
الجهاد بين مكّة والمدينة

- تاريخ النشر: 2016-12-19 22:24:01
- عدد الزيارات: 362
واضح من حياة الجماعة الإسلاميّة أ نّها مرّت في مكّة بكلّ المحن التي يمكن أن تتعرّض لها مجموعة مؤمنة من الناس محاولة أن تقيم شريعة اللَّه في أرضه : ابتلوا في أجسامهم وأموالهم وأنفسهم وقاطعهم قومهم اقتصاديّاً واجتماعيّاً وانتشروا في أرض اللَّه تارةً إلى الحبشة ثمّ إلى المدينة تاركين وراءهم الأهل والدار والمال والولد .
وفي المدينة تنزل آيات القرآن بالتشريع الجنائي والمدني والتنظيم الاجتماعي والاقتصادي ، ويقود النبيّ صلى الله عليه و آله الغزوات ويبعث السرايا ويراسل الحكّام من الأكاسرة والقياصرة ويقيم حكم اللَّه في أرضه .
فهل تغيّرت اُسس حياة المسلمين في المدينة ؟ !
مظاهر الحياة الإسلاميّة في مكّة والمدينة :
الأذى البدني :
إنّ العهد المكّي إذا كان يتّصف بتحمّل الصحابة الأذى في أبدانهم ، ويحفظ لنا كيف كان بلال يسحب على الرمضاء وكيف اُوذي عمّار وقتلت سميّة وكيف اُوذي النبيّ صلى الله عليه و آله ، فإنّ طبيعة هذا الأذى ظلّت موجودة في المدينة .
وقد اُصيب النبيّ صلى الله عليه و آله في غزوة اُحد ،وذكر التاريخ : أنّ رسول اللَّه صلى الله عليه و آله كسرت رباعيّته وشجّ رأسه ، فجعل يمسح الدم عن وجهه ويقول كيف يفلح قوم شجّوا نبيّهم وكسروا رباعيّته وهو يدعوهم إلى اللَّه : فأنزل اللَّه «ليس لك من الأمر شيء »(1)
وذكر التاريخ عن أبي موسى قال : خرجنا مع رسول اللَّه صلى الله عليه و آله في غزاة ونحن نفر بيننا بعير نعتقبه ( أي يركبه واحد بعد واحد ) فنقبت أقدامنا ونقبت قدماي ( المقصود تقرّحت ) وسقطت أظفاري فكنّا نلفّ على أرجلنا الخرق ، فسُمّيت ذات الرقاع لما كنّا نعصب من الخرق على أرجلنا .
وفي غزوة بدر استشهد أربعة عشر صحابيّاً ، وفي غزوة اُحد 96 وفي بعث الرجيع (2 )
وفي حادثة بئر معونة 40 وفي رواية 70 أي أنّ عدد الشهداء حتّى العام الرابع من هجرة النبيّ صلى الله عليه و آله وصل إلى مائة وستّين صحابيّاً ، منهم من بقرت بطنه ومن اُصيب بأكثر من سبعين طعنة في جسمه ومن صلب .
ولم يقف أمر الأذى البدني في المدينة عند حدود القتال وإنّما تعدّاه إلى الدسّ الدنيء الذي لم يعرفه النبيّ صلى الله عليه و آله في مكّة ، ففي الحديث « لمّا فتحت خيبر ! حدّث النبيّ صلى الله عليه و آله عن اُمور قال لهم :
هل جعلتم في هذه الشاة سمّاً ؟ قالوا : نعم . قال : ما حملكم على ذلك ؟ قالوا : أردنا إن كنت كاذباً أن نستريح ، وإن كنت نبيّاً لم يضرّك » ، وقد توفّي بعض أصحابه من هذه الشاة واحتجم النبيّ صلى الله عليه و آله وبقي أثر السمّ في فم النبيّ صلى الله عليه و آله وبقي الألم يعاوده ثلاث سنين(3) .
البذل المالي:
وإذا كان العهد المكّي يتّصف بالصبر على التضحية الماليّة وخروج الصحابة عن أموالهم مهاجرين إلى ربّهم وكيف صادر الكفّار هذه الأموال واستولوا على الدور ، حتّى أنّ النبيّ صلى الله عليه و آله بعد غزوة الفتح ودخوله مكّة سأله اُسامة بن زيد : « يا رسول اللَّه أين تنزل غداً ؟ فقال : وهل ترك لنا عقيل من رباع ؟ »(4) ( يقصد المنزل أو محلّ الإقامة ) .
واستمرّ البذل السخي في المدينة ، ويكفي أن نذكر هذه الغزوات المتلاحقة وهؤلاء الشهداء الذين يتساقطون صرعى في معركة الإسلام ، وكيف زادت الأعباء على المسلمين في المدينة ، وكان على المجاهد أن يعدّ سلاحه ويحفظ راية الحرب ويساهم في نفقات الغزو ثمّ يتحمّل بعد هذا مع المجموعة المؤمنة أعباء اليتامى والأرامل ، وظلّ هذا الخلق الأبيّ حيّاً يقظاً في نفوسهم .
التربية:
وإذا كان العهد المكّي يتّصف بتحمّل الصحابة كأفراد مسؤوليّة هذه الدعوة ووضوح إيمانهم باللَّه ووقوفهم صامدين ، فقد ظلّت هذه النواحي بارزة أبرز ما تكون في المجتمع المدني أيضاً .
ونحن نقرأ في ما نزل من القرآن في مكّة قوله تعالى : «يا أ يّها المزّمّل قم الليل إلّاقليلاً »(5)،
وقوله تعالى : «ومن الليل فتهجّد به نافلةً لك عسى أن يبعثك ربّك مقاماً محموداً »(6)،
ونقرأ في ما نزل من القرآن في المدينة قوله تعالى : « محمّد رسول اللَّه والذين معه أشدّاء على الكفّار رحماء بينهم تراهم ركّعاً سجّداً يبتغون فضلاً من اللَّه ورضواناً سيماهم في وجوههم من أثر السجود »(7).
ونرى الحقّ جلّ وعلا يتبع فتح مكّة بالتوبة والاستغفار فيقول : «إذا جاء نصر اللَّه والفتح ورأيت الناس يدخلون في دين اللَّه أفواجاً فسبّح بحمد ربّك واستغفره إنّه كان توّاباً »(8).
ونرى النبيّ صلى الله عليه و آله يقول لأصحابه وهو في نزع الموت كما يروى : « الصلاة الصلاة وما ملكت أيمانكم »(9) ،
حتّى جعل يغرغر بها وما يفصح بها لسانه ، يوصيهم صلى الله عليه و آله بهذا وهو في نزع الموت ، لأنّ الصلاة مفتاح الفلاح في قوله تعالى : « قد أفلح المؤمنون الذين هم في صلاتهم خاشعون ... والذين هم على صلواتهم يحافظون »(10)، ويجعلها ربّنا تبارك وتعالى أوّل وآخر صفات المؤمنين .
تذكرة الآخرة :
وكان أصحاب النبيّ صلى الله عليه و آله يعملون في مكّة وذكر الآخرة بين أعينهم ، وينزل عليهم قوله تعالى : «القارعة ما القارعة وما أدراك ما القارعة يوم يكون الناس كالفراش المبثوث وتكون الجبال كالعهن المنفوش »(11)
ويظلّ توجيه اللَّه قائماً في حياتهم ، ونرى الوحي في المدينة ينزل بقوله تعالى «يا أ يّها الناس اتّقوا ربّكم إنّ زلزلة الساعة شيءٌ عظيم »(12)
وقوله تعالى : «يا أ يّها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم ناراً وقودها الناس والحجارة عليها ملائكة غلاظ شداد لا يعصون اللَّه ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون »(13).
روح الجماعة :
وقد يقال : إنّ أروع مظاهر الإخاء ظهرت في المدينة . ومن واجب الإنصاف أن نذكر الإخاء الكريم الذي كان يعيش فيه المسلمون في مكّة قبل الهجرة ... لقد كان أصحاب النبيّ صلى الله عليه و آله يقتسمون الثياب والطعام ويعيشون متكافلين ، وما بخل أحدهم بماله ولا عاقه المال عن الهجرة إلى ربّه .
قواعد الحياة الإسلاميّة واحدة :
فالقواعد الأساسيّة التي قامت عليها الحياة الإسلاميّة في مكّة من الإيمان باللَّه واليوم الآخر والعمل الصالح ، ومظاهر هذه القواعد من العبادة وقيام الليل وتحمّل الأذى البدني والبذل المالي والمحن النفسيّة ...
كلّ هذا ظلّ قويّاً في المدينة ، وبقي الصحابة على إيمانهم العميق باللَّه وإتقانهم عبادتهم ومداومتهم على تلاوة القرآن والتوبة والاستغفار ، وظلّوا يتحمّلون راضين تبعات الدعوة ، وزادت عليهم أعباء تنظيم الحياة في المدينة والجهاد في سبيل اللَّه .
الدولة :
وتنظيم المدينة كان قبل كلّ شيء إشاعة الإيمان فيها ، وكان الحكم الإسلامي مغرماً لم يعش فيه الصحابة ، كأ نّما فرغوا من دور التكوين واستقبلوا عهد التنفيذ ...
فهذه الأقسام اُمور لا يعرفها الإسلام - في ما أعلم - ، فأخلاق المسلم في مكّة ظلّت كما هي في المدينة ، وكلّ الذي زاد هو عبءٌ جديد يأتي فوق كواهل أرهقها السهر في قيام الليل والسعي في نشر دين اللَّه في أرضه .
اُسلوب العمل:
أذكر هذه الحقائق لما لها من أهميّة كبيرة في هذه الدورة من تاريخ ديننا ، فقد يسبق إلى الذهن أنّ تكوين الأفراد له « دورة » محدودة في تاريخ الجماعة ، ثمّ يأتي عهد تنفيذ لا يهتمّ فيه كثيراً بالتكوين ...
وشواهد الحياة في مكّة والمدينة توضح لنا الاُسلوب الذي ينبغي أن نتّخذه ، وتوجب علينا العناية بتمكين الإيمان في أنفسنا أوّلاً ... والإيمان باللَّه واليوم الآخر ، والعناية بالعبادة وصدق التوجّه إلى اللَّه وإتقان الصلاة ، وأن يكون هذا منهجنا جميعاً ، قادةً وجنوداً .
وقد يظنّ الفرد أ نّه بعد تحصيل قدر محدود من دينه قد وصل إلى درجة يقف فيها ساكناً لا يجاهد في تحسين عبادته وكثرة محصوله من كتاب اللَّه وسنّة النبيّ صلى الله عليه و آله ودعاء ربّه في ظلمة الليل والاستغفار والتوبة ، وتتحوّل الدعوة عنده إلى إدارة تفقد فيها الحيويّة الدافعة التي لا تنبثق في النفس إلّامن معين السجود .
إنّني أحسّ الفرق الدقيق بين الإسلام كدعوة وبين غيره من النظم في هذه النقطة بالذات ... فالإسلام أهمّ سماته التكوين الذي لا ينقطع ، التكوين الذي يضبط النفس والصفّ ويعرضهما دائماً على كتاب اللَّه ، التكوين الذي يفصل بين عمر الفرد وعمر الإسلام ...
فحين أفصل بين عمري وعمر ديني أعمل هادئاً لا أستعجل ثمرة ، وإنّما تأتي على قدر ، واللَّه لن يحاسبني على النصر بل سيحاسبني على الصدق ، وهو القائل في كتابه : «ليجزيَ اللَّه الصادقين بصدقهم »(14)، «وما النصر إلّامن عند اللَّه »(15).
المصادر :
1- آل عمران : 128 / البداية والنهاية 4 : 29 ؛ كشف الغمّة 1 : 181 ؛ مجمع البيان 2 : 831
2- صحيح البخاري 5 : 52 ؛ المنتظم 3 : 214 ؛ تاريخ مدينة دمشق 32 : 35
3- البداية والنهاية 4 : 210 ؛ دلائل النبوّة 4 : 261 ؛ إقناع الأسماع 13 : 346
4- البداية والنهاية 4 : 296 ؛ السنن الكبرى 9 : 122 ؛ أنساب الأشراف 1 : 356 ، 2 : 71
5- المزّمّل : 1
6- الإسراء : 79
7- الفتح : 29
8- النصر : 1
9- البداية والنهاية 5 : 238 ؛ دلائل النبوّة 7 : 205 ؛ المنتظم 4 : 39 ؛ إقناع الأسماع 14 : 496 . وفيها « الصلاة » مرّة واحدة
10- المؤمنون : 2
11- القارعة : 5
12- الحجّ : 1
13- التحريم : 6
14- الأحزاب : 24
15- آل عمران : 126