اتّفقت الأُمّة الإسلامية عن بكرة أبيها، على أنّ نبيّها محمداً صلى الله عليه وآله وسلم، خاتم النبيين، وأنّ شريعته خاتمة الشرائع، وكتابه خاتم الكتب والصحف، فهو آخر السفراء الإلهيين، أُوصِدَ به بابُ الرسالة والنبوّة، وخُتِمت به رسالة السماء إلى الأرض، وأنّ دينَ نبيِّها، دينُ الله الأبدي، وأنّ كتابه، كتابُ الله الخالد، وقد أنهى الله إليه كل تشريع، فاكتملت بدينه وكتابه الشرائع السماوية الّتي هي رسالة السماء إلى الأرض.
ويدلّ على ذلك نصوص من الكتاب والسنّة، نستعرضها فيما يلي
أ- الخاتمية في الكتاب العزيز
لقد نصّ القرآن الكريم على الخاتمية تنصيصاً لا يقبل الشك، ولا يرتاب فيه من له أدنى إلمام باللغة العربية، وذلك في مواضع:
1- التنصيص على أنّه خاتم النبيين
قال سبحانه: ﴿مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَد مِنْ رِجَالِكُمْ وَ لَكِنْ رَسُولَ اللهِ وَ خَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَ كَانَ اللهُ بِكُلِّ شَيْء عَلِيماً﴾(الأحزاب:40).
وتتضح دلالة الآية بنقل سبب نزولها
تبنّى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، زيداً، قبل بعثته. وكان العرب يُنَزِّلونَ الأدعياء منزلةَ الأبناء في أحكام الزواج والميراث، فأراد سبحانه أن ينسخ تلك السنة الجاهلية، فأمر رسوله بتزوّج زينب، زوجة زيد، بعد مفارقته لها. فأوجد ذلك الزواج ضجة بين المنافقين، والمتوغلين في النزعات الجاهلية، فأخمد الله تعالى أصواتهم بقوله: ﴿مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَد مِنْ رِجَالِكُمْ﴾، أي من الذين لم يلدهم، ومنهم زيد، ﴿ولكِنْ رَسولَ الله﴾ وهو لا يترك ما أَمره الله به، ﴿وخاتَمَ النَّبيينَ﴾ أي آخرهم، ختمت به النبوة، فلا نبي بعده، ولا شريعة سوى شريعته، فنبوته أبدية، وشريعته باقية إلى يوم القيامة.
الخاتم وما يراد منه؟
الخاتم، بفتح التاء، كما عليه قراءة عاصم، أو بكسرها كما عليه الباقون، يدلّ على أنّ باب النبوة ختمت به. وذلك لأنّه على الكسر، اسم فاعل من ختم يختم، فهو خاتم، وعلى الفتح، يحتمل وجوهاً ثلاثة:
أ- إنّه اسم بمعنى ما يختم به، أي المختوم به باب النبوة، فوجوده صلى الله عليه وآله وسلم في سلسلة الأنبياء، كالختم والإمضاء في الرسائل. فكما أنّ الرسائل تختم في نهايتها، بالخَتْم والإمضاء، فكذا سلسلة الأنبياء ختمت بوجوده، فهو خاتم الإنبياء.
ب- إنّه فعل، "خَاتَمَ" ك"ضارَبَ"، فهو صلى الله عليه وآله وسلم خَتَم بابَ النبوة.
ج- إنّه اسم بمعنى "آخر"، أي آخر النبيين ونهايتهم.
قال أبو محمد الدميري في منظومته:
والخاتِم الفاعِل قُل بالكسرِ * وما به يُختَمُ فتحاً يجري1
فأشار في هذا البيت إلى الوجهين، وأنّه بالكسر اسم فاعل، وبالفتح اسمٌ بمعنى ما يختم به.
وقال البيضاوي: "وخاتم النبيين: آخرهم الّذي ختمهم2.
وفي هذا إشارة إلى المعنى الثالث.
ثم إنّ الختم له أصل واحد، وهو بلوغ آخر الشيء، يقال: ختمت العمل، وختم القارئ السورة. والختم، وهو الطبع على الشيء، فذلك من الباب أيضاً، لأن الطبع على الشيء لا يكون إلاّ بعد بلوغ آخره3.
وقد جاء هذا اللفظ في القرآن في موارد لا يشذّ واحد منها عن هذا الأصل، فمن ذلك.
قوله تعالى: ﴿يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيق مَخْتُوم * خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُون﴾(المطففين:25 ـ 26)، أي من الشراب الخالص الّذي لا غش فيه، تختم أوانيه وتسدّ بمسك .
وقوله تعالى: ﴿الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ﴾( يس:65، والبقرة:7، والأنعام:46، والشورى:24، والجاثية:23). أي نطبع على أفواههم، فتوصد، وتتكلم أيديهم وأرجلهم.
فاتضح ممّا ذكرناه، أنّ الآية صريحة في أنّ النبي الأكرم، نهاية سلسلة الأنبياء، وأنّه قد ختم بنبوته باب النبوة وأوصده إلى يوم القيامة.
تشكيك ضئيل
إنّ هنا تشكيكاً اختلقته بعض الطوائف4 الخارجة عن الإسلام، العميلة لأعدائه، فقالت إنّ المراد من الخاتم في قوله، عزّ من قائل: (خاتَمُ النَّبيينَ)، الحِلْية الّتي يزيّن بها الإصبع. والمراد أنّ النبي الأكرم زينة النبيين، كما أنّ الخاتم زينة يد الإنسان، فهو بين تلك العصابة، كالخاتم في يد لابسه.
وهذه شبهة واهية للغاية، نجمت إنّ لم تكن متعمدة من الجهل باللغة العربية، وذلك لوجوه:
أولاً- إنّه لم يعهد استعارة الخاتم في اللغة العربية، للزينة، فلا يقال إنّه خاتم القول، أي زينتهم وحليتهم، فكيف يستعيره القرآن في هذا المعنى، وهو في قمة البلاغة؟!
وثانياً- لو كان الهدف تشبيه النبي بالخاتم في كونه حلية، لكان المناسب أن يشبهه بالتاج والإكليل، إذْ هما أبلغ في بيان المقصود، أعني: الزينة.
وثالثاً- إنّ الخاتم ليس له إلاّ أصل واحد، وهو ما يختم به، ولو استعمل في حلية الإصبع، فذلك من باب إطلاق الكلّي على الفرد، لأنّ الدارج في عهد الرسالة إنهاء الكتاب بالخاتم، فكانت خواتمهم أختامهم، لا أنّه وُضع لحلية الإصبع وضعاً على حدة.
ويدلّ على ذلك ما رواه ابن سعد في طبقاته، من أنّ رسول الله أرسل الرسل إلى الملوك يدعوهم إلى الإسلام وكتب إليهم كتباً، فقيل يا رسول الله: إنّ الملوك لا يقرأون كتاباً إلاّ مختوماً، فاتّخذ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يومئذ، خاتماً من فضة، فَصُّهُ منه5 نقشه ثلاثة أسطر:
"محمد"، "رسول"، "الله"، وختم به الكتب6.
فظهر ممّا قدمنا أنّ الخاتم بمعنى ما يختم به، وله مصاديق، فتارة يختم بحلية الإصبع، وأُخرى بشيء مثل الشمع، وثالثة بمثل الطين، وأشياء أُخرى درجت حديثاً.
وأضعف من ذلك احتمال أن يكون المراد من قوله تعالى: ﴿وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ﴾، أنّه مصدِّقٌ للنبيين، فاستعارة الخاتم له، لأجل أنّه صلى الله عليه وآله وسلم مُصَدِّقُهم كالخاتم المصدِّق لمضامين الكتب.
ويَرُدُّهُ، أوّلاً: لو كان المراد هو تصديق النبيين، فلم عدل عن التعبير الصريح، إلى هذا التعبير المعقد، مع أنّه استعمل لفظ مصدّق دون الخاتم عندما أراد بيان تصديق نبيٍّ لنبيٍّ آخر، فقال: ﴿وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ﴾(الصف:6).
وكذلك عندما أراد بيان تصديق كتاب لكتاب فقال: ﴿وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ﴾(المائدة:48).
وثانياً- ليس الخاتم نفسه مصدِّقاً، وإنّما هو آلة التصديق، وما يُصَدَّق به، وإنّما المصدِّق من يستعمل الختم، وهذا بخلاف النبي فإنّه بنفسه مصدق.
وَلَعَمْري، لولا شيوع التشكيك بين البسطاء من غير العرب، لكان الأولى ترك التعرض له.
نعم، هنا تشكيك آخر قابل للطرح والذكر، وإليك بيانه.
تشكيك آخر
إنّ المختوم في الآية المباركة هو منصب النبوة لا الرسالة، حيث قال: ﴿وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ﴾. وخَتْم باب النبوة، لا يلازم ختم باب الرسالة، فهو مفتوح على مصراعيه في وجه الأُمة، ولم يوصد.
والجواب: إنّ رفع التشكيك يتوقف على تبيين الفرق بين النبوة والرسالة، وبالتالي يعلم الفرق بين النبي والرسول، فنقول:
النُّبُوَّة منصب معنوي يستدعي الاتّصال بالغيب بإحدى الطرق المألوفة، والرسالة سفارة للمرسَل (بالفتح) من جانبه سبحانه لإبلاغ ما أُوحي إليه، إلى المُرْسَل إليه، أو تنفيذ ما تحمَّله منه سبحانه، في الخارج.
وبعبارة أُخرى: النبوة، تحمل الأنباء; والرسالةُ إبلاغُ ما تَحَمَّلُه من الأنباء، بالتبشير والإنذار، والتنفيذ.
ولأجل مناسبة الوحي لمقام النبوة، والتبليغ لمقام الرسالة، يقول سبحانه: ﴿إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوح وَ النَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ﴾(النساء:163).
ويقول: ﴿يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ﴾(المائدة:67)(هذا في مجال التبليغ). ويقول: ﴿قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكَ لأَهَبَ لَكِ غُلاَمًا زَكِيًّا﴾(مريم:19)(هذا في مجال التنفيذ).
وفي ضوء هذا يعلم الفرق بين النبيّ والرّسول، فالنبيُّ هو الإنسان الموحى إليه بإحدى الطُرق المعروفة، والرسول هو7 الإنسان القائم بالسفارة من الله، للتبشير، أو لتنفيذ عمل في الخارج، أيضاً.
إذا عرفت ذلك، فنقول: لو فرض إيصاد باب النبوة، وختم نزول الوحي إلى الإنسان، كما يفيده قوله: ﴿وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ﴾، فعند ذلك يختم باب الرسالة الإلهية أيضاً، لأنّ الرسالة هي إبلاغ أو تنفيذ ما تحمله الرسول عن طريق الوحي، فإذا انقطع الوحي والاتّصال بالمبدأ الأول، فلا يبقى للرسالة موضوع.
فإذا كان النبي الأكرم خاتم النبيين، أي مختوماً به الوحي والاتّصال بالغيب، فهو خاتم الرُّسل أيضاً. وهذا واضح لمن أمعن النظر في الفرق بين النبوة والرسالة8.
2- التنصيص على أنّ القرآن لا يأتيه الباطل
قال سبحانه: ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جَاءَهُمْ وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ * لاَ يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيم حَمِيد﴾(فصلت:41 ـ 42.).
والمقصود من الذكر هو القرآن، لقوله سبحانه: ﴿ذلك نَتْلوهُ عَلَيْكَ من الآيات والذِّكْر الحكيمِ﴾(آل عمران:58.).
أضف إليه أنّ قوله: ﴿وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ﴾، يُفَسِّرُ الذكر، وهو لا ينطبق إلاّ على القرآن.
والضمير في قوله ﴿لاَ يَأْتِيهِ﴾، يرجع إلى الذكر، ومفاد الآية أنّ الباطلَ لا يتطرق إليه، ولا يجد إليه سبيلاً أبداً، بأي نحو كان، ودونك صُوَرهُ:
1- "لا يأتيه الباطل"، أي لا ينقص منه شيء ولا يزيد فيه شيء.
2- "لا يأتيه الباطل"، أي لا يأتيه كتاب يبطله وينسخه، فهو حق ثابت لا يُبَدَّل ولا يُغَيَّر ولا يُتْرَك.
3- "لا يأتيه الباطل"، أي لا يتطرق الباطل إليه في إخباره عمّا مضى، ولا في إخباره عمّا يأتي، ولا يتخلف الواقع عنه قيد شعرة.
وعلى ضوء هذا، فإطلاق الآية ينفي كلّ باطل يتصور، وأنّ القرآن حقّ لا يدخله الباطل إلى يوم القيامة، ومثل هذا لا يصح أن يكون حجة في أمد محدود، بل يكون متّبعاً، بلا حدّ، لأنّ خاصِّيَّة الحقِّ المُطلق، والمصون عن تطرق الباطل مطلقاً، هو كونه حجة لا إلى حدٍّ خاص، والله سبحانه تعهد في الذكر الحكيم بإحقاق الحق وإبطال الباطل، كما قال: ﴿لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ﴾(الأنفال:8).
وبعبارة أُخرى: إنّ الشريعة الجديدة، إمّا أن تكون عين الشريعة الإسلامية الحقّة كما نصّت الآية الّتي لا يقارنها ولا يدانيها الباطل، أو غيرها، كلاًّ أو جزءاً.
فعلى الأوّل، يكون إنزال الشريعة الثانية لغواً.
وعلى الثاني، تكون كلتا الشريعتين حقّة، فيلزم كون المتناقضين حقّاً، وهو غير معقول.
فالآية صريحة في نفي أي تشريع بعد القرآن، وشريعة غير الإسلام، فتدلّ بالملازمة على نفي النبوة التشريعية بعد نبوته. نعم، الآية لا تفي بنفي النبوة الترويجية، التبليغية، لغير شريعة الإسلام، وإنّما المتكفل له هي الآية الأُولى.
3- التنصيص على الإنذار لكل من بَلَغ
قال سبحانه: ﴿قُلْ أَىُّ شَيْء أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَيَ﴾(الأنعام:19).
فالآية صريحة في أنّ النبي صار مأموراً بالإنذار، بقرآنه، لكل من بلغه إلى يوم القيامة. فمن بلغه القرآن، فكأنّما رأى محمداً صلى الله عليه وآله وسلم وسمع منه، وحيثما يأتيه القرآن، فهو داع له ونذير.
وقوله: ﴿وَمَنْ بَلَغَ﴾، معطوف على الضمير المنصوب المتصل في قوله: ﴿لأُنْذِرَكُمْ﴾، لا على الفاعل المستتر، أعني: ضمير المتكلم. فمن بلغه القرآن، منذَر (بالفتح) لا منذِر.
4- التنصيص على أنّه نذير للعالمين
قال تعالى: ﴿تَبَارَكَ الذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا﴾(الفرقان:1).
هذه الآية كما تدلّ على عالمية رسالته، دالّة على خاتميته إلى يوم القيامة. واختلف أهل اللغة في مفاد العالمين9، ولكن المراد به في المقام كلّ الناس، ونظيره قوله تعالى حاكياً عن لسان لوط عليه السلام: ﴿قَالَ إِنَّ هَؤُلاَءِ ضَيْفِي فَلاَ تَفْضَحُونِ * وَاتَّقُوا اللهَ وَلاَ تُخْزُونِ * قَالُوا أَوَ لَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعَالَمِين﴾(الحجر:68 ـ 70).
أي قالوا في جوابه: أوَ لَيْس كنا قد نهيناك أنْ تستضيف أحداً من الناس. وبذلك يتضح عدم صحة ما يُروى في تفسير العالمين بأنّ المراد الجن والإنس، أو الجنّ والملائكة، إذ لا معنى لنهي قوم لوط، نبيَّهم عن استضياف هؤلاء.
ونظيره قوله سبحانه حكاية عن لوط عليه السلام في الردّ على قومه: ﴿أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنَ الْعَالَمِينَ﴾(الشعراء:165)، فالمرادُ منه هو الناس، بلا ريب، لا الجن ولا الملائكة.
وما ذكرنا من المعنى هو المروي عن الإمام الصادق عليه السلام، قال: "عنى به الناس، وجعل كلَّ واحد عالم"10.
وعلى كل تقدير، فسواء أكان المراد من العالَمين في الآيات الأُخر غير هذا، أو كان هذا، فالمراد من قوله: ﴿نذيراً لِلْعالمين﴾، عمومُ البشر، أو مطلق من يعقل. فالآية صريحة في أنّ إنذاره لا يختص بناس دون ناس، أو زمان دون زمان فهو على إطلاقه، يعطي كونه نذيراً للأُمم البشرية، بلا قيد وحدّ.
وربما يقال إنّ "العالمين" يطلق ويراد منه الجمّ الغفير من الناس، كما في قوله سبحانه: ﴿يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِي الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ﴾(البقرة:47). ويقال: "رأيت عالماً من الناس"، يراد به الكثرة. وعند ذاك لا تكون الآية صريحة في عموم رسالته لجميع البشر إلى يوم القيامة.
والجواب: إنّ المتبادر من اللفظ هو عموم الخلائق، كما في قوله سبحانه: ﴿قَالَ فِرْعَوْنُ وما رَبُّ العالَمينَ * قالَ ربُّ السَّموات والأَرضِ وما بَيْنَهُما إِنْ كُنْتُمْ موقِنينَ﴾(الشعراء:23 ـ 24). واستعماله في غير ذلك يحتاج إلى قرينة، ولأجل ذلك يحمل على المعنى الحقيقي في الآيات التالية:
﴿وَمَا اللهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعَالَمِينَ﴾(آل عمران:108).
﴿إِنَّ أَوَّلَ بَيْت وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ﴾(آل عمران:96).
﴿أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنَ الْعَالَمِينَ﴾(الشعراء:165).
﴿أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَد مِنَ الْعَالَمِينَ﴾(الأعراف:80).
وأما ما ذُكر من الآية، فليس ظاهراً في كون المراد منه الجمّ الغفير، بل كلّ الناس، غاية الأمر أنّها خُصِّصت بأَهلِ عالمي زمانهم، مثل قوله سبحانه: ﴿إِنَّ اللهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ﴾(آل عمران:42).
وعلى أي تقدير فسواء فُسّرت الآية، بالجمّ الكثير من الناس، أو خصِّصت بأهل عالمي زمانهم، فإنّما هو لقرينة صارفة عن ظاهرها، حيث إنّ القرآن دلّ على أنّ الأُمّة الإسلامية أفضل الأُمم، مثل قوله سبحانه: ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّة أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ﴾(آل عمران:110). ودلّت الأحاديث على أنّ ابنة النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم ، فاطمة عليها السَّلام، مثل مريم أو أفضل منها11. فهذا وتلك صارتا قرينتين على صرف الآيتين12عن ظاهريهما، وأمّا غيرهما فيُحْمل على المعنى الحقيقي، أي الناس كلّهم إلى يوم القيامة.
5- التنصيص على كونه مرسلاً إلى الناس كافّة
قال سبحانه: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ﴾(سبأ:28).
المتبادر من الآية كون "كافّة"، حالاً من النّاس، قُدِّمت على ذيها، وتقدير الآية: وما أرسلناك إلاّ للناس كافّة، بشيراً ونذيراً، وقد استعمل "كافّة" بمعنى "عامّة"، في القرآن الكريم كثيراً، قال سبحانه: ﴿وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً﴾(التوبة:36)13. والآية دليل على كون رسالته عالمية، كما أنّها دليل على أنّه كان مبعوثاً إلى كافة الناس إلى يوم القيامة.
وأمّا جعل لفظ ﴿كافّة﴾ حالاً من الضمير المتصل في قوله: ﴿أَرسلناك﴾، ليعود معنى الآية: وما أرسلناك إلاّ أن تَكُفَّهُم وتَرْدَعَهُم، فَبعيد عن الأذهان، أضف إلى ذلك أنّ قوله في ذيل الآية: ﴿بَشيراً وَنَذيراً﴾، كاف في هذا المعنى، لأن التبشير والإنذار يتكفلان الكفّ والردع عن المحرمات، وقد فهم الصحابة من الآية ما ذكرناه14.
إشارات إلى الخاتمية في الذكر الحكيم
ما ذكرنا من الآيات كانت تصريحات بالخاتمية، وهناك آيات تشير إليها إذا أُمعن النظر في مضامينها، وإليك نقل بعضها.
1- قال سبحانه: ﴿وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاءَ اللهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ...﴾(المائدة:48).
المهيمن هو الرَّقيب15، فكتاب النبي الأكرم مهيمن على جميع الكتب النازلة من قبل وهو (مهيمناً عليه) متمم لقوله: (مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ). تتميم أيضاح، إذ لولاه لأمكن أن يتوهم من تصديق القرآن للتوراة والإنجيل أنّه يصدِّق ما فيهما من الشرائع والأحكام، تصديق إبقاء، من غير تغيير وتبديل، لكن توصيفه بالهيمنة يبين أنّ تصديقه لهما بمعنى تصديق أنّها شرائع حقّة من عند الله، وأنّ لله أن يتصرف فيها ما يشاء بالنسخ والإكمال، كما يشير إليه قوله في ذيل الآية: ﴿وَلَوْ شَاءَ اللهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ﴾.
2- قال سبحانه: ﴿أَفَغَيْرَ اللهِ أَبْتَغِي حَكَمًا وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلاً وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ * وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلاً لاَ مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ﴾(الأنعام:114ـ 115).
وقوله: ﴿وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ...﴾، يدلّ على إيصاد باب الوحي، وانقطاعه إلى يوم القيامة، وتمامية الشرائع النازلة من الله سبحانه، طوال قرون، إلى سفرائه.
والمراد من الكلمة، الشرائع الإلهية، كما في قوله ﴿وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ﴾(التحريم:12)، ومعنى الآية: تمّت الشرائع السماوية بظهور الدعوة المحمدية، ونزول الكتاب المهيمن على جميع الكتب وصارت مستقرة في محلها، بعدما كانت تسير دهراً طويلاً في مدراج، بِمَنْحِ نُبُوّة بعد نُبُوّة، وإنزال شريعة بعد شريعة.
والدليل على أنّ المراد من الكلمة، الشرائع الإلهية، هو قوله: ﴿وَلَوْ شَاءَ اللهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً﴾، أي جعلكم مقتفين لشريعة واحدة، وبما أنّ هذه الدعوة الإلهية الواردة في القرآن الكريم، صدق لا يشوبه كذب، وما فيه من الأحكام عدل لا يخالطه ظُلم، تمّت الشريعة السماوية، فلا تتبدل كلماتها وأحكامها من بعد. وهذا المعنى يظهر عند التأمل في سياق الآيات.
إلى هنا تم البحث عن الآيات الدالّة على الخاتمية بصراحة أو بالتلويح والإشارة، ولأهمية الاعتقاد بها تضافرت فيها النصوص عن النبي الأكرم وعترته الطاهرة، غير أنّ سرد كل ما وقفنا عليه عنهم عليهم السَّلام، يستدعي وضع رسالة مستقلة، فنكتفي بنقل بعضها عن النبي الأكرم، ووصيِّه الإمام عليّ عليه السلام، ونترك الباقي إلى محله.
ب- الخاتمية في الأحاديث الإسلامية
لقد حصحص الحق، بما أوردناه من النصوص القرآنية، وانْحَسَر الشَّكُ عن مُحيّا اليقين، فلم تَبْقَ لمجادِل شُبْهَهٌ في أنّ رسولَ الله، خاتمُ النبيين والمرسلين، وأنّ شريعته خاتمةُ الشرائع، وكتابَه خاتم الكتب. وإليك فيما يلي كَلِمٌ دُرِّيَّة، من صاحب الشريعة ووصيه في هذا المجال:
1- خرج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من المدينة إلى غزوة تبوك، وخرج الناس معه، فقال له عليّ عليه السلام: "أَخْرُجُ معك؟". فقال: "لا"، فبكى عليٌ فقال له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "أما ترْضى أن تَكونَ مِنِّي بمنزلة هارونَ من موسى، إِلاَّ أَنَّه لا نَبِيَّ بَعْدي"، أو "ليس بعدي نبي"؟
وهذا الحديث هو المشهور بحديث المنزلة، لأنّ النبي نزّل نفسه منزلة موسى، ونزّل علياً عليه السلام مكان هارون، وهو صحيح متفق عليه بين الأُمّة، لم يشكّ أحد في صحّة سنده، ولا سنح في خاطر كاتب أن يناقش في صدوره، وحسبُك أنّه أخرجه البخاري في صحيحه، في غزوة تبوك16، ومسلم في صحيحه في باب فضائل عليّ عليه السلام17، وابن ماجه في سُنَنه في باب فضائل أصحاب النبي18،والحاكم في مستدركه في مناقب عليّ عليه السلام19وإمام الحنابلة في مسنده بطرق كثيرة20. وأمّا الشيعة فقد أصفقوا على نقله في مجامعهم الحديثية21.
ودلالة الحديث على الخاتمية واضحة، كدلالته على خلافة علي عليه السلام للنبي صلى الله عليه وآله وسلم بعد رحلته.
2- قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إنّ مَثَلي وَمَثَلَ الأنبياء من قبل، كمثَل رجل بنى بيتاً، فأحسنه وأجمله إلاّ موضع لَبِنَة من زاوية، فجعل الناسَ يطوفون به ويعجبون له، ويقولون: هلا وضعت هذه اللَّبنة. قال: "فأنا اللَّبنة، وأنا خاتم النبيين"22.
3- قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : لي خمسة أسماء: أنا محمد، وأحمد، أنا الماحي، يمحو الله بي الكفر، وأنا الحاشر، يُحشر الناس على قدمي; وأنا العاقب، الّذي ليس بعده نبي"23.
4- قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : "أُرسلت إلى الناس كافة، وبي خُتم النبيون"24.
5- قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : "فُضّلت بِسِت:
أُعِطيتُ جوامِعَ الكَلِم، ونُصِرْتُ بالرُّعب، وأُحلّت لي الغنائم، وجُعِلَتْ لي الأَرضُ طَهوراً ومسجداً، وأُرْسِلْتُ إلى الخَلْقِ كافّة، وخُتم بي النبيون" 25.
هذه أحاديث خمسة عن خاتم النبيين والمروي في هذا المجال عنه صلى الله عليه وآله وسلم أكثر من ذلك26.
تنصيص الإمام عليّ عليه السلام على الخاتمية
6- قال علي عليه السلام: "... إلى أَنْ بَعَثَ الله مُحمداً صلى الله عليه وآله وسلم، لإنجاز عِدَته، وتمام نُبُوَّته، مأخوذاً على النبيين ميثاقُه، مشهورةً سِماتُه، كريماً ميلادُه27".
7- قال علي عليه السلام: "أَرسَلَهُ على حين فَتْرَة مِنَ الرُّسل، وتنازُع من الألسن، فَقَفّى به الرسل، وختم به الوحي"28.
8- قال علي عليه السلام وهو يلي غسل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : "بأبي أنتَ وأُمّي، لقد انقطع بموتك ما لم ينقطع بموت غيرك، من النُّبوة والإنباء، وأخبار السماء، خصصت حتى صرت مُسَلّياً عمن سواك، وعَمَمْتَ حتى صار الناس فيك سواء"29.
9- قال علي عليه السلام: "أمّا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فخاتم النبيين، ليس بعده نبي ولا رسول، وختم برسول الله الأنبياء إلى يوم القيامة"30.
10- قال علي عليه السلام في خطبة الأشباح: "... بل تعاهدهم (العباد) بالحجج على أَلسن الخيرة من أنبيائه، ومتحملي ودائع رسالاته، قَرْناً فقرناً، حتى تمّت بنبينا محمد صلى الله عليه وآله وسلم حُجَّتُهُ، وبلغ المَقْطَعَ عُذْرُهُ ونُذُرُه"31.
ثم إنّه قد أُورد على الخاتمية شبهاتٌ واهية، غنية عن الإجابة، يقف عليها كلُّ من له إلمام بالكتاب والسُّنة والأدب العربي، وإنّما هي صَخَب وهياج وجدال باطل، يؤثّر في الجاهلين. ولأجل ذلك استخدمتها القاديانية، والبابية، والبهائية، ذريعة لاصطياد السذج من الناس غير العارفين باللُّغة، ولا بالكتاب والسنّة، ولأجل إراءة ضآلة هذه الشبهات نأتي بشبهة واحدة منها، تُعَدُّ من أقوى شبهاتهم، ثم نعطف عنان القلم إلى تحرير أسئلة صحيحة مطروحة حول الخاتمية، وهي قابلة للبحث والنقاش، فإليك البيان:
شبهة واهية
كيف يدّعي المُسلمون انغلاق باب النبوة والرسالة، مع أنّ صريح كتابهم قاض، بانفتاح بابها إلى يوم القيامة، وقد جاء في كتابهم قوله: ﴿يَا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي فَمَنِ اتَّقَى وَأَصْلَحَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ﴾(الأعراف:35).
فقوله: ﴿إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ﴾ مقرونأ بنون التأكيد كاشفٌ عن عدم إيصاد باب النبوة، وأنّه مفتوح.
والجواب: إنّ هذه الشبهة حصلت من الجمود على نفس الآية، والغفلة عن سياقها. فإنّ الآية تحكي خطاباً خاطب به سبحانه بني آدم في بدء الخلقة، وفي الظرف الّذي هبط فيه آدم إلى الأرض، وقد شرع القرآن بنقل القصة والخطابات في سورة الأعراف من الآية الحادية عشرة، وختمها في الآية السابعة والثلاثين، فبدأ القصة بقوله:﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلاَئِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ﴾.
وختمها بقوله:﴿قَالَ اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْض عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِين * قَالَ فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ﴾(الأعراف:11-25).
وعند ذلك، خاطب سبحانه أبناء آدم بخطابات أربعة، تهدف إلى لزوم الطاعة، والتحرز عن إطاعة الشيطان، وأنّ لهم في قصة أبيهم وأُمهم، عبرةً واضحةً، فقال:
1- ﴿يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ..﴾
2- ﴿يَا بَنِي آدَمَ لاَ يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ...﴾.
3- ﴿يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِد...﴾.
4- ﴿يَا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ﴾.
فالخطاب الأخير، ليس إنشاءَ خطاب في عصر الرسالة، حتى ينافي ختمها، بل حكاية للخطاب الصادر بعد هبوط أبينا آدم إلى الأرض.
والّذي يوضح ذلك قوله سبحانه في سورة أُخرى:﴿قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْض عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِني هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلاَ يَضِلُّ وَلاَ يَشْقَى﴾(طه:123).
فقوله: ﴿فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِني هُدًى﴾، يتحد مع الآية السابقة، مضموناً.
وهذا النموذج من الشبهات يوقفك على حالة سائر ما استدلّت به الفرق الباطلة في هذا المجال، من القرآن، ولذلك ضربنا عن هذه الشبهات صفحاً32. ونعرّج على أسئلة جديرة بالبحث والنقاش، حول الخاتمية طَرَحها مرور الزمان، وتكامُلُ الحضارات، وتَفَتُّح العقول، على بساط البحث. فلأجل أهميتها نطرحها، ثم نجيب عنها بما يناسب وضع الكتاب.
*الإلهيات.آية الله جعفر السبحاني،مؤسسة الامام الصادق عليه السلام،ج3،ص485-503
1- التيسير في علوم التفسير، ص 90 .
2- أنوار التنزيل، في تفسير الأحزاب،40 .
3- مقاييس اللغة، مادة "ختم".
4- كالبهائية والقاديانيّة.
5- كذا النسخة، والأَوْلى: "منه" ولعل التذكير باعتبار رجوع الضمير إلى الخاتم.
6- الطبقات الكبرى، ج 1، ص 248. ولاحظ مقدمة ابن خلدون ج 1، ص 220، تجد فيه بسطاً في الكلام.
7- المقصود تعريف الرسول المصطلح، فلا ينافي إطلاقه على المَلَك، مثل قوله تعالى: ﴿حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ
تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا﴾(الأنعام:61) أو على الإنسان العادي: ﴿فَلَمَّا جَاءَهُ الرَّسُولُ قَالَ ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللاَّتِي
قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ...﴾(يوسف:50) .
8- إن لشيخنا الأُستاذ، دام مجده، رسالة خاصة في الفرق بين النبي والرَّسول، لاحظ موسوعته القرآنية، مفاهيم القرآن،
الجزء الرابع، ص 315 ـ 370.
9- وقد اختلف أهل اللغة في معنى "العالَم"، الّذي يجمع على عالمين، على أقوال:
* إنّه اسم للفَلَك وما يحويه من الجواهر والأعراض، وهو في الأصل اسم لما يعلم به، كالطابع، والخاتم، لما يطبع
ويختم به. وأما جمعه، فلأنّ كلَّ نوع من هذه قد يسمى عالَماً: عالَم الإنسان، وعالَم الماء، وعالَم النَّار...
* إنّه اسم لأصناف الخلائق من المَلَك والجنّ والإنس.
* إنّه الإنسان، والجمع باعتبار كون كلّ واحد عالَماً.
10- مفردات الراغب، صفحة 349.
11- أخرج البُخاري ومسلم والتِّرْمذي في صحاحهم عن عائشة قالت: إنّ النَّبيَّ صلى الله عليه وآله وسلم قال لفاطمة
في أُخريات أيامه: "ألا ترضين أن تكوني سَيِّدةَ نساءِ المُؤْمنينَ أَوْ سَيِّدَةَ نِساءِ هذه الأُمَّة"لاحظ التاج الجامع للأُصول، ج
3، ص 314.
وأخرج ابن سعد عن مسروق عن عائشة في حديث أنّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم أَسَرّ إلى فاطمة عند مرضه
وقال: "أما ترضَينْ أن تكوني سيدة نساء هذه الأُمة، أو نساءِ العالمين"، ولولا هذه الأحاديث لقلنا بتفضيل مريم على نساء
العالمين إلى يوم القيامة، كما أنّه لولا صراحة الآية في تفضيل هذه الأُمّة لقلنا بتفضيل بني إسرائيل على الناس كلّهم
إلى يوم القيامة.
12- البقرة:47 وآل عمران:42.
13- ولا حظ أيضاً البقرة: 208، والتوبة: 122.
14- روى ابن سعد في طبقاته عن خالد بن معدان، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : "بُعثت إلى الناس
كافّة، فإن لم يستجيبوا لي فإلى العرب.." وفي نقل آخر عن أبي هريرة: "أُرسلت إلى الناس كافة، وبي خُتم النبيّون".
الطبقات الكبرى، ج 1، ص 172.
15- فعيل بمعنى فاعل، أي مراقب.
16- صحيح البخاري، ج 3، ص 58.
17- صحيح مسلم، ج 2 ص 323.
18- سنن ابن ماجه، ج 1، ص 28.
19- مستدرك الحاكم، ج 3، ص 109.
20- مسند أحمد، ج 1، ص 331، وج 2، ص 369، 437.
21- لاحظ أمالي الصدوق، ص 29. ومعاني الأخبار، ص 74. وكنز الفوائد ص 282. والخرائج والجرائح ص 75.
ومناقب ابن شهر آشوب، ج 1، ص 222. وكشف الغُمَّة، ج 1، ص 44. وبحار الأنوار، ج 37، الباب 53 ص 254
ـ 289
22- صحيح البخاري، ج 4، ص 226. ومسند أحمد، ج 2، ص398 و412. ولاحظ الدر المنثور للسيوطي، ج 5،
ص 204. وللحديث صور مختلفة تشترك كلها في إثبات الخاتمية للنبي قال رسول الله: "فأنا موضع تلك اللبنة، فجئت
فَخَتَمْتُ الأنبياء". لاحظ التاج، ج 3، ص 22، نقلاً عن البخاري ومسلم والترمذي.
23- صحيح مسلم، ج 8، ص 89. الطبقات الكبرى، ج 1، ص 65. مسند أحمد، ج 4، ص 81 و84.
24- الطبقات الكبرى ج 1، ص 128. ومسند أحمد، ج 2، ص 412.
25- الجامع الصغير ج 2، ص 216، الرقم 5880، ط دار الفكر، بيروت.
26- سيوافيك الإحالة إلى المصدر الجامع لهذه الأحاديث.
27- نهج البلاغة، الخطبة الأُولى. والضميران في "عدته"، و"نبوته"، لله تعالى.
28- نهج البلاغة، الخطبة 129.
29- نهج البلاغة، الخطبة 230. ومجالس المفيد، ص 527. والبحار، ج 22، ص 527.
30- الاحتجاج، ج 1، ص 220.
31- نهج البلاغة، الخطبة 87. وما أوردناه نماذج من أحاديث الخاتمية اقتصرنا عليها رَوْماً للاختصار، ومن أراد
التفصيل والإحاطة بأكثر ما ورد في هذا المجال من النبي وعترته الطاهرة فليرجع إلى مفاهيم القرآن، ج 3، ص 148
ـ 179. فقد وصل عدد الأحاديث في هذا المجال إلى 135 حديثاً، والكلُّ يشهد على إيصاد باب النبوة ورسالة السماء
إلى الأرض.
32- لاحظ للوقوف عليها وعلى أجوبتها مفاهيم القرآن، ج 3، ص 185 ـ 216.
source : http://almaaref.org