تصوّر الموجود المطلق
كان كل إنسان في القديم يقود مركوبه بنفسه ، وكان قد اعتاد في طول الأدوار المختلفة على أن يرى صاحب كل ملك أو مزرعة أو مؤسسة أو إدارة حاضراً مشتغلاً بعمله ، وقد تغيّر الوضع في هذا الزمان ، فقد توصل الإنسان اليوم إلى الأقمار والماكنات الالكترونية الأتوماتيكية والطائرات من دون طيار ، ويعلم كل أحد أنه بالإمكان اليوم صنع جهاز مجهّز يبرز ردود فعل متناسبة أمام الحوادث من دون أن يرى صانعه أو يعرف .
وعلى هذا فلا حقّ لنا أن ننكر الخالق لأننا لانرى يده في الأمور والأشياء لقصر في أفكارنا ومعارفنا .
إن صانع القمر المصنوعي أو الصواريخ يهدي وينظم سيرها من داخل المحطّات الأرضية المجهزة بوسائل الأجهزة الجوية المعقدة ، إن يد الله في الطبيعة وإن كنا لا نراها بأعيننا الظاهرة ، لكن مع ما نشاهده من الظواهر والآيات البيّنات التي هي من آثار عظمة خالق العالم وصانع الإنسان ، هل بإمكاننا أن ننكر مدبّر هذا العالم الذي له القدرة والإرادة المطلقة والمنظم لجميع حركات هذا العالم ؟ ! .
صحيح أن إمكاناتنا لمعرفة وجود لا مثال له في عالم الحسّ والشعور والذي تقصر التعبيرات البشرية عن وصفه الدقيق ، إمكاناتنا محدودة ،
ومصباحنا لإضاءة هذا الطريق باهت ، وتتراجع أضواؤه مصطدمة بجدران المحدوديات المادية .
إن علاقاتنا نحن إنما هي بظواهر الحياة ، والذي يرتسم في أذهاننا هو عين من أعيان هذا العالم ، إلاّ أننا لسنا عاجزين عن معرفته وتصوره بصورة من الصور ، وليس بيننا وبين المعرفة اللازمة سدود وموانع .
إن بعض المشككين المعرضين عن التفكير السالم النابع عن الفطرة السليمة والمتعودين على الآثار الطبيعية ، ينتظرون كل حين وقوع المعاجز من جانب الله تعالى فاطر هذا النظام الجاري ، لكي تهب المعجزة إيماناً لهؤلاء ، ولكي يذعنوا بوجود الله .
ويغفل هؤلاء عن حقيقة : أن الآثار الجديدة التي تبدو من قبل الله سبحانه تصبح بعد مدة قصيرة عادية طبيعية بحيث لا تجلب أيّ انتباه أو دقة ، إن جميع الظواهر وإن كانت أجزاء من نظام الطبيعة إلا أنها كانت في بدايتها من خوارق نظام الطبيعة ، ولكنها حيث تكررت كثيراً في صعيد العالم أصبحت عادية طبيعية .
بينما الوجود غير المرئي وغير المحسوس المليء بصفات الجلال والجمال والقداسة والعظمة ، هكذا وجود يجعل النفوس دائماً تحت تأثيره ويجذب إلى نفسه كل اهتمام وتوجّه ، ويجعل الإنسان دائماً ينظر إليه ويأمل منه كل شيء ، إن تسلط روح اللجاج والحكم غير المنطقي هو الذي يقيد الإنسان بسلاسل المحدودية ، وإلاّ فإن أيّ موجود في نظام الوجود كاف لإقناع أولئك الذين يفرغون عقولهم من فكرة اللجاج والمكابرة والإنكار غير المبرهن .
يقول الـدكتور ( المـرو مورد ) المحقق والكيمياوي المعروف : « أنا كرجل كيمياويّ أعتقد أن الله يراقب ويحافظ على العالم دائماً ، وأن دوام وثبات القوانين الطبيعية نتيجة لهذه المراقبة الإلهية ، أنا حينما أدخل إلى
المختبر أعلم من دون أيّ شكّ أو ترديد أن القوانين التي كانت ثابتة يوم أمس ، لا تزال ثابة اليوم وبعد اليوم إلى يوم القيامة ، وإلاّ فإن حياتي في المختبر لا تكون إلاّ حياة حيرة وشكّ وقلق واضطراب ، ولم نحصل على أيّ نتيجة أبداً ، فمثلاً لو ملأت إناء ماء قراحاً وجعلته على النار وفار علمت أن حرارته بلغت المئة درجة ( سانتيغراد ) ولا حاجة في ذلك إلى المقياس ، إذ أعلم أن ضغط الجو إذا بلغ ( 76 ) سانتيمتراً بالنسبة إلى الزئبق فار الماء بدرجة مئة ( سانتيغراد ) وإذا لم يبلغ ضغط الجو ( 76 ) سانتيمتراً على الزئبق كانت الحاجة إلى حرارة أقل لغليان الماء وتبدله بالبخار ، وكانت درجة الحرارة للغليان أقل من المئة ، وإذا كان ضغط الجو أكثر من ( 76 ) سانتيمتراً على الزئبق صعدت درجة الحرارة أكثر من مئة درجة .
ولي أن أكرر هذه التجربة كلما أردت ، وإن علماء الكيمياء حينما يجرون هذه المقايسة بين الضغط والحرارة بذكائهم في أعمالهم اليومية تزيد في حيرتهم .
وكذلك الأمر بالنسبة إلى سائر القوانين الطبيعية ، والمنطق المستقيم يقتضي أن يكون هناك وجود مدبّر أوجد هذه القوانين وهو الله سبحانه ، إن الاعتقاد بوجود خالق للعالم هو الجواب الصحيح الوحيد على خلقة هذه الطبيعة ونظامها الثابت والمستمر »(1) .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 إثبات وجود الخالق : ص 239 ( بالفارسية ) .
أما مبدأ الوجود فهو غني
عن علة لوجوده
إن أتباع المذهب المادي يبدون حساسية خاصة بالنسبة إلى غنى الله عن العلة الوجودية ، ويقولون : إذا نحن أذعنا أن يكون الله هو واجب الوجود في العالم وأن الموجودات تستمد وجودها منه سبحانه ، فما هي العلة التي أغنته عن الخالق ؟ وبالتالي ما هي علة وجوده .
قال ( برتراندراسل ) في إحدى خطاباته في جلسة لجميعية وطنية لندنية غير دينية : « في سنّ الثامنة عشرة كنت أقرأ حياة ( استوارت ميل ) المكتوبة بقلمه ، جلبت انتباهي جملة لميل يقول فيها : « لم يجبني أبي على سؤالي إذ ذاك : من الذي خلقني ؟ » ، لأنه كان قد طرح سؤالاً آخر هو : « من الذي أوجد الله » . ثم أضاف راسل يقول : كذلك اليوم أنا أفكر في هذه الجملة الساذجة ، وأراها أنها أبدت السفسطة في بيان العلة الأولى ، فكما أن لكل شيء علة وسبباً ، لابدّ لوجود الله أيضاً من علة ودليل ، ولو أمكن لشيء أن يكون بلا دليل ولا علة لأمكن أن يكون هو الله أو العالم ، وعلى هذا فالبحث عن الله يفقد اعتباره »(1) .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 لماذا لست مسيحياً / ص 19 ( بالفارسية ) .
وقد عجز حتى بعض الفلاسفة الإلهيين الغربيين عن حلّ هذا المعضل ، يقول ( هربرت اسبنسر ) الفيلسوف الانجليزي : « المشكلة هي أن العقل البشري يفتش لكل أمر عن علة وهو يرى استحالة الدور والتسلسل ، ولا يرى علة بلا علة ولا يفهمها ، كما يقول القسيس للأطفال : إن الله هو الذي خلق هذه الحياة الدنيا ، فيسأل الطفل : فمن خلق الله ؟ »(1) .
وكتب في مكان آخر يقول : « إن الدهريين يحاولون أن يقولوا بأن العالم قائم بذاته بلا علة ، ولكننا لا نتمكن من الإيمان بشيء بلا علة وبلا أول ، والموحد يخطو في هذا خطوة واحدة إلى الوراء ويقول : إن الله هو الذي خلق العالم ، والطفل يسأل سؤالاً آخر لا جواب له ، هو : من الذي خلق الله ؟ »(2) .
ونحن نردّ هذا الإشكال إلى نفس الماديين ونسألهم : لو تتبعنا سلسلة العل وصلنا إلى العلة الأولى ، ولا نقول : هي الله تعالى ، بل هي المادة كما تقولون ، فقولوا : من الذي خلق المادة الأولى ؟ .
أنتم المذعنون بقانون العلية أجيبونا : كل شيء من المادة الأولى ، وهي من أين ؟ .
تقولون : إن مبدأ الحوادث يرجع إلى المادة والطاقة الأولى .
ونسأل : ما هي علة وجود تلك المادة والطاقة الأولى ؟ ومع النظر إلى استحالة تسلسل العلل والمعاليل إلى ما لا نهاية لا جواب لهم إلاّ أن يقولوا : إن المادة موجود أزليّ أبديّ لا حاجة لها إلى علة ولا أول لها ولا آخر ، هي قديمة لا نهاية لها ، ووجودها من طبيعتها وماهيتها .
إذن فالماديون يذعنون بأصل الأزلية ، ويعتقدون بأن الأشياء كلها من
ــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سير الحكمة في أوربا : ص 162 ( بالفارسية ) .
2 تاريخ فلسفة ويل دورانت / ص 467 ـ ج 2 . ( بالفارسية ) .
المادة الأزلية وأن الوجود من طبيعتها من دون أن تكون هي بحاجة إلى موجد خالق .
ويصرح ( راسل ) بهذا في خطابه الآنف الذكر ويقول : لا دليل لنا على أن يكون لهذا العالم مبتدأ وأول ، بل إن التفكير في أن يكون للأشياء مبتدأ إنما هو من نقص في قدرة تصوراتنا(1) .
كما أن ( راسل ) يرى أن المادة أزلية ، كذلك يقول الإلهيون بأزلية الله سبحانه ، إذن فالقول بوجود الأزلية نقطة مشتركة بين الفلاسفة الماديين والإلهيين ، وكلتا الطائفتين تذعنان بضرورة العلة الأولى ، إلاّ أن نقطة الخلاف هي أن الإلهيين يرون أن العلة الأولى حكيم مدبّر قادر ومريد هو الله سبحانه ، بينما يرى الماديون أن العلة الأولى لا عقل لها ولا وعي ولا إدراك ولا إرادة ، إذن فرفع اليد عن القول بالله لا يرفع الإشكال .
إن المادة متغيرة متحركة بحركة داخلية ذاتية ديناميكية ، والأزلي لا يمكن أن يكون كذلك ، إن المادة لا يمكن أن تجتمع ومعنى الثبوت الذاتي ، والثابت بالذات لا يمكن أن يكون متحركاً ومتحولاً .
إن الماركسيين المعترفين بأن المادة تنفي نفسها بنفسها ( آنتى تز ) كيف يجمعون بين هذا وبين أزليتها ؟ إن الأزلية تعني الثبوت الذاتي وامتناع الفناء في حين أن المادة في ذاتها ذات قوى واستعدادات نسبية تحيى وتموت ، إنّ الأزلية لا تلائم المادة في وجودها ولوازم ماهيتها ، أما الإلهيون فإنهم حينما يقولون بوجود أصل ثابت مطلق إنما يدّعون ذلك لوجود قابل للثبات والإطلاق بعيد عن خصائص المادة بالمرة ، لا للمادة غير القابلة بطبيعتها للبقاء والأزلية والدوام والتي لا تنفك عن الحركة والنسبية والمنافية بذاتها للكمال والإطلاق التام .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 لمذا لست مسيحياً : ص 20 ( بالفارسية ) .