عيسى عليه السلام
تنزيه عيسى ( ع ) عن ادعائه الالوهية :
( مسألة ) : فان قيل فما معنى قوله تعالى : ( واذ قال الله يا عيسى بن مريم أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي ألهين من دون الله قال سبحانك ما يكون لي ان اقول ما ليس لي بحق ان كنت قلته فقد علمته تعلم ما في نفسي ولا اعلم ما في نفسك إنك انت علام الغيوب ) ( 1 ) وليس يخلو من ان يكون عيسى عليه السلام ممن قال ذلك ، أو يجوز ان يقوله . وهذا خلاف ما تذهبون اليه في الانبياء عليهم السلام . او يكون ممن لم يقل ذلك ولا يجوز ان يقوله فلا معنى لاستفهامه تعالى منه وتقريره ، ثم أي معنى في قوله ولا اعلم ما في نفسك ؟ وهذه اللفظة لا تكاد تستعمل في الله تعالى .
( الجواب ) : قلنا : ان قوله تعالى ( أأنت قلت للناس ) ليس باستفهام على الحقيقة وان كان خارجا مخرج الاستفهام ، والمراد به تقريع من ادعى ذلك عليه من النصارى وتوبيخهم وتأنيبهم وتكذيبهم ، وهذا يجري مجرى قول احدنا لغيره افعلت كذا وكذا ؟ وهو يعلم انه لم يفعله ويكون مراده تقريع من ادعى ذلك عليه ، وليقع الانكار والجحود ممن خوطب بذلك فيبكت من ادعاه عليه .
وفيه وجه آخر : وهو أنه تعالى . اراد بهذا القول تعريف عيسى عليه السلام ان قوما قد اعتقدوا فيه وفي أمه انهما إلهان ، لانه ممكن ان يكون عيسى ( ع ) لم يعرف ذلك إلا في تلك الحال . ونظيره في التعارف ان يرسل الرجل رسولا إلى قوم فيبلغ الرسول رسالته ويفارق القوم فيخالفونه بعده ويبدلون ما اتى به وهو لا يعلم ، ويعلم المرسل له ذلك ، فاذا أحب أن يعلمه مخالفة القوم له جاز ان يقول له أأنت أمرتهم بكذا وكذا على سبيل الاخبار له بما صنعوا .
بيان معنى النفس في اللغة :
فأما قوله ( ع ) : تعلم ما في نفسي ولا اعلم ما في نفسك ، فإن لفظة النفس تنقسم في اللغة إلى معان مختلفة . فالنفس نفس الانسان أو غيره من الحيوان ، وهي التي اذا فقدها خرج عن كونه حياء . ومنه قوله تعالى : ( كل نفس ذائقة الموت ) ( 2 ) والنفس ايضا ذات الشئ الذي يخبر عنه كقولهم : فعل ذلك فلان نفسه ، اذا تولى فعله . واعطى كذا وكذا بنفسه . والنفس ايضا الانفة ، كقولهم : ليس لفلان نفس ، أي لا أنفة له . والنفس ايضا الارادة ، يقولون نفس فلان في كذا وكذا اي ارادته . قال الشاعر : فنفسان نفس قالت ائت ابن بجدل * تجد فرجا من كل غم تهابها
ونفس تقول اجهد بحال ولا تكن * كخاضبة لم يغن شيئا خضابها ومنه أن رجلا قال للحسن : يا أبا سعيد لم احجج قط إلا ولي نفسان ، فنفس تقول لي احجج ، ونفس تقول لي تزوج . فقال الحسن : انما النفس واحدة ، ولكن هم يقول احجج ، وهم يقول لك تزوجل وامره بالحج . وقال الممزق العبدي :
ألا من لعين قد نآها حميمها * وأرقها بعد المنام همومها
فباتت له نفسان شتى همومها * فنفس تعزيها ونفس تلومها والنفس ايضا العين التي تصيب الانسان ، يقال أصابت فلانا نفس أي عين . وروي ان رسول الله صلى الله عليه وآله كان يرقي فيقول : " بسم الله ارقيك والله يشفيك من كل داء هو فيك من عين عائن ونفس نافس وحسد حاسد " .
وقال ابن الاعرابي : النفوس التي تصيب الناس بالنفس . وذكر رجلا فقال : كان والله حسودا نفوسا كذوبا . وقال عبدالله بن قيس في الرقيات :
يتقي أهلها النفوس عليها * فعلى نحرها الرقى والتميم والنفس أيضا من الدباغ مقدار الدبغة ، يقال اعطني نفسا من الدباغ أي قدر ما ادبغ به مرة .
والنفس ايضا الغيب ، يقول القائل : اني لا اعلم نفس فلان ، أي غيبه . وهذا هو تأويل قوله : ( وتعلم ما في نفسي ، ولا اعلم ما في نفسك ) . أي تعلم غيبي وما عندي ، ولا اعلم غيبك وما عندك .
وقيل ان النفس ايضا العقوبة ، من قولهم : احذرك نفسي اي عقوبتي . وبعض المفسرين حمل قوله تعالى : ( ويحذركم الله نفسه ) على هذا المعنى . كأنه قال : يحذركم الله عقوبته . روي ذلك عن ابن عباس والحسن . وآخرون قالوا : معنى الآية ويحذركم الله اياه .
فان قيل : فما وجه تسمية الغيب بأنه نفس ؟ .
قلنا : لا يمتنع ان يكون الوجه في ذلك ان نفس الانسان لما كانت خفية الموضع الذي يودعه سرها ، انزل ما يكتمه ويجهد في سره منزلتها فقيل فيه انه نفس مبالغة في وصفه بالكتمان والخفاء . وانما حسن ان يقول مخبرا عن نبيه ( ع ) ( ولا اعلم ما في نفسك ) من حيث تقدم قوله ( تعلم ما في نفسي ) ليزدوج الكلام . فلهذا لا يحسن ابتداء ان يقول انا لا اعلم ما في نفس الله تعالى ، وان حسن على الوجه الاول . ولهذا نظائر في الكلام مشهورة .
حول تفويضه الامر لله تعالى :
( مسألة ) : فإن قيل فما معنى قوله تعالى حاكيا عن عيسى ( ع ) : ( ان تعذبهم فانهم عبادك ، وان تغفر لهم فانك انت العزيز الحكيم ) ( 3 ) وكيف يجوز هذا المعنى مع علمه ( ع ) بأنه تعالى لا يغفر للكفار ؟ .
( الجواب ) : قلنا : المعنى بهذا الكلام تفويض الامر إلى مالكه وتسليمه إلى مديره ، والتبري من أن يكون اليه شئ من أمور قومه . وعلى هذا يقول أحدنا اذا أراد ان يتبرأ من تدبير امر من الامور ويسلم منه ويفوض امره إلى غيره ، يقول : هذا الامر لا مدخل لي فيه فإن شئت ان تفعله ، وان شئت ان تتركه ، مع علمه وقطعه على ان أحد الامرين لابد ان يكون منه . وانما حسن منه ذلك لما أخرج كلامه مخرج التفويض والتسليم . وقد روي عن الحسن انه قال : معنى الآية ان تعذبهم فبإقامتهم على كفرهم ، وان تغفر لهم فبتوبة كانت منهم . فكأنه اشترط التوبة وان لم يكن الشرط ظاهرا في الكلام .
فان قيل : فلم لم يقل وان تغفر لهم فانك انت الغفور الرحيم ؟ فهو اليق في الكلام ومعناه من العزيز الحكيم ؟ . قلنا : هذا سؤال من لم يعرف معنى الآية ، لان الكلام لم يخرج مخرج مسألة غفران ، فيليق بما ذكر في السؤال . وانما ورد على معنى تسليم الامر إلى مالكه . فلو قيل فانك انت الغفور الرحيم ، لاوهم الدعاء لهم بالمغفرة . ولم يقصد ذلك بالكلام . على ان قوله " العزيز الحكيم " ابلغ في المعنى وأشد استيفاء من " الغفور الرحيم " وذلك ان الغفران والرحمة قد يكونان حكمة وصوابا ، ويكونا بخلاف ذلك . فهما بالاطلاق لايدلان على الحكمة والحسن . والوصف بالعزيز الحكيم يشتمل على معنى الغفران والرحمة ، وإذا كانا صوابين . ويزيد عليهما باستيفاء معان كثيرة ، لان العزيز هو المنيع القادر الذي لا يذل ولا يضام ، وهذا المعنى لا يفهم من الغفور الرحيم البتة . وأما الحكيم فهو الذي يضع الاشياء مواضعها ويصيب بها اغراضها ، ولا يفعل إلا الحسن الجميل . فالمغفرة والرحمة اذا اقضتهما الحكمة دخلتا في قوله العزيز الحكيم . وزاد معنى هذه اللفظة عليهما من حيث اقتضاء وصفه بالحكمة في سائر افعاله ، وانما طعن بهذا الكلام من الملحدين من لا معرفة له بمعاني الكلام . وإلا فبين ما تضمنه القرآن من اللفظة وبين ما ذكروه فرق ظاهر في البلاغة واستيفاء المعاني والاشتمال عليها .
( 1 ) المائدة 116
( 2 ) آل عمران 185 والانبياء 35 والعنكبوت 57
( 3 ) المائدة 118