تنزيه سيدنا محمد عن المعاتبة في امر المتخلفين :
( مسألة ) : فإن قيل فما وجه قوله تعالى مخاطبا لنبيه صلى الله عليه وآله لما استأذنه قوم في التخلف عن الخروج معه إلى الجهاد فأذن لهم : ( عفا الله عنك لم أذنت لهم حتى يتبين لك الذين صدقوا وتعلم الكاذبين ) ( 12 ) او ليس العفو لا يكون الا عن الذنب ؟ وقوله ( لم اذنت ) ظاهر في العتاب لانه من اخص الفاظ العتاب ؟ .
( الجواب ) : قلنا أما قوله تعالى ( عفى الله عنك ) فليس يقتضي وقوع معصية ولا غفران عقاب ، ولا يمتنع ان يكون المقصود به التعظيم والملاطفة في المخاطبة . لان احدنا قد يقول لغيره اذا خاطبه : أرأيت رحمك الله وغفر الله لك . وهو لا يقصد إلى الاستصفاح له عن عقاب ذنوبه ، بل ربما لم يخطر بباله ان له ذنبا . وانما الغرض الاجمالي في المخاطبة واستعمال ما قد صار في العادة علما على تعظيم المخاطب وتوقيره . وأما قوله تعالى : ( لم أذنت لهم ) فظاهره الاستفهام والمراد به التقريع واستخراج ذكر علة اذنه ، وليس بواجب حمل ذلك على العتاب ، لان احدنا قد يقول لغيره ، لم فعلت كذا وكذا . تارة معاتبا وأخرى مستفهما ، وتارة مقررا . فليس هذه اللفظة خاصة للعتاب والانكار . وأكثر ما يقتضيه وغاية ما يمكن ان يدعى فيها ان تكون دالة على انه صلى الله عليه وآله ترك الاولى والافضل ، وقد بينا ان ترك الاولى ليس بذنب ، وان كان الثواب ينقص معه . فإن الانبياء عليهم السلام يجوز ان يتركوا كثيرا من النوافل . وقد يقول احدنا لغيره اذا ترك الندب : لم تركت الافضل ولم عدلت عن الاولى ؟ ولا يقتضي ذلك انكارا ولا قبيحا .
تنزيه سيدنا محمد عن الوزر :
( مسألة ) : فإن قيل فما معنى قوله تعالى : ( ألم نشرح لك صدرك ووضعنا عنك وزرك الذي انقض ظهرك ) ( 13 ) او ليس هذا صريحا في وقوع المعاصي منه صلى الله عليه وآله ؟ .
( الجواب ) : قلنا أما الوزر في أصل اللغة فهو الثقل ، وانما سميت الذنوب بأنها اوزارا لانها تثقل كاسبها وحاملها . فاذا كان أصل الوزر ما ذكرناه ، فكل شئ اثقل الانسان وغمه وكده وجهده جاز ان يسمى وزرا ، تشبيها بالوزر الذي هو الثقل الحقيقي . وليس يمتنع ان يكون الوزر في الآية انما أراد به غمه صلى الله عليه وآله وهمه بما كان عليه قومه من الشرك ، وأنه كان هو وأصحابه بينهم مستضعفا مقهورا . فكل ذلك مما يتعب الفكر ويكد النفس . فلما أن أعلى الله كلمته ونشر دعوته وبسط يده خاطبه بهذا الخطاب تذكيرا له بمواقع النعمة عليه ، ليقابله بالشكر والثناء والحمد .
ويقوي هذا التأويل قوله تعالى : ( ورفعنا لك ذكرك ) وقوله عز وجل : ( فإن مع العسر يسرا ان مع العسر يسرا ) والعسر بالشدائد والغموم اشبه ، وكذلك اليسر بتفريج الكرب وإزالة الهموم والغموم اشبه .
فإن قيل : هذا التأويل يبطله ان هذه السورة مكية نزلت على النبي صلى الله عليه وآله وهو في الحال الذي ذكرتم انها تغمه من ضعف الكلمة وشدة الخوف من الاعداء ، وقبل ان يعلي الله كلمة المسلمين على المشركين ، فلا وجه لما ذكرتموه .
قلنا : عن هذا السؤال جوابان : أحدهما انه تعالى لما بشره بأنه يعلي دينه على الدين كله ويظهره عليه ويشفى صلى الله عليه وآله من اعدائه وغيظه ، وغيظ المؤمنين به ، كان بذلك وضعا عنه ثقل غمه بما كان يلحقه من قومه ، ومطيبا لنفسه ومبدلا عسره يسرا ، لانه يثق بأن وعد الله تعالى حق ما يخلف ، فامتن الله تعالى عليه بنعمة سبقت الامتنان وتقدمته .
والجواب الآخر : ان يكون اللفظ وان كان ظاهره الماضي ، فالمراد به الاستقبال . ولهذا نظائر كثيرة في القرآن والاستعمال . قال الله تعالى : ( ونادى اصحاب النار اصحاب الجنة ) وقوله تعالى : ( ونادوا يامالك ليقض علينا ربك ) ، إلى غير ذلك مما شهرته تغني عن ذكره .
تنزيه سيدنا محمد عن الذنب :
( مسألة ) : فإن قيل : فما معنى قوله تعالى : ( ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر ) ( 14 ) او ليس هذا صريحا في أن له صلى الله عليه وآله ذنوبا وان كانت مغفورة .
( الجواب ) : قلنا أما من نفى عنه صلى الله عليه وآله صغائر الذنوب مضافا إلى كبائرها ، فله عن هذه الآية اجوبة نحن نذكرها ونبين صحيحها من سقيمها . منها : انه أراد تعالى باضافة الذنب اليه ذنب ابيه آدم عليه السلام . وحسنت هذه الاضافة لاتصال القربى ، وعفوه لذلك ، من حيث اقسم آدم على الله تعالى به ، فأبر قسمه ، فهذا المتقدم . والذنب المتأخر هو ذنب شيعته وشيعة أخيه عليه السلام . وهذا الجواب يعترضه ان صاحبه نفى عن نبي ذنبا واضافه إلى آخر . والسؤال عليه فيمن اضافه اليه كالسؤال فيمن نفاه عنه .
ويمكن اذا اردنا نصرة هذا الجواب ان نجعل الذنوب كلها لامته صلى الله عليه وآله ، ويكون ذكر التقدم والتأخر انما أراد به ما تقدم زمانه وما تأخر ، كما يقول القائل مؤكدا : " قد غفرت لك ما قدمت وما أخرت وصفحت عن السالف والآنف من ذنوبك " . ولاضافه ذنوب أمته إليه وجه في الاستعمال معروف لان القائل قد يقول لمن حضره من بني تميم او غيرهم من القبائل انتم فعلتم كذا وكذا وقلتم فلانا وان كان الحاضرون ما شهدوا ذلك ولا فعلوه وحسنت الاضافة للاتصال والتسبب ولا سبب اوكد مما بين الرسول صلى الله عليه وآله وامته فقد يجوز توسعا وتجوزا ان تضاف ذنوبهم اليه ( ومنها ) انه سمى ترك الندب ذنبا وحسن ذلك لانه صلى الله عليه وآله ممن لا يخالف الاوامر الا هذا الضرب من الخلاف ولعظم منزلته وقدره فجاز ان يسمي بالذنب منه ما اذا وقع من غيره لم يسم ذنبا وهذا الوجه يضعفه على بعد هذه التسمية انه لايكون معنى لقوله انني اغفر ذنبك ولا وجه في معنى الغفران يليق بالعدول عن الندب ( عن الذنب ) .
ومنها : ان القول خرج مخرج التعظيم وحسن الخطاب كما قلناه في قوله تعالى : ( عفا الله عنك لم أذنت لهم ) . وهذا ليس بشئ لان العادة قد جرت فيما يخرج هذا المخرج من الالفاظ أن يجري مجرى الدعاء ، مثل قولهم : غفر الله لك ، وليغفر الله لك ، وما أشبه ذلك . ولفظ الآية بخلاف هذا لان المغفره جرت فيها مجرى الجزاء والغرض في الفتح . وقد كنا ذكرنا في هذه الآية وجها اخترناه وهو أشبه بالظاهر مما تقدم ، وهو أن يكون المراد بقوله ما تقدم من ذنبك الذنوب إليك ، لان الذنب مصدر والمصدر يجوز إضافته إلى الفاعل والمفعول معا ، ألا ترى أنهم يقولون : أعجبني ضرب زيد عمرا اذا أضافوه إلى الفاعل ، وأعجبني ضرب زيد عمرا إذا أضافوه إلى المفعول . ومعنى المغفرة على هذا التأويل هي الازالة والفسخ والنسخ لاحكام أعدائه من المشركين عليه ، وذنوبهم إليه في منعهم إياه عن مكة وصدهم له عن المسجد الحرام .
وهذا التأويل يطابق ظاهر الكلام حتى تكون المغفرة غرضا في الفتح ووجها له . وإلا فإذا أراد مغفرة ذنوبه لم يكن لقوله : ( إنا فتحنا لك فتحا مبينا ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر ) معنى معقول ، لان المغفرة للذنوب لا تعلق لها بالفتح ، اذ ليست غرضا فيه .
وأما قوله تعالى : ( ما تقدم من ذنبك وما تأخر ) ، فلا يمتنع ان يريد به ما تقدم زمانه من فعلهم القبيح لك ولقومك وما تأخر ، وليس لاحد ان يقول ان سورة الفتح نزلت على رسول الله صلى الله عليه وآله بين مكة والمدينة وقد انصرف من الحديبية .
وقال قوم من المفسرين : ان الفتح اراد به فتح خيبر ، لانه كان تاليا لتلك الحال ، وقال آخرون : بل أراد به أنا قضينا لك في الحديبية قضاء حسنا . فكيف يقولون ما لم يقله أحد من أن المراد بالآية فتح مكة ، والسورة قد نزلت قبل ذلك بمدة طويلة ، وذلك ان السورة وان كانت نزلت في الوقت الذي ذكر وهو قبل فتح مكة ، فغير ممتنع ان يريد بقوله تعالى ( انا فتحنا لك فتحا مبينا ) فتح مكة . ويكون ذلك على طريق البشارة له والحكم بأنه سيدخل مكة وينصره الله على اهلها ، ولهذا نظائر في القرآن ، والكلام كثير . ومما يقوي أن الفتح في السورة أراد به فتح مكة قوله تعالى : ( لتدخلن المسجد الحرام ان شاء الله آمنين محلقين رؤوسكم ومقصرين لا تخافون فعلم ما لم تعلموا فجعل من دون ذلك فتحا قريبا ) ( 15 ) فالفتح القريب ههنا هو فتح خيبر . وأما حمل الفتح على القضاء الذي قضاه في الحديبية فهو خلاف الظاهر . ومقتضى الآيه لان الفتح بالاطلاق الظاهر منه الظفر والنصر . ويشهد بأن المراد بالآية ما ذكرناه قوله تعالى : ( وينصرك الله نصرا عزيزا ) .
فإن قيل : ليس يعرف اضافة المصدر إلى المفعول إلا اذا كان المصدر متعديا بنفسه ، مثل قولهم : اعجبني ضرب زيد عمرا . واضافة مصدر غير متعد إلى مفعوله غير معروفة .
قلنا : هذا تحكم في اللسان وعلى أهله لانهم في كتب العربية كلها اطلقوا ان المصدر يضاف إلى الفاعل والمفعول معا ، ولم يستثنوا متعديا من غيره ، ولو كان بينهما فرق لبينوه وفصلوه كما فعلوا في غيره وليس قلة الاستعمال معتبرة في هذا الباب لان الكلام اذا كان له أصل في العربية استعمل عليه ، وان كان قليل الاستعمال . وبعد فإن ذنبهم ههنا اليه انما هو صدهم له عن المسجد الحرام ومنعهم اياه عن دخوله ، فمعنى الذنب متعد ، وإذا كان معنى المصدر متعديا جاز أن يجري ما يتعدى بلفظه ، فإن من عادتهم ان يحملوا الكلام تارة على معناه وأخرى على لفظه ، ألا ترى إلى قول الشاعر :
جئني بمثل بني بدر لقومهم * أو مثل اخوة منظور بن سيار فاعمل الكلام على المعنى دون اللفظ ، لانه لو أعمله على اللفظ دون المعنى لقال : أو مثل : بالجر ، لكنه لما كان معنى ، جئني احضر ، أو هات قوما مثلهم . حسن ان يقول او مثل بالفتح ، وقال الشاعر : درست وغير آيهن مع البلى * الا رواكد جمرهن هباء
ومشجج ( 16 ) اما سوار قذى له * فبدا وغيب سارة المعزاء فقال : ومشجج بالرفع اعمالا للمعنى ، لانه لما كان معنى قوله الا رواكد أنهن باقيات ثابتات عطف على ذلك المشجج بالرفع . ولو اجرى الكلام على لفظه لنصب المعطوف به أو امثله هذا المعنى كثير . وفيما ذكرناه كفاية بمشيئة الله تعالى .