التفسیر مأخوذ من « فسَّر » بمعنى : أبان و کشف.
قال الراغب : الفَسْر ، والسَفْر متقاربا المعنى کتقارب لفظیهما ، والفرق بینهما انّ الأوّل یستعمل فی إظهار المعنى المعقول ، کقوله سبحانه : ( وَلا یَأتُونَکَ بِمَثَل إلاّ جِئْنَاکَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِیرا ) (1) أی أحسن تبییناً.
والثانی یُستعمل فی إبراز الأعیان للأبصار ، یقال : أسفر الصبحُ ، أو سفرتْ المرأة عن وجهها.
وأمّا فی الاصطلاح فبما انّ التفسیر علم کسائر العلوم فله تعریفه وموضوعه ومسائله وغایته.
أمّا التعریف فقد عرف بوجوه :
1. هو العلم الباحث عن تبیین دلالات الآیات القرآنیة على مراد اللّه سبحانه.
وبعبارة أُخرى : إزالة الخفاء عن دلالة الآیة على المعنى المقصود.
وهناک تعریفات أُخرى نشیر إلى بعضها.
وعرّفه الزرکشی بقوله : علم یعرف به فهم کتاب اللّه تعالى المنزل على نبیه محمّد ( صلَّى الله علیه وآله وسلَّم ) وبیان معانیه ، واستخراج أحکامه وحکمه. (2)
وأمّا موضوعه فهو کلام اللّه سبحانه المسمّى بالقرآن الکریم.
وأّمّا مسائله فهی ما یستظهر من الآیات بما انّه مراده سبحانه.
وأمّا الغرض منه فهو الوقوف على مراده سبحانه فی مجالی المعارف والمغازی والقصص واستنباط الأحکام الشرعیة منه.
ثمّ إنّ الرأی السائد بین المسلمین انّ القرآن غیر غنی عن التفسیر ، إمّا من جانب نفسه کتبیین معنى آیة بأُختها ، أو تبیینه بکلام من نزل على قلبه.
یقول سبحانه : ( وَأَنزَلْنَا إِلَیکَ الذِّکرَ لِتُبَیِّنَ لِلنّاسِ ما نُزِّلَ إِلَیْهِمْ وَلَعَلَّهُم یَتَفَکَّرُون ) (3) ولم یقل « لتقرأ » بل قال : ( لتُبیّن ) إشارة إلى أنّ القرآن یحتاج وراء قراءة النبی ، إلى تبیین ، فلو لم نقل أنّ جمیع الآیات بحاجة إلیه ، فلا أقل أنّ هناک قسماً منها یحتاج إلیه بأحد الطریقین : تفسیر الآیة بالآیة ، أو تفسیرها بکلام النبی ( صلَّى الله علیه وآله وسلَّم ).
والذی یکشف عن حاجة القرآن إلى التبیین أُمور ، نذکر منها ما یلی :
1. إنّ أسباب النزول ، للآیات القرآنیة ، کقرائن حالیة اعتمد المتکلم علیها فی إلقاء کلامه بحیث لو قطع النظر عنها ، وقُصِّـر إلى نفس الآیة ، لصارت الآیة مجملة غیر مفهومة ، ولو ضمّت إلیها تکون واضحة شأن کل قرینة منفصلة عن الکلام ، وإن شئت لاحظ قوله سبحانه : ( وَعَلى الثّلاثَةِ الّذِینَ خُلِّفُوا حَتّى إذا ضاقَتْ عَلَیهِمُ الأرْضُ بِما رَحُبَتْ وضاقَتْ عَلَیهِمْ أَنفُسُهُمْ وَظَنُّوا أنْ لا مَلجَأَ مِنَ اللّهِ إلاّ إلیهِ ثُمَّ تابَ عَلَیهِم لَیَتُوبوا إنّ اللّهَ هُوَ التَّوابُ الرَّحیم ) (4).
ترى أنّ الآیة تحکی عن أشخاص ثلاثة تخلّفوا عن الجهاد حتى ضاقت علیهم الأرض بما رحبت ، فعند ذلک یسأل الإنسان نفسه ، مَن هم هؤلاء الثلاثة ؟ ولماذا تخلّفوا ؟ ولأیّ سبب ضاقت الأرض والأنفس علیهم ؟
وما المراد من هذا الضیق؟ ثم ماذا حدث حتى انقلبوا وظنّوا أنّه لا ملجأ من اللّه إلاّ إلیه ؟ إلى غیر ذلک من الأسئلة المتراکمة حول الآیة ، لکن بالرجوع إلى أسباب النزول تتخذ الآیة لنفسها معنى واضحاً لا إبهام فیه.
وهذا هو دور أسباب النزول فی جمیع الآیات ، فإنّه یُلقی ضوءاً على الآیة ویوضح إبهامها ، فلا غنىً للمفسّر من الرجوع إلى أسباب النزول قبل تفسیر الآیة کما سیوافیک تفصیله فی مؤهلات المفسر.
2. إنّ القرآن مشتمل على مجملات کالصلاة والصوم والحجّ لایفهم منها إلاّ معانی مجملة ، غیر أنّ السنّة کافلة لشرحها ، فلاغنىً للمفسّر عن الرجوع إلیها فی تفسیر المجملات.
3. إنّ القرآن یشتمل على آیات متشابهة غیر واضحة المراد فی بدء النظر ، وربما یکون المتبادر منها فی بدء الأمر ، غیر ما أراد اللّه سبحانه ، وإنّما یعلم المراد بإرجاعها إلى المحکمات حتى تفسّر بها ، غیر أنّ الذین فی قلوبهم زیغ یتبعون الظهور البدائی للآیة لإیجاد الفتنة وتشویش الأذهان ویجعلونه تأویل الآیة أی مرجعها وم آلها ، وأمّا الراسخون فی العلم فیتّبعون مراده سبحانه بعدما یظهر من سائر الآیات التی هی أُم الکتاب.
قال سبحانه : ( مِنهُ آیاتٌ مُحکَماتٌ هُنَّ أُمُّ الکِتابِ وأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ فأمّا الّذِینَ فی قُلوبِهِمْ زَیغٌ فَیَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنهُ ابتِغاءَ الفِتنَةِ وابتغاءَ تأویلِه ) (5).
وعلى هذا لا غنى من تفسیر المتشابهات بفضل المحکمات ، وهذا یرجع إلى تفسیر القرآن نفسه بنفسه ، والآیة بأُختها.
4. إنّ القرآن المجید نزل نجوماً ، لغایة تثبیت قلب النبی طیلة عهد الرسالة.
قال سبحانه : ( وقالَ الّذِینَ کَفَرُوا لَولا نُزِّلَ عَلَیْهِ القُرآنُ جُملَةً واحِدةً کَذلِکَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَکَ وَرَتَّلناهُ تَرتیلا ) (6) فمقتضى النزول التدریجی تفرق الآیات الباحثة عن موضوع واحد فی سور مختلفة ، ومن المعلوم أنّ القضاء فی موضوع واحد یتوقف على جمع الآیات المربوطة به فی مکان واحد حتى یستنطق بعضها ببعض ، ویستوضح بعضها ببعض آخر ، وهذا ما یشیر إلیه الحدیث النبوی المعروف : « القرآن یفسّر بعضه بعضاً ».
وقال الإمام علی ( علیه السَّلام ) : « کتاب اللّه تبصرون به ، وتنطقون وتسمعون به ، وینطق بعضه ببعض ، ویشهد بعضه على بعض ، ولا یختلف فی اللّه ولا یخالف بصاحبه عن اللّه » (7).
وفی کلامه ( علیه السَّلام ) ما یعرب عن کون الرسول ( صلَّى الله علیه وآله وسلَّم ) هو المفسر الأوّل للقرآن الکریم یقول : « خلّف فیکم ( أی رسول اللّه صلَّى الله علیه وآله وسلَّم ) کتابَ رَبِّکم ، مبیّناً حلالَه وحرامَه ، وفرائضَه ، وفضائلَه وناسخَه ومنسوخَه ، ورُخَصَه وَعَزَائمَه ، وخاصَّه وعامَّه ، وعِبَره وأمثالَه ، ومُرسَلَه وَمَحْدوده ، ومُحْکَمه ومتشابهه ، مفسِّـراً مجمله ، ومبِّیناً غوامضه » (8).
وهذه الوجوه ونظائرها تثبت أنّ القرآن لایستغنی عن التفسیر.
سؤال وإجابة
أمّا السؤال : فربما یتصور أنّ حاجة القرآن إلى التفسیر ینافی قوله سبحانه : ( وَلَقَد یَسَّرنا القرآنَ لِلذِّکرِ فَهَل مِنْ مُدَّکِر ) (9).
ونظیره قوله سبحانه فی موارد مختلفة : ( بِلسان عَربىّ مُبین ) (10) فإنَّ تَوصیف القرآن بالیسر وَکَونِه بِلسان عَرَبی مُبین یهدفان إلى غناه عن أیّ إیضاح وتبیین ؟
وأمّا الإجابة : فإنّ وصفه بالیسر ، أو بأنّه نزل بلغة عربیة واضحة یهدفان إلى أمر آخر ، وهو أنّ القرآن لیس ککلمات الکهنة المرکّبة من الأسجاع والکلمات الغریبة ، ولامن قبیل الأحاجی والألغاز ، وإنّما هو کتاب سهل واضح ، من أراد فهمه ، فالطریق مفتوح أمامه ؛ وهذا نظیر ما إذا أراد رجل وصف کتاب أُلّف فی علم الریاضیات أو فی الفیزیاء أو الکیمیاء فیقول : أُلّف الکتاب بلغة واضحة وتعابیر سهلة ، فلا یهدف قوله هذا إلى استغناء الطالب عن المعلِّم لیوضح له المطالب ویفسر له القواعد.
ولأجل ذلک قام المسلمون بعد عهد الرسالة بتدوین ما أُثر عن النبی أو الصحابة والتابعین أو أئمة أهل البیت ( علیهم السَّلام ) فی مجال کشف المراد وتبیین الآیات ، ولم تکن الآیات المتقدّمة رادعة لهم عن القیام بهذا الجهد الکبیر.
المصادر :
1- الفرقان 33
2- البرهان فی علوم القرآن 1/33
3- النحل44
4- التوبة 118
5- آل عمران 7
6- الفرقان 32
7- نهج البلاغة خطبه 133
8- نهج البلاغة خطبة1
9- القمر 17
10- الشعراء 1
source : rasekhoon