عربي
Monday 23rd of December 2024
0
نفر 0

حقيقة الوحي في النُبوّة ونظريات حول الوحي

إنّ الإدراكات العادية الّتي يحصّلها الإنسان عن طريق الحسّ أو عن طريق التفكر والإستدلال، هي نتاج أدوات المعرفة الحسيّة والعقلية، فإدراك المبصرات والمسموعات وغيرها، رَهْنُ إعمال الحواس. كما أنّ الوقوف على الأُصول الفلسفية والعلمية، نتاج إعمال الفكر والعقل، فإنّ قولنا: كلُّ ممكن، فهو زوج تركيبي له ماهية ووجود"، أو: "إنّ كلَّ معلول يحتاج إلى علة"، لم نقف عليه إلاّ بالرياضات الفكرية، وهكذا الحال في القوانين العلمية.

كما أنّ هناك إدراكات تنبع من صميم الذات ويطلق عليها الوجدانيات، أو الفطريات. كإدراك حسن الأشياء وقبحها، وإدراك الإنسان جوعه وعطشه، فإنّ الجميع من ومضات الفطرة والغريزة، ونظير ذلك ما يبدعه الذوق من الفنون والآداب والرسوم والأعمال اليدويَّة الظريفة، فإنّها كلّها من وحي الذوق والغريزة إذا وقعت في إطار التربية والتوجيه.

وبالجملة، فإنّ كلَّ ما يدركه الإنسان، نتاجُ أدوات المعرفة بأشكالها المختلفة، حسيّة كانت أو عقلية أو وُجدانية.

وأمّا الوحي الّذي يختص به الأنبياء، فإنّه إدراك خاص متميز عن سائر الإدراكات، فإنّه ليس نتاج الحسّ ولا العقل ولا الغريزة، وإنّما هو شعور خاص، لا نعرف حقيقته، يوجده الله سبحانه في الأنبياء. وهو شعور يغاير الشعور الفكري المشترك بين أفراد الإنسان عامة، لا يغلط معه النبي في إدراكه، ولا يشتبه، ولا يختلجه شك ولا يعترضه ريب في أنّ الّذي يوحي إليه هو الله سبحانه، من غير أن يحتاج إلى إعمال نظر، أو التماس دليل، أو إقامة حجة، ولو افتقر إلى شيء من ذلك، لكان اكتساباً عن طريق القوة النظرية، لا تلقياً من الغيب، من غير توسيط القوة الفكرية.

قال سبحانه: ﴿نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ...(الشعراء:193-194).

فهذه الآية تشير إلى أنّ الّذي يتلقى الوحي من الروح الأمين هو نفس النبي الشريفة (قلبك)، من غير مشاركة الحواس الظاهرة، الّتي هي الأدوات المستعملة في إدراك الأمور الجزئية. فالنبي يرى ويسمع حينما يوحى إليه، من غير أن يستعمل حاسَّتَيِ البصر والسمع.

قال سبحانه: ﴿وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَات قَالَ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآن غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْم عَظِيم * قُلْ لَوْ شَاءَ اللهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلاَ أَدْرَاكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِنْ قَبْلِهِ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ(يونس:15-16).

فالأنبياء كلّهم يُسندون تعاليمهم وتنبؤاتهم إلى هذا النوع من الإدراك، الّذي لا مصدر له إلاّ عالم الغيب، وخالق الكون، ومثل هذا لا يمكن أن يُدْرَكَ كُنْهُه، بل يجب الإيمان به كما هو شأن كلِّ أمر غيبي لا يحيط الإنسان المادي بحقيقته، وإنّما يذعن به عن طريق المُخبِر الصادق. قال سبحانه: ﴿الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ...(البقرة:3).

وعلى هذا، فالوحي حصيلة الإتصال بعالم الغيب، ولا يصحّ تحليله بأدوات المعرفة ولا بالأُصول الّتي تَجَهَّزَ بها العلمُ الحديث. ولما كان العاِلُم الماديُّ غيرَ مذعن بعالَم الغيب، ويرى أنّ الوجود مساوقٌ للمادة والطاقة، فيشكل عليه الإذعان بهذا الإدراك الّذي لا صلة له بعالم المادة وأُصوله.

قال الشيخ محمد عبده، معرضاً بأولئك المنكرين للوحي:"إنّ انكشاف ما غاب من مصالح البشر عن عامتهم، لمن يختصه الله بذلك، لا أراه ممّا يصعب إدراكه، إلاّ على من يريد أن لا يدرك، ولا يحبّ أن يرغم نفسه الفهّامة على أن لا تفهم. نعم يوجد في كلّ أُمة وفي كل زمان أُناس يقذف بهم الطيش، والنقص في العِلْم، إلى ما وراء سواحل اليقين، فيسقطون في غمرات من الشك في كل ما لم يقع تحت حواسهم الخَمْس، بل يدركهم الريب فيما هو من متناولها، فكأنّهم بسقطتهم هذه انحطوا إلى ما هو أدنى من مراتب أنواع أخرى من الحيوان فينسون النقل وشؤونه، ويجدون في ذلك لذّة الإطلاق عن قيود الأوامر والنواهي. فاذا عرض عليهم شيء من الكلام في النبوات والأديان، وهم من إنفسهم هامّ بالإصغاء، دافعوه بما أُوتوا من الإختيار في النظر، وانصرفوا عنه، وجعلوا أصابعهم في آذانهم، حذر أن يخالط الدليل أذهانهم، فيلزمهم العقيدة، وتتبعها الشريعة، فيحرموا لذّة ما ذاقوا، أو ما يحبون أن يتذوقوا، وهو مرض في الأنفس والقلوب يستشفى منه بالعلم إنشاء الله".

ثم أضاف: "قلت: أي استحالة في الوحي، وأن ينكشف لفلان ما لا ينكشف لغيره، من غير فكر ولا ترتيب مقدمات، مع العلم أنّ ذلك من قبل واهب الفكر ومانح النظر، حتى حَفَّت العنايةُ من ميَّزَتْهُ هذه النعمة.

فما شهدت به البديهة، أن درجات العقول متفاوتة، يعلو بعضها بعضاً، وأنّ الأدنى منها لا يدرك ما عليه الأعلى إلاّ على وجه من الإجمال، وأنّ ذلك ليس لتفاوت المراتب في التعليم، بل لا بدّ معه من التفاوت في الفطر الّتي لا تدخل فيها، لاختيار الإنسان وكسبه.

فمِنْ ضَعْف العقول، والنكول عن النتيجة اللازمة لمقدماتها عند الوصول إليها، أن لا يسلم بأنّ من النفوس البشرية ما يكون لها من نقاء الجوهر بأصل الفطرة ما تستعد به من محض الفيض الإلهي لأن تتصل بالأُفق الأعلى وتنتهي من الإنسانية إلى الذروة العليا، وتشهد من أمر الله شهود العيان، ما لم يصل غيرها إلى تعقّله أو تحسسه بعصا الدليل والبرهان، وتتلقى عن العليم الحكيم ما يعلو وضوحاً على ما يتلقاه أحدنا عن أساتذة التعليم. ثمّ تصدر عن ذلك العلم إلى تعليم ماعلمت، ودعوة الناس إلى ما حُملت على إبلاغه إليهم، وأن يكون ذلك سنّة الله في كلِّ أُمّة وفي كل زمان حسب الحاجة، يظهر برحمته من يختصه بعنايته، ليفي للإجتماع بما يضطرّ إليه من مصلحته، إلى أن يبلغ النوع الإنساني أشُدّه وتكون الأعلام الّتي نصبها لهدايته إلى سعادته، كافية في إرشاده، فتختم الرسالة، ويغلق باب النبوة"1.

ثم إنّ هؤلاء الذين اتّخذوا لأنفسهم موقفاً مسبقاً في سعة الوجود وضيقه، وسعة أدوات المعرفة وضيقها، فعجزوا عن إدراك الوحي كنوع متميز عن الإدراكات البشرية، حاولوا تحليله بأُصول مادية حتى يسهل عليهم تصديق الأنبياء وعدم اتّهامهم بتعمد الكذب. فمالوا يميناً وشمالاً في بيان حقيقته: فتارة يرون الوحي نوعاً من النبوغ الخاص بالأنبياء، وأخرى نتيجة ظهور الشخصية الباطنية للرسول، فتلهمه بما ينفعه وينفع قومه. ونحن فيما يلي نتعرض إلى هاتين النظريتين ونحللهما الواحدة بعد الأخرى، ثم نعرّج على بيان نظرية الفلاسفة في حقيقة الوحي:

النظرية الأولى: الوحي نتيجة النّبوغ
إنّ هناك أُناساً يفسرون النبوات والرسالات ونزول الوحي على العباد الصالحين بنحو يجمع بين تصديق الأنبياء من جانب، والأصول العلمية الحديثة المادية من جانب آخر. ومن هذا الباب تفسير بعضهم النبوة بالنبوغ، والوحي(الّذي هو المصدر الوحيد للتسنين والتشريع) بلمعات ذاك النبوغ.

وحاصل مذهبهم أنّه يتميز بين أفراد الإنسان المتحضر، أشخاص يملكون فطرة سليمة وعقولاً مشرقة، تهديهم إلى ما فيه صلاح الإجتماع وسعادة الإنسان، فيضعون قوانين فيها مصلحة المجتمع، وعمران الدنيا. والإنسان الصالح الّذي يتميز بهذا النوع من النبوغ، هو النبي. والفكر الصالح المترشح من مكامن عقله وومضات نبوغه هو الوحي. والقوانين الّتي يسنها لصلاح الاجتماع هي الدين. والروح الأمين (جبرائيل)، هو نفسه الطاهرة الّتي تفيض هذه الأفكار إلى مراكز إدراكه. والكتاب السماوي، وهو كتابه الّذي يتضمن سننه وقوانينه. والملائكة الّتي تؤيّده في حلّه وترحاله، هي القوى الطبيعية. والشيطان الّذي يقاومه ويقاوم أتباعه هو النفس الأمّارة بالسّوء أو سائر القوى الحيوانية الداعية إلى الشرّ والفساد. ومع ذلك كلّه، فالله سبحانه من وراء الجميع.

تحليل نظرية النُبوغ
إنّ تفسير النبوة بالنبوغ ليس تفسيراً جديداً، وإن صيغ في قالب علمي جديد، فإنّ جذوره تمتد إلى عصر ظهور الإسلام حيث كان العرب الجاهليون يحسّون بجذبات القرآن وبلاغته الخلابة، فينسبونه إلى الشعر الّذي كان الحرفة الرائجة عندهم، ويتبارز فيه النوابغ منهم، فكانوا يقولون: ﴿بَلْ هُوَ شَاعِرٌ فَلْيَأْتِنَا بِآيَة كَمَا أُرْسِلَ الأَوَّلُونَ(الانبياء:5).

ويرد عليهم القرآن الكريم بقوله:﴿وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِر قَلِيلاً مَا تُؤْمِنُونَ(الحاقة:41).

وبقوله: ﴿وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ(يس:69).

ومع ذلك يلاحظ عليه
أولاً: إنّ العودة إلى هذه النظرية ينبع من الإحساس بالصَّغار أمام الحضارة المادية المُدهشة، المقترنة بأنواع الإكتشافات والإختراعات في مجال الطبيعة، والقائلون بها جماعة من متجددي المسلمين، انسحبوا أمام هذه الحضارة ناسين شخصيتهم الإسلامية، فلجأوا إلى تفسير عالم الغيب والنبوة والدين والوحي بتفسيرات ملائمة للأُصول المادية، حتى يَجْبرُوا مركّب النقص في أنفسهم من هذه الزاوية، ويصيحوا على رؤوس الأشهاد بأنّ أُصول الدين لا تخالف الأصول العلمية الحديثة.

ولو صحّت هذه النظرية، لم يَبْقَ من الإعتقاد بالغيب إلاّ شيء واحد، وهو الإعتقاد بوجود الخالق البارئ، وأمّا ما سوى ذلك، فكلُّه بأجمعه نتاج الفكر الإنساني الخاطئ بالنتيجة، لا يبقى إذعان بشيء ممّا أتى به الأنبياء من الأصول والمعارف في الدنيا والآخرة. وهذا في الواقع نوع إنكار للدين، لكن بصورة لا تخدش العواطف الدينية.

وثانياً: إنّ قسماً ممّا يقع به الوحي ويخبربه النبي، الإنباء عن الحوادث المستقبلية، إنباءً لا يخطيء تحققه أبداً.

أفترى هل يجرؤ نابغة من نوابغ المجتمع على الإنباء بنزول العذاب قطعاً بعد أيام ثلاثة، ويقول: ﴿تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلاَثَةَ أَيَّام ذَلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوب(هود:65).

أو يخبر بهزيمة جيوش دولة عظمى في مدة لا تزيد على تسع سنين ويقول: ﴿الم * غُلِبَتِ الرُّومُ * فِي أَدْنى الأَرْضِ وَ هُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ * فِي بِضْعِ سِنِينَ...(الروم:1-4)2.

إنّ النوابغ وإن سَمَوْا في الذكاء والفطنة، لا يخبرون عن الحوادث المستقبلية إلاّ مع الإحتياط والترديد، لا بالقطع واليقين وأمّا رجالات السياسة، اللاعبين بحبلها لمصالحهم الشخصية، سواء صدقت تنبؤاتُهم أم كذبت، فإنّ حسابَهم غيرُ حساب النوابغ.

وثالثاً: لو كان لهذه النظرية مسحقة من الحق أو لمسة من الصدق، فما لنا لا نرى حملة الوحي ومدعي النبوة ينبثون بشيء من ذلك، بل نراهم على العكس، ينسبون تعاليمهم وسننهم إلى الله سبحانه، ولا يدّعون لانفسهم شيئاً.

هذا هو القرآن الكريم (الّذي جاء به النبي الخاتم) يصرّح بأنً ما حوى من الحقائق والقوانين، مّما أوحى به الله سبحانه، وليس هو من تلقاء نفسه:﴿إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ(الأنعام:50).﴿إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى(النجم:4).

ولا يشك أحد في أنّ الأنبياء عبادٌ صالحون، صادقون لا يكذبون ولا يفترون، فلو كانت السنن الّتي أتوا بها من وحي أفكارهم، فلماذا يغرون المجتمع بنسبتها إلى الله تعالى. فهذه النسبة، إن دلّت على شيء، فإنّما تدلّ على أنّهم كانوا يجدون في أنفسهم أنّ إدراكَ هذه السنن والمعارف، إدراكٌ وراءَ الشعور الفكريُ المشترك بين جميع أفراد الإنسان، وأنّ الطريق الّذي يصلون به إليها، غيرُ طرق الإدراك المألوفة.

وبكلمة جامعة، إنّا نرى في المجتمع الإنساني طائفتين من رجال الإصلاح والصلاح، كلٌّ يدّعي سَوْقَ المجتمع إلى السعادة:

طائفة "ولهم جذور عريقة في التاريخ" ينسبون تعاليمهم وسننهم إلى عالم الغيب، ويثبتون لأنفسهم مقام الرسالة والسفارة وأنّهم ليس لهم شأن سوى كونهم وسائط لإبلاغ أمر الله ونهيه.

وطائفة أخرى، مع اتّصافهم بالصلاح والسداد والسعي وراء الصالح العام، ينسبون تعاليمهم إلى قرائحهم وبدائع أفكارهم، ويعلّلون مبادءهم ببراهين اجتماعية أو تاريخيّة أو عقلية، ولا يتجاوزون هذا الحدّ قدر شعرة.

فلو كانت الطائفتان صادرتين عن أصل واحد، وتستقيان من عين واحدة، فلماذا لم تَدّع ثانيتهما ما ادعته الأولى؟.

ثم إنّ علماء النفس الذين بحثوا عن النبوغ، ذكروا لبُروزه وتفجرّه في الإنسان عواملَ، هي
1- العشق.
2- انهضام الحُقوق .
3- العزلة.
4- كثرة السكوت.
5- التربية والتوجيه الأوّلي الّذي يتلقّاه الإنسان في صغره.

فإنّ هذه العوامل توجد في الإنسان استغراقاً في نفسه، وتوقّداً في أفكاره، وتَمَيُّزاً في فطنته وذكائه. ولكن تفسير النبوات والرسالات، والقوانين والشرائع الّتي جاء بها الأنبياء بهذا الطريق، أشبه بتفسير علّة تفجر البركان وثورانه، بسقوط طائر على فوهته.

هذا، ولو كانت شريعة النبي الخاتم صلى الله عليه وآله وسلم والكتاب المجيد الّذي جاء به، وليديْ النبوغ والعبقرية، فلماذا عجز عن مقابلته ومقارعته، النوابغ والعباقرة طرّاً في جميع القرون إلى عصرنا هذا.

النظرية الثانية: الوحي النفسي
إنّ تفسير الوحي بصورة الوحي النفسي، منشؤه قساوسة المسيحيين الذين لا هدف لهم إلاّ تفنيد رسالة النبي الخاتم، وتخطئتها، فتشبث هؤلاء بكل وجه خادع، يوهم في ظاهره الملائمة لروح العصر وآخر ما توصلت إليه الحضارة من النظريات الفكرية، والإبداعات العلمية، ثم طبقوه بعبارات وقوالب متجددة على حياة النبي الأكرم، والوحي المنزّل عليه.

وإرجاع الوحي الإلهي إلى الوحي النفسي هو الجامع بين النظريتين المتقاربتين التاليتين اللتين طرحتا في زماننا هذا..

الأولى: الوحي نتيجة تجلّي الأحوال الروحية
هذه النظرية مأثورة عن المستشرق "مونتييه" وفصّلها "إميل درمنغام"، وحاصلها أنّ الوحي إلها يفيض من نفس النبي الموحى إليه لا من الخارج. وذاك أنّ منازع نفسه العالية، وسريرته الطاهرة، وقوة إيمانه بالله وبوجوب عبادته، وترك ما سواها من عبادة وثنية، وتقاليد وراثية رديئة، يكون لها في جملتها من التأثير ما يتجلى في ذهنه، ويحُدث في عقله الباطن، الرؤى والأحوال الروحية فيتصور ما يعتقد وجوبه، إرشاداً إلهياً نازلاً عليه من السماء بدون وساطة. أو يتمثل له رجل يلقنه ذلك يعتقد أنّه ملك من عالم الغيب، وقد يسمعه يقول ذلك ولكنه إنّما يرى ويسمع ما يعتقده في اليقظة، كما يرى ويسمع مثل ذلك في المنام الّذي هو مظهر من مظاهر الوحي، عند جميع الأنبياء، فكلُّ ما يُخْبر به النبي أنّه كلام القي في روعه، أو ملك ألقاه على سمعه، فهو خير صادق عنده.

ويقول أصحاب هذه النظرية: لا نشك في صدق الأنبياء في إخبارهم عمّا رأوْا وسمعوا، وإنّما نقول إنّ منبع ذلك من نفسه وليس فيه شيء جاء من عالم الغيب الّذي يقال إنّه وراء عالم المادة والطبيعة3.

ويقولون في نفس النبي الأكرم إِنَّه توصَّل إلى الوحي بالإنقطاع إلى عبادة الله تعالى والتوجه إليه في خلوته بغارِ حِراء، وقَوِيَ هنالك إيمانُه وسَما وُجدانُه، فاتّسع محيطُ تفكُّرِهِ، وتضاعف نور بصيرتِه، فاهتدى عقله الكبير إلى الآيات البيّنات في ملكوت السموات والأرض، الدالّة على وحدانية مبدع الوجود، وسرّ النظام الساري في كل موجود، بما صار به أهلاً لهداية الناس وإخراجهم من الظلمات إلى النور، وما زال يفكّر ويتأمل، وينفعل ويتململ، ويتقلّب بين الآلام والآمال، حتى أيقن أنّه النبي المنتظر الّذي يبعثه الله لهداية البشر. فتجلى له هذا الإعتقاد في الرؤى المنامية، ثم قوي حتى صار يتمثّل له الملك، يلقّنه الوحي في اليقظة.

وأمّا المعلومات الّتي جاءته في هذا الوحي فهي مستمدة الأصل من تلك الينابيع الّتي ذكرناها، وممّا هداه إليه عقله وتفكّره في التمييز بين ما يصحّ منها وما لا يصحّ، ولكنها كانت تتجلّى له نازلة من السماء، وأنّها خطاب الخالق عزّ وجلّ، بواسطة الناموس الأكبر وملك الوحي، جبرئيل روح القُدس4.

وبكلمة أدقّ: إنّ معلوماته وأفكاره وآماله، ولّدت له إلهاماً، فاض من عقله الباطن أو نفسه الخفية الروحانية العالية على مخيّلته السامية; وانعكس اعتقاده على بصره: فرأى الملك ماثلاً له، وعلى سمعه: فوعى ما حدّثه الملك به5.

تحليل هذه النظرية
أ- نُبُوّةٌ أو أضغاث أحلام

هذه النظرية الّتي جاء بها بعض الغربيين، وإن كانت تنطلي على السذج من الناس وتأخذ بينهم رونقاً، إلاّ أنّ رجال التحقيق يدركون تماماً أنّها ليست بشيء جديد قابل للذكر، وإن هي إلاّ تكرار لمقالات العرب الجاهليين في النبوة والوحي، غير أنّ الغربي أخذ يديف السم في الدسم، ويعرض ما أكل الدهر عليه وشرب، بصورة نظرية حديثة برّاقة تتمحور في أنّ رجال الوحي أُناس مُخَبطون، استغرقوا في التفكير في أُمنياتهم عقوداً من الدهر حتى رأوها ماثلة في خيالهم وأمام حسّهم.

إنّ الذكر الحكيم ينقل لنا أنّ من جملة مقالات العرب وافتراءاتهم على النبي الأكرم، وَصْم شريعته بأنّها نتاج الأحلام العذبة الّتي كانت تراود خاطره، ثم تتجلى على لسانه وبصره.

قال تعالى: ﴿بَلْ قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلاَم(الأنبياء:5) أي قالوا: إنّ النبي ليس مختاراً فيما جاءَ به من الكتاب، وشَرَّعه من الأحكام، وإنّما هو وحيُ الأحلام، وطوارق الرؤى تجري على لسانه.

وقد ردّ تعالى مزعمتهم هذه في موضع آخر من كتابه(من دون أن يذكر تُهمتهم) بقوله: ﴿وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى * مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَ مَا غَوَى * وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى * عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى * ذُو مِرَّة فَاسْتَوَى * وَهُوَ بِالأُفُقِ الأَعْلَى * ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى * فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى * فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى * مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَاَى * أَفَتَُمارُونَهُ عَلَى مَا يَرى * وَ لَقَدْ رَاَهُ نَزْلَةً أُخْرى * عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى * عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى * إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى * مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَ مَا طَغَى * لَقَدْ رَاَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرى(سورة النجم:1-18)6.
فهذه الآيات تركز على صدق الوحي، وكونه أمراً واقعياً مُفاضاً من الله سبحانه. وأنْتَ إذا لاحظت منها الآيتين التاليتين، يتجلى لك بوضوح حقيقةُ ذلك.

أ ـ قوله: ﴿ما كَذَبَ الفُؤَادُ ما رَأَى.
والمعنى لم يكذّب فؤاد محمد ما أدركه بصره، أي كانت رؤيته صحيحة غير كاذبة، وإدراكاً على الحقيقة.

وهذا، سواءٌ قُرِءَ "كذب" بالتشديد، فالموصول مفعولُه، أو قُرِءَ بالتخفيف، كما هو القراءة المعروفة، فهو يتعدى إلى مفعول، قال الشاعر:

كذَبتك عينك أَم رأَيْتَ بواسط   غَلَس الظَّلام من الرباب خيالاً

وعلى كل تقدير، فالآية بصدد بيان أنّه لم يكن هناك اختلاف بين تصديق القلب ورؤية العين، فإذا صدّق القلب، تكون الرؤية حقيقةً.

ب- قوله: (مَا زَاغَ ألْبَصَرُ وَمَا طَغَى...).
أي ما زاغ بصر محمد وما طغى. وهو كناية عن صحة رؤيته وأنّه لم يُبصر ما أبصره على غير صفته الحقيقية، ولا أبصر ما لا حقيقة له. بل أبصر غيرَ خاطئ في إبصاره.

والآيتان بصدد بيان مصونية قلبه وبصره عن الخطأ، في مقام الأخذ والتلقّي، ولا تتم الصيانة إلاّ بمصونية كل جوارحه إذا كانت في خدمة الوحي. فهو صلى الله عليه وآله وسلم يُبصْر بعينه، ويسمع بأُذنه، ويدرك بقلبه الأشياء والحقائق على ما هي عليه من دون خطأ.

ب- نُبُوَّةٌ أَو جنونٌ
ولك أن تقول، إنّ مقالة هؤلاء المتجددين، ليست بعيدة ولا غريبة عن اتّهام الأنبياء بالجنون الّذي هو في حقيقته مرتبة عالية وشديدة من تجلّي النزعات الخيالية. هذه التهمة الّتي افتراها العرب على النبي الخاتم، كما في قوله تعالى: ﴿وَقَالُوا يَا أَيُّهَا الذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لََمجْنُونٌ(الحجر:6). وأشار إليها القرآن في موارد عديدة أخرى7، وافتراها أعداء الأنبياء المتقدمين عليهم، كما يقول تعالى: ﴿كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُول إِلاَّ قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ * أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ(الذاريات:52-53)، ثم افتراها هؤلاء القساوسة والمستشرقون بصياغة أدبية وقوالب علمية، تحت إسم "تجلّي الأحوال الروحية". والمغزى والجوهر واحد.

سبحانك يارب، ما أعظم جناية الإنسان على أوليائك والصالحين من عبادك، البالغين القمة في العقل والدراية والفكر والحكمة، حتى وسمهم هؤلاء المفترون تارة بالخبط وأخرى بالجنون.

الثانية: الوحي نتيجة ظهور الشخصية الباطنة
وقد أسهب الأُستاذ فريد وجدي الكلامَ فيها في موسوعته، نأتي منه بما يكفي في بيان المراد منها:

كان الغربيون إلى القرن السادس عشر(كجميع الأُمم المتدينة) يقولون بالوحي، لأنّ كتبهم مشحونة بأخبار الأنبياء. فلما جاء العلم الجديد بشكوكه ومادياته، ذهبت الفلسفة الغربية إلى أنّ مسألة الوحي من بقايا الخرافات القديمة، وغالت حتى أنكرت الخالق والروح معاً. وعلّلت ما ورد عن الوحي في الكتب القديمة بأنّه إمّا اختلاق من المتنبئة أنفسهم لجذب الناس إليهم وتسخيرهم لمشيئتهم، وإمّا هَذَيانٌ مَرَضَيٌ يعتري بعض العصبيين، فيخيل إليهم أنّهم يرون أشباحاً تكلّمهم، وهم لا يرون في الواقع شيئاً.

وقد راج هذا التعليل في العالم الغربي حتى صار مذهب العلم الرسمي. وظلّ الأمر على هذا المنوال حتى العام 1846 عندما ظهرت في أمريكا آية الأرواح وسرت منها إلى أوربا كلها، وأثبت الناس بدليل محسوس وجود عالم روحاني آهل بالعقول الكبيرة والأفكار الثاقبة، فتغير وجه النظر في المسائل الروحانية، وأُحييت مسألة الوحي بعد أن كانت في عداد الأضاليل القديمة، وأعاد العلماء البحث فيها على قاعدة العلم التجريبي المقرر، لا على أُسلوب التقليد الديني، ولا من طريق الضرب في متاهة الخيالات.

فقد تألّفت في لندرة سنة 1882 جمعية دعيت باسم "جمعية المباحث النفسية"، برئاسة السير "جويك" المدرس في جامعة كمبريدج، وهو من أكبر العقول في انكلترا، وعضوية السير "أوليفرلودج" الملقب بـ "داروين علم الطبيعة" (أي أنّه لعالم الطبيعة، كداروين للتاريخ الطبيعي) مع عدّة من الأساتذة المتخصصين في صنوف العلوم الطبيعية والرياضية والفلكية. وكان الغرض من هذه الجمعية البت في المسألة الروحية، وتحقيق حوادثها بأُسلوب النقد الصارم، والحكم بقبولها نهائياً في العلم إن كانت حقيقةً، أو تقرير إبعادها عن العلم والفلسفة إن كانت من الأمور الوهمية.

وفي خلال مدّة تربو على خمس وأربعين سنة، حققت هذه الجمعية أُلوفاً من الحوادث الروحية، وعملت من التجارب في النفس وقواها ما لا يكاد يدرك، لولا أنّه مُدوَّن في محاضر تلك الجمعية في نحو خمسين مجلداً ضخماً، فكان من ثمرات جهادها:

1- إثبات شخصية ثانية للإنسان أي إنّنا أحياء مدركون في حياتنا الحاضرة، لا بكل قوى الروح الّتي فينا، بل بجزء من تلك القوى، سمحت لنا بها حواسنا الخمس القاصرة. ولكن لنا فوق ما تعطيه لنا حواسنا هذه، حياة أرقى من هذه الحياة، لا تظهر بشيء من جلالها إلاّ إذا تعطّلت فينا هذه الشخصية العادية بالنوم العادي، أو بالنوم المغناطيسي.

وقد جرّبوا ذلك على المنوَّمين تنويماً مغناطيسياً، فوجدوا أنّ النائم يظهر بمظهر من الحياة الروحية والعلم، لا يكون له وهو يقظان، فيعلم الغيب، وبخير عن البعيدين، يبصر ويسمع ويحسّ بغير حواسه الجسمية ويكون(وهو على تلك الحالة)على جانب كبير من التعقل والإدراك.

قالوا: وتكون هذه حالة الإنسان في نومه العادي. والدليل على ذلك، ما يأتيه المصابون بمرض الإنتقال النومي من الأفعال المعجزة، والمدارك السامية.

2- ثبت لديهم وجود شخصية راقية للإنسان وراء شخصيته العادية. وعلموا أنّها هي الّتي كوّنت جسمه في الرحم. وهي الّتي تحرّك جميع أعضائه الّتي ليست تحت حكم إرادته، كالكبد، والقلب، والمعدة، وغيرها... فهو إنسان بها، لا بهذه الشخصية العادية المكتسبة من الحواس القاصرة.

قالوا: وهي الّتي تهديه بالخواطر الجيّدة من خلال حُجُبِهِ الجسمية الكثيفة، وهي الّتي تعطيه الإلهامات الطيبة الفجائية في الظروف الحرجة. وهي الّتي تنفث في روع الأنبياء ما يعتبرونه وحياً من الله، وقد تظهر لهم متجسدة فيحسبونها من ملائكة الله هبطت عليهم من السماء.

قالوا: وهذه الشخصية الباطنة أصبحت مُدْرَكَةً بالحسِّ، فإنَّ ظهور النائم نوماً مغناطيسياً، بهذا المظهر من العقل الراجح، والفكر الثاقب، والنظر البعيد، واكتشافه لخفايا الأُمور، وجولانه في الأقطار البعيدة، بينما يكون هو جاهلاً غبياً في حالاته العادية، أدلّ دليل على أنّ للإنسان شخصية تحجبها هذه الحياة الجسدية، ولا تظهر إلاّ إذا وقع جسمه في نوم طبيعي أو صناعي.

وهناك أمور أخرى تدلّ بالحس على وجود تلك الشخصية، درستها الجمعية وحققت تجارب الذين درسوها:

فقد كتب الأُستاذ الدكتور "ميرس"، فصولاً ضافية في التنويم المغناطيسي، والعبقرية، والوحي، والشخصية الباطنة، فذكر الحاسبين على البديهية، وهم طائفة من الناس، تلقى عليهم أعوص المسائل الرياضية الّتي تحتاج إلى زمن طويل في الحساب والعمل، فيجيبون عليها على الفور، وهم لا يدرون كيف وجد هذا الحلّ في نفوسهم. وهذا الأمر يثبت وجود الشخصية الباطنة بدليل محسوس، لأنّ الجواب الصحيح عن المسائل الرياضية العويصة، إن لم تأت به هذه الشخصية العادية، فلا بدّ أن تكون ثمرة قوى باطنة أخرى لا تنكشف للإنسان إلاّ بآثارها هذه.

وحكى العلامة "ميرس" قول العالم الفرنسي "ترودم": "حدث لي في بعض الأحايين أنّي كنت أجد فجأة برهان نظرية هندسية القيت إليّ منذ سنة، وذلك من دون أن أعيرها أقل التفات. لعلّه يقال في تعليل ذلك إنّ المعلومات المختَرَنَة في عقلي من مطالعاتي قد نضجت من نفسها، وولّدت في عقلي البراهين عليها، من نفسها أيضاً".

وقال "ميرس": لقد كتب الشاعر المشهور "موسيه" عن نفسه يقول: "أنا لا أعمل شيئاً، بل أسمع، فأنقل، فكأنّ إنساناً مجهولاً يناجيني في أذني"!!

هذه خلاصة هذه النظرية وتاريخ نشأتها8 ويمكن تحريرها بكلمتين
الأولى: إنّ الشخصية الظاهرية العادية للإنسان، أسيرة قواه الظاهرية (الحواس الخمس).

الثانية: إنّ الشخصية الباطنة للإنسان إنّما تتجلى، وتظهر آثارها، إذا تعطّلت القوى الظاهرية، وتخدّرت فعاليتها، كما في حالات النوم العادي أو المغناطيسي.

ثم بلحاظ هاتين النكتتين، يفسّر الوحي في الأنبياء، فإنّ كل ما يحدثون به من التعاليم والإخبارات ليس إلاّ إفاضات شخصياتهم الباطنة وإيحاءاتها عند تعطّل قواهم الظاهرية.

تحليل نظرية الشخصية الباطنة
إنّ هذا التفسير للوحي الناتج عن الغرور العلمي وحصر جميع ما في الكون ضمن إطار الأصول التجريبية  فاشل من جهات شتّى:

الجهة الأولى: إنّ الفرضية الّتي جاءت بها هذه النظرية (لو سلّمت)  ليست دليلاً ولا برهاناً على كون خصوص الوحي عند الأنبياء من سنخ إفاضة الشخصية الباطنة وتجلّيها عند تعطّل القوى الظاهرية. بل قد تكون هذه الفرضية صحيحة، ومع ذلك يكون للوحي في الأنبياء عاملاً إلهياً، يفيض تلك المعارف والأصول والانباءات الغيبية إلى عقول الأنبياء وقلوبهم فيعرّفونها للبشر.

الجهة الثانية: إن الّذي تفيده هذه النظرية، هو أنّ الشخصية الباطنة للإنسان إنّما تتجلّى وتجد مجالاً للظهور بآثارها المختلفة، عند تعطّل القُوى الظاهرية، فلذا يقوى ظهورها في المرضى والسكارى والنائمين والمُرْهَقين وتبقى مندثرة ومغمورة في طوايا النفس عندما تكون القُوى الظاهرية والحواس البشرية في حالة الفعالية والجدّ والسعي.

هذا، وإنّ المعلوم من حالات الأنبياء عليهم السَّلام أنّ الوحي الإلهي كان ينزل عليهم في أقصى حالات تَنُّبههم واشتغالهم بالاُمور السياسية والدفاعية والتبليغية، فكيف يكون ما تجلّى للنبي وهو يخوض غمار الحرب، تجلياً للشخصية الباطنة، والضمير المخفي، أو ما شئت فعبّر، مّما لا يرى النور، إلاّ في حالات الغفلة والغيبوبة وما شابه ذلك، كما يصرّح به هؤلاء؟.

وأين الأنبياء من الخمول والإنعزال عن المجتمع، وهم أولو الجهاد، والصبر والثبات في مواجهة الأعداء وتبليغ رسالاتهم السماوية؟.

فما ذكرناه دليل قاطع على بطلان تفسير الوحي بما ذكروه.

الجهة الثالثة: لا شكّ أنّ الشخصية الباطنة للإنسان لا تملك تلك المعلومات الّتي تفيضها في حالات تعطّل الحواس، من ذاتها وصميمها من دون أن تتلقى شيئاً من خارجها. وإن دعوى ذلك، باطلٌ، لا قيمة له في سوق العلوم النفسية. فإنّ الّذي توصّل إليه علماء النفس قبل "فرويد" وبعده، هو أنّ الشخصية الباطنة للإنسان تُحفظ فيها المعارف الّتي تردّها عبر القوى والشخصية الظاهرية، وذلك عندما لا ترغب الشخصية الظاهرية في إبقائها في مجال نشاطها وتفكرها، فتنسحب تلك الأفكار والمعارف إلى أعماق ضميره وشخصيته الباطنة، فتكمن في زواياها، وتختبيء بين طوايها، مُتَحيِّنة فرصة تعطيل الشخصية الظاهرية، حتى تنبعث من مكامنها، وتجري على لسان صاحبها من دون إرادة منه ولا ميل، كما عرفت في حالات التنويم المغناطيسي، وكما يقع غالباً في حالات السهو والغفلة، من تلفظ الإنسان بما لا يرغب، أو يتحاشى إظهاره مّما أضمره في نفسه، ولا يُظهره قطعاً عند التفاته وانتباهه. وفي هذا المجال يقول الإمام علي عليه السَّلام: "ما أَضَمَرَ أَحَدٌ شيئاً إِلاَّ ظهر في فلتات لسانه وصفحات وجهه"9.

وعلى ما ذكرنا يمتنع أن تكون تلك المعارف العليا، والشرائع والقوانين الاجتماعية الّتي جاء بها الأنبياء، نتاج الشخصية الباطنة، والضمير المخفي وكيف يكون ذلك، والمصدر الوحيد للمعارف الموجودة في الضمير المخفي هو الشخصية الظاهرية وما تأخذه الحواس من خارج الذهن والمحيط والبيئة. والمحيط الّذي عاش فيه الأنبياء، وترعرعوا في أحضانه، في واد آخر من هذه المعارف والشرائع، لم يسمع ولم يخبر بها.

فلا يبقى بالنتيجة إلاّ أن يكون لها مصدر ومنبعٌ آخر، غير ما يدعون.

إنّ هذه المعلومات الّتي يعطيها هؤلاء المحلّلون لمسألة الوحي، قليلة المواد، ضيقة النطاق عن أن تكون مصدراً لوحي مثل القرآن الكريم. فإنّ ما جاء في هذا الكتاب من الأحكام والمعارف العليا لا يمكن أن تكون مستمدة من الوحي بهذا المعنى.

وأنىّ يكون ليتيم فقير، نشأ بين الأميين، ليس عنده كتاب يرشده، ولا أُستاذ ينّبهه، ولا عضد إذا عزم يؤيده، أن يأتي ولو بمعشار ما في هذا الكتاب من السنن والنظم والمعارف والعقائد. فلا يبقى إلاّ القول بأنّه فائض من نور الله الأعظم على رسوله وخاتم أنبيائه محمد صلى الله عليه وآله وسلم، كما يقول البوصيري:

الله   أكبرُ   إِنَّ    دينَ    محمد     وكتابَه  أَقوى  وأَقْومُ  قيلا

لا تذكروا الكُتُبَ السوالفَ عنـده     طَلَعَ الصباحُ فاطفَأَ القِنديلا10

الثالثة: نظرية الفلاسفة المشائين في الوحي
سلك المشائيون من فلاسفة الإسلام، في تحليل الوحي، مسلكاً خاصّاً لا يمت إلى ما سبق من التحليلات بصلة، وتبتني نظريتهم على اُصول لا مجال لذكرها هنا، وإنّما نأتي بمجمل معتقدهم ونبيّنه في أُمور:

الأول: قد أثبتوا بفضل قاعدة الواحد لا يصدر منه إلاّ الواحد11، إنّ الصادر الأول من الواجب سبحانه شيء واحد وهو العقل الأول، ثم أفاض الوجود، فأوجد العقل الثاني، ثم اوجد الثاني الثالث إلى أن انتهى الفيض بإيجاد العقل العاشر، وهو المسمى عندهم بالعقل الفعّال. وليست العقول عندهم منحصرة على وجه القطع بالعشرة، بل لم يجدوا دليلاً على أزيد منها12.

الثاني: إنّ ما يقوم به العقل العاشر من الفعل والإفاضة، هو تكميل النفوس الإنسانية أوّلاً، وإفاضة الصور الجوهرية على عالم المادة ثانياً.

فالمخرج للنفوس الإنسانية من القوة إلى الكمال، ومفيضُ المعارف على قلوب الأولياء، والصور الحيوانية والشجرية والمعدنية على المادة الأولى، هو العقل الفعّال، بإذنه سبحانه.

الثالث: إنّ الإنسان مجهز بالحواس الظاهرية الخمس المعروفة، كما هو مجهز بحواس باطنية خمس، هي:

1- الحس المشترك: وهو القوة المدركة لما يرد العقل عبر الحواس الخمس الظاهرية.

2- الخيال: وهو مخزن الصور المحسوسة المأخوذة من الحسّ المشترك.

3- الواهمة: وهي القُوّة المدركة للمعاني الجزئية ، كالعداوة والصداقة.

4- الحافظة: وهي مخزن المعاني الجزئية المرسلة من الواهمة.

5- العاقلة: وهي القوّة المدركة للمفاهيم الكلية والحقائق المطلقة عن المادة وآثارها، ولها شؤون أخرى، كتركيب الأقيسة والأدلة وغير ذلك.

الرابع: إنّ النفوس الضعيفة غير الكاملة، أسيرة القوى الباطنة في مدراجها المختلفة، من القوّة العاقلة إلى الحسّ المشترك، ومنه إليها.

وأمّا النفوس القوية الصافية، فإنّ بإمكانها الخروج عن هذا الإطار والإتصال بالعقل الفعّال، إتصالاً روحانياً معنوياً، وتلقّي الحقائق والمعارف من ذلك الموجود النوراني.

وهكذا، فإنّ المعارف العليا المفاضة من العقل الفعّال، تنعكس على القوّة العاقلة، ثم تفاض منها إلى القوة الخيالية، ومنها إلى الحسّ المشترك، وتأخذ كل قوة ما هو المناسب لحالها وذاتها: فالحقائق المفاضة من العقل الفعّال إلى النفوس الكاملة الإنسانية في مرحلة القوة العاقلة، علومٌ ومعارف. وفي مرتبة القوة الخيالية، صور وتمثّلات. وفي مرحلة الحسّ المشترك، كلام فصيح ومنظوم.

فالنبي إذا تمّ استعداده، وصَفَت نفسه، يجد في نفسه استعداد للإتصال بذلك العالم الأعلى، فتفاض عليه الحقائق والدقائق، من معارف المبدأ والمعاد، والكون والحياة، والإنسان والمجتمع، كلّها بصورة معارف كليّة.

ولكن هذه المعارف إذا تنزّلت إلى الدرجة التالية، أعني القوة الخيالية، تتمثل في خياله ملكاً نورانياً يكلمه ويخاطبه بتلك المعارف والأحكام والسنن.

كما أنّها إذا تنزّلت إلى الدرجة الثالثة، أعني الحسّ المشترك، قرع أسماعه صوت وكلام تلتذ به نفسه، وتحفظه مصوناً عن كل تغيّر وتبدّل.

فليس للوحي حقيقة إلاّ انعكاس ما في العقل الفعّال من المعارف والعلوم على عقل النبي، ثم تنزله منه إلى خياله، ومنه إلى حسّه. وليس هذا الإتصال والتنزل وتلقّي المعارف الكلية، وتمثل الملك ومشاهدته، وسماع الصوت والكلام المنظوم، أشياء وهمية لا واقعية لها، بل لكلٍّ منها درجة واقعية أحقّ من الواقعية الظاهرية المادية.

يقول صدر المتألهين: "إنّ سبب إنزال الكلام وتنزيل الكتاب، هو أنّ الروح الإنسانية إذا تجرّدت عن البدن، مهاجرةً إلى ربّها لمشاهدة آياته الكبرى، وتطهّرت عن المعاصي والشهوات والتعلّقات، لاح لها نور المعرفة والإيمان بالله وملكوته الأعلى. وهذا النور إذا تأكّد وتَجَوْهَر، كان جوهراً قدسياً يسمى عند الحكماء في لسان الحكمة النظرية بالعقل الفعّال، وفي لسان الشريعة النبوية بالروح القدسي.

وبهذا النور الشديد العقلي، يتلألأ فيها (أي الروح الإنسانية) أسرار ما في الأرض والسماء، ويتراءى منها حقائق الأشياء، كما يتراءى بالنور الحسيّ البصري، الاشباح المثالية في قوّة البصر إذا لم يمنعها حجاب، والحجاب ها هنا هو آثار الطبيعة وشواغل هذا الأدنى. وذلك لأنّ القلوب والأرواح (بحسب أصل فطرتها) صالحةٌ لقبول نور الحكمة والإيمان إذا لم يطرء عليها ظلمة تفسدها كالكفر، أو حجاب يحجبها كالمعصية وما يجري مجراها.

وبعبارة أخرى: إذا أعرضت النفس عن دواعي الطبيعة وظلمات الهوى والإشتغال بما تحتها من الشهوة والغضب والحسّ والخيال وولّت بوجهها شطر الحق وتلقاء عالم الملكوت، اتّصلت بالسعادة القصوى، فلاح لها سرّ الملكوت وانعكس عليها قدس اللاهوت، ورأت عجائب آيات الله الكبرى.

ثم إنّ هذه الروح، إذا كانت قدسية شديدة القوى، قوية الإنارة لما تحتها، لقوة اتّصالها بما فوقها، فلا يشغلها شأن عن شأن، ولا يمنعها جهة فوقها عن جهة تحتها، فتضبط للطرفين، وتسع قوتها الجانبين (الملك والملكوت)، لشدّة تمكّنها في الحدّ المشترك بين الملك والملكوت. لا كالأرواح الضعيفة، الّتي إذا مالت إلى جانب غاب عنها الجانب الآخر وإذا ركنت إلى مشعر من المشاعر، ذهلت عن المشعر الآخر.

فإذا توجهت هذه الروح القدسية الّتي لا يشغلها شأن عن شأن، ولا يصرفها نشأة عن نشأة، وتلقت المعارف الإلهية بلا تعلّم بشري، بل من الله، يتعدى تأثيرها إلى قواها، ويتمثل لروحه البشرى، صورة ما شاهده بروحه القدسي وتبرز منها إلى ظاهر الكون، فيتمثل للحواس الظاهرة، لا سيما السمع والبصر، لكونهما أشرف الحواس الظاهرة، فيرى ببصره شخصاً محسوساً في غاية الحُسْن والصباحة، ويسمع سمعه كلاماً منظوماً في غاية الجودة والفصاحة، فالشخص هو الملك النازل بإذن الله، الحامل للوحي الإلهي، والكلام هو كلام الله تعالى، وبيده لوح فيه كتاب.

وهذا الأمر المتمثل بما معه أو فيه، ليس مجرد صورة خيالية لا وجود لها في خارج الذهن والتخيّل، كما يقوله من لا حظ له من الباطن، ولا قَدَم له في أسرار الوحي والكتاب، كبعض أتباع المشائين، معاذ الله عن هذه العقيدة الناشئة من الجهل بكيفية الإنزال والتنزيل"13.

تحليل نظرية الفلاسفة
أُعترض على هذه النظرية باعتراضات عديدة، غير واردة عند من أمعن النظر وتدبّر فيها نذكر بعضاً منها:

الإعتراض الأول: إنّ نتيجة هذه النظرية أنّه لا واقعية للملك ولا للصوت في مرتبة الحسّ، لأنّ القوّة التخيّلية في ذهن النبي هي الّتي توجد الصوت وصورة الملك في تلك المرتبة، ثم ينعكس من الخيال إلى مرتبة الحسّ.

الجواب: إنّ ما ذكر من الإعتراض يَرِد على عقيدة بعض المشائيين في الوحي، كما صرّح به صدر المتألهين نفسه في كلامه المتقدم. وأمّا عند غيرهم، فللوحي درجات واقعية حسب مراتب وجوده. فله وجود عقلي وخيالي وحسّي، وليس أيٌّ منها مصنوعَ ذهن النبي ونفسه، تلك النفس الصافية الصقيلة الّتي ينعكس فيها كل ما في عالم العقل الفعّال. وما ذكرناه من عبارات صدر المتألهين أوضح شاهد على ذلك

الإعتراض الثاني: إنّ هذا التصوير للوحي، مقلوب ما نأنسه من الإدراكات في هذه الحياة، فإنّ الترتيب الطبيعي للإدراك هو الحسّي ثم الخيالي فالعقلي. ولكن على هذه النظرية، ينقلب الأمر ويشرع الإدراك من العقل وينتهي بالحسّ.

الجواب: إنّ ما ذكره المعترض حقّ في الإدراكات المعاديّة، وأمّا الإدراكات المتجاوزة حدّ العادة، فهي على عكس المأنوس. والوحي النازل على الأنبياء إدراك خارق للعادة بدليل عظمة المعارف والقوانين الّتي يأتي بها الوحي إليه.

وغير ذلك من الإعتراضات القابلة للجواب.

والملاحظة الصحيحة على هذه النظرية، هي أنّ ما ذكروه من أنّ حقيقةً واحدةً تتجلى في نفس النبيِّ بصور ثلاث، وإن كان غير ممتنع، إلاّ أنّه لا دليل عل أنّ الوحي هو خصوص ذاك. إذ ربّ وليّ من الأولياء الذين صفت ضمائرهم، وطهرت قلوبهم، نالوا المعارف والحقائق المفاضة من ذاك العالم بالإشراق ومع ذلك لا يصحّ تفسيره بالوحي المصطلح وإلاّ كان كل إنسان يدرك في عقله حقيقة عليا ثم تتجلى في خياله ثم في حسّه، نبياً أو رسولاً.

وقد بلغ الحواريون درجةً راقيةً من المعرفة والإدراك حتى خاطبهم الباري عزّ وجلّ، كما يشير إلى ذلك بقوله: ﴿وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قَالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ(المائدة:111). ومع ذلك لم يُسَمِّهِمُ القرآن رسلاً، ولا أنبياء، ولا الكلام المنزل عليهم وحياً نبوياً، رسالياً، وإنّما كان إلهاماً قوياً.

فحق المقال في الوحي ما ذكرناه في صدر البحث، من أنّه مجهول الكنه، معلوم الآثار، يجب الإيمان به كالإيمان بالغيب على الإطلاق.


*الإلهيات،آية الله جعفر السبحاني.مؤسسة الامام الصادق عليه السلام ،ج3،ص128-151


1- رسالة التوحيد. ص 109 ـ 111.
2- والبضْع من العدد من ثلاثة إلى تسعة.
3- لا حظ الوحي المحمدي، صفحة 66، الطبعة السادسة، 1960 م.
4- المصدر السابق، ص 90.
5- المصدر السابق، ص 35.
6- والمراد من "شديد القوى" هو ملك الوحي والضميران في "فاستوى" و "وهو بالأفق الأعلى"، يرجعان إلى شديد القوى وكذلك الضمير في قوله: "أوحى"، وأمّا الضمير في عبده فيرجع إلى الله سبحانه. وقد اشتبه الأمر على كثير من المفسّرين في تفسير هذه الآيات فزعموا أنّ النبي رأى الله سبحانه وتعالى.
7- قد جاءت هذه الفرية في المواضع التالية من الذكر الحكيم: سورة سبأ: الآية 8، سورة الصافات: الآية 36. سورة الدخان: الآية 14. سورة الطور: الآية 29. سورة القلم: الآية 2. سورة التكوير: الآية 82.
8- لاحظ فيما نقلناه، دائرة معارف القرن الرابع عشر، ج 10، ص 712 ـ 716.
9- نهج البلاغة، باب قصار الحكم، الحكمة 26.
10- في الختام نعاتب الأستاذ فريد وجدي بما أنّه رجل موحّد مؤمن بعوالم الغيب ورسالة السماء إلى الأرض، الّتي تلقّاها الأنبياء عن طريق الوحي، نعاتبه كيف نقل هذه النظرية الساقطة حول الوحي بإسهاب، وأوضحها، ولم يعلّق عليها شيئاً، وكانّه بها راض، ولها مُتَبَنّ!!. وهذا الّذي وقع منه، ربما يؤيد ما ذكره مصطفى صبري، شيخ الإسلام في الدولة العثمانية، من أنّ الأستاذ المذكور كان منكراً لمعجزات الأنبياء، ومضيفاً إليه عند النقاش إنكار البعث بعد الموت، وقد نَقَلَ عنه هذه العبارات: "ولد العلم الحديث، وما زال يجاهد القوى الّتي كانت تساوره، فتغلب عليها، ودالت الدولة إليه في الأرض، فنظر نظرة في الأديان وسرى عليها أسلوبه، فقذف بها جملة في عالم الميتولوجيا (أي الأساطير). ثم بحث في اشتقاق بعضها عن بعض، واتّصال أساطيرها بعضها ببعض، فجعل ذلك مجموعة تقرأ لا لتقدس تقديساً، ولكن ليعرف الباحثون منها الصور الذهنية الّتي كان يستعبد لها الإنسان نفسه، ويقف على صيانتها جهوده، غير مدّخر في سبيلها روحه وماله. وقد أتّصل الشرق الإسلامي بالغرب منذ أكثر من مائة سنة، فأخذ يرتشف من مناهله العلمية، ويقتبس من مدنيته المادية، فوقف فيما وقف على هذه "الميتولوجيا"، ووجد دينه ماثلاً فيها، فلم ينبت بكلمة، لأنّه يرى الأمر أكبر من أن يحاوله، ولكنه استبطن الإلحاد، متيقناً أنّه مصير إخوانه كافة متى وصلوا إلى درجته العلمية. وقد نبغ في البلاد الإسلامية كتّاب وشعراء وقفوا على هذه البحوث العلمية، فسحرتهم، فأخذوا يهيئون الأذهان لقبولها، دساً في مقالاتهم وقصائدهم، غير مصارحين بها غير أمثالهم، تفاديا من أن يقاطعوا أو ينفوا من الأرض". لاحظ موقف العقل والعلم والعالم من ربّ العالمين، ج 1، ص 24. وفي الكتاب نصوص من مشاهير أساتذة مصر حول معجزات الأنبياء وخوارق العادات، وكأنّهم كانوا منكرين لها، محاولين توجيهها وتأويلها على نحو يلائم روح العصر بزعمهم. ونحن لا نذكر هنا أسماء أولئك الأساتذة الذين اتّهمهم صبري بالشذوذ عن الكتاب والسنّة، ولكن نوصي طلاب الحقيقة بمطالعة هذا الكتاب بأجزائه الثلاثة حتى يقفوا على كيفية زعزعة العلم الحديث لأركان الأزهر الشريف، والضجة الكبيرة الّتي أوجدها في مفكريه حول الغيب المعاجز والوحي والملائكة والجن، وكل ما لا يصل إليه الإنسان بأدوات المعرفة المادية!!.
11- المراد قاعدة: "لا يصدر من الواحد إلاّ الواحد"، وعكسها: "لا يصدر الواحد، إلاّ من الواحد". وقد برهنوا عليها ببرهان فلسفي، لا ينافي صدور ما في الكون جليله ودقيقه من الله سبحانه على نحو ترتب الأسباب والمسببات.
12- لأن طريق الاستكشاف هو الأفلاك التسعة المحسوسة الكاشفة عن النفوس التسع والعقول العشرة، ومن أراد التفصيل فليرجع إلى محله.
13- الأسفار الأربعة، ج 7، ص 24 ـ 25.


source : http://almaaref.org
0
0% (نفر 0)
 
نظر شما در مورد این مطلب ؟
 
امتیاز شما به این مطلب ؟
اشتراک گذاری در شبکه های اجتماعی:

آخر المقالات

حقوق الإنسان في نظر أهل البيت ( عليهم السلام )
لماذا السجود على التربة ؟
الاَحاديث الواردة في بيان أهمية التقية :
تعظيمُ شعائر الله في أوليائه
العقل والروح مسيرة إحيائية واحدة
الامامة الابراهيمية في القرآن الكريم (القسم ...
الخمس... فريضة إلهيّة (1)
یوم دحو الارض
أفعال العباد وعلمه الأزلي
نعمة الشكر

 
user comment