إذا وقفت على مقومات العبادة ، فیکون من السهل تعریف العبادة تعریفا منطقیا جامعا للأفراد ومانعا للأغیار بأحد التعاریف التالیة :
التعریف الأول العبادة هی الخضوع عن اعتقاد بألوهیة المعبود ، فما لم یکن القول والعمل ناشئین من الاعتقاد بالألوهیة ، لا یکون الخضوع والتعظیم والتکریم عبادة .
والذی یجب أن نلفت نظر إلیه ، هو أن المراد من الألوهیة لیست المعبودیة کما هو الرائج فی الألسن ، بل المراد منها الاعتقاد بکونه إله العالم وخالقه ومدبره وأن أزمة الأمور کلها أو بعضها بیده ، فهذا هو المراد من الإله ، والألوهیة ، فلفظ الإله کلی و ( الله ) لفظ الجلالة علم ، فلیس بینهما فرق إلا بالکلیة والجزئیة .
والذی یدل على ذلک ( الخضوع النابع عن الاعتقاد بالألوهیة ) أن بعض الآیات تأمر بعبادة الله وتنهى عن عبادة غیره مدللا بأنه لا إله غیره ، یقول : ( یَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللَّهَ مَا لَکُم مِّنْ إِلَهٍ غَیْرُهُ ) . ( 1 ) ومعنى ذلک أن الذی یستحق العبادة من کان إلها ولیس هو إلا الله ، عندئذ کیف تعبدون ما لیس بإله حقیقة وإنما تدعون له الألوهیة ؟ وکیف تنبذون عبادة الله وهو الإله الذی یجب أن یعبد دون سواه ؟ وقد وردت هذه الآیة بنصها أو مضمونها فی کثیر من الآیات . ( 2 )
فهذه التعابیر تفید أن العبادة هی ذلک الخضوع والتذلل النابعین من الاعتقاد بألوهیة المعبود ، إذ نلاحظ - بجلاء - کیف استنکر القرآن على المشرکین عبادة غیر الله بأن هذه المعبودات لیست آلهة وأن العبادة من شؤون الألوهیة . وحیث إن هذا الوصف لا یوجد إلا فی الله سبحانه لذلک تجب عبادته دون سواه .
التعریف الثانی العبادة هی الخضوع أمام من یعتقد أنه رب یملک شأنا من شؤون وجوده وحیاته وشؤونه فی آجله وعاجله . سواء کان أمرا مادیا کالعزة والنصر ، أم معنویا کمغفرة الذنوب .
والمقصود من الرب ، هو المالک لشؤون الشئ ، المتکفل لتدبیره وتربیته ، ولذلک تکون العبودیة فی مقابل الربوبیة . ویدل على ذلک طائفة من الآیات التی تعلل الأمر بحصر العبادة فی الله وحده بأنه الرب لا غیر ، وإلیک بعض هذه الآیات :
( وَقَالَ الْمَسِیحُ یَا بَنِی إِسْرَائِیلَ اعْبُدُواْ اللَّهَ رَبِّی وَرَبَّکُمْ ) . ( 3 )
( إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُکُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّکُمْ فَاعْبُدُونِ ) . ( 4 )
( إِنَّ اللَّهَ رَبِّی وَرَبُّکُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِیمٌ ) . ( 5 )
وقد ورد مضمون هذه الآیات فی آیات أخرى هی : یونس : 3 ، الحجر : 99 ، مریم 36 ، 65 ، الزخرف : 64 .
وعلى کل حال فإن أوضح دلیل على هذا التفسیر للفظ العبادة هو الآیات التی سبق ذکرها .
التعریف الثالث العبادة هی الخضوع أمام من نعتقد أنه إله العالم ، أو من فوض إلیه أعماله کالخلق والرزق والإحیاء والإماتة التی تعد من الأفعال الکونیة أو التقنین والتشریع وحق الشفاعة والمغفرة التی تعد من الأفعال التشریعیة .
إن الموحد یعبد الله سبحانه بما أنه قائم بهذه الأفعال ، من دون أن یفوض شیئا منها إلى مخلوقاته ، ولکن المشرکین مع اعتقادهم بأن آلهتهم وأربابهم مخلوقون لله تبارک وتعالى ، لکن کانوا على اعتقاد أنه فوض إلى الآلهة أمور التکوین والتشریع کلها أو بعضها ، فلذلک کانوا یستمطرون بالأنواء والأصنام ویطلبون الشفاعة منهم بتصور أنهم مالکون لحق الشفاعة ، ویطلبون منهم النصرة والعزة فی الحرب بزعم أن الأمر بیدهم وأنه فوض إلیهم .
وعلى ضوء هذه التعاریف الثلاثة یظهر الفرق الجوهری بین التوحید فی العبادة والشرک فیها ، فکل خضوع نابع عن اعتقاد خاص بإلهیة المخضوع له وربوبیته أو تفویض الأمر إلیه فهو عبادة للمخضوع له سواء کان ذلک الاعتقاد الخاص فی حق المعبود حقا - کما فی الله سبحانه - أو باطلا کما فی حق الأصنام .
وعلى کل تقدیر فالخضوع الناجم عن هذا النوع من الاعتقاد ، عبادة للمخضوع له . وأما لو کان الخضوع مجردا عن هذه العقیدة فهو تعظیم وتکریم ، ولیس بعبادة ، ولا یکون الخاضع مشرکا ، ولا عمله موصوفا بالشرک ، غایة الأمر ربما یکون حلالا کما فی الخضوع أمام الأنبیاء والأولیاء ومن وجب له حق بالتعلیم والتربیة ، وربما یکون حراما کالسجود أمام النبی " صلى الله علیه وآله وسلم " والولی " علیه السلام " وغیرهما لا لأنه عبادة للمسجود له ، بل لأنه لا یجوز السجود لغیره سبحانه وأن السجود خضوع لا یلیق بغیره .
وبمثل هذا البیان تتمیز العبادة عن التعظیم ، فتقبیل المصحف وضرائح الأنبیاء وما یمت إلیهم بصلة إذا کان فارغا عن اعتقاد الألوهیة والربوبیة والتفویض فهو لیس عبادة للمخضوع له .
المصدر : بتصرف من بحوث قرآنیة فی التوحید والشرک للشیخ جعفر السبحانی
1- الأعراف / 59
2- راجع فی ذلک الآیات التالیة : الأعراف / 65 ، 73 ، 85 ، هود / 50 ، 61 ، 84 ، الأنبیاء / 25 ، المؤمنون / 23 ، 32 ، طه / 14 .
3- المائدة / 72 .
4- الأنبیاء / 92 . 3 . آل عمران / 51 .
5- آل عمران /51
source : rasekhoon