تنزيه سيدنا محمد عن المعاتبة في أمر الاعمى :
( مسألة ) : فإن قيل : أليس قد عاتب الله تعالى نبيه صلى الله عليه وآله في إعراضه عن ابن ام مكتوم لما جاءه واقبل على غيره بقوله : ( عبس وتولى أن جاءه الاعمى وما يدريك لعله يزكى أو يذكر فتنفعه الذكرى ) ( 17 ) . وهذا ايسر مافيه ان يكون صغيرا .
( الجواب ) : قلنا : أما ظاهر الآية فغير دال على توجهها إلى النبي صلى الله عليه وآله ولا فيها ما يدل على أنه خطاب له ، بل هي خبر محض لم يصرح بالمخبر عنه . وفيها ما يدل عند التأمل على ان المعني بها غير النبي صلى الله عليه وآله لانه وصفه بالعبوس وليس هذا من صفات النبي صلى الله عليه وآله في قرآن ولا خبر مع الاعداء المنابذين ، فضلا عن المؤمنين المسترشدين . ثم وصفه بأنه يتصدى للاغنياء ويتلهى عن الفقراء ، وهذا مما لا يوصف به نبينا عليه السلام من يعرفه ، فليس هذا مشبها مع اخلاقه الواسعة وتحننه على قومه وتعطفه ، وكيف يقول له وما عليك الا يزكى وهو صلى الله عليه وآله مبعوث للدعاء والتنبيه ، وكيف لا يكون ذلك عليه . وكان هذا القول اغراء بترك الحرص على ايمان قومه . وقد قيل ان هذه السورة نزلت في رجل من اصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله كان منه هذا الفعل المنعوت فيها ، ونحن وان شككنا في عين من نزلت فيه فلا ينبغي ان نشك إلى أنها لم يعن بها النبي ، واي تنفير أبلغ من العبوس في وجوه المؤمنين والتلهي عنهم والاقبال على الاغنياء الكافرين والتصدي لهم ، وقد نزه الله تعالى النبي صلى الله عليه وآله عما هو دون هذا في التنفير بكثير .
تنزيه محمد ( ع ) عن الشرك :
( مسألة ) : فإن قيل : فما معنى قوله تعالى مخاطبا لنبيه : ( لئن اشركت ليحبطن عملك ولتكونن من الخاسرين ) ( 18 ) وكيف يوجه هذا الخطاب إلى من لا يجوز عليه الشرك ولا شي ء من المعاصي .
( الجواب ) : قد قيل في هذه الآية ان الخطاب للنبي صلى الله عليه وآله والمراد به أمته ، فقد روي عن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال : نزل القرآن بإياك اعني واسمعي يا جارة . ومثل ذلك قوله تعالى ( يا أيها النبي اذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن واحصوا العدة ) ( 2 ) فدل قوله تعالى فطلقوهن على ان الخطاب توجه إلى غيره . وجواب آخر : ان هذا خبر يتضمن الوعيد ، وليس يمتنع ان يتوعد الله تعالى على العموم . وعلى سبيل الخصوص من يعلم أنه لا يقع منه ما تناوله الوعيد ، لكنه لابد من ان يكون مقدورا له وجائزا بمعنى الصحة لا بمعنى الشك ، ولهذا يجعل جميع وعيد القرآن عاما لمن يقع منه ما تناوله الوعيد ، ولمن علم الله تعالى أنه لا يقع منه . وليس قوله تعالى ( لئن اشركت ليحبطن عملك ) على سبيل التقدير والشرط بأكثر من قوله تعالى : ( لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا ) لان استحالة وجود ثان معه تعالى : اذا لم يمنع من تقدير ذلك ، وبيان حكمه كأولى ان يسوغ تقدير وقوع الشرك الذي هو مقدور لكن ، وبيان حكمه . والشيعة لها في هذه الآية جواب تنفرد به وهو أن النبي لما نص على امير المؤمنين عليه الصلاة والسلام بالامامة في ابتداء الامر جاءه قوم من قريش فقالوا له : يا رسول الله صلى الله عليه وآله ان الناس قريبوا عهد بالاسلام لا يرضون ان تكون النبوة فيك والامامة في ابن عمك علي بن ابي طالب . فلو عدلت به إلى غيره لكان اولى . فقال لهم النبي صلى الله عليه وآله : ما فعلت ذلك برأيي فأتخير فيه ، لكن الله تعالى أمرني به وفرضه علي . فقالوا له : فإذا لم تفعل ذلك مخافة الخلاف على ربك تعالى فأشرك معه في الخلافة رجلا من قريش تركن الناس اليه ، ليتم لك امرك ولا يخالف الناس عليك . فنزلت الآية والمعنى فيها لئن اشركت مع علي في الامامة غيره ليحبطن عملك ، وعلى هذا التأويل . فالسؤال قائم لانه اذا كان قد علم الله تعالى انه صلى الله عليه وآله لايفعل ذلك ولا يخالف امره لعصمته ، فما الوجه في الوعيد ؟ فلابد من الرجوع إلى ما ذكرناه .
تنزيه سيدنا محمد ( ع ) عن الذنب :
( مسألة ) : فإن قيل : فما وجه قوله تعالى : ( ياأيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك تبتغي مرضاة ازواجك والله غفور رحيم ) ( 19 ) او ليس ظاهر هذا الخطاب يتضمن العتاب ؟ والعتاب لا يكون إلا على ذنب كبير أو صغير .
( الجواب ) : قلنا ليس في ظاهر الآية ما يقتضي عتابا وكيف يعاتبه الله تعالى على ما ليس بذنب ، لان تحريم الرجل بعض نسائه لسبب او لغير سبب ليس بقبيح ولا داخل في جملة الذنوب ، واكثر ما فيه انه مباح . ولا يمتنع ان يكون قوله تعالى : ( لم تحرم ما احل الله لك تبتغي مرضاة ازواجك ) خرج مخرج التوجع من حيث يتحمل المشقة في ارضاء زوجاته ، وإن كان ما فعل قبيحا . ولو أن احدنا ارضى بعض نسائه بتطليق اخرى او بتحريمها لحسن ان يقال له لم فعلت ذلك وتحملت المشقة فيه ، وان كان ما فعل قبيحا . ويمكن ايضا اذا سلمنا ان القول يقتضي ظاهره العتاب ان يكون ترك التحريم افضل من فعله ، فكأنه عدل بالتحريم عن الاولى . ويحسن ان يقال لمن عدل عن النقل لم لم تفعله . وكيف عدلت عنه ، والظاهر الذي لا شبهة فيه قد يعدل عنه لدليل ، فلو كان للآية ظاهر يقتضي العتاب لجاز أن يصرفه إلى غيره لقيام الدلالة على انه لا يفعل شيئا من الذنوب ولان القصة التي خرجت الآية عليها لا يقتضي ماله تعلق بالذنب على وجه من الوجوه .
تنزيه محمد ( ع ) عن مراجعة أمر ربه :
( مسألة ) : فإن قيل : فما الوجه في الرواية المشهورة ان النبي صلى الله عليه وآله ليلة المعراج لما خوطب بفرض الصلاة راجع ربه تعالى مرة بعد أخرى حتى رجعت إلى خمس ، وفي الرواية ان موسى عليه السلام هو القائل له ان امتك لا تطيق هذا . وكيف ذهب ذلك على النبي صلى الله عليه وآله حتى نبهه موسى ( ع ) ؟ وكيف يجوز المراجعة منه مع علمه بأن العبادة تابعة للمصلحة ؟ وكيف يجاب عن ذلك مع ان المصلحة بخلافه ؟ .
( الجواب ) : قلنا أما هذه الرواية فمن طريق الآحاد التي لا توجب علما ، وهي مع ذلك مضعفة وليس يمتنع لو كانت صحيحة ان تكون المصلحة في الابتداء يقتضي بالعبادة بالخمسين من الصلاة ، فإذا وقعت المراجعة تغيرت المصلحة واقتضت أقل من ذلك حتى ينتهي إلى هذا العدد المستقر ، ويكون النبي صلى الله عليه وآله قد اعلم بذلك ، فراجع طلبا للتخفيف عن امته والتسهيل ، ونظير ما ذكرناه في تغير المصلحة بالمراجعة وتركها أن فعل المنذور قبل النذر غير واجب ، فاذا تقدم النذر صار واجبا وداخلا في جملة العبادات المفترضات ، وكذلك تسليم المبيع غير واجب ولا داخل في جملة العبادات ، فاذا تقدم عقد البيع وجب وصار مصلحة . ونظائر ذلك في الشرعيات أكثر من أن تحصى ، فأما قول موسى له صلى الله عليه وآله ان امتك لا تطيق فراجع ، فليس ذلك تنبيها له صلى الله عليه وآله ، وليس يمتنع أن يكون النبي أراد أن يسأل مثل ذلك لو لم يقل له موسى . ويجوز أن يكون قوله قوى دواعيه في المراجعة التي كانت ابيحت له . ومن الناس من استبعد هذا الموضوع من حيث يقتضي ان يكون موسى ( ع ) في تلك الحال حيا كاملا ، وقد قبض منذ زمان . وهذا ليس ببعيد لان الله تعالى قد خبر أن أنبياءه عليهم السلام والصالحين من عباده في الجنان يرزقون ، فما المانع من ان يجمع الله بين نبينا صلى الله عليه وآله وبين موسى .
حول استئذان محمد ( ع ) لربه أن يقرأ القرآن على سبعة أحرف :
( مسألة ) : فإن قيل : فما الوجه فيما روي من ان الله تعالى لما أمر نبيه ان يقرأ القرآن على حرف واحد قال له جبرئيل عليه السلام استزده يا محمد ، فسأل الله تعالى حتى اذن له ان يقرأه على سبعة احرف ؟ .
( الجواب ) : قلنا ان اللام في هذا الخبر يجري مجرى ما ذكرناه في المراجعة عند فرض الصلاة ، وليس يمتنع ان تكون المصلحة تختلف بالمراجعة والسؤال ، وإنما التمس الزيادة في الحروف للتسهيل والتخفيف . فإن في لاناس من يسهل عليه التفخيم وبعضهم لا يسهل عليه إلا الامالة . وكذلك القول في الهمز وترك الهمز . فإن كان هذا الخبر صحيحا فوجه المراجعة فيه هو طلب التخفيف ورفع المشقة .
في وجه استثناء محمد ( ع ) في قول العباس ما لم يكن يريد أن يستثنيه :
( مسألة ) : فإن قيل : فما الوجه في اجابة النبي صلى الله عليه وآله العباس رضي الله عنه في قوله إلا الاذخر ، إلى سؤاله وامضاء استثنائه وانتم تعلمون ان التحريم والتحليل انما يتبع المصالح فكيف يستثني بقول العباس ما لم يكن يريد أن يستثنيه ؟ .
( الجواب ) : قلنا : عن هذا جوابان : أحدهما ان يكون النبي صلى الله عليه وآله أراد ان يستثني ما ذكره العباس من الاذخر لو لم يسابقه العباس إليه . وقد نجد كثيرا من الناس يبتدئ بكلام وفي نيته أن يصله بكلام مخصوص فيسابقه إلى ذلك الكلام بعض حاضريه ، فيظن انه لما وصل كلامه الاول بالثاني لاجل تذكير الحاضر له ولا يكون الامر كذلك . والجواب الثاني : أن يكون الله تعالى خير نبيه صلى الله عليه وآله في الاذخر ، فلما سأله العباس اختار أحد الامرين اللذين خير فيهما . وكل هذا غير ممتنع .
في وجه قول سيدنا محمد صلى الله عليه وآله عن وضع الرب قدمه في النار :
( مسألة ) : فإن قيل : فما قولكم في الخبر الذي رواه محمد بن جرير الطبري بإسناده عن ابي هريرة عن النبي صلى الله عليه وآله " ان النار تقول هل من مزيد اذا القي فيها اهلها ، حتى يضع الرب تعالى قدمه فيها . وتقول قط قط فحينئذ تمتلئ وينزوي بعضها إلى بعض . وقد روي مثل ذلك عن انس بن مالك ؟ .
( الجواب ) : قلنا لا شبهة في ان كل خبر اقتضى ، ما تنفيه ادلة العقول فهو باطل مردود ، إلا ان يكون له تأويل سايغ غير متعسف ، فيجوز ان يكون صحيحا ، ومعناه مطابقا للادلة . وقد دلت العقول ومحكم القرآن والصحيح من السنة على ان الله تعالى ليس بذي جوارح ولا يشبه شيئا من المخلوقات ، وكل خبر نافى ما ذكرناه وجب ان يكون إما مردودا او محمولا على ما يطابق ما ذكرنا من الادلة ، وخبر القدم يقتضي ظاهره التشبيه المحض ، فكيف يكون مقبولا وقد قال قوم أنه لا يمتنع ان يريد بذكر القدم القوم الذين قدمهم لها . واخبر أنهم يدخلون اليها ممن استحقها باعماله . فأما قول النار فهل من مزيد ؟ فقد قيل معنى ذلك انها صارت بحيث لا موضع فيها للزيادة ، وبحيث لو كانت ممن تقول لقالت قد امتلات وما بقي في مزيد ، واضاف القول اليها على سبيل المجاز كما اضاف الشاعر القول إلى الحوض :
امتلا الحوض فقال فطني * مهلا رويدا قد ملات بطني وقد قال ابوعلي الجبائي ان القول الذي هو هل من مزيد ، من قول الخزنة . كما يقال : قالت البلدة الفلانية كذا اي قال أهلها . وكما قال تعالى : ( وجاء ربك والملك صفا صفا ) ( 20 ) وهذا ايضا غير ممتنع .
في قول محمد ( ع ) يعذب الميت ببكاء الحي عليه :
( مسألة ) : فإن قيل : فما معنى الخبر المروي عن النبي صلى الله عليه وآله انه قال : " ان الميت ليعذب ببكاء الحي عليه " . وفي روايه اخرى " ان الميت يعذب في قبره بالنياحة عليه " . وروى المغيرة بن شعبة عنه صلى الله عليه وآله انه قال : " من نيح عليه فإنه يعذب بما يناح عليه " ؟ .
( الجواب ) : قلنا هذا الخبر منكر الظاهر لانه يقتضي اضافة الظلم إلى الله تعالى ، وقد نزهت أدلة العقول التي لا يدخلها الاحتمال والاتساع والمجاز الله تعالى عن الظلم وكل قبيح . وقد نزه الله تعالى نفسه بمحكم القول عن ذلك فقال عزوجل : ( ولا تزر وازرة وزر أخرى ) ( 21 ) . ولابد من ان نصرف ما ظاهره بخلاف هذه الادلة إلى ما يطابقها إن امكن ، او نرده ونبطله . وقد روي عن ابن عباس في هذا الخبر أنه قال وهل ابن عمر : انما مر رسول الله صلى الله عليه وآله على قبر يهودي اهله يبكون عليه فقال انهم يبكون عليه وانه ليعذب . وقد روى انكار هذا الخبر عن عائشة ايضا ، وأنها قالت لما خبرت بروايته : وهل ابوعبدالرحمن كما وهل يوم قليب بدر ، انما قال ( ع ) ان اهل البيت الميت ليبكون عليه ، وانه ليعذب بجرمه . فهذا الخبر مردود ومطعون عليه كما ترى . ومعنى قولهما : وهل : اي ذهب وهمه إلى غير الصواب . يقال وهلت إلى الشئ أوهل وهلا : اذا ذهب وهمك اليه . ووهلت عنه أوهل وهلا : اذا نسيته وغلطت فيه . ووهل الرجل يوهل وهلا : اذا فزع . والوهل : الفزع . وموضع وهله في ذكر القليب أنه روي أن النبي صلى الله عليه وآله وقف على قليب بدر فقال : هل وجدتم ما وعد ربكم حقا . ثم قال : إنهم ليسمعون ما أقول . فأنكر ذلك عليه ، وقيل انما قال عليه السلام : أنهم الآن ليعلمون ان الذي كنت اقول لهم هو الحق . واستشهد بقوله تعالى : ( انك لا تسمع الموتى ) ، ويمكن في الخبر إن كان صحيحا وجوه من التأويل :
قال : إنهم ليسمعون ما أقول . فأنكر ذلك عليه ، وقيل انما قال عليه السلام : أنهم الآن ليعلمون ان الذي كنت اقول لهم هو الحق . واستشهد بقوله تعالى : ( انك لا تسمع الموتى ) ، ويمكن في الخبر إن كان صحيحا وجوه من التأويل :
اولها : انه إن وصى موص بأن يناح عليه ففعل ذلك بأمره ، فإنه يعذب بالنياحة . وليس معنى يعذب بها أنه يؤاخذ بفعل النواح ، وانما معناه أنه يؤاخذ بأمره بها ووصيته بفعلها ، وانما قال صلى الله عليه وآله ذلك لان الجاهلية كانوا يرون البكاء عليهم والنوح ويأمرون به ويؤكدون الوصية بفعله ، وهذا مشهور عنهم . قال طرفة بن العبد :
فان مت فانعيني بما أنا أهله * وشقي عليه الجيب يا ابنة معبد وقال بشر بن ابي حازم :
فمن يك سائلا عن بيت بشر * فان له بجنب الردم بابا
ثوى في ملحد لابد منه * كفى بالموت نابا واغترابا
رهين بلى وكل فتى سيبلى * فاذري الدمع وانتحبي انتحابا وثانيها : ان العرب كانوا يبكون موتاهم ويذكرون غاراتهم وقتل اعدائهم ، وما كانوا يسلبونه من الاموال ويرونه من الاحوال ، فيعدون ما هو معاص في الحقيقة بعذاب الميت بها وإن كانوا يجعلون ذلك من مفاخره ومناقبه ، فذكر انكم تبكونهم بما يعذبون به .
وثالثها : ان يكون المعنى ان الله تعالى اذا علم الميت ببكاء أهله واعزته عليه تألم لذلك ، فكان عذابا له . والعذاب ليس بجار مجرى العقاب الذي لا يكون إلا على ذنب متقدم ، بل قد يستعمل كثيرا بمعنى الالم والضرر . ألا ترى ان القائل قد يقول لمن ابتدأه بضرر أو ألم : قد عذبتني بكذا وكذا وآذيتني ، كما يقول اضررت بي وآلمتني . وإنما لم يستعمل العقاب حقيقة في الآلام المبتدئه ، من حيث كان اشتقاق لفظة العقاب من المعاقبة التي لابد من تقدم سبب لها وليس هذا في العذاب .
ورابعها : ان يكون أراد بالميت من حضره الموت ودنا منه . فقد يسمى بذلك القوة المقاربة على سبيل المجاز . فكأنه صلى الله عليه وآله اراد أن من حضره الموت يتأذى ببكاء اهله عنده ، ويضعف نفسه ، فيكون ذلك كالعذاب له . وكل هذا بين بحمد الله ومنه .
في قول سيدنا محمد صلى الله عليه وآله
إن قلوب بني آدم كلها بين اصبعين :
( مسألة ) : فإن قيل : فما معنى الخبر المروي عن عبدالله بن عمر أنه قال سمعت النبي صلى الله عليه وآله يقول : إن قلوب بني آدم كلها بين اصبعين من اصابع الرحمن يصرفها كيف يشاء . ثم يقول رسول الله صلى الله عليه وآله عند ذلك : اللهم مصرف القلوب اصرف قلوبنا إلى طاعتك . والخبر الذي يرويه أنس قال رسول الله : ما من قلب آدمي إلا وهو بين اصبعين من اصابع الله تعالى ، فاذا شاء ان يثبته ثبته واذشاء ان يقلبه قلبه ؟ .
( الجواب ) : قلنا ان لمن تكلم في تأويل هذه الاخبار ولم يدفعها لمنافاتها لادلة العقول ان يقول ان الاصبع في كلام العرب وان كانت هي الجارحة المخصوصه ، فهي أيضا الاثر الحسن . يقال لفلان على ماله وابله اصبع حسنة . اي قيام واثر حسن . قال الراعي واسمه عبيد الله بن الحصين ويكنى بأبي جندل ، يصف راعيا حسن القيام على ابله : ضعيف العصى بادي العروق ترى له * عليها اذا ما اجدب الناس اصبعا وقال لبيد :
من يبسط الله عليه اصبعا * بالخير والشر بأي أولعا يملا له منه ذنوبا مترعا وقال الآخر :
أكرم نزارا واسقه المشعشا * فإن فيه خصلات اربعا مجدا وجودا ويدا واصبعا فإن الاصبع في كل ما أوردناه المراد به الاثر الحسن والنعمة ، فيكون المعنى ما من آدمي الا وقلبه بين نعمتين لله تعالى جليلتين .
فإن قيل : فما معنى تثنية النعمتين ونعم الله تعالى على عباده لا تحصى كثرة .
قلنا : يحتمل ان يكون الوجه في ذلك نعم الدنيا ونعم الآخرة ، وثناهما لانهما كالجنسين أو النوعين . وان كان كل قبيل منهما في نفسه ذا عدد كثير . ويمكن ان يكون الوجه في تسميتهم الاثر الحسن بالاصبع هو من حيث يشار اليه بالاصبع اعجابا وتنبيها عليه ، وهذه عادتهم في تسمية الشئ بما يقع عنده وبما له به علقة وقد قال قوم ان الراعي اراد ان يقول يدا في موضع اصبع ، لان اليد النعمة ، فلم يمكنه . فعدل عن اليد إلى الاصبع لانها من اليد .
وفي هذه الاخبار وجه آخر وهو أوضح من الوجه الاول واشبه بمذهب العرب وتصرف ملاحن كلامها ، وهو ان يكون الغرض في ذكر الاصابع الاخبار عن تيسير تصريف القلوب وتقليبها والفعل فيها عليه عزوجل ، ودخول ذلك تحت قدرته ، ألا ترى أنهم يقولون هذا الشئ في خنصري واصبعي وفي يدي وقبضتي . كل ذلك اذا أرادوا وصفه بالتيسير والتسهيل وارتفاع المشقة فيه والمؤونة وعلى هذا المعنى يتأول المحققون قوله تعالى :
( والارض جميعا قبضته يوم القيامة والسموات مطويات بيمينه )( 22 ) فكأنه صلى الله عليه وآله لما اراد المبالغة في وصفه بالقدرة على تقليب القلوب وتصريفها بغير مشقة ولا كلفة ، قال إنها بين اصابعه كناية عن هذا المعنى واختصارا للفظ الطويل يه . وقد ذكر قوم في معنى الاصابع على أنها المخلوقات من اللحم والدم استظهارا في الحجة على المخالف وجها آخر ، وهو أنه لا ينكر أن يكون القلب يشتمل عليه جسمان على شكل الاصبعين ، يحركه الله بهما ويقلبه بالفعل فيهما . ويكون وجه تسميتهما . بالاصبعين من حيث كانا على شكلهما . والوجه في اضافتهما إلى الله تعالى . وان كانت جميع افعاله تضاف اليه بمعنى الملك والقدرة ، لانه لا يقدر على الفعل فيهما وتحريكهما منفردين عما جاوزهما غيره تعالى ، وقيل إنهما اصبعان له من حيث اختص بالفعل فيهما على هذا الوجه . وهذا التأويل وان كان دون ما تقدمه فالكلام يحتمله ، ولابد من ذكر القوي والضعيف اذا كان في الكلام له ادنى احتمال .
في قول سيدنا محمد إن الله خلق آدم على صورته :
( مسألة ) : فإن قيل فما معنى الخبر المروي عن النبي صلى الله عليه وآله انه قال : " ان الله خلق آدم على صورته " ، أو ليس ظاهر هذا الخبر يقتضي التشبيه وان له تعالى عن ذلك صورة .
( الجواب ) : قلنا قد قيل في تأويل هذا الخبر أن الهاء في قوله في صورته ، اذا صح هذا الخبر راجعة إلى آدم ( ع ) دون الله ، فكان المعنى انه تعالى خلقه على الصورة التي قبض عليها ، وأن حاله لم يتغير في الصورة بزيادة ولا نقصان كما تتغير احوال البشر .
وذكر وجه ثان : وهو ان تكون الهاء راجعة إلى الله تعالى ، ويكون المعنى انه خلقه على الصورة التي اختارها واجتباها ، لان الشئ قد يضاف على هذا الوجه إلى مختاره ومصطفيه .
وذكر ايضا وجه ثالث : وهو ان هذا الكلام خرج على سبب معروف لان الزهري روي عن الحسن أنه كان يقول : مر رسول الله صلى الله عليه وآله برجل من الانصار وهو يضرب وجه غلام له ويقول قبح الله وجهك ووجه من تشبهه ، فقال النبي صلى الله عليه وآله بئس ما قلت ، فإن الله خلق آدم على صورة المضروب .
ويمكن في هذا الخبر وجه رابع : وهو ان يكون المراد ان الله تعالى خلق صورته لينتفي بذلك الشك في أن تأليفه من فعل غيره ، لان التأليف من جنس مقدور البشر ، والجواهر وما شكلها من الاجناس المخصوصة من الاعراض التي ينفرد القديم تعالى بالقدرة عليها . فيمكن قبل النظر ان يكون الجواهر من فعله ، وتأليفها من فعل غيره . ألا ترى انا نرجع في العلم من أن تأليف السماء من فعله تعالى إلى السمع ، لانه لا دلالة في العقل على ذلك . لما نرجع في أن تأليف الانسان من فعله تعالى في الموضوع الذي يستدل به على أنه عالم من حيف ظهر منه الفعل المحكم ، إلى ان يجعل الكلام في اول انسان خلقه ، لانه لا يمكن ان يكون مؤلفه سواه اذا كان هو أول الاحياء من المخلوقات . فكأنه عليه السلام اخبر بهذه الفائدة الجليلة وهو أن جواهر آدم عليه السلام وتأليفه من فعل الله تعالى .
ويمكن وجه خامس : وهو ان يكون المعنى ان الله تعالى انشأه على هذه الصورة التي شوهد عليها على سبيل الابتداء ، وأنه لم ينتقل اليها ويتدرج كما جرت العادة في البشر .
وكل هذه الوجوه جائزة في معنى الخبر والله تعالى ورسوله أعلم بالمراد .
في قول سيدنا محمد : سترون ربكم كما ترون القمر ليلة البدر :
( مسألة ) : فإن قيل : فما معنى الخبر المروي عن النبي صلى الله عليه وآله انه قال : " سترون ربكم كما ترون القمر ليلة البدر لا تضامون في رؤيته " وهذا خبر مشهور لا يمكن تضعيفه ونسبته إلى الشذوذ ؟ .
( الجواب ) : قلنا : أما هذا الخبر فمطعون عليه مقدوح في راويه ، فإن راويه قيس بن ابي حازم ، وقد كان خولط في عقله في آخر عمره مع استمراره على رواية الاخبار . وهذا قدح لا شبهة فيه لان كل خبر مروي عنه لا يعلم تاريخه يجب ان يكون مردودا ، لانه لا يؤمن ان يكون مما سمع منه في حال الاختلال . وهذه طريقة في قبول الاخبار وردها ينبغي ان يكون أصلا ومعتبرا فيمن علم منه الخروج ولم يعلم تاريخ ما نقل عنه . على أن قيسا لو سلم من هذا القدح كان مطعونا فيه من وجه آخر ، وهو أن قيس بن ابي حازم كان مشهورا بالنصب والمعاداة لامير المؤمنين صلاة الله وسلامه عليه والانحراف عنه ، وهو الذي قال : رأيت علي بن أبي طالب ( ع ) على منبر الكوفة يقول : انفروا إلى بقية الاحزاب ، فابغضته حتى اليوم في قلبي . إلى غير ذلك من تصريحه بالمناصبة والمعاداة . وهذا قادح لا شك في عدالته . على ان للخبر وجها صحيحا يجوز ان يكون محمولا عليه اذا صح ، لان الرؤية قد تكون بمعنى العلم ، وهذا ظاهر في اللغة ويدل عليه قوله تعالى : ( الم تر كيف فعل ربك بعاد ) ، وقوله : ( الم تر كيف فعل ربك باصحاب الفيل ) . وقوله تعالى : ( اولم ير الانسان انا خلقناه من نطفة ) . وقال الشاعر :
رأيت الله اذ سمى نزارا * واسكنهم بمكة قاطنينا فيجوز ان يكون معنى الخبر على هذا " انكم تعلمون ربكم علما ضروريا كما تعلمون القمر ليلة البدر من غير مشقة ولا كد " نظر . وليس لاحد ان يقول ان الرؤية اذا كانت بمعنى العلم تعدت إلى مفعولين لا يجوز الاقتصار على احدهما على مذهب أهل اللسان ، والرؤية بالبصر تتعدى إلى مفعول واحد ، فيجب ان يحمل الخبر مع فقد المفعول الثاني على الرؤية بالبصر ، وذلك أن العلم عند أهل اللغة على ضربين : علم يقين ومعرفة . والضرب الآخر يكون بمعنى الظن والحسبان . والذي هو بمعنى البصر لا يتعدى إلى اكثر من مفعول واحد . ولهذا يقولون علمت زيدا بمعنى عرفته وتيقنته ، ولا يأتون بمفعول ثان واذا كان بمعنى الظن احتاج إلى المفعول الثاني ، وقد قيل ليس يمتنع ان يكون المفعول الثاني في الخبر محذوفا يدل الكلام عليه ، وإن لم يكن مصرحا به .
فان قيل : يجب على تأويلكم هذا ان يساوى أهل النار اهل الجنة في هذا الحكم الذي هو المعرقة الضرورية بالله تعالى ، لان معارف جميع أهل الآخرة عندكم لا تكون الا اضطرارا . فاذا ثبت ان الخبر بشارة للمؤمنين دون الكافرين بطل تأويلكم .
قلنا : البشارة في هذا الخبر تخص المؤمنين على الحقيقة ، لان الخبر بزوال اليسير من الاذى لمن نعيمه خالص صاف يعد بشارة . ومثل ذلك لا يعد بشارة لمن هو في غاية المكروه ونهاية الالم والعذاب وأيضا فإن علم أهل الجنة بالله ضرورة يزيد في نعيمهم وسرورهم لانهم يعلمون بذلك انه تعالى يقصد بما يفعله لهم من النعيم التعظيم والتبجيل ، وأنه يديم ذلك ولا يقطعه . وأهل النار اذا علموه تعالى ضرورة علموا قصده إلى اهانتهم والاستخفاف بهم وادامة مكروهم وعذابهم . فاختلف العلمان في باب البشارة وان اتفقا في انهما ضروريان
في حديث نفي الملل عن الله تعالى :
( مسألة ) : فان قيل فما معنى الخبر الذي رواه أبوهريرة عن النبي صلى الله عليه وآله انه قال " ان احب الاعمال إلى الله تعالى ادومها وان قل فعليكم من الاعمال بما تطيقون فان الله لا يمل حتى تملوا " .
( الجواب ) : قلنا في تأويل هذا الخبر وجوه كل واحد منها يخرج كلامه صلى الله عليه وآله من حيز الشبهة :
( اولها ) انه اراد نفي الملل عنه تعالى ، وأنه لا يمل ابدا ، فعلقه بما لا يقع على سبيل التبعيد كما قال عزوجل ( ولا يدخلون الجنة حتى يلج الجمل في سم الخياط )( 23 ) وكما قال الشاعر :
فانك سوف تحكم او تباهي * اذا ما شبت او شاب الغراب اراد انك لا تحكم ابدا .
فان قيل ومن اين لكم ان الذي علقه به لا يقع ، حتى حكمتم بأنه اراد نفي الملل على سبيل التأبيد .
قلنا : معلوم ان الملل لا يشمل البشر في جميع امورهم واطوارهم ، وأنهم لا يعرفون من حرص ورغبة وامل وطمع ، فلهذا جاز ان يعلق ما علم الله تعالى انه لايكون تمللهم .
والوجه الثاني : أن يكون المعنى انه تعالى لا يغضب عليكم فيطرحكم ويخليكم من فضله واحسانه حتى تتركوا العمل له وتعرضوا عن سؤاله والرغبة في حاجاتكم إلى جوده . فسمى الفعلين مللا وان لم يكونا على الحقيقة كذلك على مذهب العرب في تسميتها الشئ باسم غيره اذا وافق معناه من بعض الوجوه ، قال عدي بن زيد العبادي :
ثم اضحوا لعب الدهر بهم * وكذاك الدهر يودى بالرجال وقال عبيد بن الابرص الاسدي :
سائل بنا حجر بن ام قطام اذ * ظلت به السمر الذوابل تلعب فنسب اللعب إلى الدهر والقنا تشبيها . وقال ذو الرمة :
وابيض موشى القميص نصبته * على خصر مقلاة سفيه جديلها فسمى اضطراب زمامها سفها ، لان السفه في الاصل هو الطيش وسرعة الاضطراب والحركة ، وانما وصف ناقته بالذكاء والنشاط .
والوجه الثالث : ان يكون المعنى انه تعالى لا يقطع عنكم خيره ونائله حتى تملوا من سؤاله ، ففعلهم ملل على الحقيقة ، وسمي فعله تعالى مللا وليس على الحقيقة . وكذلك للازدواج والتشاكل في الصورة ، وان كان المعنى مختلفا . ومثله قوله تعالى ( فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم ) ( 24 ) ( وجزاء سيئة سيئة مثلها ) ( 25 ) . ومثله قول الشاعر :
الا لا يجهلن احد علينا * فنجهل فوق جهل الجاهلينا وانما اراد المجازاة على الجهل ، لان العاقل لا يفخر بالجهل ولا يتمدح به .
واعلم ان لهذه الاخبار والمضافة إلى النبي صلى الله عليه وآله مما يقتضي ظاهرها تشبيها لله تعالى بخلقه او جورا له في حكمه او ابطالا لاصل عقلي ، نظائر كثيرة ، وان كانت لا تجري في الشهرة مجرى ما ذكرناه ، ومتى تقصينا الكلام على جميع ذلك طال الكتاب جدا وخرج عن الغرض المقصود به ، لا بأشرطنا ان لا نتكلم ولا نتأول فيما يضاف إلى الانبياء عليهم السلام من المعاصي إلا على آية من الكتاب ، أو خبر معلوم او مشهور يجري في شهرته مجرى المعلوم وفيما ذكرناه بلاغ وكفاية .
( 1 ) الضحى 7
( 2 ) النجم 1
( 3 ) الفرقان 22
( 4 ) الحاقة 44 - 46
( 5 ) الاعلى 6
( 6 ) النجم 19
( 7 ) الاحزاب 37
( 8 ) الاحزاب 37
( 9 ) الانفال 67
( 10 ) الانفال 68
( 11 ) الانفال 12
( 12 ) التوبة 43
( 13 ) الشرح 1 - 3
( 14 ) الفتح 2
( 15 ) الفتح 27
( 16 ) مشجج - وتد
( 17 ) عبس 1 - 4
( 18 ) الزمر 65
( 19 ) التحريم 1
( 20 ) الفجر 22
( 21 ) الانعام 164 - الاسراء 15 - فاطر 18 . الزمر 7 - النجم 38
( 22 ) الزمر 67
( 23 ) الاعراف 40
( 24 ) البقرة 194
( 25 ) الشورى 40