الإحکام هو الإتقان، یوصف به الکلام إذا کان ذا دلالة واضحة، بحیث لا یحتمل وجوهًا من المعانی. مأخوذ من الحَکَم – بالفتح- بمعنى المنع والسدّ، ومنه حَکَمةُ للجام – بفتحات -: ما أحاط بحنکی الفرس، سمّیت بذلک لأنّها تمنعه من الجری الشدید. قاله ابن فارس. فإحکام الکلام: إتقانه تعبیرًا وأداءً بالمقصود. وهذا کأکثر آیات التشریع والمواعظ والآداب.
والتشابه مأخوذ من تشابه الوجوه، أی تماثل بعضها مع البعض، بحیث یحتمل وجوهًا من المعانی، ومن ثمّ کان خفاء فی وجه المقصود. ومنه قوله تعالى (إِنَّ البَقَرَ تَشَابَهَ عَلَیْنَا)(1). قال الراغب: الحکم ما لا تعرض فیه شبهة، لا من حیث اللفظ ولا من حیث المعنى، والمتشابه ما لا ینبئ ظاهرة عن المراد.
هذا هو تعریف المتشابه بوجه عام، ومن ثمّ قد یتّحد مع المبهم الذی یکشفه التفسیر، فی حین أنّ المتشابه بحاجةٍ إلى التأویل، کأکثر آیات الخلق والتقدیر والصفات والأفعال.
وعلیه فالمتشابه – حسب المصطلح القرآنی – هو اللفظ المحتمل لوجوه من المعانی، وکان موضع ریب وشبهة، ومن ثمّ فهو کما یصلح للتأویل إلى وجه صحیح، یصلح للتأویل إلى وجه فاسد، ولأجل هذا الاحتمال وقع مطمع أهل الزیغ والفساد، ابتغاء الفتنة وابتغاء تأویله إلى ما یتوافق وأهدافهم الضالّة.
ولا یخفى الفرق بین المتشابه المحتاج إلى التأویل، والمبهم المفتقر إلى التفسیر، حیث لا تشابه فی الأخیر ولا هو موضع ریب ولا شبهة، وإنّما أحاطت بالآیة هالة من الإبهام لأسباب نذکرها، فیعمد المفسّر إلى إزاحة ذلک الغبار ورفع ذلک الستار. ومن ثمّ قد تجتمع فی الآیة مواضع من الإبهام، إلى جانب مواضع التشابه معًا، وقد تخص بأحد الأمرین دون الآخر، نظیر الأمرین اللذین بینهما نسبة العموم من وجه، حسب المصطلح.
فممّا اجتمع فیه الأمران (مواضع التشابه والإبهام معًا) قوله تعالى (فَمَن یُرِدِ اللّهُ أَن یَهْدِیَهُ یَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ وَمَن یُرِدْ أَن یُضِلَّهُ یَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَیِّقًا حَرَجًا کَأَنَّمَا یَصَّعَّدُ فِی السَّمَاء)(2).
أمّا التشابه فمن جهة نسبة الهدایة والإضلال إلیه تعالى مجده، وأمّا الإبهام فمن جهة کیفیّة حصول ذلک الانشراح وذلک التضایق فی المهتدی والضال، ثمّ کیف وجه التشبیه بمحاولة الصعود إلى السماء؟ وستأتی الإجابة على کل هذه الأسئلة..(3).
وقد لا یکون فی الآیة المتشابهة موضع إبهام، سحب ظاهرها اللفظین وإنما جاءها التشابه من قبل سموّ المعنى وعلوّ المستوى. ومن ثمّ قد تزعم العامّة وضوح معناها فی توغّلها فی الإبهام المعنوی بالنسبة إلى أولئک العوامّ، کقوله والإضلال معناه الخذلان، فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم. وذلک مغبّة إصرارهم على الغیّ والعناد... وسیأتی ذلک فی مبحث الهدایة والإضلال.
وأما الجهة الثانیة: فالتشبیه إنما وقع باعتبار أن المحاول للتصعّد فی طبقا الجوّ، تتضایق أنفاسه، على اثر هبوط ضغط الهواء من خارج جسمه، فلا یتعادل مع صعود ضغط الدم من داخل جسمه... فأول ما یحسّ به الصاعد فی أعالی الجوّ، هو تضایق نفسه ثم نفت الدم من منافذ بدنه..
قال تعالی: (الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى)(4) فقد یفهم البعض – ممّن هبط مستواه – أنّ للّه سبحانه کرسیاً هو جالس علیه، ولا یتوقف فی مدلولها لا طاهری(5). وکقوله تعالى: (یَوْمَ یُکْشَفُ عَن سَاقٍ وَیُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلَا یَسْتَطِیعُونَ)(6)، فیحسب ذوو ا لإفهام الساذجة أنّ الربّ تعالى یکشف عن ساقه ویدعو الکفار إلى السّجود أمامه، کما هو ظاهرها اللفظی السطحی.. فی حین أنّه لا موضع فی مثل تلک الآیات للإبهام ولا للریب والشبة إذا ما تعمّق النظر الدقیق.(7)
وقد تکون الآیة مبهمة فی إفادة المعنى المراد، ولیس فیها موضع تشابه ولا هی موضع ریب. فهی إلى التفسیر أحوج مها إلى التأویل، کقوله تعالی: (وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاء کُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلاَئِکَةِ فَقَالَ أَنبِئُونِی بِأَسْمَاء هَؤُلاء إِن کُنتُمْ صَادِقِینَ)(8). فالآیة بأمسّ حاجة إلى تفسیر یجیب على عدة أسئلة یبعثها إبهام فی ظاهر الآیة،
أولاً: ما هو المقصود من الخلافة هنا، وکیف صار آدم خلیقة اللّه فی الأرض؟.(9)
وثانیاً: کیف تحقّق هذا التعلیم الذی باهى اللّه به ملائکته؟.
وثالثاً: ما هی الأسماء التی خص بمعرفتها الإنسان دون غیره على الإطلاق؟.
ورابعاً: کیف استسلمت الملائکة لهذه المباهاة، واعترفت بعجزها وخضعت للسّجود لآدم مع البد؟.
وخامساً: ما کانت نوعیّة سجود الملائکة لآدم، بما لا یتنافى وبطلان العبادة لغیر اللّه تعالى؟ وسیوافیک تفصیل الجواب.
إذن لا تلازم بین وجود الإبهام والتشابه معاً، وعلیه فتفترق موارد الحاجة إلى التفسیر عنهم وارد الاحتیاج إلى التأویل. فالتفسیر هو کشف القناع عن اللفظ المشکل أی المبهم، سواء أکان متشابهاً أم لم یکن. والتأویل هو إرجاع الکلام إلى أحد محتملاته العقلانیة، ولو کان – فی ظاهره – أوضح المدلول.
ولتوضیح مابین المتشابه والمبهم من فرق، نذکر من عوامل التشابه التی تختلف تماماً عن عوامل الإبهام.
یعود الفرق بین تشابه الآیة وإبهامها إلى ما بین عوامل الأمرین من اختلاف، حیث من أهمّ عوامل التشابه هو دقّة المعنى وسموّ مستواه عن المستوى العام, مضافاً إلى رقّة التعبیر وجزالة الأداء، کما فی قوله: (وَمَا رَمَیْتَ إِذْ رَمَیْتَ وَلَکِنَّ اللّهَ رَمَى)(10) إذ لا یخفى لطف هذا التعبیر الرقیق، عن مفهوم هو من أدقّ المفاهیم الإسلامیة فی الأمر بین الأمرین (لا جبر ولا تفویض). ومن ثمّ خفى على غالبیة الناس إدراک حقیقته الصلیة، من القدّسی فی هذا الإنسان، الذی یحمل فی طیات وجوده مؤهلات واستعدادت خارقة، من تدبیر وإبداع وخلاّقیة وصنع وأجاد، وقدرة الاستیلاء والسلطة على کافة أنحاء الوجود. وفوق ذلک فانه یملک قدرة التعقّل والتفکیر والاستنباط والاستنتاج، وهی غایة الکمال.. ومن ثم لما خلقه الله بارک لنفسه (فَتَبَارَکَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِینَ)(11) لأنه خلق أحسن المخلوقین..
وأما التعلیم فکان فطریاً الاتکازی إن حیث الإنسان بفطرته صالح لفهم الحقائق ودرک الأشیاء.. المر الذی یخصّ ماهیّة هذا لوجود، وإنما أفاض الله عیه الوجود..
والأسماء هی سمات الأشیاء کلها أی حقائقها.. فقد منح الإنسان معرفة حقائق الأمور وخاصیتها وسماتها، بفضل جهده وتدبره فی سبیل الوصول إلى کنه الموجودات. وبیس المراد هی الأسامی، إذ لا فضل فی معرفتها..
والسجود کان سجود کاعة لا سجود عبادة، - کما فی الأثر – فقد وکّلت جمیع القوى العاملة فی الکون لتکون فی خدمة الإنسان ورهن إرادته حیث شاء عبر الوجود.. وسیوافیک التفصیل فی التفسیر إن شاء الله.
المصادر:
1- البقرة/ 70
2- الأنعام/ 125
3- أن الهدایة هنا بمعنى التوفیق وهو تمهید الأسباب نحو الخیر، ولا یکون ذلک إلاّ لمن استهدى واستقام على الهدى. والذّین جاهدوا فینا لنهدینّهم سبلنا..
4- طه/5.
5- الاستواء على العرش کنایة على الاستیلاء على أزمة الأمور، کقوله: (قد استوى بشر على العراق..) أی استولی على حکم البلاد...
6- القلم/42
7- فی حین أن الساق تستعلم بمعنی الشدّة والجدّ فی الأمر. کقولهم (قامت الحرب على ساق) أی استدّت. فقوله تعالى: ( یوم یکشف عن ساق) کنایة عن جدّ المر یومذاک. (ردّوا إلى اللّه مولاهم الحق وضل عنهم ما کانوا یفترون- یونس: 30)، (والوزن یومئٍذ الحق- الأعراف:8).
8- البقرة/31
9- ملخصه: إن الخلافة هنا هی: المظهریة التامة لصفاته تعالى الجمالیة والکمالیة. فقد تجلی ذاته
10- الأنفال/17
11- المؤمنون/
source : rasekhoon