من الواضح ان الامام الجواد (عليه السلام) من حيث العمر يعد أصغر الائمة سناً، حيث استشهد بالسم وله (۲٥) سنة... الا انه بالرغم من ذلك اظهر دلائل امامته -بالنسبة للرأي العام - من خلال مناظراته العلمية التي اذهلت كبار العلماء عصرئذ،.. وكان المأمون بخاصة يتولى ادارة هذه المناظرات، ومنها مناظراته المشهورة مع قاضي القضاة يحيى بن اكثم، عندما قرر المأمون ان يزوجه ابنته (ام الفضل) حيث انكر مستشاروه ذلك، لسببين اولهما: صغر سنه، والآخر: خوفهم من أن يتملك الادارة الدنيوية، بخاصة ان والده الرضا (عليه السلام) سبق أن اثار مخاوفهم في هذا الميدان من خلال ولاية العهد التي رفضها (عليه السلام) وانتهت باستشهاده نتيجة للمخاوف المذكورة،... بيد انه لأسباب خاصة اصر المأمون على تزويج ابنته، وعقد مجلساً عاماً للمناظرة بغية اقناعهم بقدرته العلمية... لقد سأله القاضي عن (محرم قتل صيداً) فأجابه (عليه السلام) مستفهماً: «قتله في حل ام حرم، عالماً كان المحرم ام جاهلاً، قتله عمداً او خطأ، حراً كان المحرم او عبداً، صغيراً كان او كبيراً، مبتدئاً بالقتل او معيداً، من ذوات الطير كان الصيد أم من غيرها، من صغار الصيد ام من كبارها، مصراً على ما فعل أو نادماً، في الليل كان قتله للصيد ام في النهار، محرماً كان بالعمرة اذ قتله او بالحج كان محرماً؟» ومن الطبيعي ان يبهت القاضي من هذه الأسئلة، وان يعجز عن الاجابة، لصعوبة هذه التفصيلات... بعد ذلك طلب المأمون من الامام (عليه السلام) ان يجيب على هذه التفصيلات، فأجاب على ذلك مفصلاً...
كما أن القاضي المذكور أجرى - في جلسة أخرى- مناظرة سياسية مع الامام الجواد (عليه السلام) تتصل بقضايا الخلفاء، والأحاديث المرتبطة بذلك، حيث استدعى الموقف مقدرة علمية لدحض الاساس الفكري لهذه الأحاديث،... فضلاً عن مواقف أخرى، ومنها: ما ينقله المؤرخون من ان هناك آلاف المسائل العلمية التي وجهت الى الامام (عليه السلام)، واجاب عنها بالنحو الذي يفصح عن الاعجاز العلمي لدى الامام (عليه السلام)...
والمهم، أن الامام (عليه السلام) يظل - كما هو «ادب المعصومين (عليهم السلام)»- متوفراً على متطلبات المناخ الاجتماعي الذي يستدعي حيناً الاقتصار على طرح المشكلات العلمية، او المشكلات الثقافية بعامة، او السياسية، او الفقهية او الاخلاقية،... ويظل التوفر على (الفن) ثانوياً: تفرضه – ايضاً- متطلبات خاصة... فاذا كان الامام علي (عليه السلام) اتيح له ان يضطلع بشؤون العلم والفن على نحو متوازن،.... فان الامام السجاد (عليه السلام) اتيح له ان يتوفر على (الفن) من خلال (الادعية)،... بينا أتيح للامامين الباقر والصادق عليهما السلام ان يتوفرا على (العلم) وان يجيء(الفن) عندهما في سياقات خاصة،... وهكذا. لذلك فان الامام الجواد (عليه السلام) - عبر الظروف الاجتماعية التي كان يحياها- أتيح له ان يتوفر على نمط خاص من الحركة العلمية المتمثلة في (المناظرات) او (المقابلات) التي اشرنا اليها....
واما (الفن) فلا يتحرك من خلاله الا في سياقات تتطلب مثل هذا التحرك، وهو امر سبق ان اكدناه من ان المعصوم (عليه السلام) - النبي (صلى الله عليه وآله) والائمة (عليهم السلام)- لا يعنى بالفن - مثل سائر الناس- من حيث كونه (فناً) بقدر ما يعنى به (وسيلة) فحسب، فاذا تطلب الموقف صياغة فنية (تعتمد الصورة والايقاع ونحوهما)، حينئذ يتوكأ على مثل هذه الصياغة التي لا تكلفه ادنى جهد مادامت المعرفة (بكل مستوياتها) تظل عند المعصوم امراً (يلهم) به كما هو واضح... واي كان الأمر، يحسن بنا ان نعرض لبعض النماذج المأثورة عن الامام الجواد (عليه السلام) فيما يتصل بالاحاديث والرسائل ونحوهما...
النص على إمامته
استشهاد الرضا(عليه السلام) والنصّ على إمامة الجواد(عليه السلام)
لقد رسّخ الإمام علي بن موسى الرضا (عليه السلام) إمامة ابنه الجواد(عليه السلام) كما قام بذلك الأئمة (عليهم السلام) الذين سبقوه حيث نوهوا باسم من يأتي من بعدهم من أئمة، وفي هذا المجال سنعرض المواقف التي ثبّت بها الإمام الرضا (عليه السلام) إمامة الجواد (عليه السلام) ودعا شيعته للإعتصام بها، ومن ذلك:
1- قال الراوي: أخبرني من كان عند أبي الحسن الرضا (عليه السلام) جالساً، فلمّا نهضوا، قال لهم: «ألقوا أبا جعفر فسلِّموا عليه وأحدثوا به عهداً، فلمّا نهض القوم إلتفت اليّ فقال: يرحم الله المفضَّل انه كان ليقنع بدون هذا»[1].
2- قال الراوي: سمعتُ الرضا (عليه السلام) وذكر شيئاً فقال: «ما حاجتكم الى ذلك ؟ هذا أبو جعفر قد أجلسته مجلسي وصيّرته مكاني، وقال: إنا أهل بيت يتوارث أصاغرنا عن أكابرنا القُذّة بالقذّة»[2].
3- قال الراوي: «سمعت علي بن جعفر يُحدّث الحسن بن الحسين بن علي بن الحسين فقال في حديثه: لقد نصر الله أبا الحسن الرضا (عليه السلام) لمّا بغى عليه اخوته وعمومته، وذكر حديثاً طويلاً حتى انتهى الى قوله: فقمت وقبضت على يد أبي جعفر محمد بن علي الرضا (عليه السلام) وقلت: أشهد أنك إمامي عند الله، فبكى الرضا (عليه السلام) ثم قال: «يا عمّ، ألم تسمع أبي وهو يقول: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): بأبي خيرة الإماء النوبية الطيّبة يكون من ولده الطريد الشريد الموتور بأبيه وجده صاحب الغيبة، يقال: مات او هلك أي واد سلك؟
فقلت: صدقت جعلت فداك»[3].
4- قال الراوي: قلت للرضا (عليه السلام) قد كنّا نسألك قبل ان يهب الله لك أبا جعفر فكنت تقول: «يهب الله لي غلاماً» فقد وهبه الله لك، فأقرّ عيوننا، فلا أرانا الله يومك، فإن كان كونٌ فإلى من ؟. فأشار بيده الى أبي جعفر (عليه السلام) وهو قائم بين يديه، فقلت له: جعلت فداك هذا ابن ثلاث سنين ! ؟ قال: «وما يضره من ذلك، قد قام عيسى بالحجة وهو ابن أقل من ثلاث سنين»[4].
5- قال الراوي: كنت عند أبي الحسن الرضا (عليه السلام) فجيء بابنه أبي جعفر وهو صغير فقال: «هذا المولود الذي لم يُولَد مولود أعظم بركة على شيعتنا منه»[5].
6- قال الراوي: «دخلتُ على أبي الحسن الرضا (عليه السلام) وقد ولد له أبو جعفر (عليه السلام)، فقال: ان الله قد وهب لي مَن يرثني ويرث آل داود»[6].
7- قال الراوي: «كنت مع أبي الحسن (عليه السلام) جالساً، فدعا بابنه وهو صغير فأجلسه في حجري فقال لي: جرّده وانزع قميصه، فنزعته، فقال: انظر بين كتفيه شبيه الخاتم داخل في اللحم. ثم قال: اترى هذا ؟ كان مثله في هذا الموضع من أبي (عليه السلام)»[7].
8- قال الراوي: «ما كان (عليه السلام)- يعني الرضا- يذكر محمداً ابنه (عليه السلام) إلاّ بكنيته، يقول: كتب اليّ أبو جعفر، وكنت اكتب الى أبي جعفر وهو صبي بالمدينة، فيخاطبه بالتعظيم، وترد كتب أبي جعفر (عليه السلام) في نهاية البلاغة والحسن فسمعته يقول: أبو جعفر وصييّ وخليفتي في أهلي من بعدي»[8].
9- قال الراوي: سمعت دعبل بن علي الخزاعي يقول: انشدت مولاي علي ابن موسى الرضا (عليه السلام) قصيدتي- الى ان قال-: «يا دعبل الإمام بعدي محمد ابني وبعد محمد ابنه عليّ وبعد علي ابنه الحسن وبعد الحسن ابنه الحجة القائم المنتظر»[9].
الإمام الجواد (عليه السلام) عند استشهاد أبيه
عن أبي الصلت الهروي أنه قال:
«بينا أنا واقف بين يدي أبي الحسن عليّ بن موسى الرضا (عليه السلام) إذ قال لي: ياأبا الصلت، ادخل هذه القبّة الّتي فيها قبر هارون وآتني بتراب من أربعة جوانبها.
قال: فمضيت فأتيت به، فلمّا مثلت بين يديه، قال لي: ناولني [من] هذا التراب،- وهو من عند الباب- فناولته فأخذه وشمّه ثم رمى به، ثمّ قال: سيحفر لي [قبر] ههنا، فتظهر صخرة لو جمع عليها كلّ معول بخراسان لم يتهيّأ قلعها، ثمّ قال في الذي عند الرّجل والّذي عند الرأس مثل ذلك، ثمّ قال: ناولني هذا التراب فهو من تربتي.
ثمّ قال: سيحفر لي في هذا الموضع، فتأمرهم أن يحفروا لي سبع مراق إلى أسفل، وأن تشقّ لي ضريحه، فإن أبوا إلاّ أن يلحدوا، فتأمرهم أن يجعلوا اللّحد ذراعين وشبراً فإنّ الله تعالى سيوسّعه ما يشاء، وإذا فعلوا ذلك فإنّك ترى عند رأسي نداوةً، فتكلّم بالكلام الّذي أعلّمك، فإنّه ينبع الماء حتّى يمتلئ اللّحد وترى فيه حيتاناً صغاراً، فتفتّت لها الخبز الذي أعطيك فإنّها تلتقطه، فإذا لم يبق منه شيء خرجت منه حوتة كبيرة فالتقطت الحيتان الصغار حتّى لا يبقى منها شيء، ثمّ تغيب، فإذا غابت فضع يدك على الماء، ثمّ تكلّم بالكلام الّذي اُعلّمك، فإنّه ينضب الماء ولا يبقى منه شيء، ولا تفعل ذلك إلاّ بحضرة المأمون.
ثمّ قال (عليه السلام): ياأبا الصلت غداً أدخل على هذا الفاجر، فإن خرجت [وأنا] مكشوف الرأس، فتكلّم أكلّمك، وإن خرجت وأنا مغطّى الرأس فلا تكلّمني.
قال أبو الصلت: فلمّا أصبحنا من الغد لبس ثيابه، وجلس في محرابه ينتظر، فبينا هو كذلك، إذ دخل عليه غلام المأمون، فقال له: أجب أمير المؤمنين، فلبس نعله ورداءه، وقام يمشي وأنا أتبعه، حتّى دخل على المأمون، وبين يديه طبق عليه عنب، وأطباق فاكهة، وبيده عنقود عنب قد أكل بعضه، وبقي بعضه.
فلمّا أبصر بالرضا (عليه السلام) وثب إليه فعانقه وقبّل ما بين عينيه وأجلسه معه ثمّ ناوله العنقود، وقال: ياابن رسول الله ما رأيت عنباً أحسن من هذا !
قال له الرضا (عليه السلام): ربّما كان عنباً حسناً يكون من الجنّة. فقال له: كل منه فقال له الرضا (عليه السلام): تعفيني منه. فقال: لا بدّ من ذلك، وما يمنعك منه لعلّك تتّهمنا بشيء. فتناول العنقود فأكل منه، ثمّ ناوله فأكل منه الرضا (عليه السلام) ثلاث حبّات، ثمّ رمى به وقام.
فقال المأمون: إلى أين ؟ قال: إلى حيث وجّهتني، وخرج (عليه السلام) مغطّى الرأس فلم أكلّمه حتّى دخل الدار، فأمر أن يغلق الباب، فغلق ثمّ نام (عليه السلام) على فراشه، ومكثت واقفاً في صحن الدار مهموماً محزوناً.
فبينا أنا كذلك، إذ دخل عليّ شاب حسن الوجه، قطط الشعر، أشبه الناس بالرضا (عليه السلام)، فبادرت إليه وقلت له: من أين دخلت والباب مغلق ؟ فقال: الّذي جاء بي من المدينة في هذاالوقت: هو الذي أدخلني الدار والباب مغلق. فقلت له: ومن أنت ؟
فقال لي: أنا حجّة الله عليك ياأبا الصلت، أنا محمّد بن عليّ.
ثمّ مضى نحو أبيه (عليه السلام) فدخل وأمرني بالدخول معه، فلمّا نظر إليه الرضا (عليه السلام) وثب إليه، فعانقه وضمّه إلى صدره وقبّل ما بين عينيه، ثمّ سحبه سحباً إلى فراشه، وأكبّ عليه محمّد بن عليّ (عليه السلام) يقبّله ويسارّه بشيء لم أفهمه.
ومضى الرضا (عليه السلام)، فقال أبو جعفر (عليه السلام): ياأبا الصلت قم فأتني بالمغتسل والماء من الخزانة. فقلت: ما في الخزانة مغتسل ولا ماء. فقال لي: إنته إلى ما آمرك به، فدخلت الخزانة، فإذا فيها مغتسل وماء، فأخرجته وشمّرت ثيابي لأغسّله معه، فقال لي: تنحّ ياأبا الصلت فإنّ لي من يعينني غيرك. فغسّله.
ثمّ قال لي: ادخل الخزانة، فأخرج إليّ السفط الذي فيه كفنه وحنوطه، [فدخلت]فإذا أنا بسفط لم أره في تلك الخزانة قطّ، فحملته إليه فكفّنه وصلّى عليه.
ثمّ قال لي: ائتني بالتابوت.
فقلت: أمضي إلى النجّار حتّى يصلح التابوت.
قال: قم فإنّ في الخزانة تابوتاً.
فدخلت الخزانة فوجدت تابوتاً لم أره قطّ فأتيته به، فأخذ الرضا (عليه السلام) بعد ما صلّى عليه فوضعه في التابوت، وصفّ قدميه، وصلّى ركعتين لم يفرغ منهما حتّى علا التابوت، فانشقّ السقف، فخرج منه التابوت ومضى.
فقلت: ياابن رسول الله، الساعة يجيئنا المأمون ويطالبنا بالرضا(عليه السلام) فما نصنع ؟
فقال لي: أسكت فإنّه سيعود ياأبا الصلت، ما من نبيّ يموت بالمشرق ويموت وصيّه بالمغرب إلاّ جمع الله تعالى بين أرواحهما وأجسادهما.
فما أتمّ الحديث، حتّى انشقّ السقف ونزل التابوت، فقام (عليه السلام) فاستخرج الرضا (عليه السلام) من التابوت، ووضعه على فراشه كأنه لم يغسّل ولم يكفّن.
ثمّ قال لي: ياأبا الصلت قم فافتح الباب للمأمون، ففتحت الباب، فإذا المأمون والغلمان بالباب، فدخل باكياً حزيناً قد شقّ جيبه، ولطم رأسه، وهو يقول:
ياسيّداه فجعت بك ياسيّدي، ثمّ دخل وجلس عند رأسه وقال: خذوا في تجهيزه.
فأمر بحفر القبر، فحفرت الموضع فظهر كلّ شيء على ما وصفه الرضا (عليه السلام) فقال له بعض جلسائه: ألست تزعم أنّه إمام ؟ قال: بلى. قال: لا يكون الإمام إلاّ مقدّم الناس.
فأمر أن يحفر له في القبلة، فقلت: أمرني أن أحفر له سبع مراق، وأن أشقّ له ضريحه فقال: انتهوا إلى ما يأمر به أبو الصلت سوى الضريح، ولكن يحفر له ويلحد.
فلمّا رأى ما ظهر من النداوة والحيتان وغير ذلك، قال المأمون:
لم يزل الرضا (عليه السلام) يرينا عجائبه في حياته حتّى أراناها بعد وفاته أيضاً. فقال له وزير كان معه: أتدري ما أخبرك به الرضا ؟ قال: لا.
قال: إنّه أخبرك أنّ ملككم يابني العبّاس مع كثرتكم وطول حذركم مثل هذه الحيتان، حتّى إذا افنيت آجالكم وانقطعت آثاركم وذهبت دولتكم، سلّط الله تعالى عليكم رجلاً منّا فأفناكم عن آخركم قال له: صدقت.
ثمّ قال لي: ياأبا الصلت علّمني الكلام الّذي تكلّمت به. قلت: والله لقد نسيت الكلام من ساعتي. وقد كنت صدقت، فأمر بحبسي، ودفن الرضا (عليه السلام)، فحبست سنة، فضاق عليّ الحبس، وسهرت الليل، ودعوت الله تعالى بدعاء ذكرت فيه محمّداً وآله (عليهم السلام)، وسألت الله تعالى بحقّهم أن يفرّج عنّي.
فلم أستتم الدعاء حتّى دخل عليّ أبو جعفر محمّد بن عليّ (عليه السلام).
فقال [لي] : ياأبا الصلت ضاق صدرك ؟ فقلت: إي والله. قال: قم فاخرج.
ثمّ ضرب يده إلى القيود الّتي كانت [عليّ] ففكّها، وأخذ بيدي وأخرجني من الدار، والحرسة والغلمة يرونني، فلم يستطيعوا أن يكلّموني، وخرجت من باب الدار.
ثمّ قال لي: إمض في ودائع الله، فإنّك لن تصل إليه، ولا يصل إليك أبداً.
قال أبو الصلت: فلم ألتق مع المأمون إلى هذا الوقت»[10].
--------
[1] اُصول الكافي: 1/256 ـ 257.
[2] اُصول الكافي: 1/256 ـ 257.
[3] إعلام الورى : 2 / 92.
[4] إعلام الورى: 2/93.
[5] إعلام الورى: 2/95.
[6] مستدرك عوالم العلوم : 23 / 68.
[7] مستدرك عوالم العلوم: 23 / 69.
[8] مستدرك عوالم العلوم: 23 / 72.
[9] مستدرك عوالم العلوم: 23 / 73 و 76.
[10] كذا في الأمالي : 526 ح17 ، العيون: 2 / 242 / ح1 ، عنهما الوسائل: 2 / 837 / ح4 ، والبحار : 49 / 300 / ح10 ، وج: 82 / 46 / ح 35 ، ومدينة المعاجز: 498 / ح 114 و ص : 524 / ح 37. وأوردها القطب الراوندي في الخرائج: 1 / 352 ح 8 ، عن أبي عبد الله محمّد بن سعيد النيسابوري ، عن أبي الصلت الهروي.
الحديث الفني
قلنا، ان (الحديث الفني) يظل هو النتاج الأكثر مساحة في أدب المعصومين (عليهم السلام) مادامت التوصيات العامة المرتبطة بمبادىء الشريعة الاسلامية: يتم توصيلها الى الآخرين من خلال (الحديث)، بصورة ايسر من غيرها من اشكال التعبير، طالما يتسم الحديث بكونه قصيراً، لا يتجاوز جملة من الكلمات...
واليك نموذجاً من احاديث الامام الجواد (عليه السلام):
«من شهد امراً فكرهه كان كمن غاب عنه، ومن غاب عن امر فرضيه كان كمن شهده»(۳).
«توسد الصبر، واعتنق الفقر، وارفض الشهوات، وخالف الهوى، واعلم انك لن تخلو من عين الله فانظر كيف تكون»(٤).
«من اصغى الى ناطق فقد عبده، فان كان الناطق عن الله فقد عبد الله، وان كان الناطق ينطق عن لسان ابليس فقد عبد ابليس»(٥).
«من أطاع هواه: اعطى عدوه مناه»(٦).
«من لم يعرف الموارد اعيته المصادر»(۷).
«راكب الشهوات لا تستقال له عثرة»(۸).
«اياك ومصاحبة الشرير، فانه كالسيف المسلول: يحسن منظره، ويقبح اثره».
هذه النماذج تتضمن (أشكالاً فنية) متنوعة، بعضها ينطوي على عنصر ايقاعي مثل (منظره، اثره) ومثل (هواه، مناه)... وبعضها ينطوي على قيم لفظية تعتمد التقابل مثل (شهد، غاب) ومثل (الموارد، المصادر)... وبعضها ينطوي على عنصر صوري... وهذا العنصر قد يكون تشبيهاً مثل (كمن غاب عنه) (كمن شهده) (كالسيف المسلول)... وقد يكون استعارة مثل (توسد الصبر) (راكب الشهوات)... وقد يكون استدلالاً مثل (من لم يعرف الموارد....)... الخ.
طبيعياً، عندما تتنوع الاشكال الفنية: ايقاعياً وصورياً ولفظياً،... ثم عندما تتنوع مستويات كل شكل فني مثل الصور: تشبيهاً، واستعارة، واستدلالاً... ثم عندما تدخل هذه المستويات في تفصيلات وتفريعات صورية (مثل: النموذج الاخير الذي يتضمن تشبيهاً وتفريعاً على التشبيه المذكور، ومثل غالبية النماذج الاستعارية الأخرى)، حينئذ نستكشف اهمية الطابع الفني الذي توفر عليه الامام الجواد (عليه السلام)...
والملاحظ ان الطابع الذي قلنا ان الامام (عليه السلام) قد عنى به وهو تحويل الصورة الفنية الى تعبير علمي، يظل ملحوظاً في أكثر من نموذج،... ففي قوله (عليه السلام): «من شهد أمراً فكرهه: كان كمن غاب عنه، ومن غاب عن امر فرضيه: كان كمن شهده» يظل متوكئاً على عنصر التشبيه ولكنه (تشبيه علمي)، لان الغياب والحضور عملية واقعية تحدث او يمكن ان تحدث فعلاً، وليس انها تقوم على ايجاد علاقات بين اشياء لا علاقة بينها في عالم الواقع: كإحداث العلاقة بين الشمس والوجه مثلاً... ولكن عندما يستدعي السياق احداث علاقة من هذا النوع، يتجه (عليه السلام) الى (التشبيه الفني) مثل النموذج الاخير حيث (شبه) الشرير بالسيف المسلول الذي يحسن منظره ويقبح اثره، فالعلاقة بين السيف والشخص (مستحدثة) لا واقع لها في الخارج بعكس الصورة التشبيهية السابقة، بيد ان السياق فرض مثل هذه الصورة الفنية مادام (الشرير) يشبه بالفعل السيف من حيث منظره، لأن الصداقة تحمي الانسان كحماية السيف، ولكن الشرير بصفته عنصراً لا تترتب عليه الحماية المطلوبة، حينئذ اشبه السيف المسلول الذي يقبح اثره:وهو الأذى.
وإذا تركنا هذا الجانب واتجهنا الى (التفريع الصوري) وجدنا أن (الفن) تبرز فاعليته في أمثلة هذا التفريع، ومنه ظاهرة (السيف) نفسه، فهو (عليه السلام) فرع على السيف جانبين: الاشهار والأثر، وقرن بينهما وبين مصاحبة الشرير وتفريعه الى جانبين ايضاً: الحماية والأذى...
ويتضخم جانب الفن عندما يعتمد (التفريع) عناصر فنية اخرى مثل (التقابل)، فقد (قابل) (عليه السلام) في النموذج الاول بين (من شهد امراً) وبين (من غاب من أمر) وقابل بين (من كرهه) وبين من لم يكرهه، و(قابل) في نموذج آخر بين (أصغى الى الله تعالى) وبين (من أصغى الى ابليس)، وقارن بين عبادة كل منهما وبين الاستماع الى كل منهما... الخ... وحتى في النماذج التي لم يدخل فيها التفريع او التفصيل، نجد ان عنصراً فنياً آخر هو (التركيز) يطبع هذه النماذج...
ان الصورة الاستدلالية القائلة (من لم يعرف الموارد أعيته المصادر) تظل منتسبة الى عنصر (الصورة الاستدلالية) وهي فقرة قصيرة لا تفريع ولا تفصيل فيها، الا انها غنية وثرية بالدلالات الايحائية المتنوعة، حيث ان (الموارد) يمكن ان تنطبق على اية تجربة من تجارب الانسان: فردية او جماعية، عادية او خطيرة، ذهنية او حسية،... الخ، كذلك، فان (المصادر) المترتبة عليها تتسم بنفس الطابع الايحائي الذي يسمح لكل متذوق فني ان يستخلص منه دلالة تتناسب مع حجم خبرته الشخصية، وهو امر يكشف عن اهمية (الفن) الذي تظل ابرز سماته: انه يلحظ تجربة الحياة، ويسمح للمتذوق بان يكتشف بنفسه كثيراً من الحقائق، طالما نعرف بأن مساهمة القارىء في كشف الحقائق، تظل واحدة من ابرز سمات الفن العظيم، كما هوا واضح.
*******
(۳) تحف العقول: ص ٤۷۹.
(٤) نفس المصدر: ص ٤۷۸.
(٥) نفس المصدر:ص ٤۷۹.
(٦) المجالس السنية: ص ٦۲۳.
(۷) نفس المصدر: ص ٦۲۳،٦۲٤.
(۸) نفس المصدر: ص ٦۲۳.