عربي
Sunday 24th of November 2024
0
نفر 0

سورة يونس ع

سورة يونس ع

Image result for ‫ارشاد الاذهان الى تفسير القران‬‌

 

سورة يونس مكية، عدد آياتها 109 آية

 


1- الر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْحَكِيمِ: قد تكلّمنا عن معاني الحروف المعجمة الواقعة في أول السور، فيما مضى. تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْحَكِيمِ أي هذه السور و التي كل واحدة منها عبارة عن مجموعة آيات هي من ذلك الكتاب الذي ربما كان اللوح المحفوظ الذي سمّاه حكيما لأنه ينطق بالحكمة و يؤدي إلى الصواب في العلم و المعرفة. 2- أَ كانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنا إِلى‌ رَجُلٍ مِنْهُمْ ... هو استفهام إنكاري، يعني: هل كان و حينا المنزل على رجل من الناس و قيل بأن المقصود بهم أهل مكة- مدعاة لتعجّبهم؟ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ خوّفهم بالعذاب وَ بَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا عرّفهم الخبر السارّ المفرح و هو أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ أن لهم أجرا حسنا و منزلة سامية عند اللّه بما قدّموا من صالح الأعمال. قالَ الْكافِرُونَ المنكرون: إِنَّ هذا لَساحِرٌ مُبِينٌ أي أن النبيّ (ص) يأتي بسحر يخفي الحقيقة بالحيلة، و يظهرها على غير وجهها، حتى يتوهّم الناس أنه يأتي بالمعاجز.
و قد قالوا ذلك لعجزهم عن أن يأتوا بمثل القرآن ليعارضوه به. 3-
إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ ... أي أن خالقكم و مدبّر شؤونكم الذي يجب عليكم عبادته هو اللّه الذي انشأ السّماوات و الأرض أيضا، بما فيهما من التنظيم و عجائب الصنع فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ لا تزيد و لا تنقص مع أن قدرته تسع خلقهما دفعة واحدة، ثُمَّ اسْتَوى‌ عَلَى الْعَرْشِ فسرنا ذلك في سورة الأعراف، يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يقدّره على الوجه الأكمل ما مِنْ شَفِيعٍ أي ليس من متوسط بالشفاعة لأحد إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ أي بعد أمره و الترخيص له بذلك. ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ أي أن الموصوف بتلك الصفات هو إلهكم المستحق للعبادة فَاعْبُدُوهُ وحده و لا تشركوا معه شيئا أَ فَلا تَذَكَّرُونَ يعني: هلّا تتفكّرون فيما يخبركم به؟. 4- إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً ... أي: إلى اللّه مرجعكم الّذي هو إمّا معادكم و إمّا موضع رجوعكم يوم حشركم جميعا في صعيد واحد وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا أي: أنه سبحانه وعد بذلك عباده وعدا صادقا. إِنَّهُ جلّ و علا يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ينشئه ابتداء و على غير مثال ثُمَّ يُعِيدُهُ بعد موته لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ أي ليعطيهم ثواب أعمالهم الحسنة بِالْقِسْطِ أي العدل وَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ شَرابٌ مِنْ حَمِيمٍ ماء حارّ غاية الحرارة من شدة نار جهنّم وَ لهم عَذابٌ أَلِيمٌ موجع بِما كانُوا يَكْفُرُونَ أي بسبب كفرهم و جزاء لهم عليه. 5- هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً ... أي أن هذا المتوحّد في الربوبيّة و الخلق و التدبير هو الذي جعل الشمس ضياء بالنهار وَ الْقَمَرَ نُوراً بالليل و الضياء أبلغ في دفع الظلمة من النور.
وَ قَدَّرَهُ مَنازِلَ أمكنة ينتقل من واحد منها إلى الآخر لِتَعْلَمُوا أي لتعرفوا بالقمر و منازله عَدَدَ السِّنِينَ وَ الْحِسابَ أي أول كل شهر و آخره، و تمام كل سنة و انقضاءها. ما خَلَقَ اللَّهُ ذلِكَ الخلق العجيب إِلَّا بِالْحَقِّ إلّا شاهدا بحق الربوبيّة و بحقّ كونه آية دالّة على الوحدانيّة، و اللّه يُفَصِّلُ الْآياتِ يشرحها و يوضحها لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ يعونها و يعطونها حظّها من الفهم و التدبّر في عظمتها. 6- إِنَّ فِي اخْتِلافِ اللَّيْلِ وَ النَّهارِ وَ ما خَلَقَ اللَّهُ فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ ... أي: في اختلاف تعاقب اللّيل و النهار على ما تقتضيه الحكمة في الآفاق و فعله في السماوات على ما تقتضيه الحكمة من النجوم و الكواكب و المجرات ثابتها و متحركها و فعله في الأرض كذلك من الحيوان و الجماد و النبات و جميع النعم الأخرى لَآياتٍ براهين و دلالات على وحدانيته و حكمة صنعه لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ لجماعة يجتنبون المعاصي و يخافون العقاب.  

                     إرشاد الأذهان إلى تفسير القرآن، ص: 214
 7- إِنَّ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا ... أي: إن المنكرين للبعث الكافرين بالثواب و العقاب، وَ رَضُوا بِالْحَياةِ الدُّنْيا أي قنعوا بها فلا يعملون إلا لها وَ اطْمَأَنُّوا بِها يعني سكنوا إليها و ركنت قلوبهم لمتعتها وَ الَّذِينَ هُمْ عَنْ آياتِنا غافِلُونَ أي الذين هم في غفلة عن حججنا و دلائلنا. 8- أُولئِكَ مَأْواهُمُ النَّارُ ... أي مقرّهم نار جهنّم بِما كانُوا يَكْسِبُونَ جزاء معاصيهم. 9- إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ ... أي الذين صدّقوا به و برسله ثم أضافوا إلى ذلك التصديق عمل الطاعات و الخير. يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمانِهِمْ يدلّهم إلى الطريق المؤدية إلى الجنة تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ أي من تحت قصورهم في الجنّة و من بين أيديهم و هم يتنعّمون غدا. 10- دَعْواهُمْ فِيها سُبْحانَكَ اللَّهُمَّ ... أي أن دعاء المؤمنين في الجنة و كلّ عملهم لا يتعدّى أكثر من قولهم: سبحانك يا اللّه لا على وجه العبادة إذ لا تكليف في الجنة و إنما التذاذا بالتسبيح وَ تَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ التحية: التكرمة، أي من اللّه لهم في الجنة هي: سلام، و قيل هذه تحية بعضهم لبعض. و قيل تحية الملائكة لهم. وَ آخِرُ دَعْواهُمْ الدعاء الأخير عندهم: أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ فهذا آخر كلّ كلام لهم، لا أنه آخر كلمة يقولونها و لا يتكلّمون بعدها بشي‌ء. 11
- وَ لَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ ... أي لو أن اللّه سبحانه يعجّل في استجابة دعاء النّاس على أنفسهم أو غيرهم بالشرّ، و أهلهم حين يتضجّرون من شي‌ء و يقولون: أمات اللّه فلانا، و لعن اللّه أبا فلان، و لا بارك اللّه في رزق فلان و لا في عمره اسْتِعْجالَهُمْ بِالْخَيْرِ يعني كما يعجّل لهم إجابة أدعيتهم في طلب الخير إذا استعجلوه لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ أي لأهلكهم و فرغ من تدميرهم فَنَذَرُ ندع الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا الذين لا يصدّقون بالبعث، فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ أي يتحيّرون في كفرهم. 12- وَ إِذا مَسَّ الْإِنْسانَ الضُّرُّ دَعانا ... أي إذا أصابه البلاء أو المحنة في الدنيا، ابتهل إلينا و تضرّع لِجَنْبِهِ و هو مضطجع أَوْ قاعِداً أو جالسا أَوْ قائِماً أو واقفا، فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُ ضُرَّهُ أي عندنا أزلنا عنه ذلك الضرّ الّذي أصابه مَرَّ استمرّ على حاله الأولى في إعراضه عن شكرنا كَأَنْ لَمْ يَدْعُنا إِلى‌ ضُرٍّ مَسَّهُ كأنّه ما دعانا لكشف ضرّه الذي أصابه كَذلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ أي على هذا الشكل زيّن للمشركين عملهم هذا من قبل أنفسهم أو من قبل الشيطان، أو بعضهم من قبل بعض، فمنحوا العافية بعد البلاء و لم يشكروا مانحها. 13- وَ لَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُوا ... القرون: جمع قرن، و هو أهل كل عصر من العصور، و قد سمّوا بذلك لمقارنة بعضهم ببعض. فاللّه تعالى قد أهلك أهل جميع العصور التي سبقتكم بأنواع العذاب لأنها عصت أوامر ربّها و أشركت به. وَ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ أي أتاهم أنبياؤهم بالدلالات الواضحة و المعجزات وَ ما كانُوا لِيُؤْمِنُوا أي: و في معلومنا السابق ما كانوا ليؤمنوا لو أبقيناهم، كَذلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ أي، و بمثل ذلك نعاقب المشركين مستقبلا فنهلكهم إذا علمنا أنهم لا يؤمنون بعد قيام الحجة عليهم. 14- ثُمَّ جَعَلْناكُمْ خَلائِفَ فِي الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ ... الخطاب لأمّة محمد (ص) فقد جعل المسلمين يخلفون الأمم التي أهلكها اللّه بظلمها، و أسكنهم الأرض من بعدها، لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ أي لنرى عملكم و هل تقتدون بتلك الأمم في الكفر أم تصلحون.                        إرشاد الأذهان إلى تفسير القرآن، ص: 215
 15- وَ إِذا تُتْلى‌ عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ ... الضمير في عَلَيْهِمْ يعود لمشركي قريش فقد نزلت في خمسة منهم اجتمعوا و قالوا للنبيّ (ص): ائت بقرآن ليس فيه ترك عبادة الأصنام أو بدّله. فهؤلاء و أضرابهم إذا قرئت عليهم آياتنا الواضحة قالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنَا من أمثال هؤلاء الكافرين بالبعث و الحساب: ائْتِ جي‌ء بِقُرْآنٍ غَيْرِ هذا الذي تتلوه علينا أَوْ بَدِّلْهُ فاجعله على خلاف ما هو عليه من عيب الأصنام و ترك عبادتها، قُلْ يا محمد لهؤلاء المعاندين: ما يَكُونُ لِي أي ليس لي حقّ أَنْ أُبَدِّلَهُ أغيّره مِنْ تِلْقاءِ نَفْسِي أي من جهة نفسي، إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحى‌ إِلَيَّ أي: ما أتّبع إلا الوحي كما ينزل إِنِّي أَخافُ أخشى إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي في اتّباع غيره عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ عذاب يوم القيامة. 16- قُلْ لَوْ شاءَ اللَّهُ ما تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ ... قُلْ يا محمد لهؤلاء: لَوْ شاءَ اللَّهُ أراد ما تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ ما قرأت آيات هذا القرآن عليكم وَ لا أَدْراكُمْ بِهِ أي: و لا أعلمكم اللّه به فَقَدْ لَبِثْتُ أقمت فِيكُمْ بينكم عُمُراً مِنْ قَبْلِهِ أي مدة طويلة قبل نزول القرآن عليّ فما ادّعيت رسالة و لا تلوت وحيا حتى أكرمني اللّه برسالته و قرآنه أَ فَلا تَعْقِلُونَ ألا تتفكّرون بعقولكم. 17-
فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى‌ عَلَى اللَّهِ كَذِباً ... أي ليس أحد أظلم ممن اخترع الكذب على اللّه و افتراه عليه. أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ رفضها إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ أي لا ينجح المشركون. 18- وَ يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَضُرُّهُمْ وَ لا يَنْفَعُهُمْ ... أي أن الكفار يعبدون غير اللّه و هو الأصنام مع أنها لا تضرهم إذا تركوا عبادتها، و لا هي تنفعهم إن عكفوا عليها وَ يَقُولُونَ هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللَّهِ أي يدّعون أنه سبحانه أذن لهم بعبادتها و سيشفّعها بهم يوم القيامة. قُلْ لهم يا محمد: أَ تُنَبِّئُونَ تخبرون اللَّهَ بِما لا يَعْلَمُ بشي‌ء لا يعرفه من عبادتكم للأصنام أو بما لا يعرفه ممّا فِي السَّماواتِ وَ لا فِي الْأَرْضِ فهو خالقهما و المحيط علمه بما فيهما. سُبْحانَهُ وَ تَعالى‌ عَمَّا يُشْرِكُونَ تنزه اللّه و سماه عن أن يستحق غيره العبادة. 19- وَ ما كانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً واحِدَةً فَاخْتَلَفُوا ...
قيل: إن الناس كانوا أمة واحدة من حيث الفطرة على الإسلام و التسليم للّه بالوحدانية منذ كانوا، ثم اختلفوا في الأديان و اعتناق العقائد. وَ لَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ هي أنه لا يعاجل العصاة بالعقاب إذ سبقت رحمته غضبه فلو لا ذلك لَقُضِيَ أي فصل بَيْنَهُمْ و حكم لهم أو عليهم فِيما فِيهِ يَخْتَلِفُونَ و ذلك بأن يهلك الكفار و ينجي المؤمنين. 20- وَ يَقُولُونَ لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ ... يعني هؤلاء الكفار يقولون: هلّا أنزل على محمد آية من ربه تلزم الخلق بتصديقه إلزاما فلا يلزمهم بعدها نظر و لا استدلال.
فَقُلْ يا محمد لهؤلاء المتعنّتين: إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلَّهِ اللّه وحده يعلم الغيب و ما في الأمور من المصالح قبل كونها و بعد كونها، و يعلم ما في إنزاله إصلاح فينزله، كما أنه يعلم ما ليس في إنزاله إصلاح فلا ينزله. فَانْتَظِرُوا ما يصيبكم من عقابه في الدنيا و الآخرة. إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ و قد وعدني النّصر عليكم و أنا انتظر إعزاز الدّين و إذلالكم. 

 

                       إرشاد الأذهان إلى تفسير القرآن، ص: 216
 21- وَ إِذا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُمْ ... أي إذا أصبنا الكفار- لا الناس جميعا- برحمة منّا، تشملهم من بعد أن يكونوا قد أصيبوا ببلاء. إِذا لَهُمْ مَكْرٌ فِي آياتِنا يعني: فإذا هم يحتالون لإنكار آياتنا استهزاء و تكذيبا قُلِ لهم يا محمد: اللَّهُ أَسْرَعُ مَكْراً يعني هو سبحانه أقدر جزاء على المكر و ذلك بإنزال العقاب بهم بأسرع من مكرهم إِنَّ رُسُلَنا أي الملائكة الحفظة يَكْتُبُونَ يسجلون ما تَمْكُرُونَ ما تدبّرون من حيل و سوء تصرّف. 22- هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَ الْبَحْرِ ... أي أنه تعالى هو الذي يمكّنكم من المسير في هذا و ذاك بما خلق لكم من آلات السير في كل منهما بما يناسبه حَتَّى إِذا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ أي لحين كونكم في السّفن وَ جَرَيْنَ بِهِمْ أي و مشت السفن و براكبيها جارية كجري الماء. بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ أي ليّنة وَ فَرِحُوا بِها أي سرّوا بتلك الريح لأنها تساعدهم في السير نحو هدفهم، جاءَتْها رِيحٌ عاصِفٌ أي ضربت السفينة ريح عصفت عليها بهبوبها المخيف، وَ جاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ أي اضطرب البحر و جاء الركاب الموج المتلاطم من جميع الجهات وَ ظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ اعتقدوا أن الموج طوّقهم و أيقنوا بالغرق ف دَعَوُا اللَّهَ ابتهلوا إليه مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ أي فعلوا ذلك على وجه الإخلاص في العقيدة و لم يذكروا وثنا و لا صنما لعلمهم بأنه لا ينفع و لا يغني شيئا، لَئِنْ أَنْجَيْتَنا يا ربّنا مِنْ هذِهِ الورطة لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ أي لنصيرنّ في جملة من يشكرك على نعمتك و فضلك.
23- فَلَمَّا أَنْجاهُمْ إِذا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ ...
أي: فلمّا خلّص اللّه تعالى ركاب السفينة من كارثة الغرق التي أوشكت أن تحلّ بهم، إذا هم يعملون بالمعاصي في الأرض و ينشرون الظلم و الفساد يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّما بَغْيُكُمْ عَلى‌ أَنْفُسِكُمْ مَتاعَ الْحَياةِ الدُّنْيا أي أن بغيكم فيما بينكم إنما تأتونه لحبكم الحياة العاجلة ثُمَّ إِلَيْنا مَرْجِعُكُمْ أي أن مآلكم في الآخرة إلينا فَنُنَبِّئُكُمْ نخبركم بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ بعملكم في الدّنيا لأننا سجّلناه عليكم. 24- إِنَّما مَثَلُ الْحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ أَنْزَلْناهُ ...
لمّا رغّب سبحانه في الآخرة و زهّد في الدنيا في الآيات السابقة، أتبع ذلك بصفة هذه و تلك، فشبّه سرعة الفناء في الحياة الدّنيا بالماء الذي أنزله مِنَ السَّماءِ مطرا مجتمعا ما لبث أن توزّع فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الْأَرْضِ لأن المطر يتخلّل النبات و يمتزج به و يغذّيه و يدخل في تركيبه و يصير جزءا فيه جميعه مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ من حبوب و فواكه و خضار، وَ الْأَنْعامُ كالعشب المختلف حَتَّى إِذا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَها أي بهجتها و حسنها وَ ازَّيَّنَتْ يعني تزيّنت و تزخرفت في عيون الناظرين إليها وَ ظَنَّ أَهْلُها أي أيقن مالكوها أَنَّهُمْ قادِرُونَ عَلَيْها مستطيعون أن ينتفعوا بها على الدوام أَتاها أَمْرُنا لَيْلًا أَوْ نَهاراً جاءها قضاؤنا الذي حتمناه لإتلافها فَجَعَلْناها حَصِيداً أي صيّرناها محصودة نقتلعها من الأرض يابسة جافّة كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ أي كأنها لم تكن قائمة غنّاء زاهية في أمسها كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ و بمثل ذلك المثل نبيّن حججنا للمعتبرين. 25- وَ اللَّهُ يَدْعُوا إِلى‌ دارِ السَّلامِ ... قيل إن السلام هو اللّه تعالى، و دار السلام هي الجنّة التي أعدّها للمطيعين، و قيل إن دار السلام هي التي يسلم فيها المؤمنون من الآفات. وَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ بواسطة رسله إِلى‌ صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ إلى طريق الصلاح الموصلة إلى الدين الحق بنصب الأدلّة للمكلّفين، و قيل يهدي عباده الصالحين إلى طريق الجنة

                        إرشاد الأذهان إلى تفسير القرآن، ص: 217
 26- لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى‌ وَ زِيادَةٌ ... الكلام متصل بين الآية و سابقتها، أي قد أعدّ سبحانه في دار السلام للمحسنين ممّن أطاعوا اللّه في الدنيا جزاء حسناهم، مع زيادة من منازل اللذّات و النعيم تفضلا منه. وَ لا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَ لا ذِلَّةٌ أي لا يلحق وجوههم سواد أو غبرة و لا هوان أُولئِكَ أي الّذين أحسنوا أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ مضى تفسيره.
27- وَ الَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئاتِ ... أي: ارتكبوا المعاصي جَزاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِها فهم يجزون بحسب ما يستحقون على أعمالهم دون زيادة، وَ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ أي يلحقهم هو ان لأن في العقاب إذلالا لهم. ما لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عاصِمٍ أي ليس لهم مانع يمنع عنهم عقاب اللّه كَأَنَّما أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعاً مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِماً أي كأن وجوههم غطّيت بظلمة الليل لسوادها من شدة خوفهم و ذلتهم أُولئِكَ المسيئون أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ مر معناه. 28- وَ يَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ...
و المعنى: أننا يوم نجمعهم من كل حدب و صوب إلى موقف القيامة ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مع اللّه غيره في عبادتهم و أموالهم. مَكانَكُمْ أي الزموا مكانكم، أَنْتُمْ وَ شُرَكاؤُكُمْ و معكم شركاؤكم من الأوثان و الأصنام في المحشر كما كنتم في الدنيا فَزَيَّلْنا بَيْنَهُمْ أي ميّزنا و فرّقنا بينهم لسؤال هؤلاء وحدهم، و سؤال أولئك بمفردهم، وَ قالَ شُرَكاؤُهُمْ لهم: ما كُنْتُمْ إِيَّانا تَعْبُدُونَ إذ ينطقهم اللّه سبحانه بقدرته فيقولون لعبدتهم من المشركين: لم نشعر بأنكم كنتم تعبدوننا. 29- فَكَفى‌ بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنَنا وَ بَيْنَكُمْ ... أي كفى به عزّ اسمه فاصلا للحكم بالحق بيننا و بينكم أيها الّذين أشركتم بعبادتنا مع اللّه إِنْ كُنَّا عَنْ عِبادَتِكُمْ لَغافِلِينَ مضى تفسيره. 30- هُنالِكَ تَبْلُوا كُلُّ نَفْسٍ ما أَسْلَفَتْ ... أي حينئذ، و في ذلك المكان تجرّب و تختبر حاصل ما قدّمته من حسنات و سيئات وَ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ أرجعوا بالبعث و القيامة إلى ربّهم و مَوْلاهُمُ الْحَقِّ وليّهم الحقيقي الذي لا يزول و لا يحول و الذي يملك الحكم عليهم وحده لأنه خالقهم و مالكهم وَ ضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ أي ضاع من بين أيديهم ما كانوا يعدّونه شريكا مع اللّه تعالى، افتراء عليه. 31- قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَ الْأَرْضِ ... أي قل يا محمد لهؤلاء: من يعطيكم الأرزاق من السماء بالمطر و من الأرض بالنبات و الشجر أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَ الْأَبْصارَ أي: فمن هو الذي يملك إعطاءكم حاستي السمع و البصر و لو شاء لسلبهما؟ وَ مَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ كالإنسان من النطفة. وَ يُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ كالبيضة من الدجاجة و كالبذرة من النّبتة. و قيل: المقصود: من يخرج المؤمن من الكافر، و الكافر من المؤمن وَ مَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ أي الأمور في السماوات و الأرضين، بالشكل المحكم الذي ليس فيه خلل؟ ... فَسَيَقُولُونَ: اللَّهُ يعني: سيعترفون بأن اللّه يفعل ذلك كلّه و أن معبوداتهم من الأصنام لا تقدر عليها فَقُلْ يا محمد لهم: أَ فَلا تَتَّقُونَ أ فلا تفكّرون بعقولكم و تدركون هذه المعاني؟
32- فَذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ ... و المعنى أن من وصفته الآية السابقة هو اللّه ربكم الحق الذي وجبت له الألوهية و العبادة فَما ذا بَعْدَ الْحَقِّ الذي تقرّر بالحجة و البرهان إِلَّا الضَّلالُ أي الضياع في متاهات الكفر؟ فَأَنَّى كيف و أين تُصْرَفُونَ تعدلون عن عبادة اللّه الحق إلى الباطل. 33- كَذلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ ... أي: بمثل ذلك الاستدراج البسيط و الاستقراء الحكيم، وجبت كلمة ربّك، و هي حكمة عليهم بالعقوبة على شركهم عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا أي تعدّوا على حدود اللّه أَنَّهُمْ لا يُؤْمِنُونَ يعني بأنهم لا يصدقون. 

 

 

                       إرشاد الأذهان إلى تفسير القرآن، ص: 218
 34- قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ... قل يا محمد لهم: هل واحد من أصنامكم يملك إنشاء الخلق و ابتداعه ابتداء من العدم ثم يفنيه ثُمَّ يُعِيدُهُ في نشأة ثانية بعد موته و فنائه؟ ... قُلِ اللَّهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ لأن جوابهم الحتمي: ليس من شركائنا من يفعل ذلك أو يقدر عليه، بل للّه الخلق و الإنشاء، فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ كيف تقعون في الإفك و تنصرفون عن الحق إلى الباطل؟ 35- قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ ... فتابع معهم الحجاج يا محمد و اسألهم: هل من معبوداتكم التي أشركتموها مع اللّه معبود يدل على طريق الحق و يدعو إلى ترك الباطل، و يأمر بالرشاد و الخير قُلِ اللَّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ و تابع جدالهم بقولك: أَ فَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ و يدل على ما فيه الصلاح و الخير في الدارين أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أي يؤخذ بأوامره و نواهيه أَمَّنْ لا يَهِدِّي يعني أم من لا يهتدي و لا يهدي أحدا إلى شي‌ء إِلَّا أَنْ يُهْدى‌ يدل إذا كان يسمع أو يرى. فَما لَكُمْ ما بكم، و ما عراكم؟ كَيْفَ تَحْكُمُونَ كيف تقضون في هذا الأمر؟. 36- وَ ما يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلَّا ظَنًّا ... أي لا يأخذ أكثر هؤلاء الكفار إلّا بالتخمين كتقليد آبائهم. و إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً لأن الظّن غير العلم، و العلم هو الحقيقة، فالظنّ لا يكفيهم بديلا عن الحق، و قد يأتي على خلاف ما ظنّوا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِما يَفْعَلُونَ عارف جيدا بما يعملون من عبادة غيره و سيجزيهم على ذلك الجزاء الملائم لشركهم. 37-
وَ ما كانَ هذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرى‌ ... أي: ما كان يمكن افتراء هذا القرآن الكريم، لكي يمكن قول مثله مِنْ دُونِ اللَّهِ من غيره، وَ لكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ بل هو مصدّق لما سبقه من الكتب الموحى بها و قيل: إنه مؤكّد لما يأتي من بعده من البعث و الحساب وَ تَفْصِيلَ الْكِتابِ أي: و مبيّنا لما كتب في اللوح المحفوظ من التكاليف، لا رَيْبَ فِيهِ لا شكّ في أنه منزل مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ و حيا لا يمكن تبديله و لا افتراء مثله. 38- أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ ... أي: أ يقولون افترى محمد (ص) هذا القرآن؟ قُلْ لهم يا محمد فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ يعني: جيئوا بسورة واحدة تشبهه مع أنكم من أهل لغته العربية، وَ ادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أي استعينوا بمن شئتم- غير اللّه- ليساعدوكم في معارضته إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ في قولكم إنه مفترى ...
39- بَلْ كَذَّبُوا بِما لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ ... أي أنهم كذّبوا بالقرآن حين عجزوا عن فهمه فحكموا ببطلانه إذ لم يعرفوا معانيه و مراميه وَ لَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ أي لم يجئهم بعد تفسيره و بيان ما فيه من المحكم و المتشابه، و ممّا يؤول إليه أمرهم من العقوبة، كَذلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كمثل تكذيبهم كذّبت الأمم السابقة أنبياءها فَانْظُرْ تأمل يا محمد كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الظَّالِمِينَ أي أن من قبلهم هلك بتكذيب الرّسل، و عاقبة هؤلاء ستكون كذلك بسبب تكذيبك. 40- وَ مِنْهُمْ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَ مِنْهُمْ مَنْ لا يُؤْمِنُ بِهِ ... أي أن منهم من يؤمن به بينه و بين نفسه و يعترف بصحته و لكنه شاكّ متحيّر، و منهم من لا يصدّق به و يخالف و قيل: بأن الآية ناظرة إلى حال هؤلاء مستقبلا حيث يعلم اللّه بأن منهم من سوف يؤمن بهذا القرآن و منهم من سوف يبقى على تكذيبه به. وَ رَبُّكَ أَعْلَمُ بِالْمُفْسِدِينَ أي بمن يدوم على الفساد و لا يقلع عن العناد و لا يرجع إلى الصواب. 41- وَ إِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي وَ لَكُمْ عَمَلُكُمْ ... هذا خطاب منه سبحانه لرسوله (ص) يعني: إذا كذّبك قومك و داوموا على معاندتك فقل لهم: لي عملي و ما يجرّ عليّ من نفع أو ضرر، و لكم عملكم و جزاؤه الذي يترتّب عليه أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ لن يصيبكم شي‌ء من نتيجة عملي وَ أَنَا بَرِي‌ءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ أي و أنا أتبرّأ إلى اللّه من سوء عملكم و وزره. 42- وَ مِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ ... أي و من هؤلاء الكفار من يطلب سماع ما تتلوه و ما تدعو إليه بدافع معاندتك أَ فَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ أي هل تقدر يا محمد أن توصل صوتك إلى من فقد حاسة السمع وَ لَوْ كانُوا لا يَعْقِلُونَ أي: حتى و لو كانوا في غاية الجهل؟.    

 

 

                    إرشاد الأذهان إلى تفسير القرآن، ص: 219
 43- وَ مِنْهُمْ مَنْ يَنْظُرُ إِلَيْكَ ... أي و من هؤلاء الكفار من ينظر إلى أقوالك و أفعالك نظرا لا عبرة فيه أَ فَأَنْتَ أي هل أنت يا محمد تَهْدِي تدل الْعُمْيَ على طريقهم و ترشدهم إليه وَ لَوْ كانُوا لا يُبْصِرُونَ أي لا ينظرون المعالم التي تدلّهم عليها؟ و الاستفهام في كلتا الآيتين إنكاري. 44- إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئاً ... أي أنه يوفّيهم جزاء أعمالهم غير منقوص لأنه منزّه عن الظلم وَ لكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ أي و لكن العباد العاصين يظلمون أنفسهم بأنفسهم حين ينصرفون عن دعوته سبحانه اتباعا لأهوائهم. 45- وَ يَوْمَ يَحْشُرُهُمْ ... أي حين يجمع سبحانه هؤلاء الكفار يوم القيامة كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا كأنّهم لم يبقوا قبل البعث في الدنيا، أي أنهم استقلوا مكثهم في الدنيا إذ هو في جنب مكث الآخرة كساعة ليس إلّا إِلَّا ساعَةً من الزمن كجزء مِنَ النَّهارِ الذي هو من الفجر إلى أول الليل. يَتَعارَفُونَ بَيْنَهُمْ يتعرّف بعضهم إلى بعض إذا خرجوا من قبورهم، و يعرف بعضهم خطأ بعض و كفره، قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقاءِ اللَّهِ أي قد ظهر خسرانهم بلقاء الجزاء على سوء عملهم وَ ما كانُوا مُهْتَدِينَ للحق في دار الدنيا. 46- وَ إِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ ... أي: فإمّا أن نريك يا محمد- في حياتك- بعض ما نعد هؤلاء الكفار، أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ أو نأخذك من بينهم بالوفاة قبل نزول ما وعدناهم به في الدّنيا من العقوبة بالقتل و غيره فَإِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ معادهم ثُمَّ اللَّهُ شَهِيدٌ عَلى‌ ما يَفْعَلُونَ أي أنه تعالى ناظر عالم بما يقومون به و سيوفّيهم جزاء عملهم. 47- وَ لِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ ... أي و لكل جماعة مجتمعة على طريقة واحدة نبيّ أرسلناه إليها و حمّلناه ما ينبغي لها فعله و تركه، فَإِذا جاءَ رَسُولُهُمْ أي إذا بعث إليهم و بلّغهم. فصدّقه البعض و كذّبه الآخر. قُضِيَ بَيْنَهُمْ أي حكم بنجاة المصدّقين، و إهلاك المكذّبين، بِالْقِسْطِ أي العدل وَ هُمْ لا يُظْلَمُونَ أي لا يلحق جور على المكذّبين، و لا ينقص من ثواب المطيعين. 48-
وَ يَقُولُونَ مَتى‌ هذَا الْوَعْدُ ... و الوعد يكون للخير، و الوعيد للشر. و المعنى أن الكفار يقولون إنكارا و تكذيبا: متى يقع هذا الوعد للمطيعين بالفوز بالجنّة؟ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ في القول الذي تقولونه أيها الرّسل. 49- قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَ لا نَفْعاً ...
قل يا محمد لهؤلاء المشركين المكذّبين: أنا لا أقدر على جلب نفع لنفسي و لا على دفع ضرّ عنها فكيف أملكه لغيري؟ إِلَّا ما شاءَ اللَّهُ إلّا ما أراد لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ أي لكل أمة وقت محدد أجله لتعذيبها على تكذيب رسوله إِذا جاءَ أَجَلُهُمْ حان وقت موعدهم فَلا يَسْتَأْخِرُونَ يملكون طلب تأخير ساعَةً لنزول العذاب عن ذلك الموعد، وَ لا يَسْتَقْدِمُونَ يملكون طلب تقديم مثلها للوصول إلى الثواب. 50- قُلْ أَ رَأَيْتُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُهُ بَياتاً ... أي: قل يا محمد للمشركين: هل دريتم أنه إن جاءكم عذاب اللّه الذي وعد به الكافرين ليلا و أنتم بائتون أَوْ نَهاراً و أنتم مستيقظون ما ذا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ أي ما هو الشي‌ء المطموع به الذي يطلب العصاة تعجيله لنفعهم؟. 51- أَ ثُمَّ إِذا ما وَقَعَ آمَنْتُمْ بِهِ ... و معناه: أحين وقع عليكم العذاب في وقته المعيّن صدّقتم باللّه أو بالقرآن أو بالعذاب. آلْآنَ أفي هذا الوقت الذي لا يفيد فيه الندم، تؤمنون؟ وَ قَدْ كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ و كنتم قبل وقوعه تطلبون استعجاله. 52- ثُمَّ قِيلَ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذابَ الْخُلْدِ ... أي بعد وقوع العذاب يوم القيامة يقال لمن ظلموا أنفسهم: ذوقوا العذاب الدائم الذي لا يخفّف و لا تنقضي مدته، هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا بِما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ أي هل نالكم إلّا جزاء ما ارتكبتم من المعاصي؟ 53- وَ يَسْتَنْبِئُونَكَ أَ حَقٌّ هُوَ ... أي يطلبون منك يا محمد أن تخبرهم أحقّ هو: ما جئت به من الرسالة و القرآن و الشريعة، أو ما وعدتنا به من البعث و العذاب، ف قُلْ مجيبا إياهم: إِي وَ رَبِّي: نعم و حقّ اللّه إِنَّهُ لَحَقٌّ لا شكّ فيه وَ ما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ أي لستم بفائتين له. 

 

 

                       إرشاد الأذهان إلى تفسير القرآن، ص: 220
 54- وَ لَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ ما فِي الْأَرْضِ ... أي: لو كانت كلّ نفس أشركت بال 54 لّه، تملك جميع ما في الأرض لَافْتَدَتْ بِهِ لفدت نفسها به يوم القيامة من العذاب وَ أَسَرُّوا النَّدامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ أي و أخفوا ندامتهم حين شاهدوا العقاب الذي ينتظرهم وَ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ أي حكم بالعدل وَ هُمْ لا يُظْلَمُونَ لا يصيبهم ظلم ممّا يفعل بهم بسبب جنايتهم على أنفسهم. 55- أَلا إِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ ... المعنى: اعلموا أن اللّه تعالى يملك السماوات و الأرض و له حق التصرف بهنّ و بمن فيهنّ و لا يقدر أحد على الاعتراض عليه إن أراد أن ينزل عذابه على مستحقّيه أَلا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ بإنزال عقابه بالكافرين وَ لكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ أي لم يعرفوا صحة ذلك الوعد لجهلهم المطبق باللّه تعالى. 56- هُوَ يُحيِي وَ يُمِيتُ وَ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ: أي أنه سبحانه يردّ الناس أحياء بعد موتهم، و يميتهم بعد أن جعلهم أحياء، و إليه تردّون أيها الناس فيجازيكم على أعمالكم. 57- يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ ... هذا خطاب لجميع الناس ينبّههم فيه إلى أنه قد جاءتكم من اللّه موعظة تخوّفكم من جاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ ... هذا خطاب لجميع الناس ينبّههم فيه إلى أنه قد جاءتكم من اللّه موعظة تخوّفكم من المعصية و العقاب و ترغّبكم بالطاعة و الثواب، و هي القرآن.
وَ هي شِفاءٌ لِما فِي الصُّدُورِ برء للنفوس تعافيها ممّا فيها من الجهل. وَ هُدىً أي دلالة إلى طريق الحق وَ رَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ أي نعمة لمن أخذ بها و انتفع بما فيها. 58- قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَ بِرَحْمَتِهِ ... أي: قل يا محمد للناس: بإفضال اللّه و نعمته فَبِذلِكَ أي بفضله و بنعمته فَلْيَفْرَحُوا فليسرّوا، فذلك هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ من حطام الدّنيا، لأن ما في الدنيا يزول و هذا باق. 59- قُلْ أَ رَأَيْتُمْ ما أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ ... قل يا محمد لكفار مكة: هل نظرتم إلى ما أعطاكم اللّه من رزق و جعله حلالا لكم فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَراماً وَ حَلالًا أي فجعلتم من عند أنفسكم بعضه حلالا و بعضه حراما كتحريم السائبة و البحيرة و غيرهما قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ أي تكذبون. و معناه: لم يأذن لكم بشي‌ء من ذلك، و أنتم تكذبون عليه فيما حلّلتم و حرّمتم. 60- وَ ما ظَنُّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ يَوْمَ الْقِيامَةِ ... يعني: أي شي‌ء يظن الذين يكذبون على اللّه و ماذا يعتقدون أنه يصيبهم بسبب كذبهم عليه إلا العذاب الشديد إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ بما منّ عليهم من النّعم و الأفضال وَ لكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَشْكُرُونَ لا يحمدونه على أفضاله و نعمه بل يجحدونها. 61- وَ ما تَكُونُ فِي شَأْنٍ ... و معناه: أنك يا محمد ما تكون في حال من أحوالك وَ ما تَتْلُوا مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ أي: و ما تقرأ من اللّه من الكتاب الذي ينزله عليك منجّما، بل وَ لا تَعْمَلُونَ أيها الناس جميعا مِنْ عَمَلٍ كائنا ما كان إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً مشاهدين لكم و ناظرين إليكم إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ إذ تخوضون فيه وَ ما يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ أي: و ما يغيب عن رؤيته و علمه مِنْ مِثْقالِ ذَرَّةٍ أي أصغر وزن ممكن فِي الْأَرْضِ وَ لا فِي السَّماءِ من أعمال ساكنيهما وَ لا أَصْغَرَ مِنْ ذلِكَ أي: و لا أصغر من الذرّة وَ لا أَكْبَرَ منها إِلَّا كان ذلك مسجّلا فِي كِتابٍ مُبِينٍ في كتاب بيّنه اللّه تعالى و هو اللوح المحفوظ.   

 

 

                     إرشاد الأذهان إلى تفسير القرآن، ص: 221
62- أَلا إِنَّ أَوْلِياءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ ... ألا: للتنبيه، افتتح بها للدلالة على أهمية المطلب، و اللّه سبحانه يذكر في هذه الآية و الآيتين بعدها أولياءه و يعرّفهم و يصف آثار ولايتهم و ما يختصون به من خصائص، و المعنى: أي أن المطيعين للّه لا خوف عليهم من العقاب يوم القيامة وَ لا هُمْ يَحْزَنُونَ أي و لا يصيبهم الهم و الحزن. كل ذلك لأنهم حصلوا الدرجة العليا من الإيمان الذي يتكامل به معنى العبودية للّه و المملوكية له، بحيث لا يرى العبد معها أن لنفسه شيئا من الأمر حتى يخاف فوته أو يحزن لفقده. 63- الَّذِينَ آمَنُوا وَ كانُوا يَتَّقُونَ ...: أي الّذين صدّقوا باللّه و برسوله و بدينه، و تجنّبوا معاصيه. 64-هُمُ الْبُشْرى‌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا ...
 أي أن المؤمنين المتقين لهم بشارة من اللّه تعالى بالخير. قيل إنها بشارته لهم في القرآن في ما ذكره عن المؤمنين المتقين، و قيل هي بشارة الملائكة (عليهم السلام) لهم عند موتهم، و قيل غير ذلك‌
 لهم البشرى‌ي الْآخِرَةِ
 حيث تبشرهم الملائكة بالجنّة عند خروجهم من القبور تَبْدِيلَ لِكَلِماتِ اللَّهِ‌
 أي لا خلف و لا تغيير لما وعد سبحانه من الثواب،لِكَ‌
 أي الذي سبق ذكره من البشارة في الحياة و بعد الممات‌وَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ‌
 هو النجاح الكبير. 65- وَ لا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ ... أي لا ينبغي أن يجلب قولهم لك الحزن و الغم لأنه مؤذ. إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً و اللّه الذي استأثر لنفسه بالعزة كلّها يمنع أذاهم عنك بقدرته هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ مر معناه. 66- أَلا إِنَّ لِلَّهِ مَنْ فِي السَّماواتِ وَ مَنْ فِي الْأَرْضِ ...: أي أنه سبحانه مالك كل عاقل فيهما و غير العاقل تابع للعاقل. وَ ما يَتَّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ شُرَكاءَ أي أنهم على لا شي‌ء في شركهم، إذ ما يعبدون ليسوا شركاء للّه في الحقيقة. إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ فليسوا على يقين من ربوبيّة تلك الأصنام و لكنّ عملهم تقليد للآباء وَ إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ فما هم إلّا كاذبين بهذا الزعم.
67- هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ ... أي أن ذلك المالك للسماوات و الأرضين و من فيهن هو خالق الليل الذي تهدأون فيه و ترتاحون من تعب النهار وَ النَّهارَ مُبْصِراً أي جعله مضيئا تبصرون فيه و تهتدون إلى ما تحتاجون إليه إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ الحجج و البينات سماع فهم و تدبّر. 68- قالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً ... المقصود بالقائلين النصارى و قريش التي قالت بأن الملائكة بنات اللّه سُبْحانَهُ أي: تنزيها له عن ذلك و تقديسا هُوَ الْغَنِيُّ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ عن أن يكون له ولد إِنْ عِنْدَكُمْ مِنْ سُلْطانٍ بِهذا أي: ما عندكم على هذا القول حجة مقنعة أَ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ حقيقته افتراء، و تختلقون عليه. 69- قُلْ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ ... أي:
قل يا محمّد للمتقوّلين على اللّه المفترين عليه الْكَذِبَ باتّخاذ الولد و غيره: إنهم لا يُفْلِحُونَ لا يفوزون بنصر أو ثواب. 70- مَتاعٌ فِي الدُّنْيا ثُمَّ إِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ ... يعني أنهم قدّر لهم متاع ينعمون فيه قليلا بمتاع الحياة، ثم تنقضي أيامه ثم إلى حكمنا مصيرهم ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذابَ الشَّدِيدَ عذاب النار بِما كانُوا يَكْفُرُونَ يعني: بكفرهم.   

 

 

                     إرشاد الأذهان إلى تفسير القرآن، ص: 222
 71- وَ اتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ ... أي اقرأ عليهم يا محمد خبر نوح إِذْ حين قالَ لِقَوْمِهِ الّذين أرسلناه إليهم:
يا قَوْمِ إِنْ كانَ كَبُرَ أي شقّ و عظم عَلَيْكُمْ مَقامِي إقامتي بينكم وَ تَذْكِيرِي أي تنبيهي و وعظي إياكم بِآياتِ اللَّهِ ببيناته و حججه الدالّة على صدق التوحيد و ما إليه، و على بطلان ما أنتم عليه من الكفر فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ أي أكل أموري إليه ليكفيني شرّكم، فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَ شُرَكاءَكُمْ أي: اتّفقوا فيما بينكم على أمر واحد أنتم و شركاؤكم من طردي أو قتلي ثُمَّ لا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً أي لا تغتمّوا ممّا أنتم فيه و لا تحزنوا و اكشفوا عداءكم ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ أي نفّذوا ما اتّفقتم عليه من طردي أو قتلي وَ لا تُنْظِرُونِ: و لا تمهلوني. 72- فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَما سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ ... أي إذا انصرفتم عن دعوتي و لم تقبلوا قولي إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ يعني: ما أجري إلا على ربّي الّذي قمت بأداء رسالته وَ أُمِرْتُ منه عزّ اسمه أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ المستسلمين لأمره بطاعته. 73-
فَكَذَّبُوهُ فَنَجَّيْناهُ وَ مَنْ مَعَهُ ... أي لم يقبلوا قوله و اعتبروه كاذبا في ادّعاء النبوّة فخلّصناه، هو و المؤمنين الذين معه و أمرناه أن يركب فِي الْفُلْكِ أي السفينة التي ألهمناه صنعها وَ جَعَلْناهُمْ خَلائِفَ يعني قدّرنا أن يخلفوا قوم نوح بعد هلاكهم بالغرق وَ أَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا أي غمرنا الأرض بالماء حتى مات جميع أهلها فَانْظُرْ أيها المستمع لقولنا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ كيف كانت نهاية من خوّفناه من آياتنا فلم يرتدع. 74- ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِ رُسُلًا إِلى‌ قَوْمِهِمْ ... أي أنه سبحانه أرسل بعد نوح (ع) أنبياء، يعني بهم إبراهيم و هودا و صالحا و لوطا و شعيبا، كلّ واحد منهم إلى جماعته التي كان فيها فَجاؤُهُمْ بِالْبَيِّناتِ بالبراهين و الحجج الواضحة التي تدل على صدقهم فَما كانُوا فما كان أقوامهم لِيُؤْمِنُوا يصدّقوا بِما كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ أي بما رفضه أسلافهم و كذّبوه. كَذلِكَ كهذا الذي أصيب به قوم نوح نَطْبَعُ عَلى‌ قُلُوبِ الْمُعْتَدِينَ أي نجعل في قلوبهم علامة دالة على كفرهم تكون مدعاة لذمّهم. 75- ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسى‌ وَ هارُونَ ... ثم أرسلنا من بعد الرسل أو الأمم موسى و هارون نبيّين رسولين. إِلى‌ فِرْعَوْنَ وَ مَلَائِهِ و رؤساء قومه، بِآياتِنا بمعجزاتنا فَاسْتَكْبَرُوا تعالوا عن الانقياد لها و الإيمان بها. وَ كانُوا قَوْماً مُجْرِمِينَ أي كانوا عصاة مستحقّين للعقاب. 76- فَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنا ... أي: و حين جاء فرعون و قومه الحقّ الظاهر من عند اللّه تعالى، و هو ما أتى به موسى من الآيات و المعجزات قالُوا إِنَّ هذا لَسِحْرٌ مُبِينٌ أي أنه سحر واضح. 77- قالَ مُوسى‌ أَ تَقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَكُمْ ... يعني أن موسى قال للمنكرين لآيات ربّه أَ سِحْرٌ هذا؟ هل هذا الذي جئتكم به سحر. مع أنه حقّ و السحر باطل؟ وَ لا يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ مع أنه لا يظفر أهل السحر بحجة و لا ينجحون. 78- قالُوا أَ جِئْتَنا لِتَلْفِتَنا عَمَّا وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا ... أي قال فرعون و قومه لموسى: هل أتيتنا لتصرفنا عن العقيدة التي كان عليها آباؤنا وَ تَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِياءُ أي: تصير لك و لهارون السلطان علينا، فِي الْأَرْضِ في مصر وَ ما نَحْنُ لَكُما بِمُؤْمِنِينَ أي لسنا بمصدّقين ما تدّعيانه. 

 

 

                       إرشاد الأذهان إلى تفسير القرآن، ص: 223
 79- وَ قالَ فِرْعَوْنُ ائْتُونِي بِكُلِّ ساحِرٍ عَلِيمٍ: أي أن فرعون حين أعجزته آيات موسى و لم يستطع دفعها بغير ادّعاء كونها سحرا، قال لقومه: جيئوني بكل ساحر متقن للسحر عارف بجميع نواحيه. 80- فَلَمَّا جاءَ السَّحَرَةُ قالَ لَهُمْ مُوسى‌ ...
فعند ما أتى السحرة، الذين استدعاهم فرعون فقال لهم موسى (ع): أَلْقُوا ما أَنْتُمْ مُلْقُونَ أي اطرحوا ما تريدون طرحه من سحركم. و قيل معناه: افعلوا ما أنتم فاعلون من السحر. 81- فَلَمَّا أَلْقَوْا قالَ مُوسى‌ ما جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ ... أي حين ألقوا حبالهم و عصيّهم قال موسى لهم: هذا الذي جئتم به هو السحر. إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ أي سيظهر عملكم باطلا إِنَّ اللَّهَ لا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ أي أنه سبحانه لا يجعل عمل من قصد الإفساد في الدّين ناجحا، لأنه يريد أن يظهر الحق من الباطل. 82-
وَ يُحِقُّ اللَّهُ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ وَ لَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ: أي يظهر اللّه الحقّ و يظهر أهله و يدحض الباطل و أهله بما سبق من حكمه في اللوح المحفوظ بذلك رغم أنوف الكافرين. 83- فَما آمَنَ لِمُوسى‌ إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ ... الذرّية هي الجماعة من نسل القبيلة. المعنى أنه لم يصدّق بآيات موسى (ع) إلّا فئة من جيل الشباب و الشابات من قوم فرعون، و قيل من بني إسرائيل: قوم موسى (ع)، و قيل بعض يسير من قوم فرعون فيهم امرأة فرعون و مؤمن آل فرعون و السّحرة و بعض من بني إسرائيل عَلى‌ خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ أن يفتك بهم و يقتلهم، وَ خوف من مَلَائِهِمْ أي:
أشرافهم و رؤسائهم أَنْ يَفْتِنَهُمْ أي: يصرفهم فرعون عن عقيدتهم بما يمتحنهم به من عظيم البلاء و العذاب وَ إِنَّ فِرْعَوْنَ لَعالٍ فِي الْأَرْضِ أي متكبر طاغ وَ إِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ المجاوزين الحد في الكفر و الطغيان. 84- وَ قالَ مُوسى‌ يا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ ...
أي قال موسى (ع) للذين آمنوا به يا جماعتي إن كنتم صدّقتم باللّه و بنبوتي فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا أسندوا إليه أموركم إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ مسلّمين له على الحقيقة. 85- فَقالُوا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنا ...
يعني: أجاب المؤمنون باللّه و بدعوة موسى قائلين: توكّلنا على اللّه و وكلنا أمورنا إليه رَبَّنا لا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ أي: نسألك يا اللّه أن لا تجعلنا محلّ الابتلاء بكيد فرعون و لا تظهره علينا، لئلا يفتتن بنا الكفار و يظنّوا أن لو كنّا على الحق ما ظفر بنا فرعون و قومه. 86- وَ نَجِّنا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكافِرِينَ: معناها:
خلّصنا يا رب بلطفك بنا، من فرعون و قومه المقيمين على الكفر.
87- وَ أَوْحَيْنا إِلى‌ مُوسى‌ وَ أَخِيهِ ... أي أمرناهما بواسطة الوحي أَنْ تَبَوَّءا أي اتّخذا لِقَوْمِكُما للذين آمنوا بكما بِمِصْرَ بُيُوتاً يأوون إليها وَ اجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً أي اجعلوها أماكن للصلاة.
وَ أَقِيمُوا الصَّلاةَ أي: واظبوا على أدائها وَ بَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بالجنّة. 88- وَ قالَ مُوسى‌ رَبَّنا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَ مَلَأَهُ ... أي: خاطب موسى ربّه قائلا: إنك أعطيت فرعون و قومه المتكبّرين زِينَةً من الحليّ و الثياب، أو من الصحة و الوسامة و طول القامة وَ أَمْوالًا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا فظهروا بذلك على من سواهم، رَبَّنا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ أي أن ذلك يجعل عاقبتهم الإضلال عن طريق معرفتك، و إن كان سبحانه قد أعطاهم كل ذلك لمجرد الإنعام مع تعرّيه عن وجوه البطر و الاستفساد رَبَّنَا اطْمِسْ عَلى‌ أَمْوالِهِمْ أي غيّرها عن جهتها إلى جهة لا ينتفع بها. قيل بأن أموالهم صارت كالحجارة. وَ اشْدُدْ عَلى‌ قُلُوبِهِمْ أي اطبع على قلوبهم و ثبّتهم على المقام ببلدهم بعد إتلاف أموالهم ليكون ذلك أشدّ عليهم، فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ أي لا يؤمنون إيمان اختيار مطلقا، و إذا رأوا العذاب الأليم لا يؤمنون إلّا إيمان إلجاء.   

 

 

                     إرشاد الأذهان إلى تفسير القرآن، ص: 224
 89- قالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُما ... أي: قال اللّه سبحانه و تعالى لموسى و هارون حين دعا موسى و أمّن هارون على دعائه على قوم فرعون: قد استجبت لكما دعوتكما فَاسْتَقِيما أي اثبتا على دعوة الناس للإيمان، وَ لا تَتَّبِعانِّ لا تسلكا سَبِيلَ طريق الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ الذين لا يؤمنون باللّه و لا يعرفونه. 90- وَ جاوَزْنا بِبَنِي إِسْرائِيلَ الْبَحْرَ ... أي: عبرنا بهم البحر بين مصر و فلسطين سالمين فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَ جُنُودُهُ خرجوا في أثرهم بَغْياً وَ عَدْواً أي من أجل البغي عليهم و الظلم لهم. حَتَّى إِذا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ أي وصل إلى فرعون و أيقن بالهلاك قالَ آمَنْتُ صدّقت أَنَّهُ لا إِلهَ لا ربّ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ صدّقت بِهِ بَنُوا إِسْرائِيلَ وَ أَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ أي المستسلمين و هو إيمان لا ينتفع به. 91- آلْآنَ ...
و المعنى: أفي هذا الوقت يا فرعون تؤمن في وقت لا ينفعك إيمانك؟ وَ قَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ بترك الإيمان في الوقت الذي كان ينفعك فيه لو كنت آمنت قبل الآن وَ كُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ بما نشرت من الفساد بقتل الناس و تذبيح الأطفال و ادّعاء الربوبية؟
92- فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ ... أي: في هذا الوقت نخرج جسدك فنلقيه على نجوة من الأرض: أي تلّة مرتفعة عمّا حولها ليراك الناس، فقد قيل إن بعض بني إسرائيل قالوا: إن فرعون أعظم شأنا من أن يغرق مثل سائر قومه، لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً أي موعظة بالغة في النكال لمن يأتي بعدك وَ إِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ عَنْ آياتِنا لَغافِلُونَ أي أنهم ساهون عن التفكّر بدلالاتنا.
93- وَ لَقَدْ بَوَّأْنا بَنِي إِسْرائِيلَ ... يقول تعالى إنه بعد إنعامه على بني إسرائيل بالنجاة أسكنهم مُبَوَّأَ صِدْقٍ: مكانا محمودا و هو الشام و بيت المقدس وَ رَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ أنعمنا عليهم بحلال الرزق اللذيذ الكثير فَمَا اخْتَلَفُوا حَتَّى جاءَهُمُ الْعِلْمُ أي لم يختلفوا بشأن محمد (ص) إلّا بعد أن جاء القرآن، إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ يحكم فيما بينهم يوم القضاء الأكبر فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ في الأمور التي تنازعوا بشأنها. 94- فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ ... هو خطاب للأمة من خلال النبي (ص) و المعنى: فإن كنتم في شك فاسألوا ... و الدليل عليه قوله في آخر السورة: يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي فَلا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَ لكِنْ أَعْبُدُ اللَّهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ، الآية ... فاعلم أن نبيّه (ص) ليس في شك ... و قيل أيضا: فَإِنْ كُنْتَ أيها السامع فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ على لسان نبيّنا إليك فَسْئَلِ الَّذِينَ يَقْرَؤُنَ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكَ كالأحبار و كعبد اللّه بن سلام و تميم الدارمي و غيرهم ممّن يعرفون نعوت النبي (ص) و صفاته في كتبهم التي بشّرت به قبل محمد (ص) و القرآن. لَقَدْ جاءَكَ الْحَقُّ أي القرآن مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ المُمْتَرِينَ الشاكّين. 95- وَ لا تَكُونَنَّ مِنَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللَّهِ ... أي: لا تكوننّ من جملة من يجحد بآياته سبحانه و لا يصدّقها فَتَكُونَ مِنَ الْخاسِرِينَ أي أنك إن كذّبت بآيات اللّه كنت من الخاسرين لتوفيق اللّه في الدنيا و رضوانه في الآخرة. 96-
إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ: أي أن الذين لا يصدّقون باللّه و برسوله مع القدرة على الإيمان بذلك وجب لهم سخط اللّه تعالى. 97- وَ لَوْ جاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ: هي تتمة للآية السابقة: يعني أن المتقاعسين عن الإيمان الراغبين عنه لو أتتهم أيّة معجزة دالّة على وجود اللّه و صحة النبوّة، فإنهم لا يؤمنون حتى يقعوا في العذاب الموجع فيؤمنون إيمان إلجاء فلا ينفعهم.    

 

 

                    إرشاد الأذهان إلى تفسير القرآن، ص: 225
 98- فَلَوْ لا كانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ ... المعنى: فهلّا كان أهل كل قرية آمنوا في الوقت الذي ينفعهم فيه إيمانهم؟ فَنَفَعَها إِيمانُها بأن ارتفع عنها عذاب اللّه، و لم تؤجّل إيمانها حتى وقوع العذاب إذ لن ينفعها حينئذ إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ مستثنيا قوم يونس الّذين لَمَّا آمَنُوا عند نزول العذاب و قربه منهم كَشَفْنا عَنْهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا أي صرفناه عنهم و نجّيناهم من عاره وَ مَتَّعْناهُمْ تركناهم يرتعون في نعمنا إِلى‌ حِينٍ أي: إلى انقضاء آجالهم. 99- وَ لَوْ شاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ ... لو شاء: أراد اللّه تعالى الإيمان لكان و لصدّق أهل الأرض كُلُّهُمْ جَمِيعاً يا محمّد و لكن لا ينفع الإيمان بالإكراه أَ فَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ تجبرهم حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ أي لا ينبغي أن تريد إكراههم على الإيمان مع أنك غير قادر على ذلك إضافة إلى عدم جدواه. 100- وَ ما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ ... أي ليس ميسورا لأحد أن يؤمن إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ تعالى، بأن يطلق ذلك له و يمكّنه منه بما خلق له من الفهم و العقل قيل إن الإذن هنا هو العلم، يعني أنه لا يؤمن أحد إلّا بعلمه وَ يَجْعَلُ اللّه الرِّجْسَ: العذاب، عَلَى الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ أي من لا يتدبّرون. 101- قُلِ انْظُرُوا ما ذا فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ ... قل يا محمد لمن يسألك عن الآيات و المعاجز فليتدبّر الدلائل و العجائب في مخلوقات اللّه تعالى كمجاري الشمس و القمر و النجوم و البحار و اليابسة و حركة الأرض و جميع ما في الكون من جمادات و أحياء وَ لكن ما تُغْنِي الْآياتُ وَ النُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ أي لا تفيد الدلائل و البراهين و لا أقوال الرّسل المخوفة عند قوم لا ينظرون في الآيات التي حولهم نظر تفهّم و تعقّل. 102- فَهَلْ يَنْتَظِرُونَ إِلَّا مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِهِمْ ... أي فهل ينتظر الّذين تأمرهم بالإيمان فيأبون التصديق بأدلّتك و معجزاتك، إلّا أن يصيبهم مثل ما أصاب الّذين مضوا من قبلهم، في أيام نزول العذاب عليهم كأيّام عاد و ثمود و قوم نوح و غيرهم. قُلْ لهم يا محمد: فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ فتوقّعوا العذاب الذي وعد اللّه به الكافرين، و أنا أنتظره معكم في جملة من ينتظره. 103- ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنا وَ الَّذِينَ آمَنُوا ... أي نخلّص الأنبياء الذين بعثناهم و جميع من آمنوا معهم حين حلول العذاب و حال وقوعه، كَذلِكَ أي مثل نجاة من مضى من المؤمنين ننجّي من بقي، حَقًّا عَلَيْنا في قضائنا، نُنْجِ الْمُؤْمِنِينَ نخلّصهم من عذاب الدنيا و الآخرة. 104- قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ ... قل يا محمد للناس: أي الكفّار إن كنتم في ريب مِنْ دِينِي و هل هو حقّ فأنا فَلا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ تقدّسون و تصلّون له من الأصنام مِنْ دُونِ اللَّهِ بدلا عن عبادته تعالى وَ لكِنْ أَعْبُدُ اللَّهَ وحده الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ أي يقدر على إماتتكم وَ أُمِرْتُ من قبل ربّي أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ المصدّقين بتوحيده و إخلاص العبادة له. 105- وَ أَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً ... هذه الآية الشريفة معطوفة على سابقتها، فكأنه قال و قيل لي: أَقِمْ وَجْهَكَ أي توجّه لِلدِّينِ و استقم فيه و أقبل بوجهك على ما كلّفت به من القيام بأعباء الرسالة حَنِيفاً أي: مستقيما. وَ لا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ أي: و لا تعبد أحدا غير اللّه أو معه. 106- وَ لا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَنْفَعُكَ ... أي لا تذكر غير اللّه معبودا مما لا ينفعك إن أطعته وَ لا يَضُرُّكَ إن أنت عصيته فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذاً مِنَ الظَّالِمِينَ أي: إذا عملت بخلاف ما أمرت به، تكون ظالما لنفسك، بتسبيب العقاب لها، و الخطاب للخلق من خلاله (ص).     

 

 

                   إرشاد الأذهان إلى تفسير القرآن، ص: 226

 

 107- وَ إِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ ... أي إذا أصابك من اللّه سوء أو شدة أو مرض أو غير ذلك فَلا كاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ أي: لا مزيل له غيره سبحانه و تعالى لأنه

وحده قادر على ذلك وَ إِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ من نعمة أو من صحة أو أمن أو غيره فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ أي فلا أحد يمنع ذلك الخير عنك يُصِيبُ بِهِ أي بالخير مَنْ يَشاءُ يريد مِنْ عِبادِهِ فيعطي الواحد منهم ما تقتضيه الحكمة و ما
تدعو إليه المصلحة وَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ المتجاوز عن ذنوب عباده الرؤوف بهم. 108- قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ ... أي: أعلن يا محمد بين الناس أن قد أتاكم القرآن و دين الإسلام من عند اللّه و قيل المراد بالحق النبي (ص). فَمَنِ اهْتَدى‌ نظر و تأمل فعرف أن الدّين الإسلاميّ حق و صواب فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ أي تعود عليه منفعة هدايته و إيمانه، وَ مَنْ ضَلَّ عدل عن ذلك و كفر فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها يكون و بال ضلاله على نفسه، وَ ما أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ يعني أن ليس محمدا (ص) على الناس بحفيظ يدفع عنهم الهلاك. 109- وَ اتَّبِعْ ما يُوحى‌ إِلَيْكَ ... هو خطاب لنبيّه الكريم أن سر بحسب ما ينزل عليك من ربّك بالوحي وَ اصْبِرْ على تكذيب الكافرين و أذاهم حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ يقضي بينك و بينهم بظهور دينه و نصرك وَ هُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ لأنه الحاكم بالعدل و الحق.


source : دار العرفان/ إرشاد الأذهان إلى تفسير القرآن
0
0% (نفر 0)
 
نظر شما در مورد این مطلب ؟
 
امتیاز شما به این مطلب ؟
اشتراک گذاری در شبکه های اجتماعی:

آخر المقالات

الثقافات المعاصرة وثقافة القرآن الكريم
قيمة الزمن في قصة اصحاب الكهف
حرز الامام محمد بن علي الباقر ع
السحر بین العلم والقرآن
سورة يونس ع
امتياز أهل البيت (ع)
وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ ...
درجات الصوم
الإمام الجواد عليه السلام والمعتصم
وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ

 
user comment