
الامام الحسین (ع) فی معترك الصراع

«حسین منّي و أنا من حسین، أحبّ الله من أحبّ حسیناً، حسینٌ سبطٌ من الأسباط».
الولادة المباركة:
(حسینٌ منّي) أمرٌ جليّ، فهو حفید الرسول (ص) و سبطه و ریحانته ، و قد ولد في بیت النبوة و مهبط الوحي سنة أربع للهجرة ، في الثالث من شعبان المعظم علی الأشهر في المدینة المنوّرة، من أبوین كریمین معصومین: هما علي بن أبي طالب ابن عم الرسول و وصیّه ، و فاطمة الزهراء بنت الرسول و بضعته. و قد حدّثت صفیة بنت عبدالمطلب عن طهارة الولادة المباركة هذه و توقع النبي و فرحه بها، إذ قالت : « لما سقط الحسین من فاطمة كنت بین یدیها ، فقال النبي(ص) هلمي إليّ بابني، فقلت یا رسول الله أنا لم أنظّمه بعدُ فقال : أأنت تنظّفیه!؟ إنّ الله قد نظّفه و طهّره. و روي أن رسول الله قام إلیه و أخذه ، فكان یسبّح و یهلّل و یمجد.»
لقد أرضع الأخلاق المحمدیة، و ربّي علی الشمائل العلویة، إذ كان رسول الله (ص) یحدب علیه و یُعنی به عنایة خاصة، و یمنحه من حنانه و محبته و وقته الشيء الكثیر، وقد أفاضت بهذا المصادر التاریخیة و كتب السیر و المظان، بما لا یمكن الاستشهاد به في هذه العالجة، حتی روی الرواة عن الامام الصادق (ع) أنه قال عن الحسین(ع): « كان یأتي النبي فیضع إیهامه في فمه فیمتصّ منها ما یكفیه الیومین و الثلاثة» فیرتشف من رحیق الرسالة، و ینمو لحمه و عظمه علی غذاء الاسلام ، و رواء الدوحة الهاشمیة « فكان النبي إذا رأی الحسین مقبلا قبّله و ضمّه إلی صدره و رشف ثنایاه و قال : فدیت من فدیته بابني ابراهیم».
و هكذا عاش الامام الحسین (ع) في كنف الوحي ست سنوات خضر مورقات یانعات، حتی وفاة جدّه الرسول الأعظم سنة عشرللهجرة في المدینة المنورة.
أمّا ( أنا من حسین)؟! فهذا ما تكفّلت بجوابه ضمناً هذه المقالة المتواضعة من خلال استجلاء البُعد الرسالي الممتد عن طریق نهضة الامام الحسین و ثورته في سبیل إصلاح دین جدّه ، إذ قال علیه السلام مبیّناً دواعي قیامه :« إنّي لم أخرج أشِراً، و لا بطِرا ، و لا مفسداً، و لا ظالماً، و إنما خرجت لطلب الإصلاح في أمّة جدّي، أرید أن آمر بالمعروف و أنهی عن المنكر، فمن قبلني بقبول الحقّ فالله أولی بالحق».
و لو لا ثورة الحسین هذه و نهضته الاصلاحیة الواعیة لحرّف الخط الرسالي، و زیّف الدین الاسلامي، و طمست معالم الشریعة المحمدیة الغرّاء ، و لظنّ الناس أنّ ولاة الأمر الظالمین الغاصبین الذین یتسلطون علی رقاب المسلمین نتیجة لظروف معیّنة، هم الممثلون الواقعیّون لهذا الدین ، و لظاعت الحقائق ، و انقلبت الموازین.
الفتوة الصاعدة:
بعد وفاة جدّه الرسول الأعظم (ص) توجهت عنایة أبیه الامام علي بن أبي طالب إلیه أكثر من ذي قبل، و راح یرعی فتوّته ـ و هو الفتی ـ و شبابه الصاعد كرعایته الحمیدة لأخیه الأكبر الامام الحسن(ع). و یعدّ كلاً منهما إعداداً خاصاً للقیام بدوره الإمامي المرسوم له ـ و ذلك عن طریق المواعظ الحسنة و الوصایا الحمیدة التي تزخر بها المظانّ من المصادرو « نهج البلاغة » ، إذ كان یرفع لهما كل یوم علماً من أخلاقه و فعاله ، و كان یصنع لهما ما كان یصنعه الرسول الكریم له ، حتی كأن فتوة الامام السحین (ع) كفتوة أبیه مضاءاً وصلابة في ذات الله لا تأخذه في الله لومة لائم ، إذ تروي لنا المصادر المعتبرة مواقفة البطولیة، و نقداته البناءة منذ نعومة أظفاره، و قد « عاش مع أبیه علي أمیر المؤمنین یتلقّی تعالیمه و ینهج نهجه ، و حضر معه حروبه ؛ في الجمل و صفّین و النهروان» ، و كان یصدع بالحقّ و كأنه یفرغ عن لسان أبیه، « فقد كان لمعاویة بالمرصد ، و حاسب ولاته أشد الحساب ، و لم یستطع معاویة بدهائه و تصنّعه في حلمه و مخاتلته في سیاسته أن یجلب ودّ الحسین و یكسبه إلی جنبه أو یهدّی ثورته و غضبه».
و كان الامام الحسین (ع) یعي دوره المنتظر لتسلّم أعباء الامامة و ثقل الإمانة بعد أخیه الامام الحسن (ع) ، المأمور بالصبر و الاحتساب في جنب الله ، و یا له من امتحان عجیب!! و مسؤولیة ضخمة ألقیت علی عاتقه بعد استشهاد أبیه أمیر المؤمنین سنة 40 للهجرةـ بعد تلك المحن و الحروب ـ في مسجد الكوفة و الصلاة بین شفتیه ، تلك المسؤولیة التي عرّضت شخصیته المقدسة للاستشهاد فداءً لأهداف الرساة الاسلامیة الغالیةـ و كان ذلك الصلح المفروض علیه مع معاویة استشهاداً من نوع خاصّ یقدمه لأمّة جدّه ، و نظرة بعیدة للمستقبل، و بذرة ثوریّة صامتة تمهّد لأسباب الثورة الحسینیة الهادرة ، بعد كشف الزیف الأموي المتلبّس بالنفاق و الریاء ، و بعد تساقط الأقنعة المموّهة لیبرز تحتها الوجه الظالم الطاغي، و یظهر علی حقیقته البشعة للعیان،« فإن معاویة بعد أن تم له السلطان علی البلاد الاسلامیة في عام الجماعة عالن الناس بطبیعة الحكم الجدید في كلمته التالیة: یا أهل الكوفة ، أترونني قاتلكتك علی الصلاة و الزكاة و الحج ؟ و قد علمت أنكم تصلّون و تزكون و تحجّون، و لكنّي قاتلتكم لأتمر علیكم و ألي رقابكم، و قد أتاني الله ذلك و أنتم كارهون، ألا إن كل دم أصیب في هذه مطلول، و كل شرط شرطته فتحت قدمي هاتین». فلم یعد الأمر ملتبساً لكل ذي مسكة عقل بأنّ هؤلاء الأدعیاء الطلقاء من بني أمیة قد تلبّسوا برداء الخلافة و الإمارة زوراً و بهتاناً، و قد كانت سیاسة معاویة « تقول علی المباديء التالیة:
الارهاب و التجویع
إحیاء النزعة القبلیة و استغلالها.
التحذیر باسم الدین و شلّ الروح الثوریة.
الإعداد القیادي:
لقد رأی الامام الحسین(ع) تخاذل بعض الأنصار عن أبیه بالأمس حین قامت الحرب بینه و بین (أهل الجمل) في البصرة، « كما رأی كیف لعبت ید التمویه و الدجل في عقول الناس ، و كیف عاثت الفتنة في المجتمع الاسلامي في بدایة عهده الأوّل ، و كان هو (ع) أحد القادة و من باشر الحرب بنفسه یوم الجمل ، و حضر معركة صفین و اشترك فیها و تولی قیادة بعض القطعات، و أدرك كیف امتدّت لجیش أبیه المتماسك أیدِ عابثة تثیر غبار التشكیك و توقد نار الفتنة باسم الاصلاح و المطالبة بالحق أو المحاكمة للقرآن».
كما عاش الامام الحسین مع أخیه الامام الحسن ـ علیهما السلام ـ بوعي عمیق ملؤه الاحترام و التقدیس لدور أخیه الذي لا یقدّر مثلَه، و لا یفهم مغزي صلحه إلّا شخصه، إذ لكل إمام دور معیّن یقوم به حسب متطلبات الحیاة المعاصرة و الظروف المحیطة به و حسب ما رسم له ، لذلك كان الامام الحسین لا یخالف للامام الحسن رأیاً « و لا یقطع دونه أمراً و لا یتقدّم علیه» حتی تسلّمه زمام القیادة و مسؤولیة الإمامة.
ما قبل الثورة و تتهاوی أقنعة الزیف ، و تظهر روح التسلط الأموي علی رقاب المسلمین ، و یعهد معاویة لابنه یزید الفجور بالخلافة ، و كأنها (ملك عضوض). و یتسلم الشاب الغریر مقالید الحكم في الشام ، و هو علی ما علیه من شخصیة مائعة مهزوزة طائشة، وصفها الامام الحسین(ع) في أحد كتبه لمعاویة حین علم بالمیثاق قائلاً: « ... و فهمت ما ذكرت عن یزید من اكتماله و سیاسته لأمة محمّد!! ترید أن توهم الناس في یزید كأنّك تصف محجوباً أو تنعت غائباً ، أو تخبر عمّا كان ممّا احتویته بعلم خاصّ ، و قد دلّ یزید من نفسه علی موضع رأیه ، فخذ لیزید فیما أخذ فیه من استقرائه الكلاب المهارشة عند التهارش ، و الحمام السُبَّق لأترابهنّ، و القیان ذوات المعارف ! و ضرت الملاهي، تجده باصراً، و دع عنك ما تحاول ، فما أغناك أن تلقي الله من وزر هذا الخلق بأكثر ممّا أنت لاقیه ، فوالله ما برحت تقدح باطلاً في جور، و حنقاً في ظلم ، حتی ملأت الأسقیة ، و ما بینك و بین الموت إلّا غمضة...». و تسیر الأمور في صالح أجواء الثورة الحسینیة.
و تكششف الحقائق للعیان أكثر فأكثر ، و یعیث یزید في الأرض فساداً ، و یأمر جنوده و جلاوزته بإباحة مدینة الرسول ، و هتك أعراض ساكنیها، و نهب أموالهم . كما یأمرهم في سنة أخری بهدم الكعبة، قبلة المسلمین في صلاتهم ، و مؤتمرهم في حجّهم العبادي و السیاسي، و نشتدّ ضغطه علی العناصر الاسلامیة القیادیة في الأمة، لكي تذعن لحكمه الظالم و تبایع لسلطانه الغاشم. و هنا یری الامام الحسین الوقت المناسب لتفجیر الثورة في وجه الطغاة الأدعیاء الطلقاء، بعد تهیّوء الظروف العامة و الخاصّة لها، فیخلّ إحرامه من حجّه المستحب، و یتوجّه بمن معه من أهل بیته و أنصاره نساءً و رجالاً ، شیوخاً و أطفالاً ، نحو أرض المعركة و جبهة الحقّ ضدّ الباطل ، و تستمر المسیرة أیاماً معدودات حتی یصل الثائرون كربلاء الشهادة و عاشوراء الفداء.
كربلاء الأمس:
أمضی الثائرون لیالیهم و أیامهم یقرأون القرآن ، و یسبحون الله و یذكرونه قیاماً و قعوداً، و علی جنوبهم (و لهم دويٌّ كدويّ النحل) فرحین بما آتاهم الله من استشراف الشهادة ، مستبشرین بما وعدهم من الدرجات الرفیعة في الدنیا و الآخرة، متسابقین إلی التضحیات ، یُفدي بعضهم بعضاً، معدّمین القرابین زُرافات و وحدانا، حتی انتهی المطاف إلی سیدهم الإمام الحسین لیقف علی منعطف التاریخ و یعلن بصوته الهادر الثائر في مسمع الأجیال: « و لا والله ، لا اعطیكم بیدي إعطاء الذلیل، و لا أقرّ إقرار العبید، ألا و إنّ الدعيّ بن الدعيّ قد ركز بین اثنین بین السلّة و الذلّة ، و هیهات منّا الذلّة ، یأبی الله لنا ذلك و رسوله و المؤمنون، و جدودٌ طابت، و حجورٌ طهرت، و أنوفٌ حمیّة، و نفوسٌ أبیّة! لا تؤثر طاعة اللئام علی مصارع الكرام». و إلی ما هنا لك من المواعظ البلیعة و الأقوال السائرة، التي خلدت كالدر اللامعة في قلائد جید الدهر، و من أشهرها خطابة في ذلك الیوم: « ألا ترون إلی الحقّ لا یُعمل به و الی الباطل لا یتناهی عنه، لیرغب المؤمن في لقاء الله، فإني لا أری الموت إلّا سعادة و الحیاة مع الظالمین إلّا برما»، و كان یتمثل بقول أخ الأوس لابن عمّه ـ و لقیه و هو یرید نصرة رسول الله ـ صلی الله علیه و آله ــ :
« سأمضي و ما بالموتِ عارٌ علی الفتی إذ ما نوی خیراً و جاهدَ مُسلماً
و واسی رجالاً صالحینَ بنفسه و خالفَ مثبوراً و فارقَ مُجرما
فإن عشتُ لم أندم و إن متُّ لم ألم كفی بك ذُلاً أن تعیش و ترغما»
و یتقدم الحسین (ع) و یكتب بدمائه الزكیّة و دماء أصحابه أروع سطور النصر و الغلبة: « غلبة الدم علی السیف»:
(إن كانَ دینُ مُحمدٍ لم یستقم إلّا بقتلي یا سیوف خذیني)
و تأخذه السیوف ، كما أخذت أصحابه ، لیكون رمزاً للثائرین في كل العصور و الأجیال ، و یخلد أباً للشهداء و الأحرار:
(كذب الموت فالحسین مخلّد كلّما أخلقَ الزمانُ تجدّد)
و هكذا یعیش الامام الحسین (ع) رمزاً خالداً في كل معركة یحتدم فیها الحقّ ضد الباطل و یثور فیها المؤمنون المستضعفون علی الطغاة المستكبرین ، و یتجدد نداء كربلاء الدم في كل أرض ، و یتجدد عاشوراء الفداء في كل یوم ، و یتجلّی شعار: ( كل یوم عاشوراء و كل أرض كربلاء).
كربلاء الیوم:
و یتسلط یزید العصرـ صدام الطاغیةـ علی رقاب المسلمین في أرض العراق بفعل قوی الاستعمار و الاستكبار العالمي، و بتخطیط مشترك من الصلیبیة و الصهیونیة ، لیعیث في الارض فساداً، و یمعن في الناس قتلاً و نهباً و تهجیراً، و لم یرقب في الله إلّا و لا ذمّةً، فقد قتل حسین العصر في أرض كربلاء العراق و نجف بقاعها( الامام الشهید الصدر) و زاد یزید العصر في فداحة الخطب بأن قتل زینب العصر ( الشهیدة الطاهرة بنت الهدی ) كما قتل من قبل و من بعدُ كلَّ من آمن بالله و قال إنّني من المسلمین ، و بالغ في طغیانه و جبروته بأن تحدّی دولة الاسلام الیانعة الفارعة و هي في مقتبل حیاتها ، فأمر جنوده ـ كما فعل یزید بالامس و زیادة ـ بأن یدخلوا المدن الآمنة ، و یستبیحوا الحرمات ، و یسلبوا الأموال ، و یهلكوا الحرث و النسل. و تقف مدینة (خونین شهر ) مدینة الدم و العطاء (كربلاء الیوم) و سائر مدن إیران الشهادة مجدّدة عرصات الطف، و یقف الثائرون من أنصار الامام الحسین ـ أنصار الامام الخمیني ـ صفا صفا كالبنیان المرصوص ، یهتفون باسمه الثائر : (یا حسین ) و یتقدمون للفداء ، و یراوحون ثانیة و یهتفون باسم أمّه الزهراء (یا زهراء) و یتقدمون للعطاء و الفداء ، و یراوحون ثالثة و یهتفون باسم أبیه بطل الاسلام: ( یا علي بن أبي طالب) و یقدمون القرابین بسخاء ، و هكذا و هلمّ جراً، و ینتصر الدم علی السیف ، و تستمر المسیرة باسم : (بیت المقدس) حتی تحریر بیت المقدس و تحریر الأراضي المغتصبة و الشعوب المستضعفة ، و حتی توحید الأمّة الاسلامیة و تطبیق حكم الله في الأرض قاطبة ، و یبقی الشعار الدائم في معترك الصراع الدائم:
(كل یوم عاشوراء و كلُّ أرضٍ كربلاء)