عربي
Thursday 7th of November 2024
0
نفر 0

تصوّر الموجود المطلق

تصوّر الموجود المطلق

كان كل إنسان في القديم يقود مركوبه بنفسه ، وكان قد اعتاد في طول الأدوار المختلفة على أن يرى صاحب كل ملك أو مزرعة أو مؤسسة أو إدارة حاضراً مشتغلاً بعمله ، وقد تغيّر الوضع في هذا الزمان ، فقد توصل الإنسان اليوم إلى الأقمار والماكنات الالكترونية الأتوماتيكية والطائرات من دون طيار ، ويعلم كل أحد أنه بالإمكان اليوم صنع جهاز مجهّز يبرز ردود فعل متناسبة أمام الحوادث من دون أن يرى صانعه أو يعرف .

وعلى هذا فلا حقّ لنا أن ننكر الخالق لأننا لانرى يده في الأمور والأشياء لقصر في أفكارنا ومعارفنا .

إن صانع القمر المصنوعي أو الصواريخ يهدي وينظم سيرها من داخل المحطّات الأرضية المجهزة بوسائل الأجهزة الجوية المعقدة ، إن يد الله في الطبيعة وإن كنا لا نراها بأعيننا الظاهرة ، لكن مع ما نشاهده من الظواهر والآيات البيّنات التي هي من آثار عظمة خالق العالم وصانع الإنسان ، هل بإمكاننا أن ننكر مدبّر هذا العالم الذي له القدرة والإرادة المطلقة والمنظم لجميع حركات هذا العالم ؟ ! .

صحيح أن إمكاناتنا لمعرفة وجود لا مثال له في عالم الحسّ والشعور والذي تقصر التعبيرات البشرية عن وصفه الدقيق ، إمكاناتنا محدودة ،

ومصباحنا لإضاءة هذا الطريق باهت ، وتتراجع أضواؤه مصطدمة بجدران المحدوديات المادية .

إن علاقاتنا نحن إنما هي بظواهر الحياة ، والذي يرتسم في أذهاننا هو عين من أعيان هذا العالم ، إلاّ أننا لسنا عاجزين عن معرفته وتصوره بصورة من الصور ، وليس بيننا وبين المعرفة اللازمة سدود وموانع .

إن بعض المشككين المعرضين عن التفكير السالم النابع عن الفطرة السليمة والمتعودين على الآثار الطبيعية ، ينتظرون كل حين وقوع المعاجز من جانب الله تعالى فاطر هذا النظام الجاري ، لكي تهب المعجزة إيماناً لهؤلاء ، ولكي يذعنوا بوجود الله .

ويغفل هؤلاء عن حقيقة : أن الآثار الجديدة التي تبدو من قبل الله سبحانه تصبح بعد مدة قصيرة عادية طبيعية بحيث لا تجلب أيّ انتباه أو دقة ، إن جميع الظواهر وإن كانت أجزاء من نظام الطبيعة إلا أنها كانت في بدايتها من خوارق نظام الطبيعة ، ولكنها حيث تكررت كثيراً في صعيد العالم أصبحت عادية طبيعية .

بينما الوجود غير المرئي وغير المحسوس المليء بصفات الجلال والجمال والقداسة والعظمة ، هكذا وجود يجعل النفوس دائماً تحت تأثيره ويجذب إلى نفسه كل اهتمام وتوجّه ، ويجعل الإنسان دائماً ينظر إليه ويأمل منه كل شيء ، إن تسلط روح اللجاج والحكم غير المنطقي هو الذي يقيد الإنسان بسلاسل المحدودية ، وإلاّ فإن أيّ موجود في نظام الوجود كاف لإقناع أولئك الذين يفرغون عقولهم من فكرة اللجاج والمكابرة والإنكار غير المبرهن .

يقول الـدكتور ( المـرو مورد ) المحقق والكيمياوي المعروف : «  أنا كرجل كيمياويّ أعتقد أن الله يراقب ويحافظ على العالم دائماً ، وأن دوام وثبات القوانين الطبيعية نتيجة لهذه المراقبة الإلهية ، أنا حينما أدخل إلى

المختبر أعلم من دون أيّ شكّ أو ترديد أن القوانين التي كانت ثابتة يوم أمس ، لا تزال ثابة اليوم وبعد اليوم إلى يوم القيامة ، وإلاّ فإن حياتي في المختبر لا تكون إلاّ حياة حيرة وشكّ وقلق واضطراب ، ولم نحصل على أيّ نتيجة أبداً ، فمثلاً لو ملأت إناء ماء قراحاً وجعلته على النار وفار علمت أن حرارته بلغت المئة درجة ( سانتيغراد ) ولا حاجة في ذلك إلى المقياس ، إذ أعلم أن ضغط الجو إذا بلغ ( 76 ) سانتيمتراً بالنسبة إلى الزئبق فار الماء بدرجة مئة ( سانتيغراد ) وإذا لم يبلغ ضغط الجو ( 76 ) سانتيمتراً على الزئبق كانت الحاجة إلى حرارة أقل لغليان الماء وتبدله بالبخار ، وكانت درجة الحرارة للغليان أقل من المئة ، وإذا كان ضغط الجو أكثر من ( 76 ) سانتيمتراً على الزئبق صعدت درجة الحرارة أكثر من مئة درجة .

ولي أن أكرر هذه التجربة كلما أردت ، وإن علماء الكيمياء حينما يجرون هذه المقايسة بين الضغط والحرارة بذكائهم في أعمالهم اليومية تزيد في حيرتهم .

وكذلك الأمر بالنسبة إلى سائر القوانين الطبيعية ، والمنطق المستقيم يقتضي أن يكون هناك وجود مدبّر أوجد هذه القوانين وهو الله سبحانه ، إن الاعتقاد بوجود خالق للعالم هو الجواب الصحيح الوحيد على خلقة هذه الطبيعة ونظامها الثابت والمستمر »(1) .

ــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1 إثبات وجود الخالق : ص 239 ( بالفارسية ) .

 

أما مبدأ الوجود فهو غني

عن علة لوجوده

إن أتباع المذهب المادي يبدون حساسية خاصة بالنسبة إلى غنى الله عن العلة الوجودية ، ويقولون : إذا نحن أذعنا أن يكون الله هو واجب الوجود في العالم وأن الموجودات تستمد وجودها منه سبحانه ، فما هي العلة التي أغنته عن الخالق ؟ وبالتالي ما هي علة وجوده .

قال ( برتراندراسل ) في إحدى خطاباته في جلسة لجميعية وطنية لندنية غير دينية : « في سنّ الثامنة عشرة كنت أقرأ حياة ( استوارت ميل ) المكتوبة بقلمه ، جلبت انتباهي جملة لميل يقول فيها : « لم يجبني أبي على سؤالي إذ ذاك : من الذي خلقني ؟ » ، لأنه كان قد طرح سؤالاً آخر هو : « من الذي أوجد الله » . ثم أضاف راسل يقول : كذلك اليوم أنا أفكر في هذه الجملة الساذجة ، وأراها أنها أبدت السفسطة في بيان العلة الأولى ، فكما أن لكل شيء علة وسبباً ، لابدّ لوجود الله أيضاً من علة ودليل ، ولو أمكن لشيء أن يكون بلا دليل ولا علة لأمكن أن يكون هو الله أو العالم ، وعلى هذا فالبحث عن الله يفقد اعتباره »(1) .

ــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1 لماذا لست مسيحياً / ص 19 ( بالفارسية ) .

 

وقد عجز حتى بعض الفلاسفة الإلهيين الغربيين عن حلّ هذا المعضل ، يقول ( هربرت اسبنسر ) الفيلسوف الانجليزي : «  المشكلة هي أن العقل البشري يفتش لكل أمر عن علة وهو يرى استحالة الدور والتسلسل ، ولا يرى علة بلا علة ولا يفهمها ، كما يقول القسيس للأطفال : إن الله هو الذي خلق هذه الحياة الدنيا ، فيسأل الطفل : فمن خلق الله ؟ »(1) .

وكتب في مكان آخر يقول : « إن الدهريين يحاولون أن يقولوا بأن العالم قائم بذاته بلا علة ، ولكننا لا نتمكن من الإيمان بشيء بلا علة وبلا أول ، والموحد يخطو في هذا خطوة واحدة إلى الوراء ويقول : إن الله هو الذي خلق العالم ، والطفل يسأل سؤالاً آخر لا جواب له ، هو : من الذي خلق الله ؟ »(2) .

ونحن نردّ هذا الإشكال إلى نفس الماديين ونسألهم : لو تتبعنا سلسلة العل وصلنا إلى العلة الأولى ، ولا نقول : هي الله تعالى ، بل هي المادة كما تقولون ، فقولوا : من الذي خلق المادة الأولى ؟ .

أنتم المذعنون بقانون العلية أجيبونا : كل شيء من المادة الأولى ، وهي من أين ؟ .

تقولون : إن مبدأ الحوادث يرجع إلى المادة والطاقة الأولى .

ونسأل : ما هي علة وجود تلك المادة والطاقة الأولى ؟ ومع النظر إلى استحالة تسلسل العلل والمعاليل إلى ما لا نهاية لا جواب لهم إلاّ أن يقولوا : إن المادة موجود أزليّ أبديّ لا حاجة لها إلى علة ولا أول لها ولا آخر ، هي قديمة لا نهاية لها ، ووجودها من طبيعتها وماهيتها .

إذن فالماديون يذعنون بأصل الأزلية ، ويعتقدون بأن الأشياء كلها من

ــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1 سير الحكمة في أوربا : ص 162 ( بالفارسية ) .

2 تاريخ فلسفة ويل دورانت / ص 467 ـ ج 2 . ( بالفارسية ) .

 

المادة الأزلية وأن الوجود من طبيعتها من دون أن تكون هي بحاجة إلى موجد خالق .

ويصرح ( راسل ) بهذا في خطابه الآنف الذكر ويقول : لا دليل لنا على أن يكون لهذا العالم مبتدأ وأول ، بل إن التفكير في أن يكون للأشياء مبتدأ إنما هو من نقص في قدرة تصوراتنا(1) .

كما أن ( راسل ) يرى أن المادة أزلية ، كذلك يقول الإلهيون بأزلية الله سبحانه ، إذن فالقول بوجود الأزلية نقطة مشتركة بين الفلاسفة الماديين والإلهيين ، وكلتا الطائفتين تذعنان بضرورة العلة الأولى ، إلاّ أن نقطة الخلاف هي أن الإلهيين يرون أن العلة الأولى حكيم مدبّر قادر ومريد هو الله سبحانه ، بينما يرى الماديون أن العلة الأولى لا عقل لها ولا وعي ولا إدراك ولا إرادة ، إذن فرفع اليد عن القول بالله لا يرفع الإشكال .

إن المادة متغيرة متحركة بحركة داخلية ذاتية ديناميكية ، والأزلي لا يمكن أن يكون كذلك ، إن المادة لا يمكن أن تجتمع ومعنى الثبوت الذاتي ، والثابت بالذات لا يمكن أن يكون متحركاً ومتحولاً .

إن الماركسيين المعترفين بأن المادة تنفي نفسها بنفسها ( آنتى تز ) كيف يجمعون بين هذا وبين أزليتها ؟ إن الأزلية تعني الثبوت الذاتي وامتناع الفناء في حين أن المادة في ذاتها ذات قوى واستعدادات نسبية تحيى وتموت ، إنّ الأزلية لا تلائم المادة في وجودها ولوازم ماهيتها ، أما الإلهيون فإنهم حينما يقولون بوجود أصل ثابت مطلق إنما يدّعون ذلك لوجود قابل للثبات والإطلاق بعيد عن خصائص المادة بالمرة ، لا للمادة غير القابلة بطبيعتها للبقاء والأزلية والدوام والتي لا تنفك عن الحركة والنسبية والمنافية بذاتها للكمال والإطلاق التام .

ــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1 لمذا لست مسيحياً : ص 20 ( بالفارسية ) .

0
0% (نفر 0)
 
نظر شما در مورد این مطلب ؟
 
امتیاز شما به این مطلب ؟
اشتراک گذاری در شبکه های اجتماعی:

آخر المقالات

موقف ابن تيمية من مناقب علي بن أبي طالب عليه ...
مراتب وأقسام التوحید
شروط وصفات الولي
فكّر ثم فكّر ثم فكّر حتى يؤمن بك الناس وتؤمن ...
النبوة بين اللغة العربية واصطلاح علماء الإسلام
لحظةُ تأمُّل!
الموت والفناء
ظاهرة تشيع علماء السنة ومثقفيهم استوقفتني
صفات اللّه الجمالية و الجلالية
الملك العادل

 
user comment