها مؤدّ شكرها، وأنا أقول الحمد لله أفضل ما حمده حامدُه إلى أبد الأبد بما منَّ الله عليك من رحمته ونجّاك من الهَلَكة وسهّل سبيلك على العقبة. وأيم الله، إنَّها لعقبةٌ كؤود، شديدٌ أمرها، صعبٌ مسلكُها، عظيمٌ بلاؤها..
فاعلم يقيناً يا إسحاق، أنَّه من خَرج من هذه الدنيا أعمى، فهو في الآخرة أعمى وأضلُّ سبيلاً، وذلك قول الله في محكم كتابه حكايةً عن الظالم إذ يقول: (رَبّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيراً* قَالَ كَذلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى)، وأيُّ آيةٍ أعظم من حجّة الله على خلقه وأمينه في بلاده وشهيده على عباده من بعد مَنْ سلف من آبائه الأولين النبيّين، وآبائه الآخرين الوصيّين، عليهم أجمعين السلام ورحمة الله وبركاته.
فأين يُتَاهُ بكم، وأين تذهبون كالأنعام على وجوهكم، عن الحقّ تصدفون وبالباطل تؤمنون وبنعمة الله تكفرون، أوتكونون ممن يؤمن ببعض الكتاب ويكفر ببعض، فما جزاء من يفعلُ ذلك منكم ومن غيركم إلاّ خزيٌ في الحياة الدنيا وطول عذابٍ في الآخرة الباقية.
إنَّ الله بمنِّه ورحمته لما فَرَض عليكم الفرائض، لم يفرض ذلك عليكم لحاجةٍ منه إليكم، بل برحمة منه ـ لا إله إلاَّ هو ـ عليكم، لِيَميزَ الخبيث من الطيّب، وليبتلي ما في صدوركم، وليمحّص ما في قلوبكم، لتتسابقوا إلى رحمة الله، ولتتفاضل منازلُكم في جنّته، ففرض عليكم الحجَّ والعمرة وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة والصوم والولاية)).
ونلاحظ في هذا الكتاب أنّ الإمام الحسن العسكري(ع) كان يتابع أوضاع شيعته في أمورهم السلبية والإيجابية مما يطرأ عليهم من خيرٍ وبلاء، فيعطيهم العاطفة والحنان، ثم يؤكد عليهم الالتزام بالقيادة بشكل كامل شامل، ويوجههم بالسير على خط الله في ما فرض عليهم من الواجبات، ليحصلوا على رضاه وعلى القرب منه من خلال طاعتهم له، إنه التواصل الشعوري والتوجيهي بين الإمامة والسائرين معها على الخط المستقيم.
الدعاء:
عن أبي هاشم الجعفري:
كتب إليه بعض مواليه يسأله أن يعلّمه دعاءً، فكتب إليه أن يدعو بهذا الدعاء: ((يا أسمع السامعين، ويا أبصر المبصرين، ويا أعزَّ الناظرين، ويا أسرعَ الحاسبين، ويا أرحم الراحمين، ويا أحكم الحاكمين، صلِّ على محمد وآل محمد، وأوسع لي في رزقي، ومُدَّ لي في عمري، وامنن عليَّ برحمتك، واجعلني ممن تنتصر به لدينك ولا تستبدل به غيري)).
قال أبو هاشم: فقلت في نفسي: اللهمّ اجعلني في حزبك وفي زمرتك.. فأقبل عليّ أبو محمد(ع) (العسكري) فقال: ((أنت في حزبه وزمرته، إذ كنت بالله مؤمناً، ولرسوله مصدِّقاً، ولأوليائه عارفاً، ولهم تابعا)).
وهنا ملاحظتان:
الأولى: إن هذا الدعاء يقدم للإنسان الانفتاح على الله بصفاته التي لا يقترب إليها أحد من خلقه، ما يوحي إليه بأنه القادر على قضاء حاجاته والرعاية له.. ثم التأكيد على الأمور الحية في حياته من التوسعة في الرزق والمدّ في العمر والمنّ عليه بالرحمة واختياره له لينتصر به لدينه ولا يستبدل غيره به، ما يؤكد هذه المسألة في حياة الإنسان المسلم الذي ينبغي له أن يفكر بتحمل المسؤولية الكاملة في تحريك طاقاته بالانتصار للدين في كل مواقعه الثقافية والسياسية والاجتماعية والأمنية، فلا يعيش الحياد في ساحة الصراع بين الإسلام وخصومه، بل يتخذ موقفه بالالتزام والدفاع عن الدين في كل معاركه.
الثانية: إن هذه اللفتة المسؤولة في الدعاء جعلت هذا الشخص يفكر أن يكون من حزب الله وفي زمرته، ويطلب من الله أن يجعله منهم لينطلق في خط الدعاة والمجاهدين والعاملين في سبيل الله.. وقد أكد الإمام له أنه في حزب الله وفي زمرته، لأنه يرتكز على قاعدة الإيمان بالله وبرسوله والمعرفة لأوليائه الذين يمثلون القيادة الصالحة الأمينة على الإسلام والمسلمين والمتابعة لهم في الخط المستقيم.