إن الانسان في مرحلة الارتباط والصداقة والعِشرة والصحبة، عند ما يدخل في نطاق محبة المحبوب الذي يمتلك قيماً معنوية أصيلة وجميلة فليس هو الذي يتأثر بالمحبوب ببساطة، بل المحبوب هو الذي
نظام العشره فى المنظور الاسلامى، ص: 54
من طريق المحبة التي تربط المحب به، ينقل آثاره الوجودية وقيمه المعنوية وجماله الباطني إلى المحب، فيصير المحب بالتدريج وجوداً ثانياً له ويصنع من المحب- في حدود سعته الوجودية واستيعابه وقابليته- محبوباً آخر.
إن الانسان عند ما يتخذ الرب الرحيم من طريق المعرفة والنباهة محبوباً له ويغرم بحبه، تبزغ في حد قابلياته وبفعل الباري، الكمالات والقيم والحقائق المعنوية تدريجاً في افق وجوده.
في هذه المرحلة الملأى بالخير والبركة، يظهر آدم المطرود من الجنة مثل شمس متوهجة في افق تلقي الكلمات «1» ويصل إلى مقام التوبة العظيم وقبولها من ناحية الباري جل وعلا.
وفي هذه النقطة الوضاءة وفي أمواج تلك البلايا والمحن، اماط أيوب عليه السلام اللثام عن وجهه في ساحل الصبر والاستقامة، وبذا يُمدح عبد من قبل المعبود ويصبح قدوة في الصبر والثبات.
ومن هذا الموقع المرموق يبرز ابراهيم واسماعيل من أفق التسليم حيث إن الأب يتأهب برغبة تامة فيمتثل من صميم قلبه أمر المحبوب في ذبح اسماعيل على عتبة عشق المحبوب، وهو ذاك الذي لم يخالط قلبه خوف عند ما يُقذف بالمنجنيق في نار محرقة لأجل المحبوب!
وفي هذه المرحلة القيمة يفوز يوسف عليه السلام في أعماق بئر كنعان بلطف وكرامة وتوفيق من المحبوب فيتمتع في ظلمات الجُبّ بنوره في إضاءة
______________________________
(1)- البقرة (2): 37. «فَتَلَقَّى ءَادَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ».
نظام العشره فى المنظور الاسلامى، ص: 55
قلبه وداخلته ويحافظ على هدوءه وسكينته آملًا رعاية الباري- جلّ جلاله- وفي نهاية المطاف تشرق شمسه من على سرير عزيز مصر.
في هذه النقطة الروحانية تجد راعياً مرتدياً طمراً، يعيش مغموراً خوفاً من فرعون مرتدياً رداء الراعي، وفي نحو عشر سنين كان يرعى الغنم لشعيب في الصحراء؛ في طريق العودة إلى مصر، وطأت قدماه وادي سيناء فشاهد نوراً تجلّى من المحبوب في الوادي المقدس فتشرَّف بسماع صوت المعشوق وتحدث إليه إلى أن بلغ مقام التكليم فصار «كليم اللَّه».
إن الدخول في حرم التعارف وصداقة محبوب ايجابي ومعشوق يمنح الدفء،، الروحي، يمهد لظهور كمالات المعشوق في العاشق ويصنع من العاشق وجوداً يقترب في كينونته من وجود المعشوق فيؤول الأمر- عند ما ترى العاشق- إلى أن يخيَّل إليك انك قد رأيت المعشوق.
إن النبي الكريم صلى الله عليه و آله- واعتماداً على معرفته الأصيلة- اختار منذ البداية محبوباً هو الاله الحق- جل جلاله- وعاش في كنف حبه وآنسه إلى آخر لحظة من حياته الشريفة والمحبوب- عزوجل- بتوفيق خاص منه، جسد قيمه وكمالاته في وجود هذا المحب العاشق حتى قال عليه السلام:
«مَنْ رَآنى فَقَدْ رَأىَ الْحَقَّ» «1».
ومن خلال هذه الصلة المعنوية والصحبة الباطنية والصداقة الملكوتية، بلغ الرسول صلى الله عليه و آله درجة بحيث أوجب المحبوب أن يؤتى
______________________________
(1)- بحار الأنوار: 58/ 234، باب 45.
نظام العشره فى المنظور الاسلامى، ص: 56
باسمه صلى الله عليه و آله إلى جانب اسمه- جل جلاله- وذلك في تشهد الصلاة كما انّه أناط دخول الكفار والمشركين في الاسلام بالاقرار برسالته إلى جانب الاقرار بالتوحيد.
source : دارالعرفان